45

ولا يصدق عليها اسم «الإسرائيلية» لأن الإسرائيلية تنسب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، وكان إبراهيم الخليل جدهم أجمعين يلقب بالعبري في بعض كتب العهد القديم، فإطلاق اسم العبرية على العقائد التي دانت بها العشائر التي نشأ فيها إبراهيم أصدق من كل اسم آخر في الإحاطة بديانة القوم، من أوائل تاريخها وفي جميع أطوارها المعلومة إلى أن عرفت أخيرا باسم ديانة التوراة.

وينبغي أن نميز العبرية، في نشأتها الأولى، من ديانة التوراة كما تلقاها المسيحيون الأوائل، وكما انتهت إلينا مهذبة في القرآن الكريم.

فقد حملت «العبرية» عبء التوسط بين الوثنيات الأولى وعقائد التوحيد من قبل ظهورها إلى ما قبل المسيحية بنحو مائتي سنة، فلم تستقم على عقيدة الإله الواحد المنزه عن اللوثة الوثنية إلا حوالي القرن الثاني قبل الميلاد.

ولم تكن قط، قبل ذلك ولا بعد ذلك، ديانة إنسانية عامة تتساوى فيها جميع السلالات، وتناط فيها العقيدة بضمير الإنسان غير منظور فيه إلى عنصر أو نسب، وإنما نشأت وعاشت ديانة «قبيلة خاصة» أو قوم معلومين.

ولم ترتفع قط بإدراكها للتنزيه الإلهي إلى الأفق الذي ارتفع إليه آخر الأديان الكتابية، وهو الإسلام.

بل كان العبريون الأوائل ينكصون حينا بعد حين إلى شعائر الأوثان والأصنام، وعبادة البعل وتموز وعشتروت، ويعرضون عن أنبيائهم الذين يغارون من منافسة هذه الأرباب لرب إبراهيم؛ فلا يعودون إلى الوحدانية - أو ما يشبه الوحدانية - إلا بعد تقرير الدعوة من جديد.

ولبثوا زمانا يصفون الإله بالصفات التي لصقت به في الوثنية أو في ديانات الحضارات الأولى، فكان الإله عندهم يغار من الجنس البشري، ويشفق من يوم يهتدي فيه إلى شجرة الخلود، ويتوعده بالموت إن أكل منها، فيقيم الملائكة الأشداء حرسا حولها، كما روي عن الأرباب البابليين في حواشي قصة الخلق وقصة الطوفان، وكانوا يقولون لموسى عليه السلام: إنهم يتهمون «يهوا» بالكيد لهم، ونصب الفخاخ في البرية للتغرير بهم، وإنه لم يستدرجهم إلى سيناء إلا لأنه يبغضهم ويتمنى لهم الهلاك بعيدا من أرض وادي النيل التي أخرجهم منها.

وكانت فكرة السيادة في عبادتهم للإله غالبة على فكرة الخلق، كما كانت غالبة على أديان الحضارات الأولى، فلم ينكروا وجود الأرباب التي تدين بها العشائر الأخرى، ولكنهم أنكروا سيادتها، ودانوا بالولاء للإله «يهوا» وحده، كما يدين الشعب لملكه وهو يعلم بملوك غيره لا تجب عليه طاعتهم، ولا يأمن العاقبة إذا أشرك بينهم وبين ملكه في فرائض الولاء.

ويتضح من مقارنات الأديان أن العقيدة تعزل قوة الشر وتحصرها في «الشخصية الشيطانية» كلما تقدمت في تنزيه الإله، واستنكرت أن يصدر منه الشر الذي يصدر من الشيطان.

ولهذا لم يشعر العبريون الأوائل بما يدعوهم إلى عزل الشيطان أو إسناد الشرور إليه؛ لأنهم كانوا يتوقعون من الإله أعمالا كأعمال الشيطان، وكان العمل الواحد عندهم ينسب تارة إلى الشيطان وتارة إلى الإله، كما حدث في قضية إحصاء الشعب على عهد داود، فإنه في المرة التي ورد فيها اسم الشيطان بصيغة العلم قيل إنه هو الذي أغرى داود بإحصاء الشعب، كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام الأول، ولكن الرواة يروون هذه القصة بعينها في سفر صمويل الثاني فيقولون: إنه «حمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلا: امض وأحص إسرائيل ويهوذا ...»

Bilinmeyen sayfa