ليست مدارس البحث اللغوي في ذاتها هي موضوعنا هنا، لكننا نذكرها بيانا للوقفة العلمية العقلية التي ميزت علماء المسلمين، كائنا ما كان ميدان البحث؛ فقد كان فهمهم للقرآن فهما صحيحا هو الهدف؛ ومن أجل ذلك هموا بدراسة اللغة بوجه عام دراسة علمية، قبل أن يزعموا لأنفسهم مثل ذلك الفهم الصحيح.
ثم جاءت بعد دراسة اللغة، الخطوة الثانية في طريق الدراسة العلمية، وكان فهم القرآن الكريم هو الهدف، وأعني بتلك الخطوة جهود الفقهاء في استخراج أحكام الشرع، استدلالا صحيحا من النص القرآني، فرأيناهم جميعا، وعلى اختلاف مذاهبهم، وكأنهم أمام عمل تطبيقي لمنطق الاستنباط؛ فمن مقدمات مسلم بصوابها، أخذوا يستنبطون النتائج التي يلزم عنها، فتكون هي بين ما تحكم به الشريعة.
وكان للفقهاء منهجان للنظر كذلك، فانتهج بعضهم منهج ما أسموه بالقياس، وأرادوا به ما يسمى في كتب المنطق بالتمثيل؛ بمعنى أن ما لم يرد في أمره نص يحكم على أساسه، يلجأ فيه الفقيه إلى شيء يشبهه أو يوازيه، مما وردت في أمره نصوص؛ على حين انتهج بعضهم الآخر إلى ما أسموه ب «الرأي»، وقصدوا به رؤية الصواب (أو الانحراف عنه) بنظرة مباشرة ناقدة إلى الموقف المعروض للحكم، تأسيسا على كون القيم أشياء موضوعية، يراها العقل كما يرى سائر الأشياء، ومثل هذه الرؤية تغني عن وجود مثيل للموقف المعروض، بين ما وردت في شأنه نصوص.
ومرة أخرى نقول إنه ليس من شأننا في هذا الحديث، أن نتعرض لتفصيلات الفقه الإسلامي، لكننا نريد بيانا للوقفة العقلية عند المسلمين، في كل مجال من مجالات النظر.
4
كان من الطبيعي أن يختلف الرأي اختلافات بعيدة المدى بين المسلمين، عندما اصطدموا بأول مشكلة سياسية عسيرة، نشأت لهم نتيجة للقتال بين علي ومعاوية حول الخلافة، وذلك أن سؤالا طرح نفسه أمام العقل، وهو: لقد سفكت دماء للمسلمين في ذلك القتال، فعلى من تقع تبعته؟ وما الحكم فيمن يثبت أنه هو المخطئ من الفريقين المتحاربين؟ إن إحدى الجماعتين المتحاربتين - على الأقل - كانت على خطأ في إثارة الحرب وما استتبعته الحرب من سفك الدماء؛ ودون أن نعين أي الجانبين هو المخطئ، يسأل السائل عن حكم الإسلام فيه.
ألقي بهذا السؤال، فكان كأنه الفأس الفائرة، ضربت بها الأرض، فتفجرت ينابيعها؛ إذ انقدحت أذهان المفكرين، وجاءت الإجابات من هنا ومن هناك، وهي إجابات نستطيع أن نردها إلى شعب ثلاث، اختلفت كما تختلف المدارس الفكرية في كل العصور، فإذا استخدمنا طريقة عصرنا في التقسيم، قلنا إنه قد كانت هناك اتجاهات، فيها اليمين المتطرف، وفيها اليسار المتطرف، وفيها الوسط المعتدل.
أما اليمين المحافظ فقد آثر ألا ينسب الخطأ إلى أي من الجانبين، وكيف يفعل وفي كل من الجانبين المتقاتلين صفوة ممتازة من خيار المسلمين؟ وأما اليسار المتطرف في ثورته، فهم الخوارج، الذين أصروا على أن يكون الجانب المخطئ في هذه الحرب خارجا على الإسلام، وبين أولئك وهؤلاء فريق وسط، هو الذي يهمنا بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الفريق الذي يمثل موقف العقل في القضايا العامة، ولبث كذلك لفترة طويلة، وأعني به فريق المعتزلة.
فقد طرح السؤال على الحلقة الدراسية التي كانت تلتف حول الحسن البصري فما هو إلا أن خرج واصل بن عطاء - بين الحاضرين - برأي استوقف الأسماع، وتحركت له الأذهان، وهو أن من تقع عليه التبعة في القتال، وفي غير القتال مما يعد من الذنوب الكبيرة، لا يخرجه فعله هذا من إسلامه، بل يظل مسلما، وإن يكن مسلما عاصيا؛ أي إنه يقع في منزلة وسطى بين منزلتي الإيمان والكفر، قال عنها إنها المنزلة بين المنزلتين، ولعل رأيه هذا لم يصادف قبولا عند شيخه الحسن البصري، فانتقل واصل ابن عطاء من مكانه في الحلقة، واتخذ لنفسه مكانا آخر، ولحق به نفر من المؤيدين لوجهة نظره، فقال الحسن البصري عندئذ: لقد اعتزل عنا واصل؛ ومن هنا سمي هذا الفريق على امتداد تاريخه بعد ذلك بالمعتزلة.
وكان أهم طابع يميز المعتزلة هو النظرة العقلية في البحث عن حلول المشكلات المعروضة للنظر، أو في طريقة فهمهم للأفكار التي يراد فهمها على نحو صحيح؛ ونكتفي من أعلام المعتزلة بذكر رجلين، كان كلاهما في البصرة؛ وهما «العلاف» الذي يوصف بأنه شيخ المعتزلة، وتلميذه «النظام» الذي قال عنه الجاحظ إن مثله لا يظهر إلا مرة واحدة في ألف عام.
Bilinmeyen sayfa