والخلاصة أن الإدراك الحسي هو على أساس جميع أعمال النفس، ولكن النفس العاقلة، بعد انتفاعها بالمحسوس كيما تستعد لتقبل المعقولات في ذاتها، تنفصل عن الحواس بالتدريج وتقترب - وفق طبيعتها - من الحقائق الكلية. وقد أجاد ابن سينا حيث قال:
23 «إن النفس - بعد أن تستعين بالحواس - ترجع إلى ذاتها شيئا فشيئا.» أي إنها تتخلص من المادة مقدارا فمقدارا؛ كيما ترتقي إلى أحكام معقولة صرفة.
ولا مراء في جمال هذه النظرية. ومع ذلك فإنني أرى أن من طبيعتها تحريض من يقولون بإعادة الأذهان أو المناهج إلى نطق مرسومة سلفا، وهي توفق ببراعة بين آراء جرت العادة على عدها متباينة، وإلى مثالية أفلاطونية خالصة، تمتد هذه النظرية التي هي تجربية في أولها بما تعطيه الحواس من شأن أساسي، فتكون أرسطوطاليسية بهذا، وذلك لما يوشك العقل الفعال أن يتصل بعالم الأفكار. ومن الصعب أن يعين بالضبط من يرجع إليه فضل هذا التوفيق، ولا أظن أننا نستطيع أن نشك الآن في قيام جهد شخصي في حقل التوفيق والتنسيق من قبل فلاسفة العرب على أساس العنعنات الفلسفية، ويرجع النصيب الوافر من هذا الجهد إلى ابن سينا نفسه مع كل احتمال، وذلك عقب سلفه العظيم: الفارابي. وأما السنة التي سار عليها هؤلاء المفكرون، فمن الجلي أنها طريقة الأفلاطونية الجديدة في الانتخاب. •••
ويجد برهان روحانية النفس العاقلة لاحقه في برهان خلودها، وهذا ما قدمه ابن سينا مع الإفاضة، وسنحاول عرض جوهر ما قاله في هذا الموضوع.
لقد استخلص أول وجه للدليل من شعور النفس المباشر بذاتها، أو بقواها على الأخص، ويشابه هذا البرهان ذلك الدليل الذي يثبت الاختيار بالشعور به، ومهما يكن من أمر فإن النفس تدرك ذاتها الخاصة، وهي تدركها بلا واسطة، وهي لا تخلط هذا الإدراك بالإدراكات الحسية، ويسأل المؤلف في «الإشارات»:
24
أتوجد حال يشك الإنسان فيها في وجود ذاته الخاصة، ولا يكون موقنا بأمره؟ وليكن الإنسان غارقا في التأمل أو نائما أو سكران، فإنه يدرك نفسه، وافترض أن ذاتك منفصلة عن الكل، وأن أقسامها غير مرئية، وأن أعضاءها غير ملموسة، وأنها كالمعلقة في الخلاء، تجد أنها تعود لا تشغل بالها بأي شيء خلا توكيدها أمر حقيقتها، وكل يدرك ذاته من غير احتياج إلى أية قوة أخرى، ولا إلى أية واسطة، وكل ما تدرك كأنه أنت، ليس ما ترى ولا ما تلمس، ولا عضوا من بدنك، ولا قلبك ولا دماغك، فالذي تدرك كأنه أنت ليس المحسوس ولا أي شيء يشابهه.
وقد يخيل إليك - كما يوكد ابن سينا - أنك تدرك ذاتك بواسطة فعلك، ولكنك إذا كنت توكد الفعل فإنك توكد الفاعل، وإذا كنت موقنا بفعاليتك فإنك تكون موقنا بنفسك مثل فاعل، لا بطريق الاستنتاج، بل من فورك، وإن مبدأ القوى التي تدرك مجموع عناصر الجسم البشري وتحفظه وتحركه هو ما تسميه النفس، وهو جوهر ينبسط في جسمك كالساق التي تنشر أغصانها، وهذا الجوهر هو أنت لا ريب.
وفي «النجاة» بيان قوي عن البرهان القائل: إن القوة العاقلة تدرك بلا آلة، ولهذا البيان قيمة برهان ثان، فقد عاد الأمر لا يدور - فقط - حول إثبات كون النفس العاقلة شاعرة بنفسها مباشرة، بل حول كون القوة العقلية «تتعقل بذاتها، لا بآلة جسدية»، «فنقول:
25
Bilinmeyen sayfa