İbn Mukaffa: Edebiyat İmamları (Cilt II)
ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
Türler
عصر ابن المقفع
شعب ابن المقفع
أثر العرب في الفرس
أثر الفرس في العرب
نسب ابن المقفع ووطنه
أوليته
علمه وأدبه
صفته وأخلاقه
حكمته وآراؤه
رميه بالزندقة
Bilinmeyen sayfa
كتبه
أسلوبه وخصائصه
شعره
نصوص من كلام ابن المقفع
أمثلة من رسائله
تحميد لابن المقفع
أمثلة من حكمه
عصر ابن المقفع
شعب ابن المقفع
أثر العرب في الفرس
Bilinmeyen sayfa
أثر الفرس في العرب
نسب ابن المقفع ووطنه
أوليته
علمه وأدبه
صفته وأخلاقه
حكمته وآراؤه
رميه بالزندقة
كتبه
أسلوبه وخصائصه
شعره
Bilinmeyen sayfa
نصوص من كلام ابن المقفع
أمثلة من رسائله
تحميد لابن المقفع
أمثلة من حكمه
ابن المقفع
ابن المقفع
أئمة الأدب (الجزء الثاني)
تأليف
خليل مردم
عصر ابن المقفع
Bilinmeyen sayfa
نشأ ابن المقفع في أواخر الدولة الأموية يوم كان عنصره الفارسي مغلوبا على أمره خاضعا للعرب في الدين والدنيا، والعرب إذ ذاك يسمون الفرس بالموالي بعد أن كانوا يسمونهم في الجاهلية أبناء الأحرار.
وشهد ابن المقفع ثورة الفرس على العرب، تلك الثورة التي قادها أبو مسلم الخراساني، فكانت أكبر عامل في قيام الدولة العباسية وتقويض الدولة الأموية، فتنفس الفرس الصعداء وثأروا لتيجان الأكاسرة من عمائم العرب.
ولقد كان مروان بن محمد - آخر خلفاء الأمويين المتعصبين للعرب - يحذر قومه من الدعوة العباسية المستنصرة بالعجم، إذ كتب عنه كاتبه عبد الحميد بن يحيى رسالة لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد قائمين بالدولة العباسية، قال فيها: «فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل وتمحى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين.»
ولكن قضي الأمر، فانقرضت دولة بني أمية وقامت دولة بني العباس، ولم ينس بطلهم أبو جعفر المنصور صنيعة الفرس، فأقصى العرب عن أعمال الدولة واستوزر من الفرس واستعمل واستقضى، وكان من الوصايا التي بنيت عليها سياسة الدعوة العباسية: «إن قدرت أن لا تبقي بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل.»
على أن أبا جعفر كان أحزم من أن يدع غلاة الفرس يعيدون الدولة الفارسية كسروية كما كانت قبل الفتح العربي، فمكر بهم ومكروا به حتى قتل أبا مسلم، راميا من وراء ذلك أن يضع حدا لأحلامهم، وله من خطبة بالمدائن بعد قتل أبي مسلم: «إن من نازعنا عروة هذا القميص أجززناه خبيء هذا الغمد، وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا على أن من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا فحكمنا عليه حكمه على غيره، ولم تمنعنا رعاية الحق له من إقامة الحق عليه.»
وكأن هذا الدواء لم يكن حاسما، فخرج في خراسان رجل مجوسي اسمه سنباذ، كان من أصحاب أبي مسلم وصنائعه، فأظهر غضبا لقتل أبي مسلم، وأعلن أنه يريد أن يمضي إلى الحجاز ويهدم الكعبة، وتبعه كثير من المجوس والمزدكية والرافضة والمشبهة، ولكن المنصور أبادهم أيضا.
وأخذ أبو مسلم بعد قتله صفة دينية، فالمسلمية - وهم أصحابه - يعتقدون إمامته، ويقولون إنه حي يرزق، وإنه سيخرج إليهم، وعلى هذه العقيدة قام إسحاق التركي أحد أصحاب أبي مسلم وادعى أن أبا مسلم رسول بعثه زرادشت صاحب دين الفرس.
فانظر كيف حاول غلاة الفرس أن يستعيدوا ملكهم ودينهم ولغتهم؟! ولكن بالرغم من كل ذلك فقد كان من المستحيل أن تتحقق أمانيهم بعد أن دان أكثر الفرس بالإسلام وشاعت بينهم العربية.
ومهما يكن فلقد أصبح لهم في دولة بني العباس من نفوذ الأمر وخطر الشأن ما ليس بالقليل، فانتعشت عاداتهم وبعثت أعيادهم كالنوروز والمهرجان والرام والسذق،
1
Bilinmeyen sayfa
واتخذ الخلفاء ألبستهم كالقلنسوة والأثواب المزركشة بالذهب، ورويت أخبار ملوكهم، وترجمت كتب أدبهم وحكمتهم.
ذلك الانقلاب في السياسة والاجتماع ترك أثرا عميقا في الأدب العربي، وكان فاتحة عصر سار فيه الأدب أشواطا بعيدة، وطبعه بطابع استساغته الأذواق، بل قل إنه هيأ أذواقنا لفهمه والأنس به والارتياح إليه والاهتزاز له، فالشعر العربي مثلا في العصر العباسي أقرب إلى شعورنا منه في العصر الأموي وصدر الإسلام والجاهلية.
لست من المغالين في أثر الفرس في الأدب العربي، فأنا لا أدعي أن تطور أدبنا كان نتيجة سيطرة الآداب الفارسية عليه، ولكني لا أجحد أثر العقلية الفارسية الذي كان عنصرا قويا في تطور الأدب العربي، وليس هنا محل الإفاضة في إقامة الحجة على أن العرب أثروا في الفرس أضعاف ما أثر الفرس في العرب، ولعلنا نعالج هذا الموضوع مفصلا عند الكلام على ابن العميد والصاحب ابن عباد، ولكن لا مندوحة من الإلمام به هنا على سبيل الإيجاز.
دان الفرس بدين العرب بعد الفتح وتسموا بأسمائهم وتعلموا لغتهم، وهجروا الخط الفارسي واصطنعوا الحروف العربية، وأصبحت اللغة الفارسية بعد الفتح غيرها قبله؛ لكثرة ما دخل عليها من الألفاظ العربية، فالفرس والحالة هذه رفدوا الآداب العربية كمستعربين مطبوعين بطابع الروح العربية ومأخوذين بسحرها، إلا ما اقتضته طبيعة العرق والإرث من طراز التفكير والفهم والحس والخيال.
لم يكن الانقلاب العباسي انقلابا سياسيا فحسب، بل نجم عنه انقلاب في الحياة الاجتماعية والفكرية، وهبت على أثره حركة علمية قوية، فدونت الكتب وترجمت كتب اليونان والفرس، وظهرت آراء في الدين والفلسفة، ورفعت الشعوبية عقيرتها، ونغض الزنادقة والملاحدة رءوسهم، وقاموا بدعوات مصدرها دين زرادشت ومزدك.
أما الحياة إذ ذاك فقد اقتضت طبيعة الحضارة أن يرتاح القوم إلى متعها ولذاتها، ويأخذوا بنصيب غير يسير من شهواتهم، فشاع الغناء والشراب، وظهر الخلعاء والمجان والإباحيون على كثرة المنكرين لتلك الأعمال من العلماء الأتقياء والزهاد الصالحين.
كل ذلك فتح للأدب العربي أبوابا لم تكن مفتوحة على مصراعيها من قبل، فتنوعت الأغراض وكثرت الفنون وتعددت المناحي وظهر التأنق في النثر والشعر، وطلبت الرقة والدماثة، فضلا عما أوحته تلك الحياة من سمو في الخيال وعمق في التفكير مع المحافظة على فصاحة العربية والأخذ بأساليبها.
والحق أن مرونة العربية وسعة مادتها ساعدتها على تقبل تلك العناصر الجديدة وصبغها بصبغة عربية لا عجمة فيها، وذلك من خصائصها التي مازتها عن كثير من اللغات، ولولا ذلك لما أتيح لها أن تكون لغة الدين والسلطان والعلم والأدب.
هذا هو العصر الذي كان ابن المقفع أحد أعلامه ومفاخره.
شعب ابن المقفع
Bilinmeyen sayfa
ابن المقفع فارسي الأصل، والفرس شعب آري عريق في الملك والحضارة والعلم والحكمة والأدب وله دين وأساطير، واسم نبيهم زرادشت واسم كتابهم أفستا، وتعاليم زرادشت مؤسسة على مبدأين متقابلين؛ وهما: هرمز أو الله مبدأ الخير، وأهرمن مبدأ الشر، وزروان أكيرين أي الوقت غير المحدود، وهو فوق المعبودين السابقين في القدرة والمنزلة، وشريعته جارية على مبادئ حياة الأفراد وشئونهم من حيث الحقوق والواجبات، ولقد دعا إلى عبادة النار ونبه إلى ثواب الآخرة وعقابها.
ومن أديان الفرس أيضا دين ماني، القائل بأن مبدأ العالم كونان، أحدهما نور والآخر ظلمة، وكذلك دين مزدك القائل بتناول اللذات والانعكاف على بلوغ الشهوات وترك الاستبداد والمشاركة في الحرم والأهل وفعل الخير وترك القتل وإدخال الآلام على النفوس.
وكان لملوكهم عناية بالغة في العلم والأدب كالضحاك وأردشير بن بابك وابنه سابور، ولقد ترجمت فلسفة اليونان وحكمة الهنود إلى الفارسية، فضلا عما ألفه الفرس أنفسهم والعرب يقرون لهم بالعلم، حتى إن النبي عليه السلام قال: «لو كان العلم معلقا بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس.»
أما كتب أدبهم وحكمتهم، فالفضل في بقائها أو التعريف بها للعرب ومن كتب بالعربية من الذين ترجموها أو أشاروا إليها؛ لأن الأصول الفارسية درست، ومن أجلها كتاب جاويذان خرد الذي يقال إنه أقدم كتاب في العالم، وضعه الملك أوشهنج ونقله من اللسان القديم إلى اللسان الفارسي كنجور بن إسفنديار، ونقله إلى العربية الحسن بن سهل، وكتاب هزار أفسان ومعناه ألف خرافة وهو أصل ألف ليلة وليلة، وكتاب روزية اليتيم، وكتاب خرافة ونزهة، وكتاب الدب والثعلب، وكتاب مسك زنانة وشاه زنان، وكتاب نمرود ملك بابل، وكتاب رستم وإسفنديار، وكتاب بهرام شوس، وكتاب شهريزاد مع أبرويز، وكتاب الكارنامج في سيرة أنوشروان، وكتاب التاج وما تفاءلت به ملوكهم، وكتاب دارا والصنم المذهب، وكتاب خداي نامه، وكتاب بهرام ونرسي، وكتاب أنوشروان، وكتاب عهد أردشير، وغير ذلك من الكتب التي لا محل لاستقصائها هنا، هذا فضلا عن الكتب التي ترجمها ابن المقفع مما لم يرد ذكره الآن، والتي سيأتي الكلام عليها فيما بعد.
ولكن من الغريب أن أمة هذا مبلغها في الملك والحضارة والعلم والأدب لم يحفظ لها التاريخ شيئا من الشعر قبل الإسلام يعتد به.
واللغة الفارسية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الفارسية القديمة، وعصرها من سنة 550 إلى سنة 330 قبل الميلاد. والفهلوية وقد أزهرت في عصر الساسانيين، وعنها ترجمت الكتب إلى العربية، وقد ظلت حية إلى ما بعد الفتح العربي بأكثر من قرن. والفارسية العصرية وعصرها من بعد الفتح العربي إلى العصر الحاضر، وهي التي دخل عليها كثير من الكلمات بالعربية بعد أن دان أكثر الفرس بالإسلام.
على أن الفرس وإن دانوا بالإسلام فما زالت نفوسهم تطمح إلى الاستقلال عن العرب، قال أحد غلاتهم:
أنا ابن المكارم من آل جم
وطالب إرث ملوك العجم
فقل لبني هاشم كلهم
Bilinmeyen sayfa
هلموا إلى الخلع قبل الندم
وعودوا إلى أرضكم بالحجاز
وأكل الضباب ورعي الغنم
والذين لم يحسن إسلامهم من الفرس قاموا في صدر الدولة العباسية بمقالات دينية تضرب بعرق إلى المجوسية، وفتنوا بها كثيرا من الناس، مثل بها فريد المتكهن الذي كان يصلي الصلوات الخمس بلا سجود متياسرا عن القبلة، وسنباذ وإسحاق اللذين مر ذكرهما، وغير أولئك ممن حارب العرب بالقول أو الفعل.
أما الذين لم يدخلوا في الإسلام، فقد بقي كثير منهم في بلادهم على المجوسية، وظلت بيوت نيرانهم موقدة يقضون بها مناسكهم.
ولئن شاعت العربية في بلاد فارس وحذقها العلماء، فالفارسية ظلت حية بين أبنائها، فلقد روي عن جيش المختار الذي ثار على عبد الملك بن مروان أنه كان يتكلم بالفارسية، وهذا أبو تمام الطائي يقول وقد سمع مغنية فارسية في أبر شهر:
أيا سهري ببلدة أبر شهر
ذممت إلي في نومي سواها
شكرتك ليلة حسنت وطابت
أقام سرورها ومضى كراها
Bilinmeyen sayfa
سمعت بها غناء كان أولى
بأن يقتاد نفسي من غناها
ومسمعة يحار السمع فيها
ولم تصممه لا يصمم صداها
مرت أوتارها فشفت وشاقت
ولو يسطيع حاسدها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن
ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فبت كأنني أعمى معنى
يحب الغانيات وما يراها
Bilinmeyen sayfa
وقد كان ذلك في أوائل القرن الثالث. وفي القرن الرابع سمعنا المتنبي يقول في شعب بوان:
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
سليمان لسار بترجمان
وهكذا، فلقد ضن الفرس بلغتهم وتحينوا الفرص حتى أتيح لهم أن يستقلوا عن العرب ويكونوا لهم أدبا رائعا.
أثر العرب في الفرس
العرب والفرس أمتان متجاورتان، كان اتصال بينهما قبل الإسلام وبعده، وتركت كل منهما أثرا في الثانية، أما أثر العرب في الفرس قبل الإسلام فضئيل؛ لأن الفرس كانوا أعظم من العرب في الملك والحضارة والعلم، ومع ذلك فقد اتخذ الأكاسرة كتابا من العرب كلقيط بن يعمر الإيادي الشاعر الجاهلي القديم الذي كان كاتبا في ديوان سابور ذي الأكتاف في القرن الرابع للميلاد، وهو صاحب القصيدة البارعة التي يحذر بها قومه من غزو الفرس، والتي منها قوله:
وقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
Bilinmeyen sayfa
وعدي بن زيد العبادي كاتب كسرى.
ولقد كان للفرس رأي حسن في أخلاق العرب وتربيتهم، فقد روي أن بهرام جور - أحد ملوك الفرس - أرسله أبوه وهو حدث إلى المنذر بن النعمان ملك الحيرة ليشرف على تهذيبه وتعليمه، فأحضر له مؤدبين علموه الكتابة والرمي والفقه وأجاد العربية، وظل في الحيرة حتى مات أبوه، وساعده المنذر على تمليكه على الفرس، وكان ذلك في أوائل القرن الخامس للميلاد، ومن هنا وهم أدباء الفرس وقالوا: إن بهرام هو الذي ابتكر الأوزان الشعرية، وفاتهم أنه تلقاها عن العرب في الحيرة.
ثم لما بعث النبي - عليه السلام - كان سلمان الفارسي أول من آمن به من الفرس، فدان بالإسلام وأخلص له حتى قال النبي - عليه السلام: «سلمان منا أهل البيت.»
ولما فتح العرب بلاد فارس في خلافة عمر - رضي الله عنه - بدأ الفرس يدخلون في الإسلام، فلم ينقض القرن الأول حتى شملهم الإسلام إلا قليلا منهم، وشاعت بينهم اللغة العربية، واختلطوا بالعرب وتسموا بأسمائهم، وكتبوا الفارسية بالحروف العربية، وأثرت فيهم الثقافة الإسلامية أثرا عميقا، بل خلقتهم خلقا جديدا حتى جعلتهم يقطعون الصلة بينهم وبين أدبهم القومي قبل الإسلام إلا يسيرا منه.
قال نولدكي: «إن الآداب اليونانية لم تمس من حياة الفرس إلا ظاهرها، ولكن دين العرب وسننهم نفذت إلى قلوبهم.»
فاللغة الفارسية بعد الإسلام أضحت غيرها قبل الإسلام لكثرة ما دخل عليها من الكلمات العربية وأساليب بيانها، وأصبح القرآن والحديث مصدر الأدب الفارسي، فشاع الاقتباس منهما والإشارة إليهما، حتى إنه يكاد يكون في كثير من مناحيه أدبا عربيا مترجما، فالأوزان الشعرية ومصطلحات فنون البلاغة في المعاني والبيان والبديع مأخوذة بأعيانها عن العربية، فضلا عن الاستشهاد بتاريخ العرب وخلفائهم، وضرب المثل ببلغائهم وشعرائهم، واعتبارهم المثل الأعلى في البلاغة، حتى إن الناظر في الأدب الفارسي ليصعب عليه فهم روحه إذا لم يكن ذا إلمام بالحياة الإسلامية واللغة العربية.
وقد كان من اللباقة في المنطق والإنشاء أن يكثر الفارسي من استعمال الألفاظ العربية، قال كيكاوس حفيد قابوس بن وشمكير في كتاب ألفه لتهذيب ابنه جيلان شاه واسمه قابوسنامه: «إذا كتبت رسائلك بالفارسية فلتكن مشوبة بالعربية، فإن الفارسية الصرف لا تعذب في المذاق.»
اجتهد الفرس في تكوين أدبهم هذا، ولكن اللغة العربية كانت صاحبة المحل الأرفع عندهم، فقد ظلت لغة الدين والحكومة والعلم فيما بينهم حتى بعد أن استقلوا عن العرب، وظلوا يصطنعونها في تلك الأغراض الثلاثة حتى اجتاح المغول بلادهم في القرن السابع، فأضحت منذ ذاك الحين لغة الدين والفلسفة فقط.
ويجدر بنا هنا أن نورد دليلا من كلام ابن المقفع على مبلغ إكبار الفرس للعرب، قال: «إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أثرت أصحاب إبل وغنم وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم.»
وإليك مثالا آخر يدلك على مبلغ تأثر الفرس بالروح الإسلامية ومقتهم لعاداتهم المجوسية حتى الأعياد القومية منها، كتب بديع الزمان الهمذاني رسالة في ذم السذق - وهو أحد أعياد الفرس المشهورة - جاء فيها: «هذا هو العيد والضلال البعيد، إنهم يشبون نارا هي موعدهم، والنار في الدنيا عيدهم، والله إلى النار يعيدهم، ومن لم يلبس مع اليهود غيارهم لم يعقد مع النصارى زنارهم ولم يشب مع المجوس نارهم، إن عيد الوقود لعيد إفك، وإن شعار النار لشعار شرك، وما أنزل الله بالسذق سلطانا، ولا شرف نيروزا ولا مهرجانا، وإنما صب الله سيوف العرب على رءوس العجم لما كره من أديانها وسخط من نيرانها، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم حين مقت أفعالهم.»
Bilinmeyen sayfa
ولهذا الحديث شجون، وهناك كثير من الأدلة على مبلغ أثر العرب في الفرس من حيث الدين والأدب، نكتفي بما ذكرناه هنا على أن نأتي بالبقية في رسالة الوزيرين: ابن العميد والصاحب ابن عباد.
ولعل القارئ بعد الآن لا يستسرف نبوغ الفرس في الأدب العربي بعد أن راز مبلغ أثر العرب فيهم، وابن المقفع واحد منهم.
أثر الفرس في العرب
كان اتصال بين العرب والفرس في الحيرة واليمن قبل الإسلام وفي بلاد فارس بعد الإسلام، أما في الحيرة واليمن فقد كانت السيادة للفرس؛ لأن ملوك الحيرة كانوا تحت سيطرة الأكاسرة، كما أنهم أعانوا عرب اليمن على إخراج الأحباش من أرضهم، وكان ذاك بسعي سيف بن ذي يزن لدى أنوشروان، فعرف اليمنيون هذه الصنيعة لهم ودعوهم أبناء الأحرار، وما زالت ألسنتهم رطبة بالثناء عليهم حتى بعد الإسلام بنحو ثلاثة قرون، قال البحتري في قصيدته في إيوان كسرى يشير إلى جميل صنعهم مع أجداده اليمانيين:
فلها إن أعينها بدموع
موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري
باقتراب منهم ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من ذكائها خير غرس
Bilinmeyen sayfa
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأعانوا على كتائب أريا
ط بطعن على النحور ودعس
وأراني من بعد أكلف بالأش
راف طرا من كل سنخ وأس
وأما في بلاد فارس فقد كان العرب هم السادة، وأثر الفرس في العرب قبل الإسلام لم ينفذ إلى قلوب العرب؛ لأنهم لم يدينوا بدينهم، اللهم إلا مجوسية في تميم وزندقة في قريش، ولم يكونوا في الحيرة واليمن محكومين لهم حكما مطلقا، ولأن للعربي حرية غريزية تأبى عليه الانقياد لغيره، ولأنه فخور بعروبته مزهو ببلاغته، على أن اتصال العرب بالفرس ومجاورتهم لهم أدخلت على العربية طائفة صالحة من الألفاظ الفارسية، مثل: «حربا
1
وبربط
2
Bilinmeyen sayfa
وإبريق
3
وإستبرق
4
ويرندج
5
ودمقس
6
وزنبق
7
Bilinmeyen sayfa
وبخ بخ
8
وغرنوق
9
وفنزج
10
وفالوذ
11
وياسمين وشاهسفرم ونرجس
12
Bilinmeyen sayfa
والخورنق والسدير،
13
إلى غير ذلك من الكلمات الفارسية التي استعملها العرب قبل الإسلام بعد أن عربوها وتداولها بلغاؤهم في أشعارهم، ولقد أغرق بعض متنطعي الفرس وزعم أن مكة - قلب البلاد العربية ومبعث نور الإسلام - اسم فارسي مركب من ماه أي القمر، وكاه أي محل.
وقد أثرت اللغة الفارسية في الشاعر عدي بن زيد العبادي كاتب كسرى حتى ثقل لسانه؛ لذلك فالعلماء لا يرون شعره حجة، وكذلك أعشى قيس فإنه كان يفد على ملوك فارس؛ ولذلك كثرت الفارسية في شعره كما قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء.
ولم يقف الأمر عند اللغة والشعر، بل تعداه إلى العلم، فالحرث بن كلدة الثقفي طبيب العرب رحل إلى أرض فارس وأخذ الطب عن أهل تلك الديار من أهل جنديسابور، وذلك يقتضي تعلم لغتهم وإتقانها.
هذا وقد وقع في القرآن الكريم عدة كلمات فارسية، مثل سندس وإستبرق وأباريق وزنجبيل، وروي عن النبي - عليه السلام - أنه استعمل كلمات فارسية على سبيل التلطف، قال أبو هريرة: هجر النبي
صلى الله عليه وسلم
فهجرت وصليت، ثم جلست فالتفت إلي وقال: شكم درد؟
14
فقلت: نعم. فقال: قم فصل، فإن في الصلاة شفاء.»
Bilinmeyen sayfa
ثم لما فتح العرب بلاد فارس ودان الفرس بالإسلام بقيت الفارسية مستعملة في دواوين الحكومة هناك إلى أيام عبد الملك بن مروان إذ أمر بنقلها إلى العربية، فلما حلت العربية محل الفارسية لم يجد العرب غضاضة في اقتباس بعض مناهج الكتابة الديوانية عن الفرس، فلقد روي عن عبد الحميد بن يحيى كاتب بني أمية أنه استعان بالأوضاع الفارسية لما شرع معالم الكتابة العربية. قال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين: «من عرف ترتيب المعاني واستعمال الألفاظ على وجوهها بلغة من اللغات، ثم انتقل إلى لغة أخرى تهيأ له فيها من صنعة الكلام ما تهيأ له في الأولى، ألا ترى أن عبد الحميد الكاتب استخرج أمثلة الكتابة التي رسمها لمن بعده من اللسان الفارسي فحولها إلى اللسان العربي؟»
ولكن نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية لم يجعل القوم يتناسون لغتهم، بل ظلت حية فيما بينهم مع تعلمهم للغة العربية، وكان لهم شأن في الأدب وأمور الحكومة أيام بني أمية، قال سليمان بن عبد الملك: «العجب لهذه الأعاجم كان الملك فيهم فلم يحتاجوا إلينا، فلما ولينا لم نستغن عنهم.» وقال أيضا: «ألا تتعجبون من هذه الأعاجم؟ احتجنا إليهم في كل شيء حتى في تعلم لغاتنا منهم.»
ومن علمائهم الذين اشتغلوا باللغة والأدب في أيام بني أمية عنبسة الفيل أحد أصحاب أبي الأسود الدؤلي، وأبو داود عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، توفي في أيام هشام بن عبد الملك، وحماد الراوية الذي كان بنو أمية يستزيرونه من الكوفة ليحدثهم بأيام العرب وينشدهم أشعارها، وحماد عجرد الذي نادم الوليد بن يزيد، وأبو العباس الأعمى واسمه السائب بن فروخ أحد شعراء بني أمية، وزياد الأعجم الشاعر المتوفى سنة 100.
هذا إلى ما لهم من الأثر البين في الغناء العربي والموسيقى العربية في القرن الأول، فإن الغناء العربي ما زال ساذجا حتى ظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه.
ولا محل هنا للإسهاب بذكر من اشتركوا في تدوين العلوم الإسلامية من الفرس، كالقراءات والحديث والفقه وما يتفرع عنها؛ لأن عددهم عظيم جدا حتى قال ابن خلدون: «من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم.»
وقد شرعت مقالاتهم وآراؤهم في الدين تنتشر رويدا رويدا منذ أيام بني أمية، حتى إنها دبت لبعض الخلفاء، فالجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة كان صاحب رأي أخذ به جماعة بالجزيرة، ويروى أنه كان يرى رأي المنانية فاستهوى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية؛ لأنه كان مؤدبه؛ ولذلك رمي مروان بالزندقة.
قال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى - وكان ديانا شديد العصبية - من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: ثم من؟ قلت: محمد بن سيرين. قال: فما هما؟ قلت: موليان. قال: فمن كان فقيه مكة؟ قلت: عطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار. قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالي. قال: فمن فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر ونافع بن أبي نجيح. قال: فما هؤلاء؟ قلت: موالي. فتغير لونه ثم قال: فمن أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد. قال: فما كانا؟ قلت: من الموالي. فاربد وجهه ثم قال: فمن كان فقيه اليمن؟ قلت: طاوس وابنه وابن منبه. قال: فما هؤلاء؟ قلت: من الموالي. فانتفخت أوداجه وانتصب قاعدا، وقال: فمن كان فقيه خراسان؟ قلت: عطاء بن عبد الله الخراساني. قال: فما كان عطاء هذا؟ قلت: مولى. فازداد وجهه تربدا واسود اسودادا حتى خفته، ثم قال: فمن كان فقيه الشام؟ قلت: مكحول. قال: فمن هذا؟ قلت: مولى. فتنفس الصعداء، ثم قال: فمن كان فقيه الكوفة؟ فوالله لولا خوفه لقلت: الحكم بن عتيبة وعمار بن أبي سليمان، ولكن رأيت فيه الشر، فقلت: إبراهيم والشعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر، وسكن جأشه.
كان ذلك والعرب لم تتفرق كلمتهم بعد ولم تنطفي جمرتهم، فلما أديل من بني أمية لبني العباس بمعونة الفرس عظم شأنهم وطغى نفوذهم، وبعث كثير من عاداتهم وأعيادهم، واتخذت ألبستهم ومآكلهم في قصر الخلافة، وأصبح الوزراء والقواد منهم، وربما كان ديوان الوزارة وضعا من أوضاع الفرس في الدولة العباسية؛ لأن بني أمية لم يتخذوا وزراء.
هذا من حيث القوة، أما من حيث الأدب فقد ترجمت طائفة من كتب أدبهم وحكمتهم وشاعت أخبار ملوكهم وحكمائهم حتى اندمجت فيما بعد مع أخبار خلفاء العرب، خذ مثلا كتاب التاج للجاحظ واقرأ فصلا من فصوله تجد كيف ينقل أخبار الأكاسرة والخلفاء كأنهم من عنصر واحد، وهكذا قل عن بقية كتب الأدب، فإنها تضم كثيرا من آداب الفرس وحكمتهم، وظهر منهم كتاب وشعراء ومترجمون نبغوا في العربية نبوغا لا يزال موضع الإعجاب، كابن المقفع الذي عقدت هذه الفصول لأجله وبشار بن برد ومروان بن أبي حفصة، وبرزوا في كل علم من علوم اللغة والأدب، وكذلك في العلوم الإسلامية كافة، ولو لم يخرج منهم إلا الإمام أبو حنيفة الذي ما زالت أتباعه أكثر من أتباع كل إمام لكفى، وهناك آراء ومذاهب ومقالات في الدين قام بها الفرس تنحرف عن سماحة الإسلام بمقاييس مختلفة، ما عدا الزندقة التي كان الفرس سبب إدخالها على المسلمين، والمانوية التي اتهم بها عدد من المشاهير في صدر الدولة العباسية حتى اضطر المهدي لتتبع الزنادقة والبطش بهم.
أما التصوف فقد لاقى من نفوس الفرس منزلا رحبا؛ لأنهم ذوو نفوس حساسة وخيال واسع، فأثمر في أفكار متصوفتهم أحسن الثمرات، ولولا نبوغ بعض العرب في هذا الطريق لغلب على الظن أن الصوفية وليدة الروح الفارسية.
Bilinmeyen sayfa
هذا ولم يقف النفوذ الفارسي في صدر الدولة العباسية عند السياسة والعلم والأدب، بل أخذ القوم بطرائقهم في الملبس والأثاث والآنية والمأكل، حتى إن ملوكهم كانت تصور على أقداح الخمر، قال أبو نواس:
تدور علينا الكأس في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبهم
وللماء ما دارت عليه القلانس
وأسماء الملابس والمآكل والأواني والأزهار والأثاث تدلك على مبلغ الأثر الفارسي؛ لأن كثيرا منها معرب عن الفارسية.
فيمكننا والحالة هذه أن نقسم أثر الفرس في الأدب العربي إلى قسمين: الأول في دولة بني أمية، والثاني في دولة بني العباس، أما في عهد الأمويين فقد كان الأدب عربيا خالصا في المادة والمعنى، ولم يكن للفرس عمل فيه إلا مدارسته وحفظه وروايته، وأما في عهد بني العباس فقد كان أثرهم أعمق لا في الأسلوب البياني بل في التفكير والحس والخيال ؛ لأنهم حرصوا كثيرا على الديباجة العربية وأساليب العرب في البلاغة، فكان من وراء ذلك خير للأدب كثير، فهم والحالة هذه عرب في لغتهم وفصاحتهم وأساليب بيانهم، فرس في نسبهم وتفكيرهم وشعورهم وأخيلتهم.
نسب ابن المقفع ووطنه
Bilinmeyen sayfa
كل من ترجم لابن المقفع لم يذكر غير اسمه واسم أبيه «روزبه بن داذويه»، وأن كنيته قبل أن يسلم أبو عمرو وبعد أن أسلم سمي عبد الله، وكني بأبي محمد، وأنه من أصل فارسي، إلا ابن النديم فإنه عرفنا باسم جده «المبارك» وأن آباءه من خوز.
وبلاد خوز - وتعرف بخوزستان ويسميها العرب الأهواز - قريبة من البصرة، نزلتها القبائل العربية منذ الفتح، قال ياقوت في معجم البلدان: أرض خوزستان أشبه شيء بأرض العراق وهوائها وصحتها، وأما لسان أهل خوزستان فإن عامتهم يتكلمون بالفارسية والعربية، غير أن لهم لسانا آخر خوزيا ليس بعبراني ولا سرياني ولا عربي ولا فارسي، والغالب عليهم الاعتزال، وفي كورهم جميع الملل.
أما داذويه والد ابن المقفع فقد كان مجوسيا مستعربا، ولاه الحجاج بن يوسف الثقفي خراج بلاد فارس، فنال شيئا من مال السلطان، فضربه الحجاج حتى تقفعت يده، فلقب بالمقفع، وعرف ابنه بابن المقفع.
ولد ابن المقفع حوالي سنة ست ومائة، وسماه والده روزبه، ونشأ بالبصرة في ولاء آل الأهتم، والبصرة بلدة اختطتها العرب في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكانت لعهد ابن المقفع أعظم مدن العلم والأدب في الإسلام، لا سيما اللغة والفصاحة وفنون الأدب؛ لأن بغداد لم تكن بنيت بعد، وهي منذ القرن الأول مجمع أهل العلم والأدب، فيها المربد الذي خلف سوق عكاظ في الجاهلية، كان يؤمه الشعراء مع رواتهم للمناضلة والمناشدة، وفيه مجالس للعلم والأدب وحلقات للمناشدة والمفاخرة، ومن أشهر حلقاته حلقة الفرزدق وراعي الإبل، ورجال الأدب الذين نبغوا في البصرة أعظم من أن يحصوا في مثل هذه الرسالة، ويكفيك أن أبا الأسود الدؤلي أول من شرع وضع النحو هو بصري، وكذلك جماعته الذين أتوا من بعده كابن أبي إسحاق الحضرمي أول من علل النحو ، وعيسى بن عمر الثقفي أول من ألف فيه، وهارون بن موسى أول من ضبطه، وسيبويه أول من أجاد في تأليفه، والبصرة إذ ذاك مجتمع فصحاء الأعراب أيضا، يفدون إليهم فيلقون كل تجلة وإكرام من رواة اللغة والأدب الذين يتلقون عنهم شوارد العربية ونوادر الإعراب.
ولم تكن مدينة تناظر البصرة في تلك النهضة العلمية غير الكوفة، فهما مدينتا العلم والأدب في الإسلام، ولكن البصرة كانت الراجحة، وللبصريين والكوفيين مذاهب في العربية، احتدم الجدال بشأنها وألف فيها عدد من الكتب.
وفي البصرة نبغ قتادة بن دعامة، وبشار بن برد، وصالح بن عبد القدوس، والرقاشي، وابن مناذر، وسلم الخاسر، وأبو نواس، والسيد الحميري، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، وغيرهم من أئمة الأدب في القرن الذي عاش فيه ابن المقفع.
وفي البصرة كان الحسن البصري يعقد حلقته ويلقي دروسه العامة، ومن تلك الحلقة نبغ واصل بن عطاء الغزال رئيس المعتزلة، إذ ترك حلقة أستاذه واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد؛ ولذلك غلب الاعتزال فيما بعد على أهل البصرة.
بمثل تلك المدينة الفاضلة نشأ ابن المقفع في ولاء آل الأهتم، وآل الأهتم معروفون بالبلاغة والفصاحة واللسن والخطابة والشعر في الجاهلية والإسلام، ومنهم عمرو بن الأهتم الذي كان يضرب به المثل في البلاغة، والذي كان في وفد بني تميم إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
قال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: «وفي بني الأهتم رجال معروفون خطباء يطول الكتاب بأسمائهم.» وهكذا فقد أتيح لابن المقفع أن يشب بين معدن الفصاحة في مدينة العلم والأدب.
Bilinmeyen sayfa
أوليته
جرت العادة في تراجم أدبائنا أن لا يعنى المترجمون بأولية الأديب ونشأته وكيف درس وبمن تخرج وعمن أخذ وما هي الحوادث التي جعلت منه أديبا، وإنما يعرضونه لنا ثمرة ناضجة إلا في النزر اليسير، وابن المقفع أحد من أغفلت هذه الجهات في سيرته، بل أحد أولئك الذين غمطوا في حياتهم ومماتهم وبعد مماتهم، فابن خلكان لم يعقد له ترجمة خاصة، بل ذكره بالمناسبة في ذيل ترجمة الحسين الحلاج.
فلم يبق لدينا إلا النبذ المنتشرة في كتب الأدب نجمعها ونستخلص منها صورة تمثل أولية ابن المقفع ما أمكن، مع الاستعانة بالزمن والبيئة التي عاش فيهما.
عرفت أن ابن المقفع نشأ في البصرة وفي ولاء آل الأهتم، وعرفت أي مركز للعلم والأدب كانت البصرة، ومن هم آل الأهتم في الفصاحة، فلا عجب أن يكون الناشئ في تلك البيئة من أعلام البلاغة، أما مشايخ ابن المقفع في الفصاحة فلا نعرف إلا واحدا منهم، هو أبو الجاموس الأعرابي، قال ابن النديم: «أبو الجاموس ثور بن يزيد الأعرابي، كان يفد إلى البصرة على آل سليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة، ولا مصنف له.» ولابن المقفع جملة تدل على سعة روايته لكلام العرب، قال: شربت الخطب ريا، ولم أضبط لها رويا، فغاضت ثم فاضت فلا هي نظاما وليس غيرها كلاما. على أن له فقرة أخرى تدل على مبلغ اعتماده على نفسه في أدب النفس والدرس، سئل مرة: من أدبك؟ فقال: نفسي، كنت إذا رأيت حسنا أتيته، وإذا رأيت قبيحا أبيته. أما معرفته بالفارسية فقد كان عالما بلغات الفرس وآدابها وخطوطها، روى عنه ابن النديم أقوالا في لغات الفرس وخطوطهم تدل على رسوخ قدمه في أدب قومه.
وبعض المعاصرين ممن ترجم له يدعي أنه كان يعرف اللغة اليونانية؛ لأنه ترجم بعض الكتب اليونانية، ونحن لا نرى ذلك؛ لأن ما نقله عن اليونانية إنما كان ترجم إلى الفارسية قبل ابن المقفع وهو نقله عن الفارسية كما سيأتي ذلك عند الكلام على كتبه.
عند ابن هبيرة
ابن المقفع وإن كان معدودا من كتاب العصر العباسي فإنه بدأ حياته الكتابية في دولة بني أمية وهو فتى لا يزيد عمره كثيرا عن عشرين سنة، فحينما كان زميله عبد الحميد بن يحيى يكتب بالشام لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية كان ابن المقفع الشاب نابه الذكر يكتب لداود بن هبيرة في العراق.
وداود هذا كان مع أبيه والي العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الذي ولاه مروان بن محمد سنة ثمان وعشرين ومائة، وبقي مع أبيه في العراق يدافعان دعاة بني العباس إلى أن قتل مروان سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فأمن أبو جعفر يزيد بعد أن عجز عن الظفر به، ثم قتله ومن معه من أهله وحاشيته، وكان داود من جملة من قتل، ولكن ابن المقفع نجا تلك المرة من سيف أبي جعفر واستبقاه لوقت آخر مع أنه قتل كاتبا غيره من كتاب ابن هبيرة، ولم تبق الأيام على أثر مما كتبه ابن المقفع عن داود.
عند بني العباس
خدم ابن المقفع بعد مقتل ابن هبيرة والي الأمويين على العراق أعمام السفاح الثلاثة: سليمان وعيسى وإسماعيل أبناء علي بن عبد الله بن عباس، كما أنه ترجم لأبي جعفر المنصور كتبا في المنطق عن الفارسية، فقد كتب لعيسى بن علي أيام ولايته على كرمان وعلى يديه أسلم، جاءه يوما وقال له: قد دخل الإسلام في قلبي، وأريد أن أسلم على يدك. فقال له عيسى: ليكن ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجعل يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت عزم الإسلام؟ فقال: كرهت أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده وسمي بعبد الله، وكني بأبي محمد وكان يكنى أبا عمرو.
Bilinmeyen sayfa