يرتقب آخيل الفناء على يد الموت، وهي العاقبة المنطقية للاختيارات التي يتخذها. وهو مهووس بمغزى سلوكه ومن ثم غير عابئ بالعالم المادي، ولا بغنائم أجاممنون ولا بفدية بريام. يتحدى أوديسيوس الموت ويسعى إلى تحقيق الثراء؛ فالكنز يساوي الحياة، ويعود إلى الديار بقسط هائل منه من عند الفياشيين، ربما أكثر مما جلبه من طروادة. ورغم تلهفه على العودة، كان أوديسيوس يسعد بأن يمضي عاما إضافيا على جزيرة سكيريا، حسبما قال ذات مرة، إن كان ذلك من شأنه أن يزيد غنيمته. ومع ذلك يضع الكنز في كهف وينسى أمره تماما. فالكنز الأعظم ما زال ينتظره، وهو المنزل، بقطعانه وعبيده، ومباهج الحياة الأسرية ونفوذ السلطة الاجتماعية. ولم يكن لدى آخيل أي اهتمام عملي بمصادر الأمان.
تشكل «الإلياذة» و«الأوديسة» حقا نوعا من الوحدة الكاملة؛ فإحداهما تضع علامات استفهام حول أساس القيم التي نقبلها دون تساؤلات، والأخرى تؤكد قيم الملكية والأسرة واستمرارية الحياة. ودائما ما تملأ «الأوديسة» الفجوات في سرد «الإلياذة»، فتمنحنا نهاية القصة. فنعرف ما حدث لأجاممنون ومينلاوس ونيستور وأياس الأدنى شأنا (ابن أويليوس) وأياس الأعظم شأنا (ابن تيلامون). ونعرف بشأن موت آخيل، بل نتحدث معه عند حفرة الدماء. ونسمع قصة حصان طروادة وكيف وصلت الحرب إلى نهايتها. ونرى هيلين وقد عادت مستقرة في البيت، وما زالت تتحكم في زمام الأمور بفتنتها وعقاقيرها. فيما مضى اعتقد الباحثون أن «شاعر «الأوديسة»» كان متأثرا ب «شاعر «الإلياذة »»، وأنه شرع عن وعي في استكمال حكايته. وأفضل شاعر قادر على القيام بذلك هو هوميروس نفسه. فهو يقدم لنا في قصيدتيه رؤية متكاملة للحياة البشرية بكل ما فيها من هول وعذوبة وتعقيد.
الجزء
تلقي الملاحم الهوميرية
الفصل السابع
الملاحم الهوميرية عند الفلاسفة والشعراء
إن رؤية هوميروس الشاملة جعلت الملاحم الهوميرية هي «العمل الكلاسيكي»، والقصة الواحدة، والقصيدتين اللتين يتفق الجميع على أنهما تستحقان الدراسة. بيد أن الخصائص التي نبحث عنها، ونستمتع بها، لدى هوميروس، مختلفة نوعا ما عما وجده القدماء أنفسهم لدى الشاعر. في هذا الفصل الأخير دعونا نأخذ لمحة سريعة عن تأثير هوميروس وكيفية فهم وتفسير بعض المفكرين والشعراء اللاحقين في العالم القديم لقصائده. (1) هوميروس والفلاسفة
سبق أن أشرنا إلى انتقادات المفكر زينوفانيس في القرن السادس قبل الميلاد، ذاك الذي بدأ تقليدا من الهوس الفلسفي بهوميروس سيستمر ألفي سنة. بعد زينوفانيس ربما بخمسين عاما أشار هرقليطس الإفسوسي (حوالي 535-475 قبل الميلاد) إلى أن «الرجال يرتكبون أخطاء فيما يتعلق بمعرفة الأشياء المنظورة ... [حتى] هوميروس، الذي كان أحكم اليونانيين» (شذرة رقم 56 بترقيم ديلز-كرانز). من وجهة نظر الفيلسوف القديم هرقليطس أن «هوميروس ينبغي أن يستبعد ويزاح من المنافسات، وبرفقته أرخيلوخوس.» كان هوميروس، ومعه هيسيود، يمثل الثقافة العتيقة الطراز، والرجعية، واللاأخلاقية التي كان الفكر الجديد لفلسفة ما قبل سقراط يكافحها. يشير هرقليطس إلى «المنافسات»، أي المسابقات الشعرية التي كان من شأن الرابسوديين فيها أن يتلوا نصوصا من الذاكرة من شعر سداسي التفعيلة في تنافس مع شعراء غنائيين مثل أرخيلوخوس (حوالي 680-635 قبل الميلاد). اعتقد هرقليطس أنه في بيئة كهذه كان التأثير السيئ للشعراء عظيما.
بعد ذلك بمائة عام نقح أفلاطون (حوالي 427-347 قبل الميلاد)، مستعينا بسقراط كناطق بلسانه، الاعتراضات الفلسفية على هوميروس، ولكنه ركز على هوميروس في قاعات الدرس وليس في المنافسات العامة. فالقصص التي تعرض الموت على أنه شر، أو تظهر قادة هم مضرب للمثل تستحوذ عليهم مشاعر جبانة من المؤكد أنها لن تلهم القادة بأن الدولة بحاجة إلى الازدهار (كتاب «الجمهورية»، 386أ-389أ). ثانيا إن تصوير هوميروس للحقيقة باطل تماما ونظريته اللاهوتية ذات ضرر مدمر (كتاب «الجمهورية»، 376ه-383أ). ومن موقفه تجاه هوميروس نما عداء أفلاطون نحو فن المحاكاة («التقليد» أو «التمثيل»)؛ فالعالم الذي تنقله حواسنا إلينا منعزل بالفعل عن العالم الحقيقي المثالي المختفي وراءه، الذي يمثل العالم الحسي إسقاطا عليه. لا يزال فن المحاكاة، الذي يستنسخ العالم الخادع الحسي، على مسافة أبعد من الحقيقة؛ كما لو أن المرء صنع فيلما بتصوير فيلم سينمائي. كيف يمكن للمرء بأي حال أن يصل إلى الحقيقة عبر فن من هذا النوع، سواء أكان شعرا أم رسما أم نحتا؟ وارتأى أفلاطون أن من الضروري استبعاد هوميروس المخادع الهمجي من المناهج التعليمية المدرسية، فيما يعد شهادة على أهميته في تلك المناهج التعليمية.
الجدير بالملاحظة أن سقراط الخاص بأفلاطون هو أول من بحث عن تأويلات فلسفية لعبارات لا ضرر منها ظاهريا في نصوص هوميروس، ومن ثم «إنقاذ» النصوص من مظهرها المضلل (ولكن مع ذلك لا بد للقصائد أن تستبعد). على سبيل المثال، في محاورة «الثئيتتس» (152ه)، يفسر سقراط بيت هوميروس «أوقيانوس، مصدر الآلهة، وتيثس الأم» (الإلياذة، 14، 201 و302) بأنه يعني أن «كل شيء ينبع من السريان والحركة»، وهو من التعاليم الرئيسة لهرقليطس، وهو أن «كل شيء في سريان دائم» (
Bilinmeyen sayfa