59

Aydınların Dertleri

هموم المثقفين

Türler

رؤية يغشاها الضباب

إني أتهم حياتنا الفكرية الراهنة بكثير جدا من الزيف، وربما جاز لنا أن نستثني من هذا الحكم حالات هي أقل من القليل، ليس كاتب هذه السطور حالة منها، وإني لأقولها قبل أن يرتد سهمي إلى نحري بيد غير يدي، والزيف الذي أعنيه هنا هو أننا نستحل لأنفسنا أن نتحدث - وفي حماس شديد الاشتعال أحيانا - عما لا نعرفه معرفة مباشرة، بل عرفناه إشاعة عن إشاعة عن إشاعة.

ولا يقتصر هذا الزيف الفكري فينا على أمور تواقة لا تقدم حياتنا ولا تؤخرها، بل إنه ليتناول أضخم المسائل الحضارية، التي يترتب على رأينا فيها توجيه الحياة كلها في هذا الاتجاه أو في ذاك؛ فقد يتصدى عالم جليل من علمائنا إلى مذهب فكري سمع عنه بين المذاهب السائدة في ثقافة الغرب، فيسلخه سلخا بسهام النقد، حتى إذا ما بحثت أمر هذا العالم، وجدته لم يقرأ كتابا واحدا لمؤلف واحد ممن ينتمون إلى ذلك المذهب الذي جعله هدفا لسهامه، بل قد يتصدى كاتب عظيم من كتابنا للحضارة الغربية العصرية كلها بالطعن والتجريح، حتى إذا ما أتيح لك أن تعلم عن مقومات ذلك الكاتب علما كافيا، وجدته بريئا من كل معرفة صحيحة بأي ركن من أركان الحضارة التي يغرقها باتهامه؛ فلا هو يعرف من علمها شيئا إلا إشاعة، ولا هو ذو صلة بفن من فنونها إلا إشاعة، ولا هو ملم بكثير أو قليل مما تموج به حياتها من تيارات ثقافية زاخرة بما تحمله أمواجها.

وكذلك قل شيئا كهذا في كثيرين ممن تمتلئ أشداقهم إشادة بالحضارة العربية وبالثقافة العربية، وإن شئت فاسأل من تصادفه في طريقك من هؤلاء، عن كاتب واحد يعجبه، فإذا ذكر لك اسمه - وهو يستطيع ذلك لأننا نجيد حفظ الأسماء - فاسأله ماذا قرأ له حتى أعجبه، والأرجح جدا أنك لن تظفر منه بشيء لأنه لم يقرأ شيئا.

إنه ليصعب جدا على من ليس له خبرة مباشرة بما يتحدث عنه، أن يصدر عليه الأحكام الصحيحة، وأسوق مثلا لذلك شيئا طريفا قرأته منذ قريب، نقلا عن كاتب من الأرجنتين أصبحت له شهرته، هو جورجي بورجيس؛ فلقد كتب «بورجيس» عن الفيلسوف العربي العظيم «ابن رشد» مقطوعة جعل عنوانها «بحث ابن رشد» ورد فيها أن بين الصعوبات التي اعترضت ابن رشد في شرحه لفلسفة أرسطو، أنه وهو يقرأ الترجمة العربية لتلك الفلسفة، فإنما كان في الحقيقة يقرأ ترجمة لترجمة؛ فالأصل يوناني، ترجم إلى السريانية أولا، ثم ترجمت السريانية إلى العربية، وعلى أية حال، فهو عندما تناول ما كتبه أرسطو عن «فن الشعر» صادفته لقطتان، هما لقطة «تراجيديا» ولقطة «كوميديا»، ولم يكن له بالطبع سابق علم بالمسرح ولا بأي شيء مما يتصل بالمسرح، فكان من الطبيعي ألا يفهم ما تعنيه هاتان اللقطتان، إلا ما يمكن أن توحي إليه به ثقافته العربية؛ ولذلك فقد فهم «التراجيديا» على أنها شعر المديح، وفهم «الكوميديا» على أنها شعر الهجاء.

ولم يكد «بورجيس» يذكر هذه اللمحة عن ابن رشد حتى استدرك قائلا لنفسه: إنه لا يجوز لي توجيه اللوم إلى الفيلسوف العربي؛ لأن حاله لم تكن أسوأ من حالي وأنا أكتب عنه؛ فكيف يعقل أن أعرف شيئا صحيحا عن ابن رشد، مع أن كل ما بين يدي عنه هو قصاصات مبتورة جمعتها مما كتبه «رينان» و«ألين» و«أسين بلاسيوس»؟

فسرعان ما قلت لنفسي - أنا كاتب هذه السطور - ولا أنت يا نفسي بأحسن حالا منهما معا؛ فإذا كان ابن رشد قد فهم مفهومات يونانية من خلال ثقافته العربية، فظن التراجيديا شعر المديح، والكوميديا شعر الهجاء؛ أعني أن حواجز أقيمت بينه وبين الأصل فلم يفهمه على وجهه الصحيح، ثم إذا كان «جورجي بورجيس» يجهل العربية فقرأ عن ابن رشد فيما كتبه عنه مؤلف فرنسي هو «رينان» ومؤلف إنجليزي هو «ألين»، ومؤلف إسباني هو «بلاسيوس»، فأقيمت الحواجز كذلك بينه وبين فهمه على الوجه الصحيح، فانظر إلى حالك الآن - هكذا خاطبت نفسي - تجدك تقرأ عن بورجيس في مجلة إنجليزية تعلق على كتاب إنجليزي كتبه مؤلفه عن ذلك الكاتب الأرجنتيني، فكم حاجز يحول بينك وبين الأصل الذي تقرأ عنه؟ إنها ظلال مشتقة من ظلال، هي بدورها منعكسة عن ظلال.

إنه عندما انتقل الجاحظ من البصرة إلى بغداد، وكان الخليفة المأمون قد أنشأ ما يسمى «بيت الحكمة» لنقل الفكر اليوناني إلى العربية - مرورا بالسريانية - وقف - أعني الجاحظ - من هذه الحركة الثقافية موقف المتشكك (أو هكذا يخيل إلي)؛ لأنه كتب في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» ما يوحي بذلك التشكك؛ إذ كان بين ما قاله: «... إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها ... وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه.»

ولقد كان الجاحظ ممن سرت روح الثقافة اليونانية المنقولة في كتاباته، لكن ذلك لم يمنعه من التعبير عن قلقه بسبب الحواجز الحائلة بينه وبين الأصل المنقول.

وليس الزيف الذي أعنيه في حياتنا الثقافية اليوم هو بالضبط من هذا القبيل؛ أي إنه ليس من قبيل القلق الذي تملك الجاحظ إزاء عملية الترجمة، وما لا بد أن تؤدي إليه من تحريف للأصل عن معانيه الحقيقية؛ لأن مثل هذا الموقف لا زيف فيه؛ فهو الصدق كله والأمانة كلها، وإنما الزيف الذي أعنيه هو ألا نفهم وندعي الفهم، وألا نقرأ الأصول ولا ترجماتها بل نكتفي بخطف الإشاعات التي تقال عن تلك الأصول أو ترجماتها، ثم ندعي العلم وكأننا ألممنا بالموضوع من ينابيعه، وأن نلخص شيئا قرأناه وندعي تأليفه وابتكاره، حتى لقد ضاعت المعالم الفارقة بين من يعلمون ومن لا يعلمون.

Bilinmeyen sayfa