وكانت وفاته يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، ولم يجاوز بحساب السنين الهجرية ثماني وخمسين.
ولم يلبث أن طرأ على سيرته ما طرأ على سير أمثاله من أفذاذ العبقريين الذين ذاعت شهرتهم في حياتهم. فجللته القداسة ورويت عنه الأعاجيب والكرامات، وأصبح ضريح الفيلسوف المتهم في عقيدته مزارا يطيف به المتبركون المتوسلون، وخيل إليهم أن صاحب الضريح له غير جسد واحد أو أن الناس يتنازعون جسده في كل مكان. فقيل إنه دفن بهمدان، وقيل إنه دفن بأصفهان، وزعم بعض الأوروبيين أنه دفن بالمغرب في الأندلس بسعي ابن رشد وتدبيره، وأعجب من ذلك ما ورد في قصة طبعت بمصر عن سيرة «أبي علي ابن سينا وأخيه أبي الحارث» وجاء فيها أن الفيلسوف قد عمر إحدى وثمانين سنة ودفن بسمرقند، وأنه لما شعر باقتراب الموت استنحت في قالب من المرمر على شكل صورته وأعلم تلميذه جاماس الحكيم أن يخفي أمره إذا مات وليفعل ما يأمره به ... وفعل جاماس بالوصية وأخذ جثة ابن سينا ووضعها في جرن من الرخام ... ولكن تلميذه تفكر أن ابن سينا إذا عاد إلى الحياة دام إلى القيامة وهو شهير في العلوم فلم يبق لتلميذه اسم ولا رسم، فالأولى تركه على هذه الحالة، ثم كسر جاماس الزجاجة السابقة وأخفى الحمام وترك ابن سينا على حالته تلك وانطلق إلى سبيله ... أما صوت ابن سينا فكان يسمع والناس يتعجبون ... قال الراوي: «إن الحمام المسمى ميزار معمور إلى وقتنا هذا، وقد كنت توجهت حين سياحتي إلى سمرقند وأتيت إلى الحمام في وقت التجميد وأصغيت فسمعت صوته من داخل خلوة قليلا قليلا فاستمعت زمنا طويلا فإذا تزاحمت الناس قل الصوت ...»
أما معجزات الرجل الصحيحة فأشهرها وألزمها للباحث في فلسفته وأدلها على علمه كتاب الشفاء في الإلهيات والطبيعيات، وكتاب النجاة وهو مختصر الشفاء، ويقال إنه تركه ناقصا فأتمه تلميذه الجوزجاني الذي سبقت الإشارة إليه، وكتاب منطق المشرقيين، ويرجح أنه جزء من الكتاب المسمى بالحكمة المشرقية، وأثبته الجوزجاني وابن طفيل وابن رشيد تارة باسم الحكمة المشرقية وتارة باسم الفلسفة المشرقية، وكان الشيخ الرئيس يريد أن يختص به العلية ويقول عنه: «إننا ما جمعناه لنظهره إلا لأنفسنا والذين يقومون منا مقام أنفسنا.» وينقض به بعض آراء المشائين التي ألفها «متعلمو كتب اليونانيين ألفا عن غفلة وقلة فهم» ولكن الكتاب لا يوجد تاما. وما طبع منه بمصر مقصور على المنطق وهو كاف في الدلالة على منحاه.
ومن ألزم الكتب لمن يدرس ابن سينا كتاب «الإشارات»، وهو قسمان: قسم في المنطق وقسم في الإلهيات، وقد يستغني به من يطلب الإلمام دون التطويل.
وله غير ذلك عجالات وقصص ورسائل كثيرة في أغراض شتى من الحكمة والفقه والرياضيات والتصوف والأدب، طبع الكثير منها ولا يزال بعضها مخطوطا في المكتبات الشرقية والأوروبية، وأشهرها جميعا قصة الطير وقصة حي بن يقظان، وقصيدة النفس ورسالة في القضاء والقدر، وفي المبدأ والمعاد، وفي الأخلاق، وفي القوى الإنسانية وإدراكاتها، وفي الأجرام العلوية، وفي الحدود، وفي إثبات النبوات وتأويل الرموز، وفي العشق، وفي الزيارة، وفي وقوف الأرض بالفضاء، وليس من العسير الحصول على المطبوع من هذه الرسائل والقصص والعجالات. •••
أما في الطب فكتاب القانون هو عمدة المعارف الطبية التي علمها ابن سينا لمريديه، وكانت له ملحقات في تجاربه ومعالجاته نوى أن يثبتها فيه فضاعت فيما ضاع من أوراقه بين غارات الجيوش ورحلات الفرار. وقد جرى أمر هذا الكتاب على سنة المبالغة بين الدهماء والخاصة على السواء. فأما الدهماء فقد رأينا كيف اعتقدوا القدرة في ابن سينا على إحياء الجسوم بعد موتها، وأما الخاصة فقد جعلوه مرجع الطب أربعة قرون في الجامعات الأوروبية، وقال فيه ابن زهر الطبيب الأندلسي إنه لا يساوي الورق الأبيض الذي كتب عليه. ومقطع الحق بين هذه المبالغات أنه كتاب لم يكن في زمان ما هو خير منه وأجدى في شئون الطب والعلاج. •••
وقد أفاد ابن سينا بصلاته الشخصية كما أفاد بالتأليف والتصنيف، فاتصل به البيروني الذي قال فيه الأستاذ «ساخاو» الألماني: إنه أكبر عقل ظهر في تاريخ بني الإنسان، وكان يسأله سؤال المستفيد - وإن تنكر له فيما بعد - وهو أكبر منه سنا وله ذلك الشأن الذي تدل عليه تلك الشهادة من المتأخرين. واتصل به أبو سعيد بن أبي الخير أمام المتصوفة في زمانه وسأله كذلك سؤال المستفيد قبل أن تقع بينهما الجفوة لاختلاف النزعة والمزاج، ولقيه ابن مسكويه الفيلسوف الأخلاقي المشهور، وتتلمذ له أبو عبيد الجوزجاني وأبو القاسم الكرماني وأبو عبد الله المعصومي وأبو الحسن بن طاهر بن زيلة وبهمنيار بن المرزبان، وعده عمر الخيام من أساتذته وهو من أبناء الجيل اللاحق بجيله ... وكلهم من أصحاب النظر في الحكمة والطبيعيات والرياضيات، وبقي منهم من بقي على ولائه ولكنه ابتلي في أكثرهم كما يبتلى كل متفوق مناضل محسود.
وكان المعجبون به على الجملة أكثر من محبيه، لأنه رزق أسباب الحسد من جميع نواحيه، فكان رجلا عظيم الذكاء عظيم الشهرة عظيم الاعتداد بالنفس عظيم النشاط، ممتلئا بالحياة، لا حيلة له في اجتناب مراتب الرفعة لأنه طبيب مشهور وفيلسوف مشهور، فلو ترك الأمراء والرؤساء لما تركوه. ومن كان هذا شأنه في عصور المنازعات فلا مناص له من أن ينازع الناس وينازعوه، فقد أعدته جبلته وجبلة زمانه للمغالبة والمصاولة، فوقرت له هذه الصفة في نفوس الناس من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون: سمع كلمة من نظير يتعالى عليه باللغة فلم يهدأ حتى غلبه فيها، واحترقت المكتبة السامانية فوقع في روع أهل بخارى أنه أحرقها لينفرد بما علمه منها ولا يدانيه أحد بمثل علومه، وما زال ديدن الناس مع من يحسون منهم المغالبة أن يعاملوهم بقول القائل: «اصرعه قبل أن يصرعك» أو «تغد به قبل أن يجعلك عشاءه» ... فلا جرم وقع في خاطر غلمانه أن يهلكوه قبل أن يهلكهم ، لأنهم خانوه !
قال بعض حاسديه يشمت به بعد وفاته:
رأيت ابن سينا يعادي الرجا
Bilinmeyen sayfa