المرأة في حياة محيي الدين
محيي الدين هو أعلم رجال التصوف؛ ولهذا هو أرحبهم أفقا، وأوسطهم طريقة، ومن هنا جاءت آراؤه معتدلة محكمة، أعطت ما لله لله، ولم تنس الحياة؛ فلم يعش داخل الكهوف والمغارات، ولم يعتزل الناس والدنيا، بل كان جليس الملوك القائم ببعض أعباء حكمهم، المساهم في أحداث الوجود، الطواف بالأرض، هاديا ومرشدا ومعلما.
ومن ثم جاءت نظرته إلى المرأة وإكباره، بل وحبه لها، الحب الحلال الشريف، الحب الديني المأثور في الكتاب والسنة.
وحب النساء عنده ميراث نبوي، وحب إلهي، فقد قال الرسول - صلوات الله عليه: «حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة.» فلم ينسب حبه فيهن إلا إلى الله - سبحانه؛ ولهذا قال: «حبب.»
وكمال العارفين في هذه المحبة، فلا يجوز الإعراض عنهن زهدا؛ لأنه لا يحبب إلى الرسول - صلوات الله عليه - ما يبعده من ربه، بل حبب إليه ما يقربه منه؛ ولهذا يؤجر الرجل على صلاته بامرأته.
فحبهن فريضة واقتداء بالرسول، وحنين الرجل إلى المرأة فطرة في النفس؛ فهو حنين الكل إلى الجزء، وما جاء الإسلام ليحارب الفطرة أو يقف في وجهها؛ فالدين هو الفطرة التي فطر الله - سبحانه - الناس عليها.
ولا يستقيم المزاج إذا تعارض مع الفطرة، وفي صلاح المزاج صلاح الدين، وفي صلاح الدين السعادة، بشرط خضوع الإنسان للميزان الإلهي الذي أتى به الشارع صلوات الله عليه.
وفي حياة محيي الدين ثلاث نساء؛ أولاهن: عابدة زاهدة، عرفها بإشبيلية في مطلع شبابه؛ فكانت له أما روحية، يحدثنا عنها في الفتوحات فيقول: «وخدمت أنا بنفسي امرأة من المخبآت العارفات بإشبيلية، يقال لها: فاطمة بنت المثنى القرطبي، خدمتها سنين، وهي تزيد وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها في هذا السن من حمرة خديها، وحسن نعمتها وجمالها ، تحسبها بنت أربع عشرة سنة من نعومتها ولطافتها. وكان لها حال مع الله، وكانت تؤثرني على كل من يخدمها من أمثالي. وتقول: ما رأيت مثل فلان؛ إذا دخل علي دخل بكله لا يترك منه خارجا عني شيئا، وإذا خرج من عندي خرج بكله لا يترك عندي منه شيئا. وسمعتها تقول: عجبت لمن يقول: إنه يحب الله ولا يفرح به، وهو مشهود، عينه إليه ناظرة في كل عين، ولا يغيب عنه طرفة عين، فهؤلاء البكاءون كيف يدعون محبته ويبكون، أما يستحون؟ إذا كان قربه مضاعفا من قرب المتقربين إليه، والمحب أعظم الناس قربة إليه فهو مشهوده، فعلى من يبكي؟ إن هذه لأعجوبة.
ثم تقول لي: يا ولدي، ما تقول فيما أقول؟ فأقول لها: يا أمي، القول قولك. قالت: إني والله لمتعجبة؛ لقد أعطاني حبيبي فاتحة الكتاب تخدمني، فوالله ما شغلتني عنه. فمن ذلك اليوم عرفت مقام هذه المرأة لما قالت: إن فاتحة الكتاب تخدمها، فبينما نحن قعود إذ دخلت امرأة، فقالت لي: يا أخي، إن زوجي في «شريش» وأريده، فماذا ترى؟ قلت لها: وتريدين أن يصل؟ قالت: نعم. فرددت وجهي إلى العجوز، وقلت لها: يا أم، ألا تسمعين ما تقول هذه المرأة؟ قالت: وما تريد يا ولدي؟ قلت: قضاء حاجتها في هذا الوقت. فقالت: السمع والطاعة، إني أبعث إليه بفاتحة الكتاب وأوصيها أن تجيء به. وأنشأت فاتحة الكتاب تقرأها وقرأت معها؛ فعلمت مقامها عند قراءتها الفاتحة؛ وذلك أنها تنشيها بقراءتها صورة مجسدة هوائية، هي سر من أسرار عطايا القرآن، فلما أنشأتها صورة سمعتها تقول لها: يا فاتحة الكتاب، أطلب كذا. فلم يلبث حتى وصل إلى أهله.
وكانت تضرب بالدف وتفرح، فكنت أقول لها في لك، فتقول لي: والله، إني أفرح؛ حيث اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطفاني لنفسه، من أنا حتى يختارني على أبناء جنسي، وعزة ربي، إنه يغار علي غيرة ما أصعبها! ما التفت إلى شيء باعتمادي عليه عن عالة إلا أصابني ببلاء في ذلك الذي التفت إليه، ثم أرتني عجائب من ذلك، فما زلت أخدمها بنفسي، وبنيت لها بيتا من قصب بيدي على قدر قامتها، فما زالت فيه حتى درجت، وكانت تقول لي: أنا أمك الإلهية، ونور أمك الترابية، وإذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها: يا نور، هذا ولدي فبريه ولا تعقيه.»
Bilinmeyen sayfa