132

يبدو أن قصائد هوميروس كانت معروفة بالفعل في إيطاليا في القرن الثامن قبل الميلاد، في غضون عقود أو حتى سنوات من إملائها على ناسخ، على الأرجح في جزيرة عوبية في اليونان. على الفور حمل العوبيون غربا الأبجدية الجديدة، التي كانت اختراعهم، ونقلوها إلى الإيطاليين الأصليين. بهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نفهم أن النقش اليوناني الأقدم للغاية، الذي يرجع إلى حوالي عام 775 قبل الميلاد (الذي هو عبارة عن بضعة حروف)، اكتشف في لاتيوم بإيطاليا (هل كانت جزءا من اسم؟) وأن النقوش الإتروسكانية الأقدم المكتوبة بالأبجدية اليونانية من شمال لاتيوم ترجع إلى سنة 700 قبل الميلاد. من منصة التنقيب العوبية على جزيرة بيثيكوساي (إسكيا الحالية) يأتي نقش «كأس نيستور»، الذي يرجع إلى حوالي 740 قبل الميلاد، وهو، كما طالعنا، ليس فقط أقدم نقش يوناني ممتد بعض الشيء (بالإضافة إلى نقش مزهرية دبيلون؛ انظر شكل

1-9 )، وإنما أول إشارة أدبية في العالم الغربي وأول شاهد على التناص. إن معنى النقش لا يكمن فيما يقوله فحسب، وإنما في علاقته الواضحة ب «نص» أسبق في الوجود قد يكون من المتوقع معرفة الجمهور له.

شكل 7-1: رسم جداري للستريجونيين وهم يقذفون جلاميد صخر وجذوع أشجار على رجال أوديسيوس، المحاصرين في الخليج. الصورة معتمة ولكن يمكنك أن تتبين خمسة قوارب من يسار مركز الرسم إلى أعلى منتصف المركز وقاربا سادسا مقلوبا في جهة اليمين من الصورة. صورت سلسلة من رسوم مماثلة مشاهد من «الأوديسة»، من منزل على هضبة إسكيلين في روما، في حوالي القرن الأول قبل الميلاد. لاحظ السفينة ثلاثية المجاديف الكبيرة في مركز الرسم. متاحف الفاتيكان. حقوق النشر محفوظة، 1990. الصورة من سكالا، فلورنسا.

بنيت المقابر الإتروسكانية التي تنتمي إلى الحقبة العتيقة (القرنين السادس إلى الرابع قبل الميلاد) لتماثل قاعات الطعام الحقيقية، وفي بعض الأحيان تحتوي بداخلها على رسوم من مشاهد هوميرية عبر أرجاء الجدران. وقد عثر علماء الآثار على رسوم تماما كهذه في منازل رومانية راقية ترجع إلى زمن أغسطس، وقد يكون ثمة استمرارية مباشرة منذ التمثيلات العتيقة (شكل

7-1 ). لا بد وأن الرسوم الإتروسكانية تعكس قصصا رويت في قاعة الندوة، ولكن لا نعرف إن كان ذلك باللغة اليونانية أو بالإتروسكية. وقد أظهر ما يكاد يكون ثورة في الدراسات الرومانية في الجيل الأخير أن الرومان أيضا كانوا منذ البداية متأثرين تأثرا شديدا بالثقافة الأدبية اليونانية، وهو ما يعني، في هذه الحالة، «الإلياذة» و«الأوديسة»، وقصائد دائرة الملاحم ودائرة ملاحم طيبة. لم يحدث قط أن اكتشف الرومان اليونانيين فجأة في مرحلة ما وتغير كل شيء، وهو ما ظل لزمن طويل رأيا تقليديا شائعا.

ومع ذلك تورد مصادرنا أنه في القرن الثالث قبل الميلاد ترجم الروماني ليفيوس أندرونيكوس (حوالي 284-204 قبل الميلاد) - الذي كان على الأرجح يونانيا من جنوب إيطاليا استعبده روماني يدعى ليفيوس بعد الاستيلاء على مدينة تارينتوم في سنة 272 قبل الميلاد - «الأوديسة» إلى اللغة اللاتينية لأول مرة. لا بد وأنها كانت نسخة مختصرة إلى حد كبير؛ كوننا نعرف أن حجمها كان مناسبا لتكتب على لفيفة منفردة. استخدم أندرونيكوس وزنا شعريا لاتينيا مرسلا يسمى الوزن الزحلي، الذي يرجح أنه سمي بهذا الاسم لأنه كان قديما قدم زحل. لسنا متأكدين بشأن منشأ الشعر الزحلي بل من كيفية عمله. فلم تكتب النجاة إلا لعدد قليل من الأبيات، ولكن ترجمة ليفيوس أندرونيكوس لملحمة «الأوديسة» هي أول قصيدة باللغة اللاتينية، على حد علمنا، على الرغم من أن أندرونيكوس كان يونانيا والقصيدة مستمدة من أصل يوناني. ليس في وسعنا إلا التكهن بشأن السبب الذي دفع أندرونيكوس لفعل شيء من هذا القبيل، ولكن من المؤكد أن أسطورة أوديسيوس كانت على صلة وثيقة بأساطير عن إيطاليا في الأزمنة الأولى، حيث كانت تدور مغامراته حسبما يعتقد. وثمة أماكن عدة في جنوب إيطاليا يزعم أنها مسماة بأسماء رجال أوديسيوس. بل إن إحدى الأساطير اليونانية كانت تحكي أن إنياس كان قد أبحر مع أوديسيوس.

لم يتمكن الباحثون من إعادة بناء مقدمات الأدب الروماني - أو بعبارة أخرى ما حدث قبل ليفيوس أندرونيكوس - ولكن لا بد أن الرومان كانوا يقرءون الشعر اليوناني ذا الوزن السداسي، استنادا إلى الرسوم الإتروسكانية وعناصر «هوميرية» أخرى في سجل الفن الروماني. إذا سلمنا بأن الطبقة الأرستقراطية اللاتينية والإتروسكانية القديمة كانت تفهم اللغة اليونانية، وهو الأمر المرجح استنادا لأسباب أخرى، يمكننا أن نعلل معرفتهم القديمة لمواد من هذا القبيل. في الواقع يبدو أن الطبقة الأرستقراطية الرومانية كانت تفهم دوما اللغة اليونانية، ومن شأن أساس التعليم باللغة اليونانية لديهم أن يكون نفس أساس التعليم في اليونان ذاتها، وهو دراسة الشاعر هوميروس، الذي تعتبر نصوصه هي الأقدم في العالم الغربي. من كان «هوميروس الروماني»؟ يتضح أن هوميروس الروماني كان هو هوميروس نفسه، على حد تعبير أحد النقاد.

على الجانب اللاتيني من الصورة في مجتمع الطبقة الحاكمة الرومانية الأرستقراطي ثنائي اللغة، الذين تعلموا لغتهم اليونانية من هوميروس والذين تكلموا اللغة اليونانية واقتبسوا عبارات هوميروس كلما سنحت الفرصة في خطبهم وكتاباتهم، وقف الشاعر العظيم فيرجيل (70-19 قبل الميلاد)، الذي كان من شأنه، على مدى ألفي عام، أن يجسد الإنجاز في النوع الأدبي الملحمي في الغرب اللاتيني البسيط ضيق الأفق، الذي ضاعت فيه المعرفة المباشرة بهوميروس في نهاية المطاف. ولكن أبولونيوس كان يماثل هوميروس في كونه نموذج فيرجيل لملحمة «الإنياذة» اللاتينية، التي تحكي قصة رحلة إنياس إلى إيطاليا بعد خراب طروادة وتأسيسه للعرق الروماني هناك. مارست التراكيب الشعرية، الراقية، المتمكنة، الرمزية، التأملية، الفلسفية، التي أحيانا ما تكون غامضة، لأمناء المكتبات/الباحثين بالإسكندرية في القرنين الثالث والثاني الميلاديين، تأثيرا قويا على الشعر الروماني على المستويات كافة عن طريق المعلمين اليونانيين الذين تدربوا في الإسكندرية، الذين قدموا إلى روما لتعليم الصفوة الرومانية. وتستحضر علاقة الروماني إنياس الغرامية مع ملكة قرطاج الفينيقية ديدو إلى الذهن علاقة جيسون مع ميديا في ملحمة أبولونيوس «أرجونوتيكا»، وهي مصاغة على غرارها. يحاكي فيرجيل أبولونيوس كذلك في ولعه بالطلاوة الأسلوبية، والتعبير الراقي، والحاجات الشعورية المتعلقة بتعليم جمهوره المثقف. إن أول كلمات «الإنياذة» هي:

arma virumque cano ...، «للسلاح وللرجل أغني»، وهي تستحضر عن قصد «الإلياذة»، التي تدور حول الحرب، و «الأوديسة»، التي أولى كلماتها باللغة اليونانية هي «رجل». يتوقع فيرجيل من جمهوره أن يلاحظ تلميحات كتلك، وهي الأولى من آلاف التلميحات في القصيدة، التي يثري الأدب الكلاسيكي المكتوب بأسره معناها التناصي؛ إذ يدعمها باعتباره إطارا وأداة توجيه لقصة رحلة إنياس عبر الماء (وهو ما يكافئ «الأوديسة») وغزو إيطاليا (وهو ما يكافئ «الإلياذة»). على السطح، وفي الترجمة الإنجليزية، تبدو «الإنياذة» وقصائد هوميروس إلى حد ما متشابهتين، وتعتمد إحداهما على الأخرى؛ فكلتاهما قصائد طويلة تدور حول موضوعات بطولية. ولكن «الإنياذة» الإسكندرية المتعمقة مختلفة اختلافا تاما بشأن ما تعنيه، والكيفية التي تعنيه بها.

لم تلهم منزلة هوميروس الكثير من الملاحم اللاتينية الأخرى مثلما فعلت منزلة فيرجيل التي كانت إلهاما لملاحم مثل «فارساليا» للشاعر لوكانوس (39-65 ميلاديا)، عن الحرب الأهلية الرومانية، وملحمة «ثيبيد» للشاعر ستاتشيوس (45-96 ميلاديا)، عن أسطورة السبعة ضد طيبة. أثناء عصر النهضة كان نموذج فيرجيل القوي مصدر إلهام لملاحم إيطالية وأكسبه حق إرشاد دانتي إلى العالم السفلي وفي الصعود إلى جبل المطهر. في إنجلترا، تحاكي أعمال من قبيل «الفردوس المفقود» لميلتون (1667) فيرجيل في الأسلوب والتقليد المتبع.

Bilinmeyen sayfa