ولم يؤلف المتصوفة الإسلاميون كتبا في علم النفس والأخلاق، ولا في تعريف الجسم والحركة والزمان والمكان، على نحو المنهج اليوناني والنهج الأوروبي.
ولكنهم بلا ريب قد تركوا مكاتب الإسلام عامرة زاخرة بأروع الدراسات النفسية والخلقية، وأنضج الآراء في تعريف الأجسام والحركات، وخصائص الزمان والمكان.
فالذي يجرد الإسلام من الفلسفة، هو الذي يتمسك بقشور الفلسفة أو وثنياتها، أما من ينشد الروح والجوهر والإيمان، فقد بلغ بهم المتصوفة الإسلاميون أعلى قمم التصعيد والتفوق.
ومحيي الدين، هو المثل الكامل للصوفي الفيلسوف المسلم، الذي أحاط بمعارف عصره، بل وسبق ذلك العصر، إلى آفاق لا تزال الإنسانية تجهد قواها، وتحشد مواهبها للوصول إليها.
كما اختص محيي الدين بفيض دافق من الينابيع والإلهامات القلبية، أو بلغة التصوف بالهبات والعطايا الربانية، وهي موارد إلهية لا تنفد ولا تحد، ولا تسامقها عزمات، ولا تطاولها معارف؛ وإنما هي فيوضات تتنزل من لدنه - تعالى - على قلوب عباده، وألسنة محبيه، وأقلام من اصطفاهم واجتباهم لحمل أمانة العلم ورسالة المعرفة.
ولا يمكننا، ونحن نؤرخ لعبقرية محيي الدين وفلسفته أن نطبق عليه ما اصطلحت عليه الأقلام من استنطاق الهيئة، وتقصي الدراسات التي تزود بها، والدوافع والكوامن النفسية التي أحاطت به، وتفاعلت مع عواطفه وأحاسيسه؛ فكونته وصاغته.
لا يمكننا هذا؛ لأن محيي الدين عجيبة من عجائب التصوف، وصنيعة من صنائع الإيمان، ولطيفة من لطائف التقوى، وقبسا من أقباس النور الذي يشرق في الأرواح المتطهرة العابدة.
إن محيي الدين، لم تكونه عوامل المحبة الجنسية، التي تكون الشعراء والأدباء، ولم تصقله الشكوك والريب والقسوة، التي تلهب الأذكياء، ولم تدفعه عوامل البيئة والزمان والمكان إلى الوثوب والاعتلاء.
وإنما صاغته سبحات الروح، وكونته إلهامات القلب، وأبرزته الجلوة والخلوة، والحضرة والمحبة، ورعته وحبته عناية الله، التي ترعى وتحابي المؤمنين، وتعلم وتلقن العابدين الساجدين، الذين قعدوا على بابه الأسنى، مجردين حتى من أنفسهم في انتظار النفحات والهبات، فدخلوا تحت ظلال الآية الكريمة:
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .
Bilinmeyen sayfa