17 «لا يجوز أن يكون كون الكل صادرا عن واجب الوجود على سبيل قصد منه كقصدنا، وذلك لما يكون في واجب الوجود من شيئية يرى بها وجود الكل عنه، فيؤدي هذا إلى تكثر ذاته، وهذا محال ، وذلك فضلا عن أنه يكون فيه شيء بسببه يقصد، وهو علمه بوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك، وهذا محال، وليس كون الكل عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكل عنه لا بمعرفة ولا رضا منه، وكيف يصح هذا وهو عقل محض يعقل ذاته، فيجب أن يعقل أنه يلزمه وجود الكل عنه؛ لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلا محضا ومبدأ أولا.
وإنما يعقل وجود الكل عنه على أنه مبدؤه، وكل ذات تعلم ما يصدر عنه ولا تخالطه معاوقة ما، والأول راض بفيضان الكل عنه، ثم إن الأول يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود، فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون، لا عقلا خارجا عن القوة إلى الفعل، ولا عقلا متنقلا من معقول إلى معقول، فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه، بل عقلا، واحدا، معا، ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود إذ يعقل كيف يمكن، وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله؛ فإن الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها - على ما علمت - علم وقدرة وإرادة، وأما نحن فنحتاج في تنفيذ ما نتصوره إلى قصد وإلى حركة وإرادة حتى توجد، وهو لا يحسن فيه ذلك، ولا يصح لبراءته عن الاثنينية، وهو فاعل الكل، بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضا تاما مباينا لذاته.»
وأخص ما صنع ابن سينا في هذا البيان هو أنه وحد بين العقل والعلة، كما أنه وحد في مكان آخر بين الوجود والعقل.
قال ابن سينا:
18 «إن واجب الوجود بذاته عقل، وعاقل، ومعقول.» فأنت تعرف أن طبيعة الوجود غير ممتنع عليها أن تعقل، وإنما يعرض لها ألا تعقل إذا كانت في المادة أو مكنوفة بعوارض المادة، فإنها من حيث هي كذلك محسوسة أو متخيلة، وإنما الموجود معقول عادة، «والأول الواجب الوجود مجرد عن المادة وعوارض المادة، فهو - بما هو هوية مجردة - عقل، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته، وبما يعتبر له أن ذاته لها هوية مجردة هو عاقل ذاته»، فالموجود الأول ماهية وهوية.
ويعقل واجب الوجود من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة
19
بأعيانها والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا، وبتوسط ذلك بأشخاصها، ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها، وذلك من حيث يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة، وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة، ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغير الذات، ثم إن الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة لم تعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادة وعوارض مادة لم تكن معقولة، بل محسوسة ومتخيلة، ونحن قد بينا أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها من حيث هي محسوسة، ونتخيلها بآلة متجزئة.
ولذا فإن هذا النوع من الإدراك لا يمكن أن يوافق الموجود الأول، «وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقلات، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهذا من العجائب التي يحوج تصورها إلى لطف قريحة.»
ويظهر من الكلمات الأخيرة هذه أن ابن سينا كان شاعرا بالبراعة التي أظهرها في هذا المذهب الممتع، فقد انتهى - من حيث النتيجة - إلى التوفيق، على شكل ما، وذلك باستعمال دقيق لمفهوم السببية، بين الإله الفلسفي، الذي يجهل العالم تقريبا، والإله العقدي الذي يعلم آخر ذرة في العالم، ولا ريب في أن ذلك لم يكن أقل مجاز وعر في المسألة السكلاسية، ويمكن أن نقول - ونحن نختم هذا الفصل - إن حل ابن سينا لهذه النقطة ليس مرضيا تماما، ومهما يكن من أمر فإن هذا الحل ماهر يلائم عبقريته الفلسفية، ويمكن تلخيص هذا الحل - من حيث الأساس - بأن يقال: إن معرفة الله بالعالم ليست سوى إطالة لشعوره بذاته ، ومن هذا البيان يبدو ما تنم عليه هذه النظرية من صبغة خفيفة في وحدة الوجود، والله يعرف العالم مثل معلول له من حيث العموم، وذلك وفق نظام سلسلة العلل والمعلولات، التي هو أول حلقة فيها، وهو يعرف كل شيء؛ لأنه يوجب كل شيء، «ويعلم الأول
Bilinmeyen sayfa