ومع ذلك يقبل آخيل بأن يفكر هو وفوينيكس في اليوم التالي بشأن ما إذا كانا سيرحلان أم لا؛ أي إنه خفف من موقفه. وعندئذ يوجه له أياس الأعظم شأنا أقصر مناشدة، مبديا ملاحظة مفادها أنك إن قتلت رجلا، فإن الناس يأخذون ديته ويتغاضون عن الأمر؛ وهذا التنازع دائر حول شيء أقل أهمية بكثير، حول امرأة، بل إنهم قد عرضوا عليه سبع نساء أخريات. من الواضح أن قلب آخيل قد قد من الصخر؛ فهو رجل سيسمح بموت رفاقه بسبب خصومة حول امرأة.
إن توسل أياس بالصداقة الحميمة له الأثر الأعظم على آخيل، ومع ذلك لا يمكن تنحية غضب آخيل الكاسح جانبا. فهو يتراجع خطوة واحدة: فهو لن يقاتل إلى أن تصل النار إلى السفن. حينئذ فقط سوف يتدخل. (12) «أنشودة دولون» (الكتاب 10)
تشغل القصة، المسماة «الدولونيا» (وتعني أنشودة دولون أو قصيدة دولون)، التي تدور حول غارة ليلية على الطرواديين، الكتاب العاشر ببراعة، وهي قطعة أدبية رائعة تشتمل على مزاج وحشي غريب يميل لقطع الرقاب يظهر لنا جانبا من الحرب لم نعاينه؛ وهي العملية الخفية في خطوط العدو وسط عدد لا يحصى من الجثث من أجل قتل المزيد من الرجال والحصول على معلومات استخباراتية.
تعد «الدولونيا» أوضح مثال على وقوع إقحام جوهري على نص القرن الثامن قبل الميلاد الذي أملاه هوميروس. لا توجد إشارة في أي موضع آخر في «الإلياذة» إلى الأحداث الواردة فيها، وأشار بعض الدراسات الأسلوبية إلى وجود اختلافات عن الكتب الأخرى. على الجانب الآخر، تشير «الدولونيا» إشارة صريحة إلى الموقف المصور قبل حدوث البعثة إلى آخيل، وهي كالآتي: الطرواديون معسكرون في السهل آملين تحقيق النصر في اليوم التالي، وكل جانب يبتغي معرفة المزيد من المعلومات عن نوايا الجانب الآخر. وتحتاج القصيدة إلى فترة راحة من التحرك الكبير المحصور بين بداية غضب آخيل في مشهد «فدية خريسيس» وفورته في مشهد «البعثة إلى آخيل»، و«الدولونيا» تقدم فترة الراحة هذه. قبل بدء القتال في الصباح التالي، يجب أن نشجع الآخيين المحبطين لدرجة أنه في اليوم السابق كان أجاممنون على استعداد لتقبيل قدمي آخيل. لا يمكننا أن نستهل المعركة الكبرى - التي سوف تنتهي بهزيمة الآخيين - بهزيمة وعندئذ سوف تتحقق مشيئة زيوس وصلاة زيوس لثيتيس. إن الآخيين بحاجة إلى التشجيع في هذه المرحلة، والنجاح في الهجوم الليلي يمدهم به. لربما كان هوميروس يستعين بمادة أدبية أقدم، ولكنه أدخل عليها تعديلات لتتناسب مع نواياه الدرامية.
ومع وجود نيران معسكر الطرواديين مشتعلة على مقربة، وآخيل الراغب عن مد يد العون، يوقظ بعض قادة الآخيين بعضهم ويقررون إرسال ديوميديس وأوديسيوس إلى داخل المعسكر الطروادي لاكتشاف ما يمكنهم اكتشافه. في تسليح الجاسوسين تتبين لنا واحدة من الإشارات القليلة إلى أداة ميسينية، وهي خوذة ناب الخنزير التي يأخذها أوديسيوس من شخص يدعى ميريونيس (انظر شكل
2-3 ):
وأعطى ميريونيس أوديسيوس قوسا وجعبة سهام وسيفا، ووضع على رأسه خوذة مصنوعة من الجلد، ومقواة من الداخل بشرائط رفيعة مشدودة بإحكام، أما من الخارج فوضعت بإحكام وبطريقة بارعة أنياب خنزير بري لامعة على هذا الجانب وذاك، وفي وسطها ثبتت بطانة من اللباد. (الإلياذة، 10، 260-265)
تنوقلت الخوذة عبر أجيال عديدة حتى وصلت إلى ميريونيس؛ لذا فقد يكون هوميروس نفسه قد رأى واحدة، ولم يؤل إليه الوصف من مئات السنوات قبله.
في الوقت ذاته، يشرع الطروادي دولون، الذي يتصف بالحمق الصارخ، في التجسس على الآخيين. تعهد هيكتور بغطرسة أن يمنح دولون جياد آخيل مكافأة له؛ إذ كان هيكتور واثقا من تحقيق انتصار سريع في اليوم التالي. يرصد ديوميديس وأوديسيوس دولون، ويخضعانه، ويستخرجان منه معلومات، ثم دون سابق إنذار يقطعان رأسه (شكل
4-1 ). إن دولون هو عبارة عن شخصية هزلية، مستغرب في ادعاءاته، وقتله ليس أكثر إثارة للشفقة من قتل قط لفأر.
Bilinmeyen sayfa