27
ثم يلوح لي أن الخط العام للحركة الفلسفية - كما أشرنا إليه - صائب؛ وذلك أن المعضلة التي تبدت للمدرسة العربية قامت على التأليف بين الحقيقتين: الحقيقة الفلسفية والحقيقة الدينية، وكانت المدرسة العربية قد سبقت بعض الشيء في بحث مماثل من قبل المدرسة السريانية. ولا بد لمعرفة نصيب فلاسفة العرب من الابتكار في حل هذه المعضلة ضبطا، من أن يعرف تاريخ التعليم الفلسفي حتى القرن التاسع من الميلاد معرفة تامة، ويمكن أن يوكد - عند عدم هذه المعرفة الدقيقة - كون عمل التنسيق والبرهنة حول القضايا في المدرسة العربية، ولا سيما عند ابن سينا، كان أمرا مهما جدا.
وإذا ما نظر إلى حال الروح العام الذي كان عليه هؤلاء المفكرون وجب أن يذكر - كما قلنا غير مرة - أن أمر التوفيق ظل عادة ذهنية منتشرة في الشرق عدة قرون، وتوضح هذه العادة كون مؤلفي الإسلام استطاعوا أن يضعوا المعضلة السكلاسية من غير أن يساورهم أي شك في إمكان حلها، هذه المعضلة التي أخافت الباحثين في بلاد أخرى أو أخمدت إقدامهم. ولم يكن المنهاج السكلاسي الذي تألف منه أحد حدود هذه المعضلة - ويمكن التسليم بهذا مثل نتيجة أيضا - منهاجا فرديا، أو أفلاطونية، أو مشائية، أو غير ذلك، وإنما كان مجموع توفيق قام بطريق العنعنات واقعا تحت تأثير الأفلاطونية الجديدة مع بعض رواسب أدرية بصريح القول. وفضلا عن ذلك فإن هناك تذكرات عقدية دينية قديمة مرتبطة في الاثنينة والأدرية، وعودات عاطفية بادية نحو المذاهب القائلة بوحدة الوجود، كانت تظهر في الحين بعد الحين لدى سكلاسيي العرب، حتى عند أكثرهم حكمة. ومع ذلك فإنه لا يشار إلى هذه الملاحظة الأخيرة إلا بإيجاز؛ وذلك لأنها أكثر تعلقا بدراسة الفلسفة الصوفية.
وكذلك يمكننا أن نتساءل عما إذا كان جهد فلاسفة العرب الذهني - وقد يقال العبقري - قد وصل نهائيا إلى حل مقبول - تقريبا - للمعضلة السكلاسية، فنخشى أن يكون الجواب بالنفي، وهذا لعوامل ذاتية وغير ذاتية، وقد أحسسنا العوامل الذاتية، وإذا كنا نذكر ماذا كان الإله التورائي والقرآني من جهة، وماذا كان إله الفلاسفة الآخر ، ساورنا انطباع قائل: إن مسافة كبيرة لا تزال تفصل بين هذين المفهومين، اللذين لا يعد توفيق ما بينهما حول هذه النقطة قد تم حتما.
ولا مراء في أن التصوف هناك هو لإصلاح ما يكون من زهو، وإيصاد، وجفاف، وتجريد في المفهوم الفلسفي الإلهي، ولكن التصوف نفسه يعرض أخطارا هائلة على الأرتدكسية، فإذا كان ما بعد الطبيعة ينطوي على آثار من وحدة الوجود، فليس التصوف هو الذي يطهره منها. والواقع أنه إذا رجع البصر إلى ما هو عالق بالخيال من ناحية العقيدة الإسلامية وجد أن إله الفلاسفة مذهل غير مقبول؛ وذلك أنه يشتمل على إنجاز وعدم إحساس في الوجود، فلا يعرف فيه ما يعرف في إله التوراة من فعالية حية متقلبة، وفضيلة مبدعة، ودعة ربانية، ومقاصد واسعة، ورأفة رحيمة، وانتقامات هائلة، ولإله الفلسفة، ذي القوة الوجودية بالفعل، ما يلوح أنه عادم الحركة، فعدنا لا نستطيع أن نعرفه، وعدنا غير محمولين على محبته، مهما وقع من إثبات لنا أنه الحق الأعلى، ونحن لا نشعر بأنه صالح، وإن كان يثبت لنا أنه هكذا عقليا.
وأخص ما نخافه هو أن نرى صفاته الذاتية - من إرادة وعلم وقدرة - تتحد وتسبك في نوع من القوة لا قبل لنا بتصورها، فيصدر عنها العالم، وذلك من غير أن ندرك النقطة التي يبقى هذا الإله عندها فاعلا حرا للعالم، أو حرا شاعرا كما أقول، ولم نشدد في تحليلنا حول مسألة اختيار الله في إحداث العالم هذه؛ لما لا نرى غنما في محاولة الغوص فيها، ويكون الله خفيا خفاء مطلقا في هذا الموضع، فيمكن أن يقال: إن رأي ابن سينا يتوارى هنا على غرار رأيه في الموجود الأول.
وقد أثار مذهب ابن سينا - كما هو الواقع، وهنا العامل غير الذاتي، الذي أشرنا إليه آنفا - مقت ذوي النفوس الدينية، ومن ذلك أن الغزالي - الذي يمثل في الإسلام ذورة السكلاسية اللاهوتية، كما يمثل ابن سينا السكلاسية الفلسفية - حمل حملة عنيفة على منهاج ابن سينا، وقضى على نصيبه في المشرق، ويمضي قرن بعد الغزالي، فتبعث هذه المذاهب في المغرب، وتجاوز حدود الإسلام فتلقي ذعرا في العالم النصراني تحت اسم الرشدية ، وذلك على نمط ضلالة هائلة.
الفصل العاشر
تصوف ابن سينا
العناية الربانية - الله خير محض، فكيف يتصور مصدر صدور الشر؟ - ليس الشر شرا إلا بالعرض - رسالة ابن سينا عن القدر - التفاؤل عند الشيخ الرئيس - كيف تتم السعادة؟ - بلوغ الأنفس كمالها بذاتها - قصة سلامان وأبسال - تفسير الطوسي لهذه القصة. ***
Bilinmeyen sayfa