ماذا نصنع؟
ولكني برغم ذلك كله ما أزال أسأل: ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ وما زلت أعتقد في أنه سؤال لبث مطروحا علينا منذ قرن ونصف قرن: كان هو السؤال الذي طرحه رفاعة الطهطاوي والذي طرحه الشيخ محمد عبده، والذي طرحه المفكرون والأدباء خلال الفترة التي أعدها بحق عصرا للتنوير، وأعني بها عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، وما نزال نطرحه إلى يومنا، جادين مرة هازلين مرة، نطرحه بشيء من العمق مرة وبكثير من الضحالة مرات.
وها أنا ذا أتناوله اليوم من زاوية جديدة، لعل فيها ما يقربنا مما نريد؛ فلقد طاف بفكري أن يكون المطلوب شيئا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحول النص المترجم إلى صورة جديدة مع احتفاظها بمعنى النص كاملا، فكذلك قد تكون عملية التحول التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبث بأن يظل لبه مصونا من العبث، لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجز عن قراءته في صورته الأصلية.
وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع، نظرة فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تضيء الطريق. وكان أول ما ورد إلى ذاكرتي عندئذ عبارة كنت قرأتها لكاتب هندي، قال فيها إن للترجمة تقليدا طويلا راسخا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «بيت الحكمة» في بغداد ليقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك - كما قال هذا الكاتب الهندي - إذ لبثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر.
فلا بأس إذن - بالنسبة إلينا نحن العرب - في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة معيارا يقاس إليه، غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون دائما أمينة بقدر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة؛ فهنالك - أولا - الترجمة التي تلتزم النص جملة جملة، وأكاد أقول كلمة كلمة لولا أني أعلم أن ذلك محال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مناص من تتبع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارا، وعندئذ ينبغي له أن يورد مثل هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفا أو خطأ، فلا يجوز له أن يحال السخف إلى جمال يتبرع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده، وهنا نذكر عبارة قالها الدكتور جونسون - الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر - إذ قال: لا تحاول قط يا سيدي أن تتفوق على من تترجمه.
وليس هذا النوع من الترجمة الحرفية - كما يقولون - هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل هل يمكن، وكيف يمكن أن «نترجم» تراثنا ترجمة حضارية، بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ أقول إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لأعدنا القديم نفسه بلا تغيير، سوى أن نحول المخطوط - مثلا - إلى مطبوع، أو أن نحول المطبوع إلى مطبوع ومشروح، أو أن نغير الورق الأصفر إلى أبيض ناصع مصقول.
صورة أخرى للترجمة
لكن للترجمة صورا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، صحيح أن الرأي مجمع على أن ترجمة الشعر مستحيلة، إلى الدرجة التي أراد بها الشاعر الأمريكي «روبرت فروست» أن يعرف (بتشديد الراء) الشعر، فلم يجد خيرا من قوله إنه هو ذلك الجزء من الكلام الذي يستعصي على الترجمة، وها هو ذا الجاحظ في أول الجزء الأول من كتابه «الحيوان» يقول عن الشعر وصعوبة ترجمته: «الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب ... وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت كلمة العرب (التي هي في أشعارهم) لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم.»
ومع ذلك فقد شهد تاريخ الآداب العالمية ترجمات للشعر، ترجم شكسبير إلى لغات كثيرة، وترجمت إلياذة هومر إلى الإنجليزية (وغيرها) على أيدي فحول الشعراء، وكان منهم «بوب» و«تشابمان»، وترجم الخيام ترجمات ذائعة الصيت، كترجمة فتزجرولد لها، فلنقف هنا وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا نلمح في مثل هذه الترجمة شيئا هاما مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا» الحضارية التي تضع تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكل ما فيه من علوم وتقنيات (تكنولوجيا) وأجهزة إلكترونية وغيرها.
ماذا يصنع مترجم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة جملة، إنما هو ينقله - على أحسن الفروض - مقطوعة مقطوعة، ولقد كان لي في ذلك خبرتان: إحداهما عندما قرأت الترجمة الإنجليزية لرباعيات الخيام - ترجمة فتزجرولد - فقد وجدت عندئذ شيئا لم أكن أعرفه من قبل، ولا توقعت حدوثه، وهو أن المترجم كان يعيد ترجمة المقطوعة الواحدة أحيانا ليظفر لنفسه بصورة ترضيه، فكم عجبت يومئذ حين رأيت المقطوعة الواحدة في صورها المختلفة عند هذا المترجم الواحد، توشك ألا تكون هي هي المقطوعة ذاتها؛ فالشاعر الإنجليزي في ترجمته للشاعر الفارسي، كان أقرب إلى من يحول الخبز واللحم في طعامه إلى دماء تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لما كان أكله من لحم وخبز، وهكذا كان أمره مع الرباعيات، لقد شربها شربا وخلطها بذاته خلطا ثم أخرجها كائنا جديدا، وكان هذا الكائن الجديد هو رباعيات الخيام، ولم يكن هو رباعيات الخيام في آن واحد، ها هنا تكون الترجمة خلقا جديدا، لكنها في الوقت نفسه هي هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحول الزهر إلى عسل، منها إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونا كما وجده.
Bilinmeyen sayfa