قبل الشيطان
قبل شيوع صورة الشيطان كانت بديهة الإنسان تملأ العالم بأشتات لا تحصى من الأرواح والأطياف.
وكان من هذه الأرواح والأطياف ما يخفى ولا يظهر لأحد، ومنها ما يخفى على أناس ويظهر لآخرين بالرقى والعزائم، ومنها ما يتلبس أحيانا بالأجسام ويظهر لكل من لقيه في مأواه.
ولم يكن الإنسان يقسم هذه الأرواح إلى ذات خير وذات شر؛ لأنه لم يميز بين الخير والشر إلا بعد معرفته بصورة الشيطان كما تقدم.
وإنما كانت هذه الأرواح تنقسم عنده إلى أرواح مصادقة أو أرواح معادية، وإلى أرواح نافعة أو أرواح ضارة، وإلى أرواح سهلة أو أرواح عصية، فلا فارق بينها عنده غير درجة الصلح والعداوة، أو درجة الفائدة والأذى، وأما طبيعة الخير وطبيعة الشر فقد جاءت بعد مراحل كثيرة في طريق الإيمان بالأرواح.
والاختلاف بين الشر والضرر بعيد.
فالشر لا يصدر منه خير بإرادته، ولكن الضرر قد يصيب أناسا ولا يصيب آخرين، وقد يأتي من عمل ولا يأتي من عمل غيره، وقد يكون الضار بهذا نافعا لذاك، فليست هناك طبيعة تسوقه إلى الشر في جميع الأحوال، بل هناك أحوال متعددة، وأعمال منوعة، وشأن الأرواح في ذلك شأن الناس من حوله بين قوم من قبيلة وقوم من أعدائها ، أو بين قوم من خاصته في القبيلة، وقوم ينفر منهم وينفرون منه لأسباب عارضة أو باقية لا ترجع إلى أصالة في الطباع.
وقد يصح تشبيه عالم الأرواح عنده بعالم الغاب أو عالم السباع والحيوان.
فالغاب فيها النمر والثعبان، وفيها البلبل والعصفور، ومن حيوانها ما يأمنه ولا يخشاه، وقد يتألفه ويستخدمه في مصالحه ويشركه في مسكنه، وقد يكون عنده الكلب الأنيس، وفي الخلاء الكلب المستوحش العقور، وقد يكون عنده الحصان الداجن، وفي الخلاء الحصان الجامح الذي لا نفع منه ولا ضرر، وجملة الفوارق بينها مسألة أحوال وأحيان، أو أحوال رياضية واستعصاء.
وهكذا كان عالم الأرواح في الهمجية الأولى: كان عالم فائدة وضرر، أو عالم هوادة واستعصاء، أو عالم صداقة وعداوة، فأما عالم الخير الأصيل أو عالم الشر الأصيل فلا تتمثل له صورة في بديهة الإنسان قبل انقسام الطبائع، وتباين الأقيسة والموازين بين الأعمال والأخلاق.
Bilinmeyen sayfa