الناحية الاجتماعية
عاش الشيخ ابن تيمية في مجتمع بعيد عن أن تجمعه وحدة أو ما يقاربها في الجنس والمنزلة الاجتماعية، أو في الدين ومذاهبه التعبدية، أو في القضاء والقواعد التي يتحاكم الناس بموجبها، أو في غير ذلك كله مما يجعل لأفراد المجتمع وحدة لها أسسها وأهدافها وغاياتها المشتركة؛ بل كان مجتمعا متنافرا في هذه النواحي وما إليها بسبيل، ويتضح ذلك من هذه الكلمات التي نتناوله بها.
أجناس وطبقات
كان المجتمع في الشام ومصر في ذلك الزمان يموج بكثير من الأجناس المختلفة، بل المتباينة، في الطباع والعادات والتقاليد، وفي فهم الحياة وألوان المعيشة، ومع هذا فقد عاشت هذه الأجناس في هذين البلدين في عصر واحد، وامتزج بعضها ببعض حالة الحروب وفي ظل السلام، وكان لذلك أثر كبير فيما كانوا عليه هم وذرياتهم من الناحية النفسية والفكرية ونحوهما.
التقى في هذا العصر أقوام من أجناس مختلفة: أتراك، ومصريون، وشاميون، وعراقيون وفدوا إلى الشام وبخاصة بعد خراب بغداد، وفرنجة وتتار وقعوا في الأسر وأقاموا في البلاد، وأرمن وإسرائيليون.
هؤلاء جميعا وآخرون غيرهم، عاشوا في صعيد واحد على اختلافهم في عاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم، فكان منهم مجتمع لا يعرف الاستقرار، بل مجتمع فيه من الاضطراب وعوامله شيء كثير، وكان لهذا أثر بالغ خطير في الحياة السياسية والفكرية والقضائية حينذاك.
وكان من الطبيعي أن يكون المجتمع الذي يقوم على هذا النحو، طبقات يتلو بعضها بعضا في المراتب الاجتماعية، وفي السلطان والنفوذ، وذلك ما سنفصل فيه القول بعض التفصيل بعد هذه الإشارة؛ وذلك لأن التدرج الطبقي في تلكم الأيام كان له شأن كبير في ابن تيمية ونشاطه وكفاحه.
وفي هذا وذاك يقول المؤرخ المقريزي من كلام طويل له عن التتار خاصة وأثرهم في الشام ومصر، ما يحسن أن ننقل بعضه بنصه، وذلك إذ يقول:« فلما كثرت وقائع التتر في بلاد المشرق والشمال وبلاد القبجاق، وأسروا كثيرا منهم وباعوهم، تنقلوا في الأقطار، واشترى الملك الصالح نجم الدين بن أيوب جماعة منهم، سماهم البحرية، ومنهم من ملك ديار مصر وأولهم المعز بن أيبك. ثم كانت للملك المظفر قطز معهم الواقعة المشهورة على عين جالوت، وهزم التتار وأسر منهم خلقا كثيرا صاروا بمصر والشام.
ثم كثرت الوافدية في أيام الملك الظاهر بيبرس وملئوا مصر والشام ... فغصت أرض مصر والشام بطوائف المغل، وانتشرت عاداتهم بها وطرائقهم. هذا وملوك مصر وأمراؤها وعساكرها قد ملئت قلوبهم رعبا من جنكيز خان وبنيه، وامتزج بلحمهم ودمهم مهابتهم وتعظيمهم.
وكانوا (أي التتار) إنما ربوا بدار الإسلام، ولقنوا القرآن وأحكام الملة المحمدية، فجمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء، وفوضوا لقاضي القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية من الصلاة والصوم والزكاة والحج، وناطوا به أمر الأوقاف والأيتام، وجعلوا إليه النظر في الأقضية الشرعية كتداعي الزوجين وأرباب الديون، ونحو ذلك.
Bilinmeyen sayfa