ثم قاموا بتنظيف الموقد، وتنظيف الخزانة، وغسلوا كل الجدران والنوافذ. وفي أحد الأيام كانت سيلفيا تجلس في غرفة المعيشة تتصفح رسائل التعزية التي تلقتها (لم يكن هناك وجود لأي مجموعة من الأوراق أو المفكرات، كما هو متوقع في منزل كاتب، أو حتى أعمال غير مكتملة أو مسودات لأعمال مكتوبة. لقد أخبرها منذ بضعة أشهر أنه قد تخلص من كل شيء «ودون أي ندم»).
لقد كان جدار المنزل المائل نحو الجنوب يحوي نوافذ ضخمة. ورفعت سيلفيا بصرها، وأثار دهشتها ضوء الشمس الذي يتخلل الأمطار؛ أو بالأحرى طيف كارلا، بساقيها العاريتين، وذراعيها المكشوفتين، وهي تعتلي سلما، ووجهها الذي يكسوه الحزم مزين بخصلات شعرها الملون بلون الهندباء الذي لم يسمح قصره بعقد جديلة. وكانت كارلا ترش زجاج النوافذ وتلمعه بكل همة ونشاط، وعندما لمحت سيلفيا وهي تنظر إليها توقفت عن ذلك، وراحت تحرك ذراعيها وتمدهما للأمام وترسم تعبيرات مضحكة بوجهها، وأخذتا تضحكان، وقد شعرت سيلفيا بأن موجة الضحك هذه تتدفق من أعماقها وتبعث فيهما بعض المرح. وعادت مرة أخرى تنظر إلى الأوراق التي بين يديها في حين استأنفت كارلا تنظيف الزجاج. وقد قررت سيلفيا أن كل تلك العبارات الرقيقة - سواء أكانت صادقة أو مصطنعة؛ للمدح أو للرثاء - ستلقى نفس مصير جلد الماشية أو مقرمشات السمسم.
وعندما سمعت كارلا وهي تنزل من فوق السلم، وترامى إلى مسامعها وقع الحذاء ذي الرقبة على الأرضية، شعرت فجأة بالخجل. كانت لا تزال جالسة في مكانها وتحني رأسها عندما دخلت كارلا الغرفة ومرت بجانبها وهي في طريقها إلى المطبخ لكي تضع الدلو وقطع القماش بجوار المغسلة، وكانت كارلا لا تتوقف لحظة أثناء عملها؛ فقد كانت سريعة كالعصفور، ولكنها توقفت لتطبع قبلة على رأس سيلفيا المحني، وراحت تتمتم بشيء لنفسها.
ظلت تلك القبلة عالقة في ذهن سيلفيا منذ ذلك الحين، ولم تكن تعني شيئا بعينه، بل مجرد قولها هوني عليك وابتهجي، أو أن الأمر على وشك الانتهاء. لقد كانت تعني أنهما صديقتان وفيتان مرتا بالكثير من الأوقات العصيبة، أو ربما تعني أن الشمس قد أشرقت، وأن كارلا تفكر في الحصول على مكان يلائم خيولها. ومع ذلك، فقد رأتها سيلفيا كبرعم زهرة مشرقة، تنتفش بتلاتها بداخلها بحرارة شديدة أشبه بهبات الحرارة في سن انقطاع الطمث.
وبين الحين والآخر كانت ثمة طالبة صغيرة متميزة ممن يتلقون العلم لديها في محاضرات علم النباتات، وكانت مهارة تلك الطالبة، وتفانيها، وكبرياؤها الشديد واعتزازها بذاتها، أو ربما أيضا ولعها بالعالم الطبيعي يذكرها بنفسها عندما كانت في سنها. ومثل أولئك الفتيات كن يتقربن من سيلفيا في ود وتبجيل؛ طلبا لمزيد من التقرب والحميمية التي لم يكن يتخيلن - في معظم الأحوال - أنهن سيحصلن عليها، وسرعان ما كن يسببن لها الضيق بسبب ذلك.
ولم تكن كارلا تشبه أولئك في شيء، وإن كانت تشبه أحدا في حياة سيلفيا، فسيكون بعض الفتيات اللاتي عرفتهن في مدرستها الثانوية؛ هؤلاء الفتيات اللاتي يتسمن ببعض الذكاء ولسن متقدات الذكاء؛ فتيات يمارسن الرياضة ببساطة ولكن لا يدخلن ساحة المنافسة الشديدة، متفائلات ولسن مسببات للمشاكل مفتقدات للتهذيب. ببساطة سعيدات بطبيعتهن. ••• «في المكان الذي كنت أعيش فيه، في تلك القرية الصغيرة، بل شديدة الصغر، مع اثنتين من صديقاتي القديمات، كانت تقف حافلات السياح من آن لآخر، كما لو أنها ضلت طريقها، ويغادرها السائحون ويتلفتون حولهم وقد غلبتهم الحيرة؛ لأنهم لا يجدون شيئا أو أي أماكن حولهم، فليس ثمة شيء يبتاعونه.»
هكذا تحدثت سيلفيا عن اليونان. وكانت كارلا تجلس على بعد سنتيمترات. وأخيرا كانت تجلس في الغرفة - تلك الغرفة التي طالما امتلأت بأفكار عنها - تلك الفتاة المبهرة، القلقة ذات الأطراف الضخمة؛ وكانت تبتسم بوهن، وتومئ برأسها ببطء .
قالت سيلفيا: «وكنت أنا أيضا أشعر بالحيرة في البداية، كان الطقس شديد الحرارة، ولكن الأمر كان صحيحا بشأن ضوء النهار، لقد كان رائعا بحق، ثم قررت ما يمكن أن أقوم به، ولم تكن هناك سوى بعض الأشياء القليلة البسيطة، ولكنها كانت كافية لملء اليوم؛ فقد كنت أسير مسافة نصف ميل عبر الطريق لشراء القليل من الزيت، ونصف ميل آخر في الطريق المعاكس لشراء الخبز أو النبيذ، وهكذا ينقضي الصباح، ثم أتناول طعام الغداء تحت الأشجار، وبعد ذلك يكون الطقس حارا بدرجة شديدة؛ بحيث لا يكون بمقدورك فعل أي شيء سوى إغلاق مصراع النافذة والاستلقاء على الفراش، وربما القراءة. في البداية تقرئين، ثم تزداد الحرارة فتتوقفين حتى عن فعل ذلك، فلم القراءة؟ وبعد أن ألاحظ أن الظلال امتدت، كنت أنهض لأمارس السباحة.»
قطعت سيلفيا حديثها قائلة: «أوه، كدت أنسى.»
ثم هبت من مكانها وذهبت لكي تحضر الهدية التي جاءت بها من اليونان، والتي لم تنس أمرها على الإطلاق في حقيقة الأمر؛ فلم تكن تريد أن تعطيها لكارلا على الفور، بل أرادت أن يأتي الأمر بصورة طبيعية، وحين كانت تتحدث كانت تفكر مقدما في اللحظة التي يمكن أن تذكر خلالها البحر، والذهاب للسباحة، وأن تقول - كما تقول الآن - لقد ذكرتني السباحة بالهدية؛ لأنها نسخة طبق الأصل من الحصان الذي وجدوه في البحر، وهو مصنوع من البرونز. لقد التقطوه بعد مرور كل هذا الوقت؛ إذ يعود للقرن الثاني قبل الميلاد.
Bilinmeyen sayfa