63

Aydınların Dertleri

هموم المثقفين

Türler

إن عليا أعلم بالله، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة.

الخوارج :

إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم ...

ثم قربوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه، فذبحوه، ثم دعوا بامرأته الحبلى، فبقروا عما في بطنها.

تلك هي الصورة التي حفرت عندي في الذاكرة حفرا؛ لماذا؟ ربما كانت علة ذلك هي أن القاتل والقتيل كليهما كان ذا ورع وتقوى! أي والله ذا ورع وتقوى! فلقد يخيل إليك أن هؤلاء الخوارج لشدة ما أظهروا من عنت وعسف، كانوا ممن فرغت قلوبهم من حرارة الإيمان، وحقيقتهم غير ذلك؛ فهم ممن قاموا على العبادة قياما قرح جباههم من كثرة السجود على الرمل والحصى؛ ولكنهم كانوا في الوقت نفسه من أسرى «الفكرة الواحدة»، فإما كنت معهم في فكرتهم تلك، وإما كان القتل جزاءك على أيديهم بغير تردد ولا تخاذل.

وهنا يبرز الفرق بين احتكام الإنسان إلى عاطفته واحتكامه إلى عقله، إذا ما نشأ اختلاف مع غيره في وجهات النظر؛ فحيثما كان للعاطفة سلطان ، لجأ الناس حتما إلى التعصب والتطرف، وإن هي إلا خطوة واحدة قصيرة بعد ذلك، ثم يسود الإرهاب الفكري؛ لأن من أشعلته العاطفة بنارها ودخانها لا «يناقش»؛ فالمناقشة تحتاج إلى هدوء بارد، وهو - كما وصفناه - مشتعل! إنه لا يناقش خوفا من النتائج، فمن يدري؟ ألا يجوز أن تنتهي المناقشة بتعرية أوجه الضعف في موقفه؟

وأما بحث المسائل العارضة بمنطق العقل فهو ضرب من الحساب. لقد سمعنا عن حروب نشبت بين أصحاب عاطفة وأصحاب عاطفة أخرى، لكن هل سمعت عن حرب قامت بين فريق وفريق على معادلة رياضية اختلفا في تحليلها، أو على قانون علمي اختلفا على صياغته؟ وسمعنا عن تكفير أتباع المذاهب والعقائد بعضهم لبعض، لكن هل سمعت عن تكفير عالم لعالم آخر اختلف معه على قوانين الضوء والصوت والكهرباء؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا عرفت أن الإنسان الذي استطاع في جانبه العلمي أن يشق طريقه في الفضاء إلى القمر، هو نفسه الإنسان الذي لا يستطيع أن يخطو من بلد إلى بلد مجاور إذا قامت بينهما الخصومة، وإذا كان «التكفير» تهمة قديمة، فقد حلت محلها اليوم تهمة «الخيانة»، وكلتاهما ابنتان لأم واحدة، هي العاطفة المجللة بسواد الغموض.

إنه لمما يدعو إلى العجب في هذا الكائن العجيب - الذي هو الإنسان - أنه في المجال العلمي الذي يقترب فيه من الكمال، تراه لا يتأذى ولا يثور إذا أظهرت له وجه الخطأ فيما يقول ليصححه، على حين أنه في المجال الآخر بكل ما فيه من كثافة الضباب، لا يحتمل أن يقال له إنك أخطأت؛ فكأنما القاعدة العامة هنا هي هذه: كلما كان الموضوع موضوعا يمكن الوصول فيه إلى اليقين (أعني أن يكون من موضوعات العلوم) قلت ثقة الإنسان بنفسه، وتشكك في نتائجه بلا حساسية ولا حرج، وكلما كان الموضوع مما يستحيل معه اليقين، زادت ثقة الإنسان بنفسه، وأوصد كل أبواب الشك، بل واستعد للقتال وسفك الدماء في سبيله.

ضحايا «الفكرة الواحدة» كثيرون، وهم على كثرتهم - كالفصيلة الحيوانية المتجانسة - يشتركون في خصائص يمكن وصفها وضبطها وتقنينها ؛ فلقد تتنوع طبيعة «الفكرة» المسيطرة ذاتها، كأن تكون أحيانا فكرة سياسية، أو أن تكون فكرة اجتماعية، أو مذهبية أو غير ذلك، لكن عباد الفكرة الواحدة، برغم هذا الاختلاف متجانسون في ردود أفعالهم؛ فهم جميعا يشعرون بالغيرة على فكرتهم الحبيبة، ثم يشعرون - بالتالي - بكثير من القلق والخوف خشية أن يصيبها تجريح أو تفنيد من خصومها، فيدفعهم هذا القلق إلى التجمع المذهبي لكي ينضم الشبيه إلى شبيهه فيزداد الجميع قوة وقدرة على رد الاعتداء، لكن الواحد منهم إذا انضم إلى سواه تحت لواء واحد، فإنه في اللحظة نفسها يفقد استقلاله الشخصي، وتضيع منه حرية التفكير الفردي، فيسهل عندئذ أن يساق كما تساق قطعان الغنم، ولا يخفف من عمى بصيرته أن يطلق على ذلك الانسياق اسم «الولاء» للعقيدة أو للفكرة أو للمذاهب أو لأي شيء تختار.

ومن أوضح ما يميز تلك الفصائل البشرية، أنها - لكي تبرر إهدارها لآدميتها - توهم نفسها بأنها إنما قامت لتدافع عن قضية كبرى لها في نفوسهم قداسة أو ما يشبه القداسة؛ فليس الذي يؤرقهم - مثلا - هو مشكلات جزئية صغيرة كالتي تصادفك وتصادفني في حياتنا اليومية، كلا؛ لأنها لو كانت كذلك لأمكن التفكير في حلها بالوسائل التي تحل بها المشكلات، كزراعة الأرض، واستخراج المعادن من الأرض، وإقامة المباني ورصف الطرق، ونقل البضائع إلى الأسواق، وغير ذلك؛ أما أصحاب «القضايا» الكبرى التي يفقدون من أجلها وجودهم الإنساني كله، فهي من ذلك الطراز الذي يصاغ في ألفاظ مجردة لا تعرف لمضموناتها أولا من آخر؛ ولا مفر لهم من هذه المجردات الفارغة؛ لأنهم في العادة حريصون على أن تكون «فكرتهم» الواحدة المقدسة قادرة على تفسير الكون الرحب الفسيح كله دفعة واحدة؛ فهي ذات جوف واسع يتسع لكل ما دب أو هب أو طار من كائنات الأرض والسماء، إن جوفها كجوف «الفرا» الذي قال عنه الشاعر العربي القديم إن كل الصيد فيه، بكل أنواعه وصنوفه.

Bilinmeyen sayfa