ذلك هو الفيصل في معركة التشبيه والتنزيه بين المعتزلة والمجسدة ورجال الحديث، الفيصل في ذلك الجدل والحوار الذي شغل العالم الإسلامي في القرن السادس؛ حتى أوقدت نار الحرب بسببه في ربوع الشام، وهو الرجوع إلى منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في الصدر الأول؛ فلا جدال ولا حوار، وإنما إيمان بما جاء به القرآن على ما جاء، ولله - سبحانه - صفات الكمال والإجلال، وليس كمثله شيء، فهو مخالف للحوادث وللصفات وللأفعال مخالفة مادية ومعنوية؛ فلا تشبيه ولا تأويل للتنزيه، فالتشبيه كما يقول محيي الدين: تثنية المشبه، والتنزيه تحديد المنزه، وكلاهما باطل لا يليق.
وبذلك أغلق محيي الدين بابا من أبواب جهنم فتح على العالم الإسلامي، وأطفأ خصاما طال مداه واشتد خطره، وعاد بجمهرة الأمة من الجري وراء هذه الأوهام إلى حقائق الدين الثابتة، إلى الإيمان والتسليم والانقياد لمنطق القرآن، وسنة الرسول - عليه السلام.
ومحيي الدين يقول: «هذا هو حد الإيمان الواجب على المؤمنين كافة، أما من يريد بعد ذلك، أو فوق ذلك فهما لما يراد من حقيقة صفات الله - سبحانه - فليس سبيله العقل والفكر؛ وإنما هو الإلهام من الله - تعالى. يقول: فإذا خلع الله - تعالى - على عبده من علمه، أعلمه من طريق الإلهام بمراده من تلك الآية أو الحديث، وهو من علوم العارفين.»
القضاء والقدر - أفعال العباد
فإذا انتهى محيي الدين من صراعه مع الفرق الإسلامية المختلفة، حول صفات الذات والتشبيه والتنزيه والتأويل، انتقل إلى ميدان آخر من مشكلات الفكر ومعضلاته، مشكلة القضاء والقدر، وخلق أفعال العبد ونصيبه من عمله، وهو ميدان لعب فيه التأويل والجدل والحوار أيضا دورا كبيرا خطيرا.
ومسألة الكسب: اعترف رجال الأصول بأنها من أدق مسائلهم وأغمضها، وأعصاها على الفكر والعقل؛ هل الإنسان مجبر على ما يفعل، مقدر له ما يكسب؟ وإذن؛ فعلام الجزاء والعقاب؟ أم الإنسان مخير يصنع نفسه، ويخلق الحوادث، ويسهم في تكييف ما قدر له؟
وقد تلقف رجال الفكر والنظر هذا الإشكال فداروا به حول عقولهم، ودارت عقولهم به؛ فراحوا يشققون الأحاديث حوله، ويبتدعون الحلول والأقاويل، ولكنهم أبدا يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة تأخذ بأعناقهم، يبدءون من حيث ينتهون، وينتهون من حيث يبدءون؛ فما سلم لهم رأي ولا خلص لهم فكر.
هتف رجال الجبر بأن كل شيء من الله، والإنسان آلة مجبورة مقصورة على ما تفعل، لا إرادة لها ولا تصريف، كالقلم في يد الكاتب والمنشار في يد النجار، وراحوا يضربون الأمثال للناس، حتى إذا قيل لهم: فكيف إذن يعاقب هذا المجبور المقهور على ما يفعل؟ صمت منهم اللسان وأغضوا الطرف حيرة وارتباكا.
وقالت المعتزلة: هذا لا يليق؛ لأن فيه نسبة الظلم إلى الله - تعالى، وهو - سبحانه - العادل الذي تسمو عدالته على الريب والظنون، وابتدعوا لهذا شيئا عجبا، هو أن القضاء والقدر معلق يقع عند العمل، وإرادة الإنسان هي الحكم بين حدوث الفعل أو عدمه، ولكن هل أغنى قولهم من الحق شيئا؟ وهل أشفى النفوس من الريب والشكوك، وتلك النفوس تشهد بأن كل شيء لله، ومن الله، بهذا نطق القرآن، وجاءت الأحاديث.
أما المتصوفة فقد نهجوا مسلكا وسطا، هو نهج السلف الصالح، كل شيء من الله هذا حق؛ ولكن الإنسان مكلف؛ وهو لهذا يعاقب، وكل إنسان يسره خالقه لما خلق له في علم الله الأزلي؛ وهو لهذا محل للعقاب والثواب.
Bilinmeyen sayfa