بيد أن الناس تجمعوا في مكان التجمع؛ لأن نزاعا قد قام، وكان رجلان في تنازع على دية قتيل. أحدهما قرر أنه دفعها كاملة، مبرهنا على حجته للناس، ولكن الآخر رفض أن يقبلها، وكلاهما يأمل في أن ينتصر في النزاع بناء على قول محكم. كان الناس يهللون على كلا الجانبين، مظهرين انحيازهم لهذا الجانب وذاك. كان المنادون يصدون الناس، وجلس الشيوخ على مقاعد حجرية مصقولة في الدائرة المقدسة، ممسكين في أيديهم بصولجانات المنادين ذوي الأصوات العالية. وكانوا يقفون متكئين على هذه الصولجانات ويصدرون حكمهم، كل في دوره. وفي الوسط وضع مثقالان من الذهب يمنحان لمن يلفظ من بينهم بالحكم الأعدل. (الإلياذة، 18، 497-508)
أما في المدينة التي في حالة حرب، فنرى جيشا يجهز لحصار من جانب بينما من الجانب الآخر كمين من المدينة يقود إلى معركة شاملة. ثمة مشاهد نزاع وتشويش ومصير، ولكن لا وجود لأبولو ولا آريس ولا هيرا. ويوجد على الدرع أيضا مشاهد حرث وحصاد واحتفال وقطعان وأسود تهاجمها، وإمالة عناقيد كرم، وقاعة رقص.
بالاستناد إلى الأدوات التي يستخدمها هيفايستوس، يمكننا القول إن التصاميم على درع آخيل قد عولجت بطريقة التقبيب، وهي تقنية لطرق وضغط التصاميم في صورة نقش بارز، وليس أشغال المعادن الميسينية التي تتميز بالترصيع الفاخر. ويوجد نصف دزينة من أوعية معدنية ودروع مهداة فينيقية باقية من القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد معالجة على نحو مشابه بالتقبيب، وتظهر مشاهد تفصيلية، على نسق فيه محاكاة للطراز المصري، تتضمن رقصا واحتفالا صاخبا وملوكا جالسين على عروش . ويوجد كذلك مشاهد لمدن تحت الحصار وعمليات صيد . لا بد أن هوميروس وجمهوره قد شاهدوا أشياء مثل تلك، عثر عليها في مدينة كالح في مملكة آشور، وعلى جزيرتي كريت وقبرص، وفي إيطاليا.
لا يأتي هوميروس قط على وصف أحداث أسطورية على أغراض فنية، بيد أنه مع نهاية الربع الأول من القرن السابع قبل الميلاد، حوالي عام 675 قبل الميلاد، بدأ الرسامون اليونانيون يصنعون صورا للأساطير الإغريقية. وعثر من نفس الفترة تقريبا على جزيرتي ساموس وميكونوس الإيجيتين ومن مدينة كايري الإتروسكانية على صور فريق من الرجال يسملون عين عملاق ذي عين واحدة، وتعتبر أحد أقدم التصويرات الفنية الأكيدة لأسطورة إغريقية (شكل
2-5 ).
يعد تصوير الأسطورة في الفن تحولا جذريا في تاريخ الفن؛ فالفن السردي على هيئة صور مألوف لنا بسبب التقليد اليوناني، إلا أنه ليس له نظائر ثابتة في فنون الشرق الأدنى والفن المصري الأقدم، تلك التي كانت كلها تقريبا لأغراض سياسية أو تأبينية أو زخرفية أو سحرية. على الرغم من أن شعوب بلاد ما بين النهرين صنعت رسوما لوحوش، أغلبها على أختام صغيرة، ويدين لها الفن الإغريقي كثيرا، فإننا لسنا متيقنين على الإطلاق من أسماء هذه الوحوش ولا فعالها. في المقابل، يتفق الجميع على أن مشهد عدة رجال يسملون عين رجل ضخم بواسطة وتد يجسد قصة سمل أوديسيوس لعين بوليفيموس.
شكل 2-5: أوديسيوس ورجاله يسملون عين سايكلوب. يغرز أوديسيوس - الذي يظهر باللون الأبيض لتمييزه عن رجاله (عادة ما يستخدم اللون الأبيض للدلالة على أنثى) - الوتد في عين بوليفيموس. العملاق يمسك بكأس الخمر التي استعان بها أوديسيوس لتسكره. الرسم مأخوذ من على عنق جرة أمفورة (نوع من الجرار اليونانية الخزفية له مقبضان وعنق طويل ضيق) بالقرب من مدينة إلفسينا، ويرجع تاريخه إلى حوالي 675 قبل الميلاد. متحف إلفسينا. الصورة لصندوق مداخيل التراث، مرفق تي إيه بي.
هل تعرض الرسامون الذين صنعوا مشهد بوليفيموس حوالي 675 قبل الميلاد بطريقة ما لنص «أوديسة» هوميروس، ربما من خلال تقديمها على يد الرابسوديين؟ يصعب بأي شكل آخر خلاف ذلك تفسير السبب وراء عدم صنع أي أحد آخر لرسم لفريق من الرجال يسملون عين عملاق بعين واحدة حتى ذلك الوقت، في حين يقوم فجأة فنانون من أقصى البحر المتوسط إلى أقصاه بذلك، ولكن بطرق مختلفة، إلا إذا كان جميعهم عرضة لنفس المحفز. ومثلما هو الحال فيما يتعلق بكأس نستور، التي يشير إليها نقش جزيرة إسكيا، فإن الدليل الوحيد الذي نملكه على وجود قصة البوليفيموس في اليونان القديمة هو قصيدة هوميروس، ويعتقد باحثون كثيرون أنها بهذا الشكل تعد ابتكارا من إبداع هوميروس نفسه. يبدو منطقيا أن نسخا من الكتاب التاسع من «الأوديسة»، اقتطفت من «الأوديسة»، قد تدوولت على نحو منفرد في أوائل القرن السابع قبل الميلاد بين رحالة يونانيين. فقد ألهمت القصيدة فنانين بابتكار هذه الصور، حتى إنها صورت في إيطاليا النائية.
بعد عام 675 قبل الميلاد، بدأت التصويرات «الأسطورية» تغمر الفن الإغريقي. ومع ذلك فغالبية الأساطير المصورة في الفن الإغريقي في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد ليست مأخوذة من «الإلياذة» و«الأوديسة» وإنما من قصائد ملحمية مفقودة في الوقت الحالي. يطلق على هذه القصائد مسمى القصائد الدورية؛ لأنه يبدو أنها نظمت «في دورة» حول «الإلياذة» و«الأوديسة»، بحيث تملأ فراغ الأحداث التي وقعت قبل وبعد حرب طروادة. مما لا شك فيه أن نصوص القصائد الدورية كانت معروفة أكثر بكثير من «الإلياذة» و«الأوديسة»؛ لأنها كانت أقصر كثيرا، مما جعلها أسهل في الحمل، وأيسر في الاحتفاظ بها، وأقل تكلفة في استنساخها، وأيسر إلقاء. كانت النصوص، التي تتميز بسهولة الاستنساخ والحفظ عن ظهر قلب، لما كان يوما ما قصائد شفاهية، تنشر المعرفة بالملاحم الإغريقية، التي كانت ذات يوم ملكا للصفوة، في أرجاء المجتمع اليوناني. ولا بد أن شيوع هذا النوع من النصوص يقف وراء التحول الجذري في موضوعات الفن الإغريقي في القرن السابع قبل الميلاد. كان نطاق المنشد الملحمي - بمخزونه من الأساطير - هو بهو الأثرياء وذوي النفوذ القليلين عدديا؛ بينما كان الرابسوديون (رواة الملاحم الشعرية) يلقون أشعارهم أمام الناس وعلى مسامعهم كلما سنحت لهم الفرصة. (5) هوميروس والشرق الأدنى
ينظر إلى قصائد هوميروس بوصفها مبتدأ الحضارة اليونانية الكلاسيكية القديمة، وأصل ومصدر الثقافة الغربية. ولكونها النصوص الأولى في الأبجدية اليونانية، التي صارت أساس التثقيف والتحصيل العلمي اليوناني والروماني، فإنها حقا كذلك. من الناحية الأخرى، بما أن الأبجدية اليونانية كانت مرتكزة على كتابة صوتية بالكلية سابقة عليها؛ إذ كان عمرها 1000 عام في زمان هوميروس، فإن قصص هوميروس، وكثيرا من عالمه الخيالي، مأخوذة من شعوب شرقية أقدم، لا سيما الشعوب السامية على وجه الخصوص. يندهش الكثيرون من أن قصص «الإلياذة» و«الأوديسة» الرئيسية ليست يونانية في الأصل. خلال العقود الأخيرة عرفنا كيف أن قصائد هوميروس هي جزء من سلسلة ثقافية متصلة يمكن تتبعها حتى الألفية الرابعة قبل الميلاد في الشرق الأدنى القديم. وعلينا أن نفهم قصائد هوميروس في سياق العالم الأكبر والأقدم بأسره.
Bilinmeyen sayfa