ومما يتفرع عن هذه الخاصة في النظرة العربية، ميله إلى تكثيف المعنى في أقل حيز ممكن من اللفظ؛ ومن هنا كان حبه للمثل السائر أو للحكمة المضغوطة في جملة قصيرة؛ فهو يريد صميم اللباب ليطير معه في انتقاله السريع، ولا يريد التفصيلات التي يثقل حفظها وحملها، ولقد مرت بي ملاحظة نافذة في هذا الصدد (ولست أذكر إن كنت طالعتها عند ابن جني في «الخصائص» أو عند الجاحظ في «الحيوان») وهي أن القرآن الكريم إذا ما وجه الخطاب إلى بني إسرائيل أطنب في القول، وإذا وجهه إلى العرب أوجز، وذلك لاختلاف الفئتين في طريقة الفهم والتعبير، وإني لأود من القارئ ألا يفوته بأنه إذا كان كتابنا اليوم قد تعلموا تحليل التفصيلات في أدب القصة أو أدب المسرح، فذلك جانب طرأ علينا حديثا نقبله ولا نرفضه، لكن لنعلم أنه بعد جديد أضيف إلى الصفة العربية الأصيلة.
لقد بلغ ميل العربي إلى التجريد دون الاهتمام بالأفراد من حيث هم أفراد، أن الشاعر العربي إذا تغزل في امرأة فلم يكن في معظم الحالات يقصد إلى امرأة بعينها، بل إن غزله منصب على «نوع» المرأة بأسره، وكذلك قل فيه إذا وصف جوادا أو بعيرا أو ما شئت مما كان يتعرض لوصفه.
وثالثة الخصائص التي تجعل من العربي عربيا في نظرته إيمانه، بأن الحضارة الصحيحة إنما تدار على محور الأخلاق؛ فليس المهم فيمن هذبته الحضارة أن يكون قويا بسلاحه، ولا قادرا بماله، بل المهم هو أن يقوم التعامل بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان، على أنماط رسمتها السماء لأهل الأرض، وحيا عن طريق أنبيائها وما كل حضارة جرت هذا المجرى لأن ثمة من الحضارات - ومنها حضارة هذا العصر - تجعل أخلاقها نابتة من الأرض، لا هابطة من السماء؛ فالقيم الأخلاقية في غير العروبة، قد يجعلونها أدوات لسعادة الإنسان، أو وسائل لمنفعته أو يجعلونها متمشية مع منطق العقل، أو غير ذلك من التحليل والتعليل، وأما جوهر العروبة فاعتقاد بأن الخالق يشاء ويأمر، والمخلوق يطيع بغير سؤال: هل تتحقق له السعادة في حياته على هذه الأرض أو لا تتحقق، هل تأتيه المنافع بناء على سلوكه الذي أطاع به خالقه أو لا تأتيه، هل يرضى منطق العقل من ذلك السلوك أو لا يرضى؟
ويتفرع عن هذه النظرة جانب هام في الشخصية العربية - كائنا ما كان إقليمها من الوطن العربي - وهو أن العربي - وهو ما تجعله خاصية رابعة من خصائص الثقافة العربية - إذ يقابل بين الأفعال أو الأحياء أو الأشياء التي يصادفها في حياته الواقعة من جهة، وبين مثلها العليا من جهة أخرى ليستطيع تقويمها؛ فهو إنما يقابل بين طرفين، كلاهما واقع من كائنات هذه الأرض؛ فهو يقيس هذا الفرد المعين من أفراد الناس، إلى فرد آخر يراه مثالا للكمال، ويقيس هذا الجواد أو هذه الناقة إلى جواد آخر أو ناقة أخرى؛ وذلك لأنه لا يريد أن يقيس كائنات الدنيا الواقعة إلى تصورات عقلية لا وجود لها إلا في الأذهان، على خلاف أبناء الثقافة الأوروبية؛ فهم هناك (كما ترى في فلسفتهم) يجعلون المقابلة بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، لا بين الأشياء والأشياء، ولقد أطلقوا على المذهب الذي يعطي الأولوية للأفكار اسم: «إيديالزم» مأخوذة من كلمة تعني «فكرة»، ويطلقون على المذهب الذي يجعل الأولوية للأشياء اسم: «ريالزم»، وهذه أيضا مأخوذة من كلمة تعني «شيء». ولقد أخطأ الناقل العربي حين ترجم هاتين الكلمتين على التوالي بكلمتي «مثالية» و«واقعية»؛ لأن كلمة «مثال» العربية لا تعني كائنا عقليا بقدر ما تعني كائنا هنا نراه ونلمسه ونتمثل به ونجعله ماثلا أمام أبصارنا لنقيس عليه، وكذلك كلمة «واقع» لا تعني مجرد أشياء بغير إضافة قيمة معينة إليها، وإنما «الوقوع» هو هبوط وسقوط، ولو كان الناقل العربي أضبط فكرا، لجعل للإيديالزم كلمة «الذهنية»، وللريالزم كلمة «الشيئية» فيكون الاسمان العربيان مطابقين للاسمين الإفرنجيين.
أريد بهذا أن أميز طريقة الإدراك العربي، بالقياس إلى طريقة الإدراك عند شعوب أخرى، وأكرر القول بأن العربي يقصر نظرته على دنيا الكائنات الفعلية، يوازن بين بعضها وبعضها الآخر، وهي بأجمعها «واقع» - سواء في ذلك ما هو أدنى وما هو أعلى - لأنها كلها كائنات أرضية زائلة فانية، ولا يجوز خلطها بكائنات سماوية من قبيل «المثل» التي تصورها أفلاطون وسار على دربه في ذلك كثيرون.
نعم إنني أعلم أن بعض فلاسفة المسلمين الأقدمين استخدموا عبارتي «عالم الأذهان» و«عالم الأعيان» في مقارنتهم بين الأفكار العقلية من جهة وتجسيداتها في عالم الأشياء من جهة أخرى، لكن هؤلاء كانوا تحت تأثير الفلسفة اليونانية، على حين أني هنا أحاول استخراج «العقل العربي» من لغته العربية، فما دامت الكلمتان العربيتان «مثال» و«واقع» كلتاهما تشير إلى أشياء في هذه الدنيا (ولاحظ معنى «السقوط» أو «الهبوط» في كلمة «دنيا») فلنا الحق - إذن - في الحكم على طريقة الرؤية العربية من خلال ألفاظها ومضموناتها.
ومؤدى هذا كله هو أن العربي في نظرته إلى الكون يطمح دائما إلى مجاوزة ما هو واقع - مهما كانت منزلته - ليبلغ ما هو وراء الواقع؛ أي أن يجاوز دنيا الفناء إلى عالم الخلود.
والفن العربي شاهد على صدق هذا الذي نقوله؛ فجانب كبير من الفن العربي يتخذ شكل وحدات متكررة، كما ترى في الوحدات الزخرفية على جدران المساجد، أو في الأنماط التي تصمم عليها المشربيات - مثلا - وهذه الوحدات المتكررة أينما وجدتها ترى عينيك قد انتقلتا من طرف إلى طرف دون أن يكون هناك ما يستدعي الوقوف إلا أن يكون الحائط المزخرف قد انتهى، وعندئذ ينتهي دور البصر ويأتي دور الخيال؛ لأنه هو الذي سيكمل تسلسل الوحدات إلى ما لا نهاية.
وطيران الإنسان بخياله إلى اللامتناهي، قافزا من الواقع إلى ما وراءه، هو في صميم الصميم من المركب الثقافي الذي يطلق عليه اسم «العروبة»، إنها طريقة للنظر خاصة بنا، وتميزنا عن سوانا، سواء أجاء مسقط رءوسنا في وادي النيل أم في وادي دجلة، في الجزيرة العربية أم في بلاد المغرب، في أرض الشام أم في أرض اليمن.
وحسبي هذه النقاط الأربع من المكونات الثقافية لأبناء العروبة، وأريد أن أختم الحديث بملاحظتين : الأولى هي أننا قد نجد ثقافات أخرى تشارك العروبة في هذه أو تلك من النقاط الأربع المذكورة، لكنك لن تجدها مجتمعة كلها إلا في العربي وطريقته في النظر إلى الكون والإنسان. والثانية هي أن تحديد تلك الخصائص لا ينفي أن تحاول تغيير ما نريد تغييره منها، إذا وجدناه معوقا لنا في حضارة جديدة، لكننا حين نفعل ذلك نكون بمثابة من يغير في أصوله الموروثة.
Bilinmeyen sayfa