وما أبلغ ما يذكره ابن رشد في بيان مبلغ الترتيب والموافقة في لفظ «مهاد» في الآية:
ألم نجعل الأرض مهادا ! إنه يقول: وذلك أن المهاد يجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع، وزائدا إلى هذا معنى الوثارة واللين؛ فما أعجب هذا الإعجاز، وأفضل هذه السعادة، وأغرب هذا الجمع! وذلك بأنه قد جمع في لفظ «مهاد» جميع ما في الأرض من موافقتها لكون الإنسان عليها، وذلك شيء قد تبين على التمام للعلماء في ترتيب من الكلام طويل، وقدر من الزمان غير يسير، والله يختص برحمته من يشاء.
إلا أن العالم بعد هذا كله، فيه - كما يقول فيلسوف قرطبة - شبه من الله الموجود بحق، وهو أنه لا أول لوجوده مع احتياجه لله في هذا الوجود؛ فهو لهذا قديم من جهة الزمن ما دام هو معلولا عن الله تعالى. وإذن فمن قال بقدمه لاحظ هذا المعنى؛ فكان غير كافر بوصفه بالقدم مع الإقرار بأنه مخلوق لله تعالى.
وأخيرا، فيما يختص بالبعث للحساب: أهو بالروح فقط أو بالجسد أيضا، والجزاء: أهو معنوي أو مادي؟ يقرر في «كشف الأدلة» و«تهافت التهافت» أن الشرائع جميعا، ومنها شريعة الإسلام، متفقة على أن للنفوس بعد الموت أحوالا من السعادة والشقاء، وإن اختلفت في تمثيل هذه الأحوال للناس، وفي بيان حقائقها.
وشريعتنا - كما يقول - مثلت هذه الحالات من النعيم والعذاب، أو السعادة والشقاء، بمثل مادية جسمانية؛ لتكون أكثر تحريكا لنفوس الجمهور، ودفعا لها إلى العمل الطيب. والنصوص التي تناولت وصف هذا الجزاء من الممكن أن تؤول لناس دون ناس.
إذن فرض كل امرئ في هذه المسألة هو الاعتراف بأصل البعث والجزاء الثابت بكل أنواع الأدلة؛ وفيما يختص بالكيفية والصفة يجب أن يعتقد بما أداه إليه نظره واجتهاده.
ولكي يؤكد لنا ابن رشد أن العقل أو الفلسفة لا تجافي الدين في هذه المسألة، نراه يذكر في «تهافت التهافت» أن الفلاسفة القدماء - ويريد بهم الإغريق - يرون أنه لا يصح أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل لمبادئ الشريعة وأصولها العامة التي لا بد منها لسعادة الإنسان. ومن هذه المبادئ البعث وكيف يكون.
الوحي والمعجزات
الآن وصلنا إلى أهم مسألة أو مشكلة يتعرض لها من يحاول التوفيق بين الدين والعقل، نعني مسألة الوحي والنبوة؛ فهي مشكلة يجب حلها، وعقبة يجب اجتيازها للوصول إلى ما يراد من تآخي الشريعة التي تقوم على الوحي والمعجزات، والفلسفة التي لا تعترف بغير العقل والنظر المنطقي.
لا بد إذن من أن يقول ابن رشد في هذه المشكلة كلمة، ومن أن يبين صراحة رأيه الخاص في الوحي، وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وفي المعجزات والنبوة، وفي الحاجة إلى الشريعة بجانب العقل.
Bilinmeyen sayfa