الإهداء
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملاحظات
الإهداء
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملاحظات
الحكماء السبعة
الحكماء السبعة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى ذكرى يوسف كرم
الفيلسوف الحق
والقدوة العالية،
في أيام صرعت فيها القيم
وغابت عنا القدوة.
تقديم
كان أفلاطون هو أول من ذكر الحكماء السبعة وأسماءهم في محاورته «بروتا جوارس (343ق.م.)، ثم جاء مؤرخ الفلسفة اليونانية ديوجينيس اللائرسي «حوالي سنة 220 بعد الميلاد» فروى في كنزه النفيس، وهو كتابه عن حياة الفلاسفة المشهورين وآرائهم، الكثير من أخبارهم وحكمهم الموجزة التي تلخص تجربة حياتهم، وأورد أسماءهم السبعة المعروفة، وقال: إن آخرين يضيفون إليهم «أناخارسيس»، و«ميسون»، و«فيريكيديس»، و«إبيمينيدس»، وربما زيد عليهم اسم الطاغية «بيزيستراتوس»، وأسماء أخرى تصل بهم إلى ثلاثة وعشرين حكيما! وظل الناس يتناقلون أنباءهم وحكاياتهم وكلماتهم من العصر اليوناني إلى عصر النهضة.
وكان من الطبيعي أن تتغير صورهم وأسماؤهم وتفسير الرواة لهم من عصر إلى عصر، حتى لقد وصل ذكرهم وطرف من أخبارهم إلى الشرق، فسجلت قصة من روائع الأدب الفارسي بعض أقوالهم الجامعة على لسان سندباد الحكيم والوزراء السبعة، في كتاب السندباد (سندباد نامه). وأشار إليهم بعض فلاسفة الإسلام ومؤرخي الحكمة وطبقات الحكماء إشارات لا تخلو من الطرافة «كالبيروني، والشهرستاني، وابن النديم، والشهرزوري، والمبشر بن فاتك».
لم يكن هؤلاء الحكماء فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد كانوا - باستثناء «طاليس» أبي الفلسفة و«صولون» الشاعر والمشرع الأثيني المعروف - رجال عمل وبناة دول، اشتهروا بالأمانة والصدق وقهر النفس واحترام القوانين. وكانت تجارب حياتهم، بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد، التي تبلورت في حكمهم وكلماتهم بمثابة البذور التي نمت بعد ذلك في أشكال فكرية حية. فأصبحت «اعرف نفسك» عند سقراط نظرية عن ارتباط الفضيلة بالعلم والمعرفة، وتطورت «لا تسرف في شيء» عند أرسطو إلى ما يسمى بنظرية الوسط الذهبي، وتغلغلت فكرتهم المحورية عن التزام الحد والاعتدال في روائع العقل والوجدان اليوناني في الفلسفة والشعر، وأناشيد الجوقة في المأساة.
التقيت بالحكماء السبعة في سنوات الطلب قبل ما يزيد على الربع قرن. فقد هداني الحظ - في لحظة نادرة من تلك اللحظات التي يفتر فيها ثغره عن بسمة ضنينة - إلى كتاب استوعب عباراتهم وحكاياتهم وأخبارهم الأصيلة، وحققه ونشره العالم الألماني الأستاذ برونو سنيل، «حياة الحكماء السبعة وآراؤهم، ميونيخ، سلسلة توسكولوم 1952م». ثم ظلت أمواج الأيام والأحداث تتقاذف قارب شوقي للكتابة عنهم، حتى سألني زميل كريم
1
أن أشارك في كتاب تذكاري عن مؤرخ الفلسفة العظيم وأستاذ الأساتذة، المرحوم يوسف كرم. وما كان لي أن أتخلف عن ركب الوفاء لهذا الحكيم الحق، الذي كان وسوف يظل القدوة والمثل الأعلى، خصوصا وأنا أشهد في جيلي وزماني مصرع الحكمة وسفهها وتشويهها على أيدي عدد من الصغار الذين ابتليت بهم، وبدأت العمل في المشروع القديم. وما لبثت المادة المترامية الأطراف أن أقنعتني بالتخلي عن صورة المقال والبحث التقليدية، وفرضت علي هذا الشكل الذي يجمع بين النثر والشعر، ويزاوج بين الفلسفة والمسرح، ويمر في حياة الحكماء والتأمل في مصير الحكمة بعدهم إلى الحد الذي يحرمهم من الدخول بين دفتي ذلك الكتاب ... ثم توالت أمواج الأيام والأحداث، فعصفت بشراع حياتي في محنة شخصية فجعتني في بعض الزملاء والأبناء، الذين توهمت ذات يوم أنهم ذخر البقية الباقية من العمر.
وقد علمتني المحنة أن الشر والغدر المتعمد وصمة على جبين البشرية كلها، كما علمتني في الوقت نفسه أن الظالم والمظلوم والقاتل والمقتول صائرون في النهاية إلى التراب الذي يسوي بينهم على صدر أمنا الأرض. ومع أن المحن الشخصية لا تكفي لإقامة علم ولا فن؛ إذ لا بد أن تجد معادلها الموضوعي، في شكل فكري أو أدبي باق، وأن تبلور دموعها في لآلئ صلبة صافية؛ فقد دفعتني بقوة الضرورة القاهرة لإتمام هذا العمل الذي تراه بين يديك. وهو عمل ربما أثار في نفسك، كما أثار في نفسي، شجونا تتصل بمحنتنا العربية التي لا تخرج المحن الفردية والجماعية المتوالية عن أن تكون صورا مصغرة منها، وشظايا وشرارات من نيران جحيمها الذي نصنعه لأنفسنا بأنفسنا.
ربما سألتني: لماذا الحكماء السبعة في زمن نعلم أن الحكمة غابت عنه، وصارت ضعفا واستسلاما أو يأسا وركودا وظلاما، وتحولت عند عدد كبير ممن جعلوها مهنتهم إلى كتب ميتة ومذكرات ركيكة، وإملاء وتلقين واجتراء وتكرار، تجني كلها على النشء جناية لا تغتفر؟ ما جدوى التذكير بهذه الشخصيات التي تنتمي إلى حضارة وثقافة أخرى، في ظروفنا الحضارية والثقافية التي أصبحت أزمات تدهورها وانهيارها غير خافية على أحد؟ وهل تستطيع بعض الشخصيات أو الكلمات المضيئة فوق بحار الظلمات التاريخية أن تمد طوق النجاة للسفينة الغارقة؟
إذا كانت الحكمة والحكماء قد غابا عن المسرح العالمي والمحلي (باستثناء قلة من شيوخنا ورعاتنا الأجلاء قد لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة)؛ فإن ورثة الحكماء، وهم المثقفون، وسليلة الحكمة، وهي الثقافة، يستحقان أن نقف معهما قليلا، ونذكرهما بالماضي العريق والأجداد المنسيين. وأسارع فأبشر القارئ بأنني سأكفيه وأكفي نفسي عبء الجدل الممل العقيم عن تعريف الثقافة ومقوماتها، والفرق بينها وبين الحضارة والمدنية ... إلخ. وسأتجه مباشرة إلى حملة الثقافة وهم المثقفون، بل سأحصر نفسي في دائرة واحدة من دوائرهم الكثيرة، وهي دائرة المربين والمعلمين - وأنا واحد منهم - لعلنا نستطيع أن نستوحي الحكمة والحكماء، ونقيم لأنفسنا محاكمة نقف فيها أمام أنفسنا ونراجعها ونحاسبها، فمراجعة النفس ومحاسبتها، بالمعنى الكوني الشامل، قد كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من الحكمة.
لا شك في أن التعميم يمكن أن يبتعد بنا عن الحق والإنصاف، ولا شك أيضا في أن حياة المثقفين في الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بنا في العقود الثلاثة الأخيرة لم تكن سهلة ولا يسيرة، بل كانت في معظم الأحيان شبه مستحيلة، وأدت في كثير من الأحيان إلى شعور المثقف بالاغتراب المضاعف، وكادت أن تصل به إلى حافة الجنون. كما أن الحياة في ظل النظم الفردية المطلقة التي غابت عنها الحرية والقانون قد أفرخت مسوخا شتى من الطفيليين، والانتهازيين والنرجسيين المتضخمين، وتجار الكلمة والعلم، وحواة الشعارات، والمغازلين للسلطة بعين وللتقدمية بالعين الأخرى، حتى ليأخذنا العجب وتغلبنا الحسرة، فنهتف مع الشاعر صلاح عبد الصبور، على لسان سعيد في مسرحيته «ليلى والمجنون»: «ربي! كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا القدر من السفلة والأوغاد؟!»
ومع ذلك، فإن الظلام لم يستطع أن يطبق علينا تماما. فهنالك إنجازات حقيقية في مختلف ميادين الإبداع والبحث العلمي قد تمت، وروائع قليلة العدد قد استطاعت أن تبرز فوق مياه الطوفان وتتحداه. والذي يعصم النفس من الغرق في اليأس والحزن أن حياتنا لم تخل من المخلصين العاملين في صمت، والمتفانين إلى حد الاستشهاد، والمترفعين المتعففين مهما أصابهم من الضيق والضنك والإملاق، وإن بقي علينا أن ندركهم قبل أن يهلكهم الموت البطيء بسموم المرارة والإحباط!
بيد أن الأهم من ذلك كله أن مفاهيم الثقافة والعلم والتعليم قد أصبحت في أشد الحاجة إلى المراجعة الشاملة، كما أصبحت نظمها ومناهجها وغاياتها وفلسفاتها، إن كانت هنالك فلسفات، في حاجة إلى البداية من الصفر. وكما يحدث في أوقات الأزمات والمحن التي تلم بالأفراد والشعوب، وتطرح فيها الأسئلة الكبرى والنهائية، ويتحتم على ملاحي السفن المهددة بالغرق أن يواجهوا أنفسهم بهذا السؤال: إلى أين ينتهي بنا السير؟ كذلك تقتضي الضرورة أن نسأل أنفسنا: ماذا نعلم ولماذا نعلم؟ هل استطعنا أن نعلم الشباب، وننمي فيهم روح التفكير النقدي المستقل، والبحث المتحرر من التميز والهوى؟ هل حققنا أقل قدر من النجاح في إزالة الأوهام الراسخة وتحطيم الأصنام العقلية والتمييزات البالية؟ ولماذا أخفقت الثقافة والعلم في تغيير واقع ملايين الناس ووعيهم تغييرا ملحوظا، ولم تخط بهم خطوات ملموسة على طريق الحرية والتقدم والاستنارة؟ هل اكتفينا بنقل المعلومات والمذاهب والنظريات - وليته كان نقلا أمينا في كل الأحوال - وشاركنا، عن قصد أو غير قصد، في قمع الفكر النقدي المستقل، ومد ظلال الركود القبيح والتهاوي والعناء على مجتمعاتنا ككل؟ ألم يساعد ذلك في النهاية - بجانب عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية معروفة ولا حاجة لذكرها - في ظهور تلك النباتات الشيطانية التي تشابكت وتضخمت في حقل المعرفة والأدب والفن، حتى أوشكت أن تحيله إلى غابة تمرح وتصفر فيها أفاعي الانتهازية والتسلط واستغلال العلم والمعرفة، في جمع الثروة وممالأة السلطة والسعار إلى الشهرة والمنصب والمجد الكاذب؟ هل وعينا الدرس القائل إن المعلم في حاجة إلى تعليم، والمربي في حاجة إلى تربية، فتحملنا المسئولية بشجاعة وتشبثنا بإعلاء القيم في زمن سقوط القيم، وتمسكنا بالراية شأن الجنود المناضلين؟ وهل استطعنا أخيرا أن نقف متساندين جبهة واحدة للضمير اليقظ، كما وقف الحكماء والمعلمون الحقيقيون على الدوام، لنرد المحنة عن حضارتنا التي يطبق عليها الحصار وتتعرض للتصفية - لا بفعل الصهيونية والاستعمار وحدهما - وتضطر إلى التراجع والانكماش، كأنها كائن خرافي آن أوان انقراضه، بعد أن لم يعد له مكان في عالم تجاوزه وأنكره وسخر منه، اللهم إلا أن يصبح حقل تجارب من كل نوع؟
قلت إن الظلام لم يطبق بعد، فما زال هناك أمل، ولا بد أن يكون الأمل. إن الكثيرين قد سقطوا أو تاهوا. وكثيرون أيضا قد تحملوا وصمدوا صمود الرواقيين في عصور الشك واليأس والوحشية والجبروت. ولو قدر لحكمة هؤلاء الحكماء وغيرهم أن تبعث حية؛ لمدت يدها لمن سقطوا أو تاهوا قائلة: إن كل شيء لم ينته بعد. تعالوا إلى طريقي ولنبدأ من جديد؛ فالأمر لا يتعلق بنا بقدر ما يتعلق بحضارة تخترمها الكوارث، وتنتظرها كوارث أكبر. وإذا اختنق الإبداع وتهاوت إرادة الفكر الحر المستقل حكمت الحضارة على نفسها بالانتحار. أما أولئك الذين تحملوا وصمدوا؛ فسوف تواجههم قائلة: ليست الشجاعة في الصمود والكبرياء الجريحة فحسب. إن الشجاعة والحقيقة في تغيير الواقع بالفعل. أعلم أنكم تعبتم وعانيتم، ولكن تذكروا عشرات من المفكرين الذين انتهت حياتهم في السجن أو المحرقة على الصليب أو المشنقة. إنهم لم يفاجئوا في لحظاتهم الأخيرة بالشر والغدر، وإن لم يتوقعوا أن يصل إلى ما وصل إليه من القسوة والخسة. ومع ذلك لا يصح أن تنسوا أن بقايا رمادهم هي الأرض التي تقف عليها الحقيقة والحرية والأمل في التطور، ولولا أنوار إبداعهم وكفاحهم؛ لصار تاريخ البشرية ظلمات فوق ظلمات.
إن الحكم التي ستقرؤها على ألسنة الحكماء السبعة لا يمكنها بطبيعة الحال أن تثير كل هذه الأسئلة، أو توحي بكل هذه القضايا والمشكلات. فلا بد من الاعتراف بأن بعضها سخيف وساذج، وبعضها الآخر مجرد وصايا عملية ترتبط بالعادات والتقاليد الشعبية في ذلك العهد البعيد من عهود الحضارة الإغريقية المبكرة. ثم إن أروع أقوالهم، مثل «اعرف نفسك»، و«ابتغ الحد والقصد في كل شيء»، و«أدرك قيمة اللحظة» ... إلخ، يمكن أن تفسر، وقد فسرت بالفعل تفسيرات متنوعة. ولكن المهم بعد كل شيء هو قراءة هذه الحكم الماضية على ضوء الحاضر. وإذا كان الماضي لا يعود ولا يتكرر أبدا، فإن نفس المشكلات والأخطار يمكن أن تواجه الشعوب والحضارات المختلفة عندما تجد نفسها على مفترق طريق تاريخي يقتضي حكمة جديدة يحققها حكماء من نوع جديد. وإذا كان العلم قد حل اليوم محل الحكمة القديمة؛ فإن من واجب العلماء والمعلمين أن يضفوا عليه كبرياءها وجلالها وإخلاصها في السعي إلى الحقيقة المنزهة. ولا بد كذلك أن يعيدوا إليه دورها العريق في إنقاذ المدينة، والدفاع عن أسوارها، وحرية أهلها ... لقد قيل إن الأنبياء غير المسلحين يخفقون دائما (مكيافيللي). ومع أن المثقفين الذين نقصدهم قبل غيرهم، وهم العلماء والمعلمون، ليسوا رسلا ولا أنبياء - على الرغم من بيت شوقي المشهور الذي لم يعد أحد يصدقه، أو يأخذه مأخذ الجد - فإن سلاحهم الوحيد الذي لا يجوز أن يتخلوا عنه هو الشجاعة. فلا قيمة لعلم أو فكر لا يؤصل الحرية، ولا جدوى من تعليم فقد شجاعة التساؤل والنقد المستقل. ولذلك لم يدهشني كثيرا أن أكتشف، بعد الفراغ من كتابة هذه الحوارية، أنها تنتهي بسطور تتردد فيها أصداء أبيات من قصيدة شهيرة عن يوميات نبي يحمل قلما، يتنظر نبيا، يحمل سيفا (من مسرحية ليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور). ولا تريد هذه السطور الغاضبة أن تهاجم أحدا، ولا أن تدين وضعا محددا. وهي كذلك لا تهدف إلى تعرية جوانب ضعف لا يخلو منها البشر بحكم طبيعتهم البشرية، كما أنها بعيدة كل البعد عن أن تضع على رءوس المثقفين أو المعلمين هالة شاعرية وهمية. إن الأمر في الواقع لأكبر من ذلك وأخطر؛ لأن الخطر الذي يتهدد حضارتنا يتخطى الأشخاص والظواهر والأوضاع المحددة بالأزمان والبلدان. وقد أكدت السطور السابقة أن المثقفين والعلماء والمعلمين بوجه خاص هم ملاحو السفينة الموشكة على الغرق.
واليوم آن الأوان لكي يوجهوا السفينة ويصححوا اتجاهها، ويوقظوا ركابها. ولن يقدروا على ذلك حتى يبدءوا بأنفسهم، ويستيقظوا من سباتهم، ويحاسبوا ضمائرهم، ويراجعوا علمهم ومعرفتهم وفكرهم وسلوكهم. فإذا استطاعت هذه المحاورات مع الحكماء السبعة أن تدعوهم إلى محاورة النفس، وتذكرهم بأن الحكمة لم تمت ولا يمكن أن تموت، وأنها تحيا وتتجدد وتقاتل عند الضرورة كلما أرادوا الحياة لأنفسهم وحضارتهم وثقافتهم، إذا استطاعت أن تحقق شيئا من ذلك؛ فقد بلغت غاية ما أتمناه.
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
المؤرخ يقلب في الأوراق، يجمع الوثائق ويتحقق من الحقائق التي اختلطت بالغرائب والخرافات والأساطير، وحكايات الخوارق. وعندما يدلهم الأفق وتأخذه الحيرة من كل سبيل يرفع صوته: يا أشباح الزمن الماضي، من عمق القرن السادس قبل الميلاد. صوت من زمن المحنة يدعوكم، فاستمعوا له، شبح يتشبث بالصدق وبالحكمة في عصر الكذب الشائن والغدر الخائن، يرجو أن يتحاور معكم، أن يسألكم وتجيبوه. وتتزاحم الأشباح وترتفع الأصوات. السبعة صاروا سبعة عشر وأكثر، والحيرة تزداد عليه فيهتف:
المؤرخ :
عشتم مثلي في زمن المحنة، والمحنة عاناها الشعر وقاستها الكلمة. في العقود الأولى من قرنكم السادس، كانت أصوات الشعراء ما تزال عالية شجية: «سافو» و«ألكايوس» من جزيرة «لسبوس»، «سيمونيدس» و«ميمنيرموس» من «أيونيا»، «صولون» الشاعر والمشرع الشهير من أثينا. لكن لا بد أنهم قد ماتوا جميعا قبل انتصاف القرن، ولم يخلفهم أحد، ولا بد أن الجيل الذي تلاهم قد خبت فيه نار الشعر، وخرست قيثاره، حتى حلت سنة 530، فانطلقت شرارته المقدسة من جديد. هذا الجيل المجدب هو الذي ازدهرت فيه حكمتكم، حكمتكم التي لم تكن شعرا ولا فلسفة، بل تجسيدا للفطنة والخبرة والتجربة العملية.
الحكماء :
تتسرع في توجيه التهمة، وتضن علينا بالحكمة، مع أنا منذ القدم نسمى الحكماء.
المؤرخ :
معذرة، أنا لا أتهم ولا أدافع، بل أتلمس آثار الحكمة، أو أبكي فوق الأطلال. ما ذنبي إذا كان عصري هو عصر سقوط القيم، وزمني ضاعت فيه الحكمة والعقل؟ ما ذنبي إن كانت كتب التاريخ تمجدكم أحيانا، أو تبخل في أحيان أخرى فتسميكم الرجال الأذكياء؟ هلا أجبتم على سؤالي؟
الحكماء :
لا ندري كيف نرد عليك! ربما لأن الواقع العملي في أيامنا بدأ يفرض سلطانه فازدرى الشعر، واستصغر شأن الكلمة، وأخذ يولي وجهه شطر حقائق الحياة.
المؤرخ :
ربي! هذا ما نلقاه الآن.
الحكماء :
أتدين زمانك وزماني؟
المؤرخ :
لا لا، بل أهمس من عجز لساني وجناني. أكمل قولك.
الحكماء :
أو لأن العاطفة الدينية شطت في التعليق، حتى تاهت وسقطت في الهاوية العميقة التي تستعصي على العبارة والخطاب.
المؤرخ :
مهما يكن الأمر؛ فقد راجت حكمتكم.
الحكماء :
حكمتنا؟ ها أنت تعود إلى الحق. لقد تناقلتها الأفواه، فلم تكن بحاجة إلى التدوين، اللهم إلا على أحجار «أوستيا»
1
أو على جدران معبد «دلف». ولهذا ليس عجيبا أن ينسبها الإغريق إلى الإله أبوللو، أو إلى جني بحري حكيم كانوا يدعونه عجوز البحر الإلهي.
المؤرخ :
معنى هذا أنها وجدت قبل وجودكم؟ انتظروا ... لقد وردت في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجاميش البابلية سيرة سبعة حكماء أسسوا مدينة أوروك، كما تلقى حكماء الهند السبعة الذين يسمون «الريشي» الحكمة وفن الغناء من الآلهة، ووضع شاعركم «هوميروس» مجلس حكماء سبعة تحت تصرف «أجاممنون» و«برياموس».
2
حكمتكم أقدم مما أتصور أقدم مما كنت أقدر.
الحكماء :
ولكن لم يتأكد صدقها إلا بنسبتها إلينا. نحن الذين كافحنا وأسسنا، وتجولنا فوق الأرض الغانية بدمنا ولحمنا.
المؤرخ :
ورفعتم لمصاف الأبطال، ونسجت حولكم الحكايات والخرافات.
الحكماء :
هل يقع الذنب علينا؟ كنا بشرا مثل البشر، صمدنا لأعاصير الزمن القلقة، أعلينا بناء حياتنا وحياتنا وحياة شعوبنا؟ أتلومنا؛ لأن الناس جللت رءوسنا بغار الحكمة الذي بخلت به على رءوس الشعراء، أم لأن الأفكار العظيمة لا يصدقها الناس حتى ينسبوها إلى عظيم حقها في الواقع؟ أم لأن الحكايات والخرافات والأساطير عادة ما تغزل خيوطها بعد موت أبطالها؟
3
أولا يكفينا أن حكمتنا راجت؟!
المؤرخ :
بل ما زالت رائجة وعلى كل لسان، انتشرت بين الأمم وفي مختلف الأزمان.
الحكماء :
حكمتنا راجت في قرن سكتت فيه أوتار الشعر.
المؤرخ :
وبدأت تزدهر شجرة الفلسفة.
الحكماء :
الفلسفة؟
المؤرخ :
صفة أخرى للحكمة ... ولحب الحكمة ... كان من الممكن ألا تبدأ لولاكم. كان من الممكن ألا تزدهر الشجرة لولا البذرة.
الحكماء :
والبذرة ألقيناها في التربة. هل ما زلت تضن علينا؟
المؤرخ :
لست أضن عليكم بالحكمة، لست بخيلا باسم الحكماء. لكن التاريخ يحيرني وتحيرني الأسماء، حتى العدد اختلفت فيه الآراء.
الحكماء :
هذا ليس جديدا. من منتصف القرن السادس قالوا: سبعة. زادوا العدد، فقالوا: سبعة عشر حكيما ... ليس جديدا ما نسمعه منك.
المؤرخ :
بل ما تشهد به الوثائق أو تشهد عليه. مع ذلك تتردد فيها أربعة أسماء. صولون المشرع.
صولون :
والشاعر أيضا، لا تنس.
المؤرخ :
كيف لأحد أن ينساك؟ الشك يحيط بأخبار الحكماء الستة. أما أنت فرأس الجبل يطل على تاريخ اليونان.
صولون :
رأس الجبل؟ كلامك هذا يضحكني ... مع أن الكاهن العجوز في مصر قال لي: يا صولون، يا صولون، ستبقون على الدوام أطفالا أيها الإغريق؛ إذ لا يوجد شيخ إغريقي.
المؤرخ :
تلك رواية أفلاطون.
4
لكن حفظ التاريخ لنا أشعارا منك.
صولون :
هل تذكرون مرثيتي التي بدأتها بهذه السطور:
الآن عرفت الأمر،
والألم عميق في أعماق الصدر،
وأنا أشهد أكبر أبناء أبوينا ينهار ويدحر.
المؤرخ :
هكذا بدأتها بعد أن اشتد النزاع في الدولة، واستعبدت الأقلية أغلبية المواطنين، وثار الشعب على الأغنياء والأعيان. احتدم الصراع بينهما وطال، وانتخبوك رئيسا وقاضيا يفصل بينهم، وكلفوك بتدبير نظامهم ووضع دستورهم. كنت حكيما ورحيما، لم تؤثر أي الحزبين على الآخر، فوقفت في صفهما، ونصحتهما بالصلح ووقف الصراع. كان الكل يجلك ويقدر موهبتك، مع أنك لم تكن أغناهم أو أرفعهم في المنصب والجاه . ورحت تحذر الأغنياء من الترف والتطرف، وتنصحهم بالتواضع والاعتدال، وتلقي الذنب عليهم وعلى تكبرهم وجشعهم إلى المال فيما حاق بالمدينة من خراب. اسمع شهادة حكيم آخر بعدك: حرر صولون الشعب في الحاضر والمستقبل، عندما حرم اقتراض المال في مقابل رهن الجسد، وضع القوانين، وأصدر تشريعا بالإعفاء من الديون العامة والخاصة أو بنفض الأعباء.
5
المؤرخ :
ويذكرنا هذا باسم آخر.
بيتاكوس : «بيتاكوس» من ميتيلينه. سموني الطاغية، وكنت رحيما بالأوغاد.
صولون :
طاغية ورحيم! ... حقا ما أغرب هذا!
بيتاكوس :
وما وجه الغرابة يا صولون؟ أنت نفسك سمعت عني كما سمعت كلمتي.
صولون :
لما بلغني قولك «من الصعب أن يكون المرء طيبا»، أعجبتني حكمتك، وقلت: «ومن الصعب أن يكون جميلا.»
بيتاكوس :
وهل عرفت متى قلتها أو كيف؟ لقد رأيت أعدائي يتكاثرون، ولاحظت الكراهية في عيون الشعب الذي أنصفته وكافأته؛ لكي أرفعه من وهدة بؤسه، وفي ضمائر الأغنياء والنبلاء الذين قلمت مخالبهم من أجله. ونفيت بعضهم من المدينة، فأخذوا يهددونني ويتآمرون على قتلي. واشتد بي اليأس، فذهبت إلى معبد الإله، وتوسلت أمام المذبح أن يحررني من السلطة.
المؤرخ :
نعم، نعم. أدركت صعوبة أن يكون الإنسان طيبا في عالم شرير.
أدركت بأن الحاكم مهما فعل يظل كريها مكروها ... فالأغنياء، كرهوك؛ لأنك وقفت بجانب الشعب وانحدرت من صلبه. والشعب كرهك؛ لأنك كنت فقيرا مثله، وجلست على كرسي الحكم.
وردد الجميع أغنية تسخر منك:
اطحني أيتها الطاحونة اطحني؛
فقد كان «بيتاكوس» نفسه يطحن،
بيتاكوس الملك في ميتيلينه العظيمة.
طاليس :
سمعت الأغنية بنفسي، لما زرت جزيرة «لسبوس»، وتوقفت بقرية «أريسوس».
بيتاكوس :
هل سمعت كذلك أناشيد الحقد والهجاء التي أطلقها الشاعر «ألكايوس» وعصابته؟ أنا لم أكرهه ولم أكره شعره. تمنيت أن يضع يده في يدي، ويساعدني مع غيره من النبلاء على النهوض بالمدينة، لكنهم أنكروا عدلي وشجاعتي التي اعترف بها الإغريق في كل مكان. لم يغتفروا لي أبدا أنني تزوجت امرأة من طبقتهم، هي ابنة «دراكون» ومن نسل الأتريديين. وأخذ الشاعر الحقود يعيرني بقدمي المفلطحة التي كنت أجرها بصعوبة ، ويصفني بالدعي والمتسخ والمبطون، بل أشاع أنني أوفر ضوء المصباح وسماني ملتهم الظلمات.
المؤرخ :
ولهذا نفيته عن المدينة، ولم ينقطع هجاؤه ولا دعواته للآلهة الأقوياء بأن يخلصوه من محنة المنفى ومرارته، ويطلقوا ربات القصاص عليك، ويعينوه وعصبته على قتلك بالسيف، وتحرير الشعب من آلامه ومخاوفه، زاعمين أنك حنثت بالقسم الذي قطعته على نفسك، وابتلعت المدينة في جوفك.
بيتاكوس :
ومع أني عفوت عنهم بعد القبض عليهم ... فلم يرحمني التاريخ من وصمة الطغيان.
المؤرخ :
ولا رحمك المؤرخون ... فاللقب ارتبط باسمك في كل المأثورات. أما «بياس» القاضي من آسيا الصغرى؛ فقد سخا عليه الزمن بلقب «الحكيم».
بياس :
معلم الناس أشرار، هذا ما قلته. لما حاصر «ألياتيس» ملك الليديين مدينتنا «بريينه»، أصدرت الأمر بأن يعلف بغلان إلى حد التخمة، ويساقا إلى معسكر الأعداء. وفزع الملك حين رآهما، وعرف أن لدينا من مخزون الغلة ما يكفي حتى الحيوانات؛ ولهذا بعث إلينا رسولا يطلب السلم والسلام.
المؤرخ :
وكيف لفظت الأنفاس؟
بياس :
اسمع يا ولدي. لما شخت وطعنت بي السن استدعيت للشهادة أمام المحكمة. وتكلمت وأبرأت المظلوم من التهمة. وانطلق محامي الخصم، وأخذ يدافع عنه فسئمت، وأملت الرأس على حجر حفيدي حتى نمت ... هل بلغك يا ولدي ما فعلوه بالمظلوم؟
المؤرخ :
برأه القضاة من التهمة، ثم وجدوك ميتا على حجر حفيدك.
بياس :
حمدا للآلهة؛ فقد صدق كذلك ما قلته: «إن أردت أن تقيم في مدينة؛ فكن طيبا مع جميع المواطنين.»
6
المؤرخ :
كلمة بليغة من رجل خلدته البلاغة ... والاسم الرابع هو «طاليس الملطي».
طاليس :
أول من نقى الحكمة من سحب الأسطورة وضباب الغيب، أول من سأل سؤال العقل عن المبدأ والأصل وقال: ...
المؤرخ : «أصل جميع الأشياء هو الماء، بالآلهة امتلأت كل الأشياء.»
طاليس :
وكذلك قلت: «اعرف نفسك.»
المؤرخ :
أأنت القائل، أم نقشت قبلك فوق جدار المعبد في «دلف»؟ ما أعمقها كلمة! لكن تتنازعها الأسماء.
بيرياندر :
أي جحود هذا؟ كيف نسيتم اسمي؟
الحكماء :
مهلا يا «برياندر»! هل ينسى الطاغية القاسي من «كورنثة»؟ من بلغ الذروة في القسوة؛ ولهذا احتاج إلى الحرس الخاص؟
المؤرخ :
وكان قوامه ثلاثمائة من حملة الدروع والحراب.
بيرياندر :
أتذكرون صرامتي وتنسون عدلي؟ لقد حرمت على المواطنين أن يكون لهم عبيد. نهيتهم عن تبديد الوقت في اللهو والفراغ، وأوجدت لكل منهم عملا. أعلنت الحرب على الترف وعاقبت المتسكعين في الأسواق. لم أثقل على الناس بالضرائب، واكتفيت بما نحصله من السوق والميناء. وزعت أراضي النبلاء على الفقراء. لم أتخط حدود العدل، ولم أتعد على إنسان، وكرهت الشر وألقيت القوادات بقاع البحر! أنسيتم كيف صالحت بين أهل «ميتيلينه» (تحت قيادة بيتاكوس)، وأهل «أثينا» (تحت زعامة فرينون)، عندما تصارعا على ملكية «سيبايون»، ففصلت بينهم بالحق، واحتفظ كل منهم بما كان يملكه؟ لقد ازدهرت في عهدي التجارة والحضارة. يكفي أن الشاعر «أريون» كان صديقي!
المؤرخ : «أريون الميثميني» من أهالي «لسبوس»؟ من تمت في عهدك معجزته؟ أشجى الأصوات غناء فوق القيثار، وأول من أنشد شعر «الديثيرامب» وسماه، وقدم جوقته فوق المسرح في «كورنثة»؟ لا لن ينساك التاريخ ولن ينساه. لن ينسي معجزته التي رواها علينا أبو التاريخ إذ استقل مركبا كان عليها قراصنة ولصوص، تآمروا عليه عندما ظنوه يخفي الكنوز، مع أنه لم يكن يملك إلا قيثاره! وانطلق يغني؛ عل غناء الشاعر يسكت فيهم نزعات الشر. جاء الدلفين صديق الإنسان على صوت غنائه، وسرعان ما ألقى الشاعر بنفسه على ظهره، فحمله إلى البر، ورسا به على رأس تانياروس.
المؤرخ :
لا لم ينس التاريخ ... وكذلك يذكر قولك: «كل شيء يرجع إلى المران.» لكن سؤالا يحضرني الآن.
خيلون :
قبل سؤالك، هل يمكن أن تهمل اسمي؟ أم تهمل تحذيري: «إن ضمنت غيرك حلت بك المصائب»؟ أو لم يبن أهالي أسبرطة لي المعبد في الطريق من المغزل إلى أبواب المدينة؟
المؤرخ :
وهناك قدسوك ورفعوا ذكر البطل الخالد ... لكن أرجع لسؤالي: لم آثرتم هذا الكلم الموجز؟
7
الحكماء :
من يستصغر شأن الكلمة يقتصد في استعمالها. كانت أيامنا توجب العمل وحسم القرار؛ ولهذا بقيت كلماتنا القليلة قواعد لهداية الحياة، تحذيرات من الوقوع في الأوهام الساذجة، والتسرع في الثقة بالناس ، نصائح باللجوء إلى التحفظ والحرص والاعتدال والتزام الحد.
المؤرخ :
لكن بالغتم في الإيجاز. يكفي أن يروي الشاعر «ألكايوس» هذه الكلمة التي يقولها على لسان «أريستوداموس» الذي ضم إليكم في العصور المتأخرة: «الرجل - المال»،
8
وأن يضيف الشاعر «يندار» وكأنه يشرحها: قال هذا عندما اختفى أصدقاؤه مع اختفاء أملاكه ... يكفي أيضا أن تقرأ كلمات أخرى توحي بتشكككم في الإنسان، ورؤيتكم للوجه الشائه خلف قناع البهتان: «لا تتطرف في شيء»، «صعب على المرء أن يكون طيبا»، «الحد هو الأفضل»، «أغلب الناس أشرار».
الحكماء :
هل آمنت بما قلناه؟ هل صدقت الحكماء؟
المؤرخ :
بل صدقت الأيام الصعبة والأرزاء. مع ذلك، فالحكمة أوسع من هذا.
الحكماء :
لم تكن الحكمة في أيام المحنة شيئا يختص به الشعراء أو الحكماء. كانت ملك الشعب العامل والفقراء. فالنجار البارع يبني سقفا يصمد للعاصفة، فيصبح أحد الحكماء ... وكذلك شأن الحوذي، أو الخباز، أو الملاح، أو الشاعر والفنان ... هل ما زلت تسيء الظن، توازن بين الآراء؟
المؤرخ :
الحكمة والحيرة صنوان.
الحكماء :
فانظر في الأوراق وراجع. وابدأ قصتنا بالقول المحكم والكلم الرائع. قد يقطع ذلك شكك، ويزيل الحيرة.
المؤرخ :
أو ينفع جيلا قد بيعت فيه الكلمة بفتات زائل، والحكمة صرعت بسهام الخسة والغدر القاتل.
الحكماء :
ولهذا تبقى الحكمة ...
المؤرخ :
في جوف الكتب المنسية.
الحكماء :
أو أعماق القلب ... ابدأ يا ولدي ... أسمع جيلا يفتقر لحب الحكمة.
المؤرخ :
أو يفتقر إلى الحب.
الفصل الثاني
المؤرخ :
آه! ... تتضارب كل الأقوال وتتناقض كل الآراء. الأسماء مختلف عليها من كاتب إلى آخر، والقول الواحد قد ينسب إلى أكثر من واحد.
طاليس :
اعرف نفسك ... هذا ما قلت.
المؤرخ :
بل هذا ما تتصوره أنت وبعض الكتاب. هل تعلم أن «تيوفراسط» يرجح أن يكون مثلا شعبيا من قديم الزمان، وأن بعض المؤرخين يرجعه إلى زميلك «خيلون»، والبعض الآخر يأتي به على لسان خصي مغمور، كان من حراس قدس الأقداس في معبد «دلف»؟ بل إن «أرسطو» في محاورته عن الفلسفة ينسبها إلى عرافة هذا المعبد،
1
وكل هذا يؤكد أنها كانت قد نقشت قبلك، وقبل «خيلون الأسبرطي» على معبد «دلف»، قبل أن يدعيها كلاكما لنفسه.
خيلون :
أنا لم أدع شيئا ... بل قدمت النذر ووفيت العهد. فبعد أن وصلت إلى «دلف»، وضحيت وأحرقت البخور، أمرت بأن تحفر هذه الحكم على عمود المعبد: «اعرف نفسك»، «لا تتطرف في شيء»، «سبب المصائب أن تضمن غيرك».
طاليس :
حتى هذه الحكم تقال على لسان غيرك وغيري.
المؤرخ :
فلنقرأ ما اتفق عليه الإجماع، في أقدم قائمة بالأسماء والأقوال.
طاليس :
قل، وسيهتف كل منا باسمه!
المؤرخ :
اعرف نفسك!
طاليس :
طاليس!
المؤرخ :
لا تتطرف في شيء!
صولون :
صولون!
المؤرخ :
أن تضمن غيرك، فتوقع كل مصيبة!
خيلون :
خيلون!
المؤرخ :
اعرف فضل اللحظة.
بيتاكوس :
بيتاكوس. والأفضل من هذا: «اللحظة إن واتتك؛ فلا تتركها تفلت منك!»
المؤرخ :
معظم الناس أشرار.
بياس :
بياس. عن تجربة، وبحق «زيوس»، ما قلت!
المؤرخ :
كل شيء يرجع للمران.
بيرياندر :
برياندر. عن تجربة أيضا، والآلهة شهود!
المؤرخ :
تبقى حكمة كل الحكمة، قائلها المجهول يلخص فيها.
كليوبولوس :
كليوبولوس ... هذا هو «كليوبوليس»! كيف تجاهل هذا الزمن الجاحد ابن «أويجاروس»، من «لندوس» فوق جزيرة «رودوس»؟ كيف تناسى من كتب النقش على قبر «ميداس» الملك الأسطوري؟!
المؤرخ :
ميداس؟ من أعطاه «ديونيزيوس» أن يتحول ما يلمسه ذهبا؟
صولون :
حتى المطعم والمشرب. مسكين يا «ميداس»!
كليوبوليس :
كانت فوق القبر المشهور فتاة أخذت شكل الهولى؛ ولهذا قلت: فتاة من البرونز أنا، وأرقد على قبر «ميداس»، ما دام الماء يسيل، والشجر يخضر، والقمر يطلع ويضيء، والشمس تنير الكون، ما دامت الأنهار تتدفق، وموج البحر يوشوش للشاطئ، فسأبقى في هذا الموضع، فوق التل المرتفع على المنطقة المنكوبة، أعلن للعابر ولكل مسافر: هاهنا يرقد «ميداس» تحت الثرى
المؤرخ :
لم ينس التاريخ كذاك أشعارك، لم تتسرب ألغازك من كفيه.
صولون :
لكن تبقى حكمته أخلد ما قال.
كليوبوليس :
قلت من الحكم كثيرا ... أية واحدة تقصد؟
المؤرخ : «الحد هو الأفضل.»
الحكماء :
هي حكمتنا، كنز العقل الإغريقي وآية وجدانه، كلمته للعالم أجمع.
المؤرخ :
ولهذا ليس عجيبا أن يلتقط الحكماء الكلمة، من كل الأجناس وكل الأديان يقول العقلاء فلا يسمع قول: لا تتطرف! لا تشتط! الزم حدك ... واعرف أنك إنسان.
الحكماء :
إنسان فان، لست إلها، فتذكر هذا واترك سيف الطغيان يسقط من يدك، فلست سوى بشر فان!
المؤرخ :
حقا! هذا شيء أكدتموه أيها الحكماء وأجمعتم عليه، وعندما اجتمعتم كما يقول القدماء.
الحكماء :
اجتمعنا؟ أجل أجل، عند الملك «كرويزوس».
المؤرخ :
أو قارون. أغنى ملك في عصره.
الحكماء :
وتكلم صولون فقال:
صولون :
أنا؟ للملك كرويزوس. ذاكرتي ضعفت يا ولدي.
المؤرخ :
سأذكرك، فأنصت.
الفصل الثالث
المؤرخ :
كانت أعينكم تلتفت إلى الشرق الساحر باستمرار، الشرق الغامض ذي القوة والترف الباذخ والجبروت.
الحكماء :
لكننا ذهبنا إليه لنتعلم أيضا.
المؤرخ :
وتعلمتم الكثير. وإن كنا نفتقد الأدلة والأسانيد.
طاليس :
أنا مثلا سافرت إلى مصر.
المؤرخ :
وتعلمت الرياضة، وجلبت الهندسة إلى الإغريق ... أما أنت ...
صولون :
أنا طوفت بآسيا لأشاهد هذا العالم. وحديثي مع كاهن مصر الشيخ حديث مشهور ... كم يعجبني حين أفكر فيه الآن!
الحكماء :
أنا ما زلنا أطفالا؟ ... رغم مرور قرون وقرون؟!
صولون :
ولماذا الغضب، وقد صدق الشيخ؟
الحكماء :
أم سخر كعادة أبناء النيل؟
صولون :
بل صدق وحق «زيوس». وامتدح الإغريق مديحا أتمنى لو كانوا أهلا له. أطفال نحن وفي كل منا طفل.
الحكماء :
وتريد من الحكماء السبعة أن يصدقوه؟ أنت يا صولون؟
صولون :
من قال بأن الحكمة تعني العجز أو الشيخوخة؟ من ينكر حكمة الطفولة وطفولة الحكمة؟ أليست حكمتنا في بساطتنا، وبساطتنا هي التي جعلتنا نصمد لتحدي الملك الجبار، ونواجه قوته وغناه الفاحش بالبراعة والقناعة والحكمة؟
المؤرخ :
معذرة يا صولون (ولقد أدهشته بالبراءة الحكيمة أو بالحكمة البريئة وتعجب مما قلت وغضب وثار) نريد الآن أن نعرف ماذا قلت لهذا الملك وماذا قال؟ كيف التقيت به؟ وأين كان اللقاء؟
صولون :
لم أره وحدي! طلب لقاء الحكماء السبعة.
المؤرخ :
وذهبتم لزيارته، وذهلتم لما رأت العين كنوزه.
الحكماء :
ورثينا له.
المؤرخ :
لأغنى ملك في الأرض؟
الحكماء :
ورفضنا أن يوصف هذا الملك بأسعد إنسان. فليتكلم عنا صولون.
المؤرخ :
أرجوك ... تكلم.
صولون :
لما فرغ «كرويزوس» من إخضاع آسيا الصغرى بأكملها، وضمها إلى مملكة الليديين، زحفت حشود الإغريق الحكماء إلى عاصمة ملكه المزدهرة «سارديس»، وزحفت كذلك معهم. كنت قد ذهبت إلى مصر التي يحكمها «أمازيس»، وشاهدت العالم وتجولت فيه عشر سنوات، واستقبلني الملك في قصره مع بقية إخواني فأحسن الاستقبال. وفي اليوم الثالث لزيارتنا أمر الملك خدمه وعبيده أن يأخذونا إلى دهاليزه ومخازنه؛ لنتفرج على التحف والكنوز التي أودعها فيها، ثم رجع بنا الخدم والعبيد إلى قاعة العرش، حيث كان الملك يجلس في أبهته محاطا بأعوانه وقواده وأعيان مملكته. لم يكن يراني حتى هتف صائحا: «أيها الضيف من أثينا، وأنتم أيها الضيوف، وصلتنا عنكم وعن حكمتكم الأخبار. وسمعنا عنك يا صولون، وعن أسفارك التي قمت بها؛ حبا في الحكمة. والآن تحركني الرغبة في أن أسالك: هل رأيت في أسفارك أحدا يمكن أن يوصف بأنه أسعد إنسان؟»
لم يخف علي أن الملك وجه إلي هذا السؤال، وفي نيته أن أقول أنت أيها الملك الغني العظيم أسعد إنسان. لكني لم أتملقه، بل صارحته بحقيقة رأيي: «أيها الملك، إنه تيلوس الأثيني.» تعجب الملك من قولي، وأسرع بالسؤال: «وكيف حكمت بأن تيلوس هذا هو أسعد إنسان؟» قلت: «عدة أسباب يا مولاي. أولها أن كان لتيلوس هذا عدة أبناء تحلوا بالذكاء والصلاح والجمال، ولقد سعدت عيناه برؤية أبنائهم في حياته. والثاني أن الرجل بعد أن تقدم به العمر وعاش أطيب حياة ممكنة مات كذلك في النهاية أروع ميتة ممكنة؛ فقد شارك مواطنيه الأثينيين في الحرب التي اشتبكوا فيها مع جيرانهم في إيلويزيس، وطارد الأعداء الذين فروا مهزومين، ومات أثناء هذه المطاردة أجمل ميتة. ودفنه الأثينيون، حيث سقط صريعا، على نفقة الدولة، وكرموه وأقاموا له طقوس التوديع والإجلال.»
استمع الملك إلى قصة تيلوس، وهو يعض على شفتيه وأسنانه. سكت قليلا، ثم غالب غيظه وسأل: «ومن هو أسعد إنسان رأيته بعد تيلوس؟» قلت: «هما اثنان أيها الملك العظيم.» قال في لهفة: «احك علي قصتهما يا صولون.» قلت: هما كليوبيس وبيتون. كانا من حيث المولد من أرجوس ، ولهذا وجدا ما يكفيهما للحياة. وكان كلاهما حسن الصورة قوي الجسد، وحصلا على جوائز كثيرة في المسابقات الرياضية. تسألني يا مولاي أن أحكي قصتهما؟ إنهما سيغنيانني عن هذا، ويرويان القصة بنفسهما.
كليوييس وبيتون : «كان أهالي أرجوس يحتفلون بعيد هيرا، ربة السماء وسيدة الآلهة، وشقيقة زيوس وزوجته. وكان علينا أن نذهب بأمنا المريضة إلى معبد الآلهة؛ للتبرك وزيارة قدس الأقداس. لكن الثيران التي تجر العربة التي تستقلها لم تكن قد رجعت بعد من الحفل. وضاق الوقت عن الانتظار، فوضعنا رقابنا في النير، وجررنا العربة التي حملتها إلى الاحتفال مسافة خمسة وأربعين فرسخا
1
حتى بلغنا المعبد. ورآنا الناس على هذه الحال فهللوا. لكن الأنفاس تخلت عنا، فختمنا حياتنا الفانية أجمل ختام. وأثبت الإله بموتنا أن من الأفضل للإنسان أن يموت على أن يحيا دون وفاء أو إحسان. فقد التف أهالي أرجوس حولنا، وأثنوا على قوتنا وشبابنا، وراحوا يحيون أمنا العجوز ويهنئونها بابنيها. أما الأم التي أفعم فؤادها الفرح؛ فقد وقفت أمام تمثال الآلهة، وأخذت تبتهل إليها أن ولديها أفضل ما يمكن أن يلقاه الإنسان. وبعد أن أدت الصلاة تقدمنا نحن، وضحينا للربة وأكلنا مع الآكلين، ثم أرحنا أجسادنا المنهكة على أرض المعبد، ولم نقم من رقدتنا أبدا. وأقام لنا الأرجيون تمثالين، نصبوهما بعد ذلك في معبد دلفي ليضمنا لنا الخلود.»
استمع الملك إلي في هدوء ثم قال:
كرويزوس :
أيها الضيف القادم من أثينا، أهكذا تبدو سعادتي في نظرك هباء، ولا أستحق أن تسوي بيني وبين عامة الناس؟ عرفت مقصده فأجبت في خشوع: مولاي الملك كرويزوس، تسألني عن حياة الإنسان ومصيره؟ وأنا لا أعلم إلا أن أحكام الإلهة غامضة، وأن مقاديرهم مظلمة الأسرار. هب أن الإنسان يعيش سبعين سنة، وهي الحد الذي أضعه لعمر البشر على الأرض، فكم عليه أن يرى في حياته مما لم يكن يريد رؤيته، وكم يتحمل من آلام ويقاسي! وإذا أكمل السبعين، فقد عاش خمسة وعشرين ألف يوم ومائتين، هذا دون حساب للشهر الزائد. فإذا أضفت شهرا لكل سنتين ، حتى تتواءم فصول السنة مع بعضها، فلقد قدرت على مدى السبعين سنة خمسة وثلاثين شهرا زائدا، ومن الأيام على قدر السنوات السبعين كانت ستة وعشرين ألف ومائتين وخمسين يوما، ليس فيها يوم واحد يشبه سواه. هكذا ترى يا كرويزوس أن حياة الإنسان مصادفة بحتة، وها أنت ذا ملك غني واسع الثراء، تتحكم في بشر لا يحصيهم عد. لكن سؤالك إن كنت سعيدا لا أملك عنه الآن جوابا، لا أملك هذا حتى أسمع أنك أنهيت حياتك خير نهاية. فليس الغني الفاحش الغنى بأسعد ممن لا يجد سوى قوت يومه، إلا أن يواتيه الحظ فينتهي أجله وهو متمتع بأملاكه وجميع خيراته. ما أكثر الأغنياء الأشقياء، وما أكثر الراضين بنصيبهم القليل! فالغني الذي يشعر رغم غناه أنه تعس وشقي يتقدم خطوتين على المغتبط بحظه الطيب، أما هذا فيتقدم على الغني خطوات وخطوات. والأول يمكنه أن يحقق الرغبة التي تعتمل في نفسه، وتحمل الأذى الذي يصيبه، أما الثاني فلا يسعه أن يطمع فيما يطمع فيه الأول أو يتحمل ما يتحمل، فقدره الطيب قد أغناه عن الطمع ووقاه الأذى والضرر. أضف إلى هذا أنه لا يشكو ضعفا ولا علة ولا ألما، وأن الحظ باركه بالبنين وجمله بالجمال. فإذا حسنت خاتمته، وأنهى حياته نهاية جميلة، فهو الذي تبحث عنه أيها الملك، ويستحق أن يوصف بأنه سعيد، وعلينا أن نحترس فلا نقول عنه أثناء حياته وقبل موته إنه سعيد. بل يجب أن نكتفي بقولنا إنه طيب الحظ. من المستحيل على الإنسان الواحد أن يملك كل شيء، ومن المتعذر على أي بلد أن يكفي نفسه من كل شيء؛ فلديه شيء، وعليه أن يحصل من بلد آخر على شيء. وكلما زاد نصيبه مما لديه كان هذا أفضل. ويصدق الأمر نفسه على الفرد الواحد، فهو لا يكفي نفسه بنفسه، وهو يملك شيئا ويفتقر إلى شيء آخر. أما من كان لديه ما يكفيه حتى آخر عمره، ثم ختم حياته ختاما حسنا؛ فذلك، يا مولاي، هو الذي يستحق أن يوصف بأنه إنسان سعيد. يجب علينا أن ننظر إلى نهاية كل شيء، فما أكثر الذين منحهم الإله شيئا من السعادة ثم غير أحوالهم رأسا على عقب ... هكذا ختمت حديثي للملك.
المؤرخ :
ولم يعجبه كلامك، ولا رضي عنك.
صولون :
قاطعني ولم يكترث بوجودي ولا ببقائي أو رحيلي. اقتنع بأني أحمق، وأن الأحمق من يتخلى عما بين يديه، وينظر في نهاية كل شيء.
2
المؤرخ :
وليته نظر في نهايته هو!
الحكماء :
بل ليته حاول أن يفكر فيما قاله عزيزنا صولون. لقد تجهم وجهه، واربدت ملامحه بسحابة سوداء كثيفة أطبقت عليها، وحولته إلى وحش كاسر. نظر إلى زميلنا «بياس» والشرر يتقد من عينيه الغاضبتين وسأله:
كرويزوس :
هل هذا رأيك أيضا؟ أتعتقد أن صاحبك قد أجاب بالحق؟
بياس :
بالحق وبالعدل أجاب يا مولاي. لقد أراد أن يرى الكنوز التي في نفسك، فلم يجد إلا الكنوز التي في يدك.
كرويزوس :
أترد على مثله بالألغاز؟ أريد منك جوابا قاطعا، ماذا يقصد بكلامه؟
بياس :
أن البشر تسعدهم كنوز النفس، لا كنوز الذهب والفضة.
كرويزوس :
إذا كنتم لا تقدرون السعادة ولا الثروة الحقيقية بما أملكه من كنوز، ألا ترون أن عندي من الأصدقاء والأنصار أضعاف ما عند أي ملك أو حاكم آخر؟ هذا واحد منهم جاء إلي من أثينا. أيها العبيد! أحضروا ألكميون.
الحكماء :
وفجأة فتحت الأبواب، وظهر إنسان عجيب وسط عدد من الحراس والعبيد. كان يبدو تائه العينين زائغ البصر. وبدا عليه الاضطراب، وكأنه قد عجز عن السير خطوة واحدة. فقد انتفخ ثوبه الواسع بصورة مذهلة، كأنه بطن امرأة أوشكت على الوضع. وعندما دفعه الحراس وشدوه قريبا من الملك، وقعت أبصارنا على شعره الذي حشاه بسبائك الذهب، بل لقد تعجبنا من انتفاخ أوداجه، وأدركنا أنه حشا فمه بقطع ذهبية صغيرة سقطت إحداها على الأرض، عندما حاول أن يسعل. وهلل الملك وصاح، وهو يتلوى من الضحك:
كرويزوس :
قل لهم يا ألكميون! ألست أسعد إنسان؟ ألم تصبح أنت أيضا أسعد إنسان بعد أن سمحت لك بزيارة كنوزي، وأخذ ما تستطيع أخذه منها؟ ألا يكفي هذا الذهب الذي حملته في ثيابك، ودفنته في طيات جسدك، وحشوت به فمك أن يجعلك سعيدا؟ أم أن المفلسين والجوعى أسعد منك وأحكم؟ ... حاول ألكميون أن يضحك، فسقطت قطع الذهب من فمه، ورنت على الأرض، وازداد ضحك الملك فقلنا له:
الحكماء :
العقل هو أعظم الكنوز، والسعيد من يبقى سعيدا إلى النهاية.
المؤرخ :
نعم نعم! ليت الملك فكر عندئذ في نهايته!
الحكماء :
تكلم. ماذا حدث له؟
المؤرخ :
تمضي الأيام، فيغزو قورش الثاني ملك الفرس مدينة سارديس عاصمة المملكة الليدية، ويأسر كرويزوس بعد أن حكم أربعة عشر عاما، وحوصرت عاصمة ملكه أربعة عشر يوما.
3
ويحضره الجنود مقيدا في الأغلال، فيمثل بين يدي الملك الذي أمر بتجهيز المحرقة، ووضع الأسير عليها مع سبعة من شباب الليديين. ربما قصد قورش من وراء ذلك أن يقدمهم قربانا لإلهه، أو يفي بوعد قطعه على نفسه. وربما بلغه أن كرويزوس كان ورعا تقيا، فأراد بإحراقه حيا أن يختبر قدرة إلهه على إنقاذه. مهما يكن الأمر فقد أصدر قورش أمره، فلما أن وقف الملك المسكين على المحرقة خطر على باله وهو في محنته ما قاله له صولون: ما من حي يمكن أن يوصف بأنه سعيد. وانكشفت له الحجب فتأوه بعد صمت طويل، وهتف ثلاث مرات: صولون! صولون! صولون! سمع قورش صيحته، فطلب من المترجمين أن يسألوه عن الاسم الذي استغاث به. وتقدم منه المترجمون وسألوه، فلاذ بالصمت طويلا قبل أن يقول: «هو إنسان كان حديثه أقيم من كل ما ملك جميع الطغاة من ثروات عظيمة.» بدا لهم القول لغزا، فألحوا عليه بالسؤال عما يقصد. وبدأ الملك المنكوب يروي عليهم كيف حضر إليه صولون الأثيني.
كرويزوس :
ها أنت قد رأيت كنوزي. ما رأيك يا صولون؟
صولون :
رأيي؟ في أي شيء يا مولاي؟
كروزوس :
هل آمنت بأني أسعد إنسان؟
صولون :
ربما تكون سعيدا، والحظ الطيب يرعاك. لكنك لست بأسعد إنسان.
كرويزوس :
ومن في رأيك هو أسعد إنسان؟
صولون :
هو من بقي سعيدا حتى آخر عمره. قبل حلول الأجل بلحظات ، يمكن أن ينقلب الحال ويصبح أشقى الناس.
كرويزوس :
غضبت عليه وصحت: يا لك من إغريقي فظ! أتضن علي بالسعادة بعد كل ما رأيت من كنوزي وأملاكي؟!
صولون :
ستكون سعيدا لو حضرك الموت، وهي ملك يمينك.
كرويزوس :
وها أنا ذا أذكره الآن وأذكر ما قال. أتذكر حكايته عن الأب الذي سعد برؤية أبنائه والموت في سبيل وطنه، وعن الولدين اللذين جرا العربة التي حملت أمهما إلى المعبد بدلا من الثيران، ثم ماتا راضيين بعد أن أدت الصلاة. إن كلمات هذا الأثيني لم تصدق علي وحدي. أعرف الآن أنها تصدق على كل إنسان، خصوصا من زينت له الأوهام أنه أسعد السعداء.
المؤرخ :
استمع قورش إلى حديث كرويزوس. كان الملك الأسير يقف صلبا متجلدا فوق المحرقة، والنيران تئز حواليه وتطلق شررها عليه. وتفكر قورش فيما قاله المترجمون، وحدثته نفسه قائلة: حقا، إن كلمات الملك المنكوب لا تنطبق عليه وحده، ها أنا ذا إنسان مثله، أحسب نفسي منتصرا أو سعيدا، أسلم للنار إنسانا لم يكن أقل مني سعادة. من يدري؟ هل تقتص الأقدار مني؟ من يضمن ألا يحدث لي ما يحدث له؟ آه! من يضمن شيئا في هذا العالم؟ لا شيء أكيد فيه، لا أمان للحياة! ونظر إلى الملك الذي التفت حوله النيران، فأمر بأن تطفأ على الفور، وينزل هو ومن معه من فوق المحرقة.
وحاول الجنود أن ينفذوا أمر الملك، لكنهم عجزوا عن السيطرة على النار. ولاحظ كرويزوس أن الملك غير رأيه، وأن الخدم والحشم يكافحون النار ولا يستطيعون إطفاءها، فاستغاث بأبوللو وهو يصرخ: إن كنت تذكر تضحياتي وهداياي إليك، إن كنت قد استطعت أن أرضيك، فاذكرني في محنتي وخفف عني الويل، الطف بي يا رب النور الساطع واكشف عني ضنك الليل. وبكى كرويزوس كما لم يبك في حياته، وابتهل وتمتم بالدعوات وسالت أنهار دموعه، ورفع بصره إلى السماء الصافية فوجدها تتلبد فجأة بالسحب المظلمة.وخطف البصر بريق البرق، وانهمر المطر سيولا أطفأت النار. كان قورش ورجاله يتابعون المشهد وهم يحبسون الأنفاس، وعرف الملك الجبار أن إهاب الملك المنكوب يشف عن إنسان طيب. وصاح بالرجال أن يعجلوا بإنزاله من فوق المحرقة. وقربه منه، وسأله وهو يشد على يده: كرويزوس، من حرضك على محاربة بلادي ومعاداتي، بدلا من أن تكون صاحبي وصديقي؟ قال كرويزوس: أيها الملك ... فعلت هذا لما حالفك الحظ وخاصمني، والذنب في هذا هو ذنب إله الإغريق الذي دفعني إلى الحرب، وليس يفضل الحرب على السلام إلا الأخرق والأحمق؛ ففي ظل السلام يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب، فيواري الآباء أبناءهم التراب. لكن الإلهة اختارت، شاءت هذا ومشيئتها كانت. هكذا قال ومد قورش يده ففك قيوده، وأجلسه بجانبه، وأظهر له المودة والهيبة والكرامة. وتطلع إليه الملك والحاضرون بإجلال وإعجاب.
الحكماء :
لا تقل إنك ما دمت حيا ... والإنسان لا يأمن ما تأتي به الحياة قبل لحظات من مفارقة الحياة.
الفصل الرابع
المؤرخ :
لم يستجب الطاغية الشرقي لحكمتكم، بل ثار عليكم واتهمكم بالحمق، وربما يكون قد طردكم من قصره ومملكته. وتفرقتم يا حكمائي السبعة، ورجع كل منكم إلى بلده. لكن هل سكت عنكم الطغيان؟ وهل خلت بلادكم من الطغاة والمستبدين؟ تكلم يا صولون!
صولون :
لا تنكأ جرحي يا ولدي.
المؤرخ :
كيف واجهت العاصفة والبركان؟ ماذا فعلت حكمتك أمام الطغيان؟ هل لجأت إلى جدار يحميك، أم نفيت نفسك بنفسك، أم نفاك الطاغية من أثينا؟
صولون :
بيزيستراتوس؟ نعم نعم. لقد انتزع السلطة لنفسه، وأقام حكمه المطلق، لم يقف في وجهه أحد ممن كنت أتوقع أن يقاوم استبداده. أما التشريع الذي وضعته لإصلاح أمور أثينا فلم يمسه، ولكنه تركه يبدو وكأنه قد أضر بها، بدلا من أن ينفعها، ويقر السلام بين أبنائها المتصارعين. وتركت أثينا ورحت أتنقل بين البلاد.
المؤرخ :
تتنقل وحدك؟
صولون :
لم أكن وحدي أبدا؛ فالحكماء دائما معي. ومن لم أستطع زيارته كتبت إليه وتشاورت معه.
1
المؤرخ :
وهل رد عليك أحد؟
صولون :
لم يكتفوا بالرد، بل دعوني للإقامة معهم، أو عرضوا الحضور إلي والإقامة معي. لا لم أكن وحدي أبدا ... كان معي طاليس وبياس وكليوبويس و...
المؤرخ :
نريد أن نسمع ما قلته لهم في رسائلك. فبمن تبدأ؟
صولون :
أبدأ بالكاهن الذي خلص أثينا من لعنة الطاعون.
المؤرخ :
أبيمينيدس؟ الكاهن الكريتي؟
صولون :
نعم. فقد كان أول من كتبت إليه.
المؤرخ :
وبدأت بقولك إن القوانين التي شرعتها للأثينيين لم تستطع أن تساعدهم كثيرا، كما لم يستطع هو نفسه أن يساعدهم برفع اللعنة عنهم. فالشرائع والطقوس لا قيمة لها في ذاتها؛ لأنها تستمد قيمتها من الحاكم الذي يطبقها، فإن صادفت الحاكم السيئ انعدمت فائدتها. ولم تكن القوانين والنظم التي وضعتها لتشذ عن ذلك. بيد أن المسئولين قد أضروا بالصلح العام للمدينة حين تقاعسوا عن الوقوف في وجه بيزيستراتوس الذي استبد بالسلطة.
صولون :
وا أسفاه! لم يصدق أحد نبوءتي. وثق الأثينيون بنفاقه لهم، ولم يثقوا بحقيقتي.
المؤرخ :
وذهبت إلى القاعة التي تجمع فيها القواد، وألقيت بأسلحتك أمام الباب، وقلت:
صولون :
إنني أحكم من أولئك الذين لم يلاحظوا أن بيزيستراتوس قد صمم على أن يكون طاغية، وأشجع من أولئك الذين ترددوا عن مقاومته. خرج القواد وهم يلوحون في وجهي قائلين: إنك أحمق يا صولون. قلت محتجا: يا وطني، أنا صولون، على استعداد لحمايتك بالكلمة والفعل، ومع ذلك فهم يعتبرونني مجنونا. ولهذا سأغادر بلدي، وأنا الخصم الوحيد لبيزيستراتوس. عليهم إن شاءوا أن يجعلوا أنفسهم حرسه الخاص، أما أنا فلن أبقى.
المؤرخ :
وهل فعلوا هذا يا صولون؟
صولون :
لقد استغل دهاءه في التغرير بهم والاستبداد بالسلطة. ابتدأ بتمثيل دور القائد والزعيم، ثم جرح نفسه، وذهب إلى قاعة المحكمة، وهو يصرخ مؤكدا أن خصومه قد اعتدوا عليه، وأن على المجلس أن يعين له أربعمائة حارس شاب. ورفعت صوتي معترضا، ولكنهم لم يستمعوا إلي، بل وافقوا بالإجماع على تعيين الحراس. وكان أن ألغى الديمقراطية، واستعبد الفقراء الذين حررتهم أنا من الديون والسخرة، وضاعت جهودي هباء، فهم الآن عبيد فرد واحد اسمه بيزيستراتوس.
المؤرخ :
ومرت الأيام واستقر حكمه الفردي المطلق، وجاءك رد صديقك الذي حاول أن يعزيك ويحيي الأمل في نفسك.
أبيمنيديس :
صبرا يا صديق ! لو كان بيزيستراتوس قد وجه ضربته للأثينيين، وهم لا يزالون عبيدا، وقبل أن يعرفوا القوانين الصالحة؛ لأمكنه أن يقبض على السلطة، ويحتفظ بها عن طريق استعباد المواطنين. لكنه الآن يحكم في عبيد، فالرجال الذين يحكمهم يتفكرون في تحذيرك يا صولون، وهم خجلون متألمون. إنهم لا يتحملون الطغيان، لأن من المستحيل على من عرف الحرية في ظل أفضل القوانين أن يرضى بالعبودية، أو يحيا حياة العبيد.
المؤرخ :
ويشفق عليك الصديق من مشقة التجوال والترحال فيقول:
أبيمنيديس :
لا تتنقل بين البلاد، تعال إلينا هنا في كريت. ستحيا معنا في أمان، ولن تحتاج إلى الخوف من سيد مطلق. أما إن أصررت على أسفارك؛ فأخشى أن يلقاك أنصاره ويصيبك مكروه.
المؤرخ :
لم تكن هذه هي الدعوة الوحيدة. فلم يكد طاليس يسمع عن عزمك على ترك أثينا، حتى دعاك إلى الحضور إلى ملطية، حيث تعيش وسط أهلك الذين سبقوك إلى تعمير هذه المدينة.
طاليس :
يمكنك أن تعيش هنا مطمئنا بلا خوف. وإذا كان يؤلمك أن يكون الحاكم هنا طاغية - فأنا أعلم مدى كرهك لجميع الطغاة - فسوف يسعدك أن تعيش هنا مع أصدقائك. لقد بلغني أيضا أن بياس قد دعاك للذهاب إلى بريينه، فإن آثرت الاقامة في هذه المدينة فسوف أنتقل إليها.
المؤرخ :
وتنافس الأصدقاء في الوقوف بجانبك.
صولون :
نعم! كان لي أصدقاء عديدون. في كل مكان كنت أشعر أنني في بيتي.
المؤرخ :
وهذا ما كتبه لك كليوبوليس. ثم أضاف قوله:
كليوبوليس :
أعتقد أن ليندوس الديمقراطية ستكون أحب مكان إلى قلب صولون، فالجزيرة تقع على البحر، من سكنها فهو آمن من شر بيزيستراتوس، وسوف يحج إليك الأصدقاء من كل ناحية.
المؤرخ :
وعز على الطاغية أن يشهر به في كل مكان، وأن يقف مكتوف اليدين أمام الخصم الذي خدم مدينته وأجمع الناس على إجلاله، وتسابقت المدن على الترحيب به، ولهذا أسرع بالكتابة إليك، وراح يدافع عن حكمه ويبرر استبداده.
صولون :
ويلح كذلك في عودتي إلى الوطن.
المؤرخ :
فلنقرأ رسالته العجيبة.
بيريستراتوس :
لست أنا الإغريقي الوحيد الذي استبد بالحكم الفردي المطلق. ثم إنه وصل إلي، لأنني أنحدر من نسل كودروس.
2
هكذا أكون قد استرددت ما تعهد به الأثينيون لكودروس وذريته، وإن كانوا مع ذلك قد عادوا فسلبوه إياه. أضف إلى هذا أنني بريء من الذنوب في حق الآلهة والبشر. وكما شرعت للأثينيين قوانينهم، فسوف أترك حياتهم تسير بمقتضاها، وبهذا يحكمون حكما أفضل من الديمقراطية؛ ذلك أنني لن أسمح بأي تعد على الحدود المرعية، كما أنني لا استأثر لنفسي بأي شرف أو تكريم باستثناء ما كان يتمتع به الملوك السابقون، وقد فرضت على كل أثيني أن يسدد العشور عن أرضه، لا لكي آخذها منه، بل لكي تحصلها الخزانة للإنفاق على القرابين العامة وغيرها من أوجه الإنفاق، كما في حالة الحرب.
إنني لا ألومك لأنك كشفت عن خطتي؛ إذ فعلت هذا عن حب للدولة أكثر مما فعلته عن كراهية لي، ثم لأنك لم تكن تعلم أي نوع من الحكم سوف أقيمه. ولو علمته فلربما رضيت به ولم تهاجر. ارجع إذن إلى وطنك وثق بي، حتى بغير أن أقسم لك قسما واضحا بأنه لن يصيب صولون أي مكروه من بيزيستراتوس. واعلم أنني لم أنل أي واحد من أعدائي بأذى. فإن شئت أن تكون أحد أصدقائي، فسوف تكون أولهم في المكانة عندي. فأنا لا أجد فيك خيانة ولا خداعا، وإني لأضمن لك أن تحيا في أثينا أي حياة ترضاها، ولست أحب أن تفقد وطنك بسببي.
المؤرخ :
ثقة بالنفس لم نعهدها في طاغية.
صولون :
ولهذا قابلتها بثقة لا تقل عنها ... ثقة الحكمة في نفسها، مهما كانت عزلاء ومنفية.
المؤرخ :
وكتبت إليه، ولم تخش غضبه.
صولون :
بل وعملت على إشعال وقوده ... أعتقد أنه لن يصيبني منك شر. لقد كنت صديقك قبل أن تنفرد بالسلطة وتصبح طاغية، ولست الآن بأكثر عداء لك من أي أثيني آخر لا يعجبه حكم الطغيان. وسواء أكان الأفضل لهم أن يحكمهم فرد واحد، أم أن يعيشوا في ظل الحكم الديمقراطي، فسوف نترك تقدير ذلك لكل منا حسب علمه . إني لأعترف بأنك أفضل الطغاة جميعا. أما أن أعود إلى أثينا؛ فلن أستحسن ذلك أبدا. لقد منحت المساواة للأثينيين دون تفرقة، وكان في إمكاني أن أصبح طاغية، لكنني أبيت ذلك على نفسي، وسوف يوجه إلي اللوم لو رجعت إلى وطني وقبلت ما تفعله.
المؤرخ :
مبلغ علمي أنك لم ترجع إليه، ولم تقبل ما فعله.
صولون :
وفضلت أن أبقى غريبا أغير بلدا ببلد، وألقى صديقا بعد صديق.
المؤرخ :
ومع ذلك التقيتم في مأدبة الحكماء السبعة.
صولون :
مأدبة واحدة؟ هل أنت بخيل كالتاريخ؟
المؤرخ :
كانت في دلف، أو في قصر كرويزوس.
صولون :
أو أي مكان آخر ... المهم أننا التقينا ... وشربنا ... وغنينا.
المؤرخ :
وتباريتم وتناقشتم.
صولون :
حقا؟ من أكثرنا شربا أو أكثرنا جلدا أو صبرا.
المؤرخ :
بل من أحكمكم يا حكماء.
صولون :
عجبا ... ولمن سيكون الحكم؟
المؤرخ :
لفتي مجهول يبحث عنكم ... ويفتش في كل مكان عن كلمات صدرت منكم ... حتى تهديه الريح إليكم ... ويقدم أعجب شيء عثر عليه الصيادون.
الفصل الخامس
المؤرخ :
في أركاديا، جنة الرعاة والرعويين، كان العجوز باثيكليس يرقد على فراش الموت منذ شهور. واشتد عليه المرض ففتح عينيه بصعوبة، واتكأ على ذراعه، وأسرع إليه الخادم الذي يسهر على راحته وهمس له:
الخادم :
هل تطلب شيئا يا مولاي؟
باثيكليس :
تعرف ما أطلب. ألم يصل منهم أحد؟
الخادم :
لا بد أنهم في الطريق. اصبر قليلا.
باثيكليس :
وهل يصبر علي؟ لقد رأيته الآن في نومي.
الخادم :
من؟ ابنك أمفالكيس؟
باثيكليس :
بل خارون يا غبي. يقف وسط النهر العكر الكسول، ويشير إلي ويمد ذراعيه؛ لكي يحملني على عنقه، ويعبر بي إلى بيت الظلال.
الخادم :
انتظر يا سيدي ... انتظر أنت أيضا يا خارون ... ربما يكون الطارق (يسمع طرق شديد على الباب).
باثيكليس :
افتح ... افتح ... ليته يأتي الآن!
الخادم (وهو يفتح الباب) :
سيدي ... تنتظر واحدا ... وها هم ثلاثة! مرحبا ... مرحبا.
باثيكليس :
أولادي!
المؤرخ :
ويسرع الأولاد الثلاثة بالدخول، ويعانقهم الأب، فيبللون خديه ويبلل خدودهم بدموعه. ويقولون بين الضحك والبكاء:
الولد الأكبر :
تفرقنا في البلاد ثم التقينا، وجمعنا ما استطعنا جمعه من حكم الحكماء السبعة.
الولد الأصغر :
وقدرت «توخيه» إلهة الحظ والنصيب أن نجدك يا أبي.
الأب :
وأنا في آخر أنفاسي ... هيا أسمعوني يا أولادي؛ فخير ما يغمض عليه المرء عينيه وأذنيه هو الحكمة.
الولد الأكبر :
بل حكم لا حصر لها يا أبتي.
الولد الأصغر :
يحفظها الشعب، ويذكرها في كل مكان.
الولد الأوسط :
يتركها الأب لأبنائه ... أنفس كنز يمكن أن يوصي به.
الأب :
عندي كنز آخر أوصي به.
الولد الأكبر :
المزرعة وحق زيوس.
الولد الأصغر :
بل معصرة الزيت.
الأب :
شيء آخر ... هو في مخبئه الآن.
الولد الأكبر :
ومتى تظهره؟
الولد الأصغر :
ولمن توصي به؟
الأب :
لأحكم رجل حاز كنوز الحكمة.
الولد الأكبر :
هل هو أحد منا؟
الولد الأصغر :
ماذا قلت؟ نحن جمعنا حكم الحكماء، ولسنا بالحكماء.
الأب :
فلنسمعها الآن ... ولأحكمهم سيكون الكنز.
الولد الأكبر :
أنا أحمله له.
الولد الأصغر :
مهما بعد مكانه ... سأسافر له.
الولد الأوسط :
وأنا أبذل عمري الباقي بحثا عنه.
الأب :
القاضي يسمع قبل صدور الحكم ... قل يا ولدي!
الولد الأكبر :
هذه هي الحكم التي قالها كليوبوليس من لندوس في جزيرة رودوس: «الحد هو الأفضل - على المرء أن يكرم أباه - كن صحيح الجسد والنفس - استمع كثيرا وتكلم قليلا - انصح مواطنيك خير نصيحة - تحكم في اللذة - لا تلجأ في عملك للعنف - ليكن عدو الشعب عدوك - لا تتشاجر مع زوجك، ولا تبالغ في الغرور والتكبر عليها أمام الآخرين؛ ففي الحالة الأولى يعدك الناس أحمق، وفي الحالة الثانية يعتبرونك مجنونا - لا تضرب العبيد في مجلس الشراب حتى لا يحسبك الناس سكران - تزوج من طبقة تناسب طبقتك؛ لأنك إن تزوجت من طبقة أعلى منك كسبت سادة عليك لا أقارب لك - لا تضحك مع من يهزأ بغيرك؛ لأن من وقع عليه الهزء سيكرهك - إن حالفك الحظ فلا تغتر بنفسك، وإن أصابك الشقاء فلا تكن وضيعا.»
الأب :
ألم تجمع شيئا آخر يا ولدي؟
الولد الأكبر :
بلى يا أبي! هذه هي الحكم التي يتناقلها الناس عن خيلون.
الأب :
ابن «داما جيتوس»، وفخر «لاكيمدايمون » في أسبرطة .
الولد الأكبر :
اعرف نفسك.
الولد الأوسط :
سمعناها عن طاليس وصولون.
الأب :
استمر يا ولدي.
الولد الأكبر : «لا تثرثر مع الشراب حتى لا تندم - أبطئ في الذهاب إلى أعياد أصدقائك، وسارع إليهم إذا حل بهم مكروه - لا تسرف في الإنفاق على حفلات العرس - أثن على الأموات - كرم كبار السن - خذ الخسارة مأخذ الكسب السيئ، لأن الخسارة تؤلم مرة واحدة، أما الكسب السيئ غير المشروع فيؤلم أبدا - لا تضحك على إنسان سيئ الحظ - لا تجعل لسانك يسبق عقلك - تحكم في غضبك - لا تسع إلى مستحيل - لا تسرع في السير على الطريق لتسبق غيرك - لا تحرك يدك من الكلام حتى لا تبدو كالمجنون - أطع القوانين - تسامح مع الظلم، وتوق شر الوقاحة.»
الأب :
ما أحكمه من قائل! ... وأنت يا ولدي.
الولد الأصغر :
أنا جمعت ما يتناقله الناس على ألسنة الطغاة.
الأب :
الطغاة؟ ... ربما يحذروننا من أنفسهم.
الولد الأصغر :
لم يكن كل ما فعلوه شرا ولا ظلما ... فالطاغية في لساننا هو الحاكم الفرد.
الولد الأوسط :
وهل تنتظر الخير من المستبد بحكمه؟ هل تنتظر الحكمة؟
الأب :
فلنسمع يا ولدي قبل الحكم عليهم.
الولد الأصغر :
هذا هو ما أثر عن العادل بيتاكوس.
الأب :
ابن هيراس، حاكم ميتيلينه في جزيرة لسبوس.
الولد الأصغر : «اعرف قيمة اللحظة - لا تتكلم عما تنوي فعله؛ لأنك إن لم توفق فيه جعلت نفسك أضحوكة - لا تفعل ما تأخذه على جارك - سلم ما عهد به إليك - لا تتكلم بالشر عن صديقك، ولا بالخير عن عدوك؛ حتى لا تتناقض مع نفسك - الأرض أمان والبحر لا أمان له - الكسب لا يشبع.»
الأب :
كلمات لا تصدر إلا عن طاغية عادل.
الولد الأوسط :
طاغية عادل؟ ما هذا يا أبي؟
الأب :
هو ما تشهد به حياته وعمله يا ولدي ... استمر يا بني!
الولد الأصغر :
وهذا ما توصلت إليه من حكم بياس.
الأب :
نعم نعم. ابن تويتاميديس، حاكم بريينه.
الولد الأصغر : «معظم الناس أشرار - انظر في المرآة.»
الولد الأوسط :
لا بد أنه نظر في المرآة قبل أن يقول هذا.
الأب :
صبرا يا أمفالكيس.
الولد الأصغر : «انظر في المرآة؛ إن رأيت نفسك جميلا؛ فعليك أن تفعل الجميل، وإن بدوت قبيحا؛ فعليك أن تعوض نقص الطبيعة بجمال الطبع ونبله - اعمل بتأن، أما ما بدأت من عمل؛ فعليك أن تمضي فيه - لا تكن طيب النية ولا سيئ الطوية - قل عن الآلهة إنهم موجودون - استمع كثيرا - تكلم في الوقت المناسب - إذا كنت فقيرا فلا توجه اللوم لغني؛ إلا أن تكون قد نفعت الناس بعمل عظيم - لا تثن على عديم القيمة بسبب ثرائه - اكسب بالإقناع لا بالقوة - ما تقدم من خير فأرجع الفضل فيه للآلهة لا لنفسك.»
الأب :
حقا ... حكم لا تصدر إلا عن طاغية عادل.
الولد الأوسط :
هو أيضا يا أبي؟
الأب :
لا تجادل أباك وهو في آخر أنفاسه ... والطاغية الثالث؟
الولد الأوسط :
من لا يمكن أن يوصف بالعدل ... أليس هو برياندر؟
الولد الأصغر :
هو من قلت ... طاغية كورنثة، برياندر ابن كيبسيلوس.
الأب :
أسرع يا ولدي (يسعل سعالا شديدا).
الولد الأصغر :
اشرب يا أبي ... اشرب.
الأب :
شكرا يا ولدي ... (يشرب)، ماء الحكمة يروي أفضل.
الولد الأصغر :
هكذا قال برياندر: «كل شيء يرجع للمران - السكينة شيء جميل - التهور خطر - الديمقراطية أفضل من الطغيان.»
الولد الأوسط :
أشك في هذا القول، أو لعله قاله وهو على فراش ...
الأب :
ربما يا ولدي ... استمر!
الولد الأصغر : «اللذات فانية، والفضائل خالدة - إن واتاك الحظ فكن معتدلا، وإن أصابك سوء الحظ فكن عاقلا حكيما - كن جديرا بأبويك - التمس الثناء في حياتك، والجزاء بعد موتك - لا تغير معاملتك للأصدقاء، سواء كانوا في النعماء أو الضراء - لا تثرثر بالأسرار - راع في غضبك أن ترتد عنه بسرعة إلى المودة والصداقة - تمسك بالقوانين القديمة، ولكن تمسك كذلك بالأطعمة الطازجة - لا تكتف بمعاقبة الآثم، بل امنع كذلك النية والقصد الدافعين إليه - إذا أصابك سوء الحظ فأخف نفسك حتى لا تشمت فيك أعداءك.»
الأب :
حكم رائعة ... وأنت يا أمفالكيس ... ماذا تحمل يا ولدي؟
الولد الأوسط :
أحمل كنز الحكماء الحق.
الأب :
التهور خطر يا بني ... ألم تسمع الآن ؟
الولد الأوسط :
طاليس وصولون شيء آخر ... والحكم المنسوبة لهما.
الأب :
فلنبدأ بالشاعر والمصلح لنظام أثينا.
الولد الأوسط :
أمفالكيس يقرأ حكم صولون: «لا تبالغ في شيء.»
الولد الأكبر والأصغر :
سمعت؟
الأب (ضاحكا) :
واصل يا صولون.
أمفالكيس : «لا تجلس للقضاء، حتى لا تصبح عدوا للمحكوم عليه - اهرب من اللذة التي تلد الألم - حافظ على مروءتك أكثر مما تحافظ على قسمك - اختم كلماتك بالصمت، واختم صمتك باللحظة المناسبة - لا تكذب، بل قل الحقيقة - ابذل جهدك في أمر جاد - لا تدع أن لديك من الحق أكثر مما لدى أبويك - لا تتسرع في كسب الأصدقاء، أما من لديك منهم فلا تتسرع في التخلص منهم - تعلم كيف تطيع، وسوف تتعلم كيف تحكم - حاسب نفسك قبل أن تحاسب غيرك - لا تنصح مواطنيك بما هو ممتع، بل بما هو خير - تجنب صحبة الأشرار - لا تتكلم عن شيء لم تره - اعلم واسكت - كن رفيقا بأهلك - استنتج ما لا تراه مما تراه.»
الأب :
حكم تليق بالمشرع العظيم ... وماذا يقول طاليس؟
أمفالكيس : «إن ضمنت غيرك حلت بك المصائب - تذكر أصدقاءك في حضورهم وغيابهم - لا تزين مظهرك، بل كن جميلا في عملك - لا تثر عن طريق الظلم - لا تتردد عن مجاملة والديك - ما تقدم من خير لأبويك توقعه من أبنائك في شيخوختك - من الصعب أن يعرف الإنسان نفسه - أمتع شيء أن تحصل على ما تتمنى - الكسل عذاب - عدم التحكم في النفس مضرة - الجهل عبء ثقيل - لا تكن كسولا حتى ولو ملكت المال - أخف الشر الواقع في بيتك - خير لك أن يحسدك الناس من أن يشفقوا عليك - الزم حدك - لا تثق بكل ما تلقاه.»
1
الأب :
حكم صائبة ... حتى لو جاءت متأخرة.
الولد الأصغر :
أنت بخير يا أبي؟
الولد الأكبر :
الحكمة خير دواء.
أمفالكيس :
وخصوصا حكمة طاليس وصولون.
الولد الأكبر :
اترك الحكم لأبينا.
الأب :
لا وقت يا أولادي ... آخر نفس يوشك أن يخرج مني ... استمعوا لي ... استمعوا لي.
الأولاد :
تكلم يا أبي.
الأب :
قبل سنين حصلت على هذا الكنز ... (يخرج شيئا من خزانة بجواره ).
الأولاد :
ما هذا؟ كأس ذهبي.
2
الأب :
نعم يا أولادي ... كنت أتجول على شواطئ مسينا، وأتسلي بمشاهدة الصيادين. اقتربت منهم، وقلت لهم وأنا أضحك: الصيد القادم لي. قالوا: أيا كان الصيد ستدفع ثمنه؟ قلت: أيا كان! ألقوا بالشبكة في البحر مرة ومرتين. لم تخرج سمكة ولا حجرا، وفي المرة الثالثة رأينا شيئا يلمع في الشبكة.
الأولاد :
هذا الكأس الذهبي!
الأب :
نعم نعم ... وانبهر الصيادون وقالوا: لم نتفق على هذا، نحن نصيد السمك ولا نصطاد كئوسا ذهبية. قلت: بل اتفقنا، وكلام الرجال قسم. قالوا وماذا تريد؟ قلت: أريد صيدي. قالوا: ولكنه كأس ذهبية. قلت: ذهبي أو برونزي. لقد اتفقنا ... أخرجوه وانظروا فيه ... قالوا: نخرجه، ولكن هل تدفع ثمنه؟ قلت: أدفع فيه ما أملك. إن آلهة الحظ قدرته لي، فهل تمنعونه عني؟ تفكروا قليلا ونظروا إلي، عرفوا أنني مصمم على الكأس مهما كان الثمن. أخرجوه من الشبكة وقلبوا فيه ثم هتف أحدهم: تعال! اقرأ ما عليه! وتناولت الكأس بين يدي وقرأت. كانت قد نقشت عليه هذه العبارة: لأحكم الحكماء. هتفت: صدقت النبوءة يا إخواني! تعجبوا قائلين: النبوءة؟ قلت: نعم! فقد شاءت الإلهة أن أقدمه هدية لأحكم حكماء اليونان. قالوا: إذن فلن تبيعه؟ قلت: أبيعه؟ مثل هذا الكنز لا يباع. إنه يعطى لأحكم الحكماء، أو يوضع في معبد الإله ليراه كل الأتقياء. قالوا: خذه على بركتهم. خذه واذهب! رفض الصيادون أن يأخذوا مني شيئا.
وانصرفت بالكنز الذي حافظت لكم عليه يا أبنائي، وها قد جاءت اللحظة لأقدمه لكم.
الأولاد :
لنا يا أبي؟
الأب :
نعم ... لتسلموه لأحكم الحكماء.
الأولاد :
ومن يحكم بأنه أحكم الحكماء؟
الأب :
الحكماء أنفسهم يا أبنائي.
الأولاد :
ومن يتحمل مشقة السفر إليهم؟ ... من يقدر أن يقطع أرض اليونان وبحارها وجبالها بحثا عنهم؟
أمفالكيس :
لن نحتاج إلى هذا ... لقد سمعت أنهم ...
الأب :
نعم يا بني ... ماذا سمعت؟
أمفالكيس :
سمعت أنهم مجتمعون في مأدبة الحكماء السبعة.
الأصغر والأكبر :
أين؟
أمفالكيس :
في دلفي، أو عند كرويزوس في ليديا.
الأكبر :
اذهب أنت.
الأصغر :
سافر أنت إليهم .
الأب :
نعم يا ولدي ... سافر أنت بهذا الكنز ... نفذ وصية أبيك ... أما أنت يا ولدي فتأخذ المزرعة ... وأما أنت فلك معصرة الزيت ... خذ يا ولدي.
المؤرخ :
واقترب الابن الأوسط أمفالكيس من أبيه. مد يده إليه ليأخذ الكأس الذهبي من يده. ارتعشت يد الأب وذراعه وصدره وجسده، ثم توقفت الحركة في يده وذراعه وجسده، وسقط على الفراش. صرخ الابن: أبي! أبي! وبكى الولدان الآخران. وبعد أن جففا دموعهما، وباركا أباهما قال أمفالكيس:
أمفالكيس :
وداعا يا أخوي، كرما أبي وأعدا له الطقوس اللائقة. أما أنا فسأذهب.
المؤرخ :
قال الأخوان: ابق معنا يا أخي. ألم تتعب من السفر؟ أتظن أنك ستجدهم بسهولة؟
أمفالكيس :
إنها وصية أبي، ولا بد أن أذهب، لا بد أن أذهب.
الفصل السادس
المؤرخ :
وتجتمعون يا حكمائي السبعة في مأدبة الحكماء.
1
وتلتقون في دلف أو في ليديا بعد لقاء الملك كرويزوس (لا نعلم شيئا بالتحديد عن المكان ولا الزمان) لكن مآدبكم كثرت في العصور المتأخرة، والكتب التي سجلت أحاديثكم وأوردت أغانيكم على الشراب قد ضاع معظمها، ولم يبق منها إلا القليل. ولا بد أن كاتبا مجهولا من القرن الخامس قد ألف الكتاب الشعبي الذي دونت فيه هذه الأغاني والأحاديث. ولا بد أن الحياة السياسية والاجتماعية في هذا الزمن البعيد قد غصت بشيء من الكذب الذي يسمم اليوم حياتنا، حتى أصبح من الصعب تمييز الحق من الباطل والأصالة من الزيف. وها أنتم أولاء تقفون مع الحقيقة كما تقضي الحكمة الخالدة على من ينتسب إليها أو ينطق باسمها.
صولون :
أين الكئوس يا أولاد؟ أين الشراب؟
بيتاكوس :
انتظر يا صولون، لم تأت اللحظة المناسبة.
صولون :
بل جاءت يا طاغية لسبوس العفيف، أنت وحدك الذي لا يعرف قيمتها.
بياس :
على الرغم من حكمتك المعروفة. حقا! من الصعب أن يعرف الإنسان نفسه.
صولون :
هذا قول طاليس. ولكن ليس من الصعب أن نعرفه. طاليس! لماذا تجلس وحدك؟
طاليس :
هكذا عشت دائما، وحيدا مع نفسي.
2
كليوبوليس :
وبعيدا عن السياسة والعمل.
طاليس :
لقد ابتعدت عن السياسية ، لكنني لم أبتعد عن العمل.
خيلون :
أنت وحدك انصرفت للنظر في أمور الطبيعة وتأمل الأفلاك.
كليوبوليس :
وغرقنا نحن جميعا في متاعب الحكم والمحكومين.
طاليس :
اتهموني في ملطية بالفشل في حياتي، وعابوا علي فقري. كنت كلما مررت في الشارع أشار الناس إلي قائلين: انظروا إلى فقره! إنه دليل كاف على عقم الفلسفة! وقررت أن أثبت لهم أن الفلاسفة يمكنهم إذا شاءوا أن يجمعوا الثروة بسهولة، ولكن هذا ليس هو هدفهم.
خيلون :
وماذا يا طاليس؟
طاليس :
دلتني ملاحظاتي الفلكية أن محصول زيت الزيتون سيكون وفيرا. كنا في فصل الشتاء، وكان معي بعض المال، وأجرت معاصر الزيت كلها في ملطية وخيوس بثمن قليل؛ لأن أحدا لم يتقدم بثمن أعلى منه، ولما آن الأوان، اشتد الطلب على المعاصر، فأجرتها بالثمن الذي حددته، وكسبت أموالا طائلة.
3
صولون :
وأثبت أنك حكيم عملي.
طاليس :
بل أني حكيم بعيد عن الحكم؛ إذ سرعان ما رجعت للنظر والتأمل.
4
صولون :
فلنشرب نخبة المال والزيتون، قبل أن ترجع لتأملاتك في السماء!
صولون :
وقبل أن تجلس وحيدا مع نفسك.
صولون :
لن يسمح له هذا الصبي بذلك؟
كليوبوليس :
أي صبي يا صولون؟
صولون :
ألا تعرفونه؟ ... تعال يا بني ... أنت تعال!
الصبي :
نعم يا عمي.
صولون :
غننا يا بني شيئا ... غننا كما كنت تفعل في أثينا.
الصبي :
الأغاني التي تحبها؟
صولون :
نعم يا ولدي ... ولا داعي لاستئذان بيتاكوس.
بيتاكوس :
يستأذنني؟
صولون :
ستعرف بعد قليل ... استمع الآن.
الصبي (يرتفع صوته ببعض أغاني سافو) :
الآن قد غاب بالقمر،
وكذلك الكواكب السبعة.
انتصف الليل،
وزمن الانتظار فات،
وأنا أنام وحدي.
صولون :
حقا يا ولدي، زمن الانتظار فات.
بيتاكوس :
سمعت هذا من قبل ... سمعته من قبل.
الصبي :
كل النجوم حول القمر الجميل
تخفي وجهها المضيء من جديد،
عندما يغمر البدر الناصع الأرض بنوره.
صولون :
قل هذا لطاليس، أو انتظر. قله لهذا الفتى.
الفتى (يدخل على استحياء، يتطلع للجميع في ذهول) :
صولون :
أليس كذلك يا ولدي؟ تعال ... اقترب منا.
بيتاكوس :
أين سمعت هذه الأغنية؟ متى؟ ... آه ... تذكرت.
صولون :
تعال يا بني ... صب له كأسا يا غلام.
بيتاكوس :
إنها لسافو ... الشاعرة التي هاجمتني هي وصديقها ألكايوس، ولكن شعرها ...
صولون :
استمر يا ولدي ... اسمع هذا الفتى الجميل.
الصبي :
عندما تموت
ينتهي كل شيء.
ما من ذكري،
ولا من شوق
سيسأل عنك.
تذهب غير مرئي،
إلى بيت هاديس،
تهبط إلى الظلال،
تتلاشى مثلها،
تصبح عدما.
هولون :
نعم يا ولدي. نعم، تصبح عدما.
الصبي :
كما تحمر التفاحة،
التفاحة الحلوة
على الشجرة العالية،
على أعلى غصن.
نسي القاطفون أن يجنوها،
آه! لم ينسوها!
هم لم يستطيعوا فحسب أن يبلغوها!
5
صولون :
آه! ما أجملها! أليست جميلة يا ولدي؟
الفتى :
نعم يا سيدي.
صولون :
ليتك تعلمها لي يا ولدي!
الصبي :
ولماذا يا عمي؟
صولون :
أريد أن أحفظها عن ظهر قلب، ثم أموت.
6
الفتى :
مثلك لا يموت يا سيدي ... وكذلك هؤلاء الحكماء.
صولون :
ولكننا سنهبط إلى بيت هاديس.
الفتى :
ستبقى حكمتكم، يا مولاي.
صولون :
سمعتم يا أصدقاء؟ ... هذا الفتى يزعم أنكم خالدون.
خيلون :
أعطوه كأسا ... وإذا شرب يغير رأيه!
الفتى :
لن أغير رأيي ... لقد عشت لهذه اللحظة ... إنني أسعد إنسان.
كليوبوليس :
سألني الملك كرويزوس: من هو أسعد إنسان فوق الأرض؟ قلت: أيها الملك ... إنها الوحوش؛ لأنها تموت في سبيل الحرية. لو رآك يا بني لما سأل سؤاله.
الفتى :
كنت سأقول له: أنا أسعد إنسان يا كرويزوس ... فقد رأيت الحكماء السبعة وسمعتهم.
صولون :
لو سمعت نصيحتي، ما حكمت هذا الحكم إلا في آخر أيامك.
الفتى :
ليكن هذا آخر أيامي ... فأنا أسعد إنسان يا صولون. انظروا!
الحكماء :
ما هذا؟ ماذا تخرج من جرابك؟
الفتى :
هدية أبي إليكم، أرسلني بها قبل أن يلفظ آخر أنفاسه.
الحكماء :
كأس ذهبي! لنا نحن؟
الفتى :
بل للأحكم فيكم ... انظروا.
صولون :
حقا كتب عليه نقش ذهبي.
خيلون :
لأحكم الحكماء.
بيتاكوس :
كيف ستعرفه يا ولدي؟ لمن سيكون الحكم؟
الفتى :
لكم أنتم.
كليوبوليس :
من أحكمنا؟ من؟
صولون :
هذا الكأس يجيبك.
خيلون :
ولماذا هذا الكأس؟! أجبني أنت.
صولون :
ستعرف حين تفرغه في جوفك ... هيا يا غلمان ... كأس فارغة ... ألا تخجلون ؟ ... (تملأ كأسه. يرفع صوته بالغناء بعد أن يفرغها في جوفه) .
اتق شر الناس،
وانظر للواحد منهم!
هل يخفي الحربة في قلبه؟
وإذا حدثك بوجه طلق وبيان جذل؛
فهو حديث لسانين
انشقا من قلب أسود كالليل.
طاليس (يتسلم الكأس من صولون) :
كثرة كلماتك لا تكشف عن عقل راجح،
فتخير منها الطيب،
والتمس الأحكم والأوفق؛
كي لا يغرقك السيل الجامح
من ألسنة الثرثارين فتغرق.
خيلون (يتسلم الكأس من طاليس) :
يختبر الذهب الخالص
فوق محك المعدن والحجر.
أما أفكار الناس؛
فتوضع فوق محك الزمان؛
ليفصل فيها الخير المحض عن الشر.
بيتاكوس (يتسلم الكأس من خيلون) :
كن حذرا وأعد القوس مع السهم،
حين تقابل شريرا،
فلسان الحاقد لا يتحرك في الفم؛
إلا أن أطلق من لهب القلب سعيرا.
بياس (يتسلم الكأس من بيتاكوس) :
كن طيبا مع الجميع، وانبذ الخشونة،
إذا أردت أن تقيم في المدينة.
أما الشذوذ فهو يشعل المصائب اللعينة.
كليوبوليس (يتسلم الكأس من بياس) :
الجهل عميم بين الناس،
وسقط الكلمات ركام،
لكن الحد مع المقياس
يعين المرء على الأيام.
فكر في الخير،
وعود نفسك
أن تختار الأصحاب.
7
الحكماء (للفتى) :
اشرب يا فتى ... اشرب ... هل عرفت الآن أحكم الحكماء؟ (يناولونه الكأس الذهبي) .
الفتى (يشرب) :
كلكم حكيم ... كل أغانيكم تقطر حكمة ... لكن من هو أحكمكم؟ من؟
الحكماء :
اشرب ... اشرب.
الفتى (يمد يده بالكأس) :
لا ... لا ... أنا لا أستحق الشرب منه ... لن أستحقه أبدا. خذه يا خيلون.
خيلون :
أنا؟ إني أعرف نفسي.
الفتي :
أنت يا طاليس.
طاليس :
من الصعب أن أعرف نفسي ... ولكن من السهل أن أعرف أنني لا أستحقه.
الفتى :
وأنت يا صولون.
صولون :
أعرف وأسكت؛ ولهذا لا أتكلم ولا أحرك يدي.
الفتى :
وأنت يا بياس ... ألا تريد أن تأخذه؟!
بياس :
يأخذه من ينسب الخير لنفسه، أما أنا فأنسبه للآلهة.
الفتى :
وأنت يا حاكم ميتيلينه العادل؟
بيتاكوس :
رد الأمانة لأهلها ... هل نسيت ما قلته؟
الفتى :
لم يبق إلا برياندر ... أرجوك ... لا بد أن يأخذه أحدكم.
برياندر :
التهور خطر.
الفتى :
والحد هو الأفضل ... لكن ماذا أفعل؟
الحكماء :
تسأل.
الفتى :
أهناك أحد أحكم منكم؟
الحكماء :
بل تسألنا نحن، وتحكم.
الفتى :
أسألكم ... أي سؤال أسألكم؟
الحكماء :
اسألنا مثلا عن أفضل دولة.
الفتى :
حقا ... ما هي أفضل دولة؟
صولون :
هي التي يتهم فيها المجرم، ويعاقب من جميع أولئك الذين لم يضرهم بشيء، كما يتهم ويعاقب ممن وقع عليهم الضرر منه.
بياس :
هي التي يخاف فيها الجميع القانون كما يخافون طاغية.
طاليس :
هي التي تخلو من المسرفين في الثراء والمسرفين في الفقر.
أناخارزيس :
هي التي يحترم فيها الناس كل شيء على حد سواء، ولكنهم يقيسون المزايا بمقياس الفضيلة، والعيوب بمقياس الرذيلة.
بيتاكوس :
هي التي يستحيل فيها أن يصل الأشرار إلى الحكم، كما يستحيل ألا يحكم الأخيار.
خيلون :
هي التي يغلب فيها سماع القوانين ويقل سماع الخطباء.
8
الفتى :
أجبتم عن أفضل دولة، هل أسألكم الآن عن أفضل بيت؟
صولون :
أفضل بيت هو الذي لا يقترن فيه كسب المال بظلم، ولا يجلب الحرص عليه سوء الظن، ولا يعقب إنفاقه ندم.
بياس :
هو الذي يسلك رب البيت في داخله ومن تلقاء نفسه، مثلما يسلك خارجه بسبب القوانين.
طاليس :
هو الذي يستطيع فيه رب البيت أن يجد الفراغ أكثر مما يجده في أي مكان آخر.
كليوبوليس :
هو الذي يكون فيه عدد من يحبون رب البيت أكثر من عدد من يخافونه.
بيتاكوس :
هو الذي لا يشتهي شيئا غير ضروري، ولا يحرم من شيء ضروري.
خيلون :
هو الذي يشبه إلى أقصى حد مملكة يحكمها ملك.
9
الفتى :
صعب ... صعب أن أختار الأحكم ... هل تجيبني أنت يا صولون؟
صولون :
عن أي شيء يا ولدي؟
الفتى :
عن رأيك في أفضل دولة.
صولون :
ألم أتكلم الآن؟
الفتى :
نعم نعم، لكنني أريد المزيد.
صولون :
هي التي تكثر فيها الجوائز التي تمنح للفضيلة.
الفتى :
إجابة أخرى.
صولون :
هي التي يكرم فيها الخيرون كما يتقى الأشرار.
الفتى :
وثالثة.
صولون :
هي الدولة التي فيها يطيع المواطنون الحكام، أما الحكام فيطيعون القوانين ...
الفتى :
أحكم ما سمعت أذناي ... زدني يا صولون.
صولون :
آخر ما عندي : هي التي يثور فيها على الظلم أولئك الذين لم يصابوا منه بسوء، كما يثور عليه من أضيروا بسببه سواء بسواء.
الفتى :
وأنت يا طاليس؟ هل تظل وحدك كما قالوا عنك؟
طاليس :
ألم أجب على أسئلتك يا بني؟
الفتى :
من كان في شهرتك نتوقع منه المزيد.
طاليس :
اسأل يا بني!
الفتى :
ما أقدم الكائنات؟
طاليس :
هو الإله؛ لأنه لم يولد.
الفتى :
وما أجملها؟
طاليس :
العالم؛ لأنه من خلق الله.
الفتى :
وأعظمها؟
طاليس :
المكان؛ لأنه يستوعب كل شيء.
الفتى :
وأحكمها؟
طاليس :
الزمن؛ لأنه يكشف كل شيء.
الفتى :
وأسرعها؟
طاليس :
العقل؛ لأنه يتخلل كل شيء.
10
الفتى :
وأقواها؟
طاليس :
الضرورة؛ لأنها تحكم كل شيء.
11
الفتى (يسرع إليه ويحاول أن يناوله الكأس) :
رائع! خذه أرجوك!
طاليس :
بل يأخذه صولون.
صولون :
لن أغير رأيي ... أعطه لخيلون.
خيلون :
بيتاكوس أولى به.
بيتاكوس :
بل برياندر، هو أحكم مني.
برياندر :
آخذه وكليوبوليس معنا؟
كليوبوليس :
مد يدك يا بياس!
بياس :
إن خارزيس له يدان مثلي.
الفتى :
الكأس لأحكمكم ... اختاروا أحدا منكم.
الحكماء :
ليتك جئت ومعك باريس.
الفتى :
هذا اللص؟ سارق هيلينا؟
الحكماء :
عندما نشب النزاع بين الإلهات الثلاثة هيرا وأثينا وأفروديت، أرسله أبوللو ليحكم من هي أكثر جمالا، ويعطيها التفاحة الذهبية.
الفتى :
الكأس إذن من حق أبوللو.
الحكماء :
ما أحكم هذا القول! إنك أحكم منا يا ولدي ... هي من حق أبوللو. فلتوضع في معبده في ثيبه أو دلفي.
طاليس :
أو في معبده الأقدس في ديديما، وقريبا من مسقط رأسي ملطية.
الحكماء :
هو أجدر بالكأس الذهبية منا؛ فهو حكيم. أما نحن فأحباب الحكمة.
الفتى :
وأنا أحببت الحكماء السبعة، أحباب الحكمة.
الحكماء :
اذهب ونفذ وصيتنا.
الفتى :
ووصيتك يا أبي ... فتقبلها يا رب الحكمة.
الحكماء :
وداعا ... وتقبله يا رب النور أبوللو ... يا رب الحسن ورب الحكمة والعدل.
الفصل السابع
المؤرخ :
بعد المأدبة يجيء المسرح.
الحكماء :
المسرح؟!
المؤرخ :
نعم. فقد مرت الأيام والسنون، ومالت إلى المغيب شمس العصر القديم. نسيكم الناس، ولكن لم ينسوا حكمتكم بعد. وها هو ذا شاعر عالم وقنصل ومربي أمراء يذكر بكم الأجيال،
1
ويقدمكم فوق المسرح، أو يجعلكم تقدمون أنفسكم واحدا بعد الآخر.
الحكماء :
نحن؟ نظهر على المسرح؟
المؤرخ :
سموه مسرح العقل أو الخيال أو التاريخ.
الحكماء :
وماذا نقول غير ما قلناه؟
المؤرخ :
لا تنسوا ... أوشكت الناس أن تنساكم؛ ولهذا ستقفون على الخشبة، ويردد كل منكم حكمته الخالدة على الآذان.
الحكماء :
كي تنساها بعد سنين أو أجيال.
المؤرخ :
طبع الانسان هو النسيان ... قد ينساكم أو يظهركم في شكل آخر. قد ينسج عنكم في كل زمان أسطورة ... لكن الحكمة باقية حتى اليوم. مهما احتاجت من يخرجها من ظلمات التاريخ.
الحكماء :
أو ظلمات النسيان.
المؤرخ :
ها هو ذا رجل لا ينسى، يظهر ليقدمكم للجمهور، كي يتذكر شعب الرومان مآثركم، كي يتعلم من حكمتكم، حتى تصبح أسلوب حياة.
الممثل (يتقدم على المسرح، ويلقي بالتمهيد) :
الحكماء السبعة. من أعطاهم العصر القديم هذا الاسم، ولم تأخذه منهم العصور التالية، يقفون اليوم على خشبة المسرح في ثيابهم الإغريقية.
2
لم يحمر وجهك، أيها الروماني في ثوبك الأبيض، لدى ظهور هؤلاء الرجال المشاهير؟
نحن وحدنا نشعر بالخجل، أما الأثينيون فلم يشعروا به؛ إذ كان المسرح عندهم مجلس رأي أو شورى.
لكل فعل عندنا مكانه الخاص به.
فمجلس الشعب يشغل ميدان مارس، ومجلس الشيوخ يحتل المبنى الحكومي، والقضاء مقره في السوق والمحكمة. لكن في أثينا وبلاد الإغريق مكان يتجمع فيه الناس للتشاور في الرأي. وهذا المكان أهداه الترف المتأخر لمدينتنا؛ فقد أقام لنا ناظر الشرطة خشبة المسرح، وعلى وجه السرعة أعلى بناءها بغير أحجار ثقيلة، مورينا وجاليوس فعلا هذا كما هو معروف. إن السادة العظام الذين لم يتهيبوا النفقات الباهظة، قد اعتقدوا أنهم سيخلدون أسماءهم بإقامة مبنى عال مؤسس على الأحجار، يتيح إلى الأبد فرصة التمثيل المسرحي. وهكذا ارتفع هذا البيت الهائل المقسم إلى أدوار وطوابق، بعدما تنافس في الإنفاق عليه بومبيوس وبالبوس وأغسطس. لكن لماذا أثرثر بهذا الكلام؟
إني لم أظهر أمامكم لأحكي عمن أقام المسرح والسوق والأسوار، بل لأقدم لكم رجالا أجلاء أثنت عليهم الآلهة ، ولكي أعلن عن مقصدهم.
لقد تعودا على النطق بعباراتهم؛ فكل حكيم منهم يلقي حكمته الأثيرة. إنكم تعرفون هذه الحكم والعبارات، لكن حين تضمحل ذكرى الأخبار القديمة، عندئذ يظهر هذا الشخص المرح؛ لكي يشرح الحكم التي غابت عني.
الشخص المرح :
في دلفي، كما يقال، كتب صولون الأثيني: اعرف نفسك.
3
غير أن البعض يزعم أن قائل هذه الكلمة هو خيلون. يا خيلون الأسبرطي، ما زالت الآراء كذلك مختلفة حول هذه العبارة التي تنسب إليك: «على كل إنسان أن يتبصر بنهاية الحياة»؛ فهل أنت الذي قلتها، عندما أوصيت أن ينتظر المرء نهاية العمر الطويل (قبل أن يحكم على أحد بالسعادة أو الشقاء)؟
4
كذلك يزعم الكثيرون أن صولون قد قال هذه العبارة يوما للملك كرويزوس. أما بيتاكوس، من جزيرة لسبوس، فيروى عنه أنه قال: اعرف اللحظة، وأنه نبه إلى معرفة الوقت الملائم. وأما بياس المنسوب إلى مدينة برينيه فقد قال: معظم الناس أشرار، وعليك أن تفهم من قوله إن الحمقى في رأيه هم الأشرار. ويقول برياندر من مدينة كورنثة: المران هو كل شيء. وهو يقصد أن التروي يحقق للمرء كل ما يريد، ويعلم كليوبوليس من لندوس أن الحد هو الأفضل. أما طاليس فيحذر من أن تضمن غيرك، فتجلب الضرر على نفسك. وطبيعي أن يسخط مقترض المال على هذا التحذير. لقد قلت ما عندي، وسأنسحب الآن، لكي يتقدم المشرع صولون.
صولون :
ها أنا ذا أخطو على هذه الخشبة على طريقة الإغريق، أنا صولون الذي وهبه المجد أول جائزة منحت للحكماء السبعة. غير أن المجد شيء يختلف عن صرامة الحكم الصحيح؛ ولهذا لا أحب أن أكون أول الحكماء، بل أريد أن أكون واحدا منهم؛ لأن المساواة لا تطيق التقسيم إلى مراتب ودرجات. وبحق نصح إله دلفي ذلك «الشاب» الذي سأل هذا السؤال الطائش: من هو أول الحكماء؟ نصحه أن يكتب باقة أسماء الحكماء على هيئة دائرة، حتى لا يكون منهم أول ولا أخير.
ولهذا أتقدم من دائرتهم، أنا صولون، حتى أبلغ كل الناس ما قلته يوما للملك كرويزوس : أدعو الإنسان لأن ينظر في خاتمة حياته. وليحذر كل منهم أن يتكلم عن إنسان، فيقول هذا تعس، أو ذاك سعيد؛ لأن السعادة والتعاسة يحوطهما الغموض على الدوام. الأمر كذلك، فاسمحوا لي أن أثبته باختصار. كان الملك كرويزوس، لا بل طاغية ليديا، أحد هؤلاء السعداء. وكان يملك الكنوز التي لا حد لها، وبنى للآلهة معابد رفع أسوارها الذهبية، ودعاني الملك إليه فأطلعت حتى يتسنى لليديين أن يجلس على عرشهم أفضل الملوك. سألني الملك إن كنت أعرف إنسانا سعيدا؟ وسميت له تيلوس، ذلك المواطن النبيل، الذي سقط قتيلا وهو يدافع عن وطنه. وبدا له هذا المواطن حقيرا، فأعاد السؤال. وخطر على بالي أجلاوس الذي لم يغادر حدود حقله مرة واحدة في حياته.
ضحك الملك وقال: أين أكون إذن، وأنا الموصوف بأني السعيد الوحيد على ظهر الأرض؟ قلت له: «على المرء أن ينتظر نهاية الحياة، ثم يصدر الحكم بأنه سعيد إذا دامت له السعادة.» كانت العبارة قاسية على الملك، ولكنني انصرفت من عنده ... وكان أن أعلن الحرب على الفرس ... ودخل المعركة وهزم. مثل أمام الملك مقيدا بالأغلال، وعرفت أنه سيموت فوق المحرقة؛ إذ كان اللهب يملأ المكان، ويرفع ألسنة الدخان المتوهج إلى السماء.
وارتفعت صيحة كرويزوس بعد فوات الأوان، فصرخ بصوت رهيب: «صولون! صولون! صولون! يا من صدقت نبوءتك بحق!» وحرك النداء قلب قورش، فأمر بإطفاء النار ورفعه عن المحرقة. وانهمر المطر من السحب.
فقهر الحريق، وتقدمت كتيبة من الجنود فأمسكت بكرويزوس، وقادته إلى الملك.
سأله عن صولون وعن سبب هتافه باسمه، فأخذ يروي عليه تجربته بالتفصيل، وأشفق عليه الملك، وأثنى على صولون الذي أدرك قوة القدر فأحسن الإدراك.
وأصبح كرويزوس منذ ذلك الحين صديق قورش الذي أمر بتطويق عنقه بقلادة ذهبية، وجعله يقضي بقية عمره بجانبه. أما أنا فشهادة الملكين مديح وثناء علي، إذ قال كلاهما: معك الحق.
وعلى كل منكم أن ينتبه لما قلت لأحدهما.
لقد انتهيت مما جئت لأجله.
انظروا! ها هو خيلون قادم فوداعا، وصفقوا!
خيلون :
يؤلمني فخذاي من الجلوس، كما تؤلمني من النظر عيناي، وقد انتظرت حتى انصرف صولون.
آه! ما أقل ما يقوله «الأتيكي» في خطبة طويلة!
فلقد ألقى عبارته الوحيدة في أكثر من مائة بيت ... ها هو ما يزال يتلفت نحوي، لكنه قد ذهب لحاله.
أنا خيلون الأسبرطي الذي يتقدم منكم الآن، ألجأ للإيجاز المعروف عنا وأوصيكم بحكمتي: «اعرف نفسك».
وهي الحكمة المنقوشة على عمود معبد دلفي. إنه لجهد شاق - وإن كان يجلب أجمل الجزاء - أن تعرف ما تقدر عليه وما لا تقدر، وأن تفحص في الليل والنهار ما عملته وما لم تعمله، وتدقق في أدق تفاصيله.
إن جميع الواجبات، من شرف وحياء وصمود، كلها هنا (في هذه الحكمة)، ومعها كل المجد الذي أسكت عنه.
لقد تكلمت وقلت ما عندي، فوداعا وتفكروا فيه!
لن أنتظر التصفيق!
كليوبوليس :
أنا كليوبوليس، أصلي من جزيرة صغيرة، ومع ذلك فقد عثرت على حكمة كبيرة، يشيد بذكرها الناس: «الحد هو الأفضل.»
تلك هي الحكمة التي تنسب إلي.
ترجمها أنت، يا من تجلس بالقرب من الخشبة على أول درجة من الدرجات الأربع عشرة. أليس الحد هو الأفضل؟
قل رأيك! هل أطرقت برأسك؟ شكرا لك!
سأتابع قولي بالترتيب. فقديما قال شاعركم تيرينس في هذا المكان: «لا تبالغ في شيء». وكذلك قال أحد شعرائنا: «لا تسرف على نفسك»، والقولان من الروماني والإغريقي مرتبطان بما نحن بصدده: في أثناء كلامك أو صمتك في يقظتك ونومك.
يصدق هذا الحد، في الإحسان إلى الناس، وتقديم الشكر في العمل وفي الدرس وفي الإيذاء أو الضر، في كل أمور حياتك يجب عليك أن تلتزم الحد.
ها أنا ذا أنهيت حديثي، ولهذا أذهب، فارعوا الحد، ارعوا الحد.
ها هو طاليس يتقدم منكم.
طاليس :
اسمي طاليس. مسقط رأسي ملطية.
علمت، كما علم بندار، أن الماء هو أصل جميع الأشياء. ووعاء البخور الذهبي ذو القوائم الثلاثة
5
أحضره إلي الصيادون الذين سحبوه بشباكهم من البحر.
وساقتهم إلي نبوءة أبوللو الذي جعل هذا الوعاء من نصيب أحكم الحكماء. لم أشأ أن أحتفظ به، فرددته إليهم؛ لكي يحملوه إلى غيري ممن اعتقدت أنهم أولى به.
هكذا دار الوعاء دورته وأرسل إلى الحكماء السبعة جميعا، ثم أعاده الصيادون إلي بعد أن أرسله الحكماء، فأخذته منهم ونذرته للإله أبوللو.
وإذا كان أبوللو قد أمر باختيار حكيم (ليكون الوعاء من نصيبه)؛ فمن الحق أن يسري هذا الأمر على إله لا على إنسان.
هذا هو أنا. وقد ظهرت على المسرح مثلما ظهر الاثنان اللذان سبقاني؛ لأنقل إليكم حكمتي من هذا المكان.
ربما تثير السخط عليها، لكنها لن تسوء الأذكياء الذين أنضجتهم الخبرة، وحنكتهم التجربة.
لقد قلت باليونانية ما ترجمته: خذ قرضا من غيرك بضمان، وبذلك تؤذي نفسك!
يمكنني أن أضرب أكثر من ألف مثل لأبين ندم المواطن على ما فعل.
لكني لن أذكر أحدا باسمه، وسأترك لكم الأمر لتتدبروه بأنفسكم وتعرفوا مدى الألم والأذى الذي جلبه الدين بالضمان على أصحابه، ومع ذلك يبقى هذا العمل حبيبا إلى نفوس الصبية الخليعين.
وإذن فليصفق لي جزء منكم، وليصفر الجزء الباقي سخطا واستهجانا.
بياس :
أنا بياس من بريينه، الذي قال: «أغلب الناس أشرار.» وودت لو لم أقل هذه العبارة أبدا؛ «فقول» الحقيقة يولد الكراهية.
وقد وصفت بالشر البرابرة والحمقى الذين يزدرون الحق والقانون والحرمات المقدسة.
أما الشعب الذي يحوط هذا المكان، فهو من الأخيار الخالصين.
إن الأشرار لا وجود لهم إلا في بلاد الأعداء، هذا ما قصدت قوله فصدقوني.
لكن ما من أحد يرضى لنفسه أن يكون قاضيا سيئا، بحيث لا ينضم إلى زمرة الأخيار الطيبين، سواء أكان طيبا بحق أم أراد أن يحسب من الطيبين.
بهذا تكون الكلمة السيئة عن الشرير قد كشفت عن معناها. وبهذا أنسحب من المسرح. فوداعا، وصفقوا، يا من أغلبكم أخيار!
بيتاكوس :
أنا بيتاكوس، أصلي من ميتيلينه في لسبوس، ولقد قلت: اعرف قيمة اللحظة.
فاللحظة تدعو وتنبه «الغافل» إلى معرفة الزمن. ولهذا يقول الرومان: تعال في الوقت المناسب. كذلك أوصى شاعركم الهزلي «يترنس» بإدراك أهمية هذا الوقت المناسب، عندما حضر العبد درومو لسيدته أنتيفيلا في أشد اللحظات حرجا ودقة.
تفكروا جميعا في المصاعب التي يتعرض لها ذلك الذي لا يقدر قيمة الفرصة المواتية!
إن الزمن ينبئني ألا أثقل بالقول عليكم، فصفقوا!
بيرناندر :
وها أنا ذا أظهر أمامكم، برياندر الذي ولد في كورنثة، والذي أعلن أن كل شيء يرجع للمران.
وأنا أؤيد قول القائل إن ما يحسن المرء أداءه إنما يقوم على التأمل، ولا ينجح في عمله إلا من يتدبره قبل الإقدام عليه.
والشاعر الهزلي تيرنس يعلمنا أن ننظر في فرص الحظ وسوء الحظ.
وكل من يريد أن يستأجر بيتا، أو يعلن حربا، أو يعقد صلحا وسلاما، أو يرسم خطة شيء عظيم أو حقير، فعليه أن يتفكر ويدبر. سيرين الكسل عليك إذا أقبلت على عمل لم تتدبره قبل شروعك فيه.
ولا شيء أولى بالحرص والعناية من التفكير في خطوة جديدة. إن الغافلين يوجههم الحظ لا الذكاء.
ومع ذلك فها أنا ذا أتراجع جانبا. صفقوا، وتدبروا الأمر من أجل بلدكم.
المؤرخ :
هكذا انتهت هذه اللعبة المسرحية.
الحكماء :
كانت لعبة أطفال وتلاميذ مدارس ... الحمد لرب الحكمة إذ انتهت أدوارنا.
المؤرخ :
ماذا تقولون؟ لم ينته دوركم بعد؛ فالحكاية ما تزال على نول الأيام، وخيوط أخرى تغزلها في ثوبكم الأجيال.
الحكماء :
ألا تنتظر حتى نغير ثيابنا.
المؤرخ :
وأصفق لكم، ثم أنسحب لاستراحة قصيرة.
الفصل الثامن
المؤرخ :
وتمر الأيام وتأتي الأجيال بعد الأجيال، فيتغير كل شيء. هذا قانون لا يسلم منه حي أو جماد؛ فكل ما في الوجود يتبدل ويتحول ويصير إلى ضده. هذا ما سيقوله حكيم جاء بعدكم، وأشاد بذكركم، واسمه هيراقليطس. حتى قصتكم يا حكمائي السبعة لم تسلم من التغير والتحول و...
الحكماء :
قصتنا؟ ... هذا جائز ... لكن حكمتنا؟
صولون :
اعرف نفسك! الزم حدك! لا تتطرف! لا لا ... لا يمكن أن تتغير.
الحكماء :
هل يمكن أن ينقلب الخير إلى الشر، أو يرضى الناس بتقديس الخسة والغدر؟
المؤرخ :
معذرة يا حكماء ... حكمتكم فوق الشك، ولكن ...
الحكماء :
ماذا تعني؟
المؤرخ :
أعني أن الحال تحول، والقيم تغير سلمها الراسخ وتتبدل.
الحكماء :
أوضح قولك .
المؤرخ :
بل هو قول التاريخ وحكمه ... صار العصر غير العصر، وتبدلت العقيدة غير العقيدة، ودخلت بلادكم في دين جديد هو دين المسيح.
الحكماء :
المسيح؟
المؤرخ :
أجل. وهو عند المؤمنين به: ابن الله الذي افتدى البشر؛ ليكفر عن خطاياهم.
الحكماء :
ابن زيوس؟ أم أبوللو؟
المؤرخ :
بل ابن الواحد والثالوث ... جاء إلى الأرض بميلاد معجز، جاء على صورة بشر يحيا في الزمن ويأكل مثل البشر ويشرب، وأخيرا يصلب ثم يقوم ويرفع.
الحكماء :
لم نره، لم نسمع عنه.
المؤرخ :
بل تروي القصة أنكم تنبأتم به.
الحكماء :
نحن الحكماء تنبأنا به؟!
المؤرخ :
والنبوءة صارت هي حكمتكم الوحيدة. وها هو ذا واحد من آباء الكنيسة الذين علموا في مصر، وهو كليمنس السكندري،
1
يسميكم في حوالي سنة مائتين بعد ميلاد المسيح بالأنبياء. لقد راح هذا الأب المسيحي يفسر أقوالكم الأثيرة. إنكم تعرفون هذه الحكم والعبارات تفسيرا رمزيا يضع عليها ثوبا إلهيا ... فعبارتكم «اعرف نفسك» صارت: «اعرف سبب ولادتك، وصورة من أنت، ماذا تملك، ماذا تصنع، واعرف صلتك بالله وقربك منه.»
الحكماء :
غريب ... شيء غريب.
المؤرخ :
الأغرب من هذا أن أسماءكم المشهورة بدأت تلتف في ضباب الأفق البعيد، ومعها عالمكم القديم كله، لم يبق من هذه الأسماء إلا أصداء غامضة. واختلطت بأسماء أخرى ظهر أصحابها قبلكم أو بعدكم؛ فالكاتب المتدين لا تهمه الآن إلا حكمة واحدة، ولا يعنيه إلا حدث تاريخي واحد.
2
إنه لا يعرف حكايتكم ولا يذكر أقوالكم، ولا يرى بأسا من أن يدخل في زمرتكم شاعرا كهوميروس، أو فيلسوفا كأفلاطون وتلميذه أرسطو، أو مؤرخا كتوكيديدس الذي سجل وقائع الحرب الأهلية التي وقعت بعد عهدكم بين أثينا وأسبرطة، أو مؤرخا متأخرا مثل بلوتارك. بل إنه لا يجد حرجا في أن يجعل شاعر الملهاة ميناندر واحدا منكم.
الحكماء :
هل يمكن أن ينسانا العالم كل النسيان؟ أو لا يذكر أحدا منا؟
المؤرخ :
بل ما زال الكاتب يرفع ذكراكم، وإن كان لا يعرف شيئا عنكم. مع ذلك لا يصح أن نجحد فضله في إحياء ذكراكم، والإيحاء إلى الفنانين برسم صوركم ونقوشكم على الأيقونات، وجدران الكنائس الأرثوذكسية في بلدكم. استمعوا الآن. لقد أصبحتم أنبياء أو متنبئين ومنجمين.
الحكماء :
ما أشقانا! ... متنبئين ومنجمين؟!
المؤرخ :
وجئتم إلى معبد أبوللو في أثينا لتسألوه.
الحكماء :
نبئنا أيها النبي أبوللو ... قل لنا يا ساطع الضوء: ماذا سيكون حال بيتك هذا؟ ولمن سيئول من بعدك؟
المؤرخ :
ويرد عليكم إله النور والفن على لسان العراف، فيقول:
أبوللو :
سيكون بيتا للفضيلة والطاعة والنظام. إني أبشر بالثالوث، بالرب الحاكم في الأعالي، الذي تحولت كلمته الخالدة إلى ثمرة جسدية في رحم عذراء طاهرة؛ لأن كلمة الرب ستنطلق كصاعقة من نار في العالم كله، وتقدمه للرب هدية. أما هذه العذراء فاسمها مريم.
الحكماء :
إنك تكذب يا أبوللو.
أبوللو :
بل أخبر بالحق وبالصدق، وأقسم بمن يمسك بزمامي ويهز أعنة صدري.
الحكماء :
ولم نصدقه بطبيعة الحال.
المؤرخ :
بل صدقتم ومضيتم في نبوءتكم بالنور الطالع والرب الآتي من علياء سمائه، يفدي البشرية في صورة بشر، ثم يقوم ويرتفع إلى عرش أبيه.
الحكماء :
نحن نفعل هذا؟!
المؤرخ :
وتبشرون بالوعد والخلاص على لسان بياس وصولون وخيلون ... ويكون بياس أول المتكلمين فيقول:
بيباس :
مستحيل أن أقول ما أقوله لغير المريدين والمؤمنين؛ إلا أن تعوا بعقولكم ما أنطق به ... هذا الرب هو النور الروحاني الطالع من نور الروح القدس، بالنور وبالأنفاس تلقى الوحدة من روحه، كل شيء منه وعن طريقه، خصبا نزل إلى الطبيعة الخصبة، فخلق الماء الخصب بالماء الخصب.
صولون :
وهو الذي جاء قادما من أعالي السموات، أقوى من نار اللهب الأبدي الخالد. ترتعش أمامه السماء، وترتجف الأرض والبحر والمحيط الذي تسبح فيه الأرواح السفلية. وهو نفسه أبوه المثلث البركات.
خيلون :
يوما سيجيء إلى هذه الأرض المتصدعة، وبلا خطيئة يتجسد ... وبنعمة الألوهية ومشيئتها، سيرفع الفساد ويخلص من الآلام التي لا تداوى ولا تشفى.
ولسوف يصيبه حسد الشعب ويعلق على الصليب، كأنه استحق الموت عقابا له، ثم يتحمل كل شيء في هدوء.
توكيديديس :
إن طبيعة الخلق الإلهي لا تعرف الكلل، والرب يحول كلمته إلى وجود.
ميناندر :
اخش الرب وآمن به ، لكن لا تسأل من هو ولا كيف هو. وسواء أدركت وجوده أم لم تدركه، فاخشع لهذا الوجود واعرفه؛ لأن من يحاول معرفة الله إنسان خلا قلبه من التقوي.
3
أفلاطون :
الشيخ شاب والشاب شيخ، الأب هو الابن والابن هو الأب، الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، الذي بلا جسد متجسد، والأرض ولدت خالق السماء.
الحكماء :
نحن نقول هذا كله؟
المؤرخ :
والأدهى من هذا أن تقولوه وأكثر منه على لسان أشخاص ولدوا بعد أن شبعتم موتا.
الحكماء :
أي أشخاص؟ لم نعرفهم أبدا!
المؤرخ :
بل عرفتموهم وقابلتموهم أيضا.
الحكماء :
ماذا تقول؟ كيف نعرفهم أو نقابلهم؟
المؤرخ :
هذا ما يقوله الكتاب الورعون الذين دونوا المخطوطات التي وصلتنا عنكم في عصر متأخر
4
لقد جعلوكم تقابلون فيلسوفا سموه ديوجينيس، وتدخلون بيته القائم في أثينا الذهبية.
الحكماء :
حقا؟ نحن الحكماء السبعة؟
المؤرخ :
ولكن بأسماء أخرى بعد أن نسي أولئك الكتاب أسماءكم. أتدرون من هم الحكماء السبعة الذين دخلوا بيت ديوجينيس، فأجلسهم ورحب بهم، وأخذ يسمع حديثهم عن الهندسة والفلك والتنجيم وطبيعة الأرض وغيرها من العلوم والفنون؟
الحكماء :
ألم تقل إنهم الحكماء السبعة؟
المؤرخ :
نعم، ولكن بأسماء أخرى، لم يراع فيها اختيار ولا ترتيب: بلوتارك وآريس.
الحكماء :
آريس؟ حتى إله الحرب والشقاق أصبح واحدا منا؟
المؤرخ :
نعم نعم. وكذلك هيريس مثلث العظمة، ولكنهم نسوا اسمه الحقيقي، فسموه «دون» مثلث العظمة.
الحكماء :
مع أنا لم نعرف هيرميس هذا ولا ... ماذا قلت؟
المؤرخ :
بالطبع ولا كليو ميديس.
كليوبوليس :
حتى اسمي أخطئوا فيه؟!
المؤرخ :
وأدخلوا فيكم أفلاطون وأرسطو وهوميروس.
الحكماء :
حتى شاعرنا الأكبر؟
المؤرخ :
أجل أجل ... وبعد أن فرغوا من حديثهم، وقف ديوجينيس الشيخ، الذي لا نعرف إن كان هو ديوجينيس الأبولوني أم الكلبي ... وخطب فيهم قائلا: «أيها الرجال الأجلاء من فلاسفة الإغريق ومعلميهم الأوائل، إني أسألكم: ماذا تهيئ عناية السماء لأجيال الإغريق في أواخر الزمان؟ لأني أعلم أن أبناء الإغريق قد استبد بهم الحمق، فراحوا يهيمون أذلاء بين الأصنام، ويخوضون في كل رجس، بعد أن تخلوا عن خالق كل شيء . اذكروا لي علامة تدل على أنكم أعظم العظماء، وأكبر المنجمين والحكماء. إني أتوسل إليكم أن تخبروني بها. ولم يكد ديوجينيس ينهي خطبته، حتى فتح بلوتارك فمه وقال:
بلوتارك :
ذات يوم سيجيء من لا بداية له وابن من لا بداية له، سيجيء الكلمة إلى هذه الأرض الممزقة، ويسكن جسد عذراء بريئة اسمها مريم. وسوف يتعرض لحسد الشعب الجاحد ويعلق على الصليب. وأخيرا يقوم من بين الموتى، وينقذ العالم بأسره. أما اسمه فهو يسوع، أي الطبيب.
المؤرخ :
ثم تكلم آريس.
الحكماء :
إله الحرب؟ وهل لديه ما يقوله؟
المؤرخ :
نعم نعم. أليس غريبا أن يتحدث عن الحب والخلاص والسلام فيقول:
آريس :
سيأتي الابن من الابن، ويطلب، وهو ابن الابن، أن يسكن رحم أم، ويولد إلها كاملا في صورة إنسان، وسوف ينقذ جميع الأجيال من آدم إلى شخصه ذاته، ويقدمهم هدية لأبيه.
المؤرخ :
وتكلم دون مثلث العظمة، فقال:
مثلث العظمة :
الرب عقل وكلمة وروح، والكلمة الذي تجسد بإرادة الأب، سينقذ كل إنسان من الضلال المريع، ويقضي على الشيطان، ويمنح شعبه العماد. طوبى لمن يستجيب له!
المؤرخ :
ثم قال كليوميديس الذي يحمل بعض حروف اسمك يا كليوبوليس.
كليوميديس :
الذي بسط السماء وأقام الأرض على المياه سيولد بعد ذلك من مريم الطاهرة، وسيأخذ منها الجسد، ويصبح إنسانا كاملا وخالق الكون. وسيسحق الموت ويقضي على الشيطان، ويهب للعالم الحياة.
المؤرخ :
ثم يأتي دور أفلاطون الشهير، فيرتدي ثياب مسيحي مؤمن، ويقول:
أفلاطون :
كان الله على الدوام وهو كائن، وسوف يكون بخير بداية ولا نهاية. أما ابنه المسيح فسوف يولد من مريم العذراء، وأنا مؤمن به. وأنت أيتها الشمس سترينني من جديد تحت ظل ملك تقي. أما معبد أبوللو فسوف يهدمه، وسوف يطلق على هذا الأخير اسم أمه مريم.
المؤرخ :
ثم يجيء دور المعلم الأول، فيواصل كلام أستاذه ويقول:
أرسطو :
في تلك الأيام سيسطع نور الثالوث الأقدس فوق جميع الخلق، والأصنام التي صنعتها يد الإنسان، تلك الأصنام الخرساء الجامدة التي يؤلهها شعب الإغريق، سيقضي عليها قضاء مبرما. أما اسمه فسوف يعظمه ملوك الأرض كلها وسادتها الأقوياء، وسوف يعين اثني عشر قاضيا وسبعين معلما؛ ليحكموا الأرض جميعا ويهدوها. أما هو فسيرفع بعد عذابه وقيامته، ويجلس إلى يمين الأب، ويعود مرة أخرى ليقاضي الأحياء والأموات، وسيعطي كل إنسان حسب عمله.
المؤرخ :
وأخيرا يأتي دور الشاعر هوميروس فيقول:
هوميروس :
يوما سيجيء إلينا سيد الأرض والسماء، ويظهر على هيئة جسد بلا خطيئة. وسيأخذ صورته البشرية من عذراء عبرانية، سيسمونه الغفران والفرح. وسيصلبه شعب العبرانيين الكافر. طوبى لمن يستمعون إليه، وويل لمن لا يستمعون!
المؤرخ :
لما سمع ديوجينيس الجليل هذا الكلام، تعجب من نبوءات الحكماء السبعة، ثم دونها في كتابه عن الطبيعة، ووضعها في معبد أبوللو. ومنذ أن سادت بيننا ديانة الخلاص والرحمة حكمنا قسطنطين العظيم الذي كان أول الملوك المسيحيين. وعندما زار الملك أثينا أبدى رغبته في هدم معبد أبوللو، وبناء معبد آخر لأم الإله. غير أنه عثر على الأوراق التي دونت عليها نبوءات الحكماء السبعة. وقرأها الملك التقي وتعجب تعجبا شديدا، لكنه أخذها معه على طريق عودته إلى ملكة المدن؛ لكي تثبت إيماننا وتمحو الشر وتقضي عليه.
الفصل التاسع
المؤرخ :
وتتركون بيزنطة يا حكمائي السبعة، وترجعون مرة أخرى إلى الشرق، وتلتقون في بلاط ملك شرقي. إن قصتكم لا تزال منتشرة في الغرب والشرق على السواء، وهي تجري الآن على ألسنة الناس في بلاد العرب والفرس، وتوغل في البعد حتى تصل إلى بلاد الهند. وتبلغ الحكاية في القرن العاشر آذان الغرب المبهور بسحر الشرق وأساطيره، وحكاياته التي تفوح منها عطور المسك والعنبر والقصور والحريم ... ويطلع عليها رجل ألماني أطلق على نفسه اسم يوحنا السكسوني، فينقلها باللاتينية سنة ألف وأربعمائة وسبعة عن نص فارسي أو عربي، نقل بدوره عن أصل هندي أن حكايتكم تتلفح الآن في ثوب شرقي، وتروى بأسلوب شرقي يهيئ الأنس والسمر في مجالس الشرب والرقص والخدر، وليال من ألف ليلة يهمس فيها ضوء القمر. لكن لا تنسوا أنكم قد أصبحتم في آخر المطاف شرقيين تواجهون الغرب المذهول بسحركم، واطلاعكم على الغيب المسطور من خيوط الكواكب والنجوم، بعد أن كنتم إغريقا تتحدون ملوك الشرق، بحكمتكم وكبريائكم. إن هذه الحكاية ...
الحكماء :
حكاية أخرى؟ ... ألا تنوي أن تعيدنا إلى قبورنا؟
المؤرخ :
حكمتكم لا تسكن قبرا، بل تحيي قلبا أو فكرا ... إنها آخر حكاية طافت بكم في جهات الأرض الأربع.
الحكماء :
آخر حكاية؟
المؤرخ :
نعم. فقد جاء عصر النهضة، فرجع للأصول القديمة، وارتوى من المنابع الأصلية. وبذلك لم يترك فرصة لخيال راوية يضيف من عنده ما يشاء، ولا لمؤرخ ضعفت ذاكرته وأصابها الوهن والانطفاء.
صولون :
آه! تعبت من الرحيل والتجوال.
طاليس :
وأريد أن أستريح في التراب، أو حتى في الماء.
بيتاكوس :
وأنا أريد أن أرجع لقبري ... فلكم تجرعت المرارة في الحياة وبعد الحياة.
خيلون :
أما أنا؛ فشبعت من النسيان.
برياندر :
وأنا ممن صب على اسمي اللعنة وعلى الطغيان.
الحكماء :
من تقصد؟
المؤرخ :
ومن غير سندباد الحكيم؟ إن الملك والوزراء السبعة، وابن الملك الذي سيربيه سندباد ويعلمه الحكمة، والجارية التي ستحاول إغواء الأمير، والحكايات التي سترويها الجارية لتتعجل قتل الأمير الذي رفض أن يستجيب لغوايتها، ثم الحكايات التي يرويها الوزراء السبعة؛ لكي ينقضوا ما أبرمت الجارية، ويؤجلوا قرار الملك بقتل ابنه. وأخيرا حكايات الأمير نفسه بعد أن انفكت عقدة لسانه، فتساقطت الدرر من عقد حكمته، وتناثرت اللآلئ من حبات سنبلته.
الحكماء :
حكاية غريبة كأحلام الشرقيين.
المؤرخ :
بل حكايات وحكايات، ممتدة كليالي أسمارهم، بطيئة وطويلة مثل صبرهم ونومهم ... ولكنني سأكتفي بحكاية السندباد الحكيم.
1
الحكماء :
وبقية الحكماء؟ ألم نتكلم عن سبعة؟
المؤرخ :
نعم نعم. إنهم الوزراء السبعة. وكل واحد منهم يدخل على الملك؛ ليروي عليه حكاية تبصره بعاقبة التعجيل بالقرار الرهيب ... ثم تأتي الجارية في صباح اليوم التالي لتستحثه على اتخاذ القرار، وتروي له حكاية أو حكايتين ... ويدخل عليه وزير آخر.
صولون :
قل لنا إذن ماذا فعل طاليس، بعد أن ركب سفينته، وطاف ببلاد الهند والعجم.
طاليس :
أو الرحالة صولون الذي أخفى عنا أخبار رحلاته.
المؤرخ :
اسمعوا بداية الحكاية وكل حكاية.
الحكماء :
وعدتنا بحكاية واحدة.
المؤرخ :
وكل حكاية تبدأ هذه البداية ... كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك اسمه «كورديس» هو الملك المتوج على عرش هندوستان ... بالغ رواة الحديث وأصحاب التاريخ في بيان فضله وكماله، والثناء على عقله وعلمه، والإشادة بعدله ورحمته ورعايته للرعية، بحيث تسامح الصقر مع الحمامة، وتصالح الذئب مع الشاة، ورعت السوائم مع الأسود في أطراف الممالك وأكناف المسالك ... لكنه على الرغم من سعده وعظمة مملكته، كان يقضي الساعات في الفكرة والحيرة ... كان يقول لنفسه في غرفة خلوته: طائر الملك بلا فرخ، ودوحته بلا غصن، وأصله بلا فرع.
ودخلت عليه جارية جمعت بين جمال الكياسة وكمال الفراسة، ولما رأته على هذه الحال قالت:
الجارية :
ما هذا التغير؟ وما موجب هذا التفكر؟
الملك :
ألم تخبرك عين فراستك عن ثلوج الشيب في شعري؟ ألم تري يد الأجل توشك أن تطوي بساط عمري، وتجرعني كأس قدري، وتدفع بي إلى ليل قبري؟
الجارية :
وماذا في هذا يا مولاي؟
الملك :
ماذا فيه؟!
الجارية :
لا بد من سماع نداء الأجل؛ لأنه لا ربيع بغير خريف، ولا اجتماع بغير وداع.
الملك :
وأودع، وليس لي ولد يجلس على سرير ملكي، ويحفظه من حسد الأصدقاء وغدر الأعداء، ويشرق في سمائه حين تأفل شمسي.
الجارية :
الأمل في فضل الخالق أن يكون وارث أعمارنا وأعمالنا. ورغبة الملك في خلق لائق وأمنية في عقب رشيد تتيسر بصفاء الطوية، وتتهيأ بخلوص النية وعرض الحاجة في حضرة أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين. ألم يأمرنا عز وجل:
ادعوني أستجب لكم ؟
2
المؤرخ :
وتصدق الملك على الفقراء والزهاد والعباد، وأدي نذور الخيرات، وأقام الصلوات ونوافل الطاعات. وخلا بالجارية المحبوبة، فولد البدر والشمس كوكبا في جمال يوسف، وكمال المسيح، على جبينه أنوار الكرم والعظمة، ومخايل النجابة والشهامة. ولما خرجت هذه الثمرة من زهرة الوجود، صرف الملك نعما فاخرة، وأموالا وافرة في الخيرات وفاء بالنذور، وإتماما للسرور، وأمر الحكماء والمنجمين.
الحكماء :
آه! أصبح الحكماء مرة أخرى منجمين!
المؤرخ (مستمرا) :
أمرهم أن يقرءوا طالع الأمير، فنظروا وحسبوا وقابلوا، وقالوا للملك العظيم: اهنأ وعش مخلدا! إن ولدك سيفوق ملوك الأرض في العلم والحكمة، والسخاء والمكرمة. ولم يطمئن الملك فأمرهم بمعاودة النظر والحساب والمقابلة، فنظروا وقالوا: بعد انقضاء سنين من عمره، سيعرض له خطر على حياته، ولكن الخالق سيسهل تلك المعضلة، فلا يرى بعدها أي مكروه، ولا يحط غبار على صفحات كماله ... ولما بلغت سنه الثانية عشرة، أرسله الملك إلى المؤدب ليتعلم آداب الملوك، ومرت عشر سنين، فلم يتعلم الصبي أي شيء من مدارك العلوم.
الملك :
كل هذه السنين ولم يظهر عليه أثر. آه! لقد اغتم فؤادي وتولاه اليأس والضجر. هيا أحضروا الفلاسفة والحكماء! ... ولما مثلوا في حضرته، صاح فيهم: من منكم يعلمه دقائق العلم ويلقنه أسرار الحكمة؟ من منكم يجعله خليقا بتيجان الملوك؟ أيها الحكماء السبعة، اختاروا واحدا منكم، وأسلموه زمام هذه المهمة.
المؤرخ :
وتدبر الحكماء السبعة ذلك الأمر ثلاثة أيام بلياليها. تناقشوا طويلا ونظروا في طالع الأمير، وأدلى كل واحد برأي. وأحجم الجميع عن تعليم الصبي الذي لم يتعلم شيئا في عشر سنين.
حكيم :
إن العود نبت أعوج، إذا زاد التكلف في تقويمه ينكسر ويتلف.
حكيم آخر :
والحديد الذي صدئ في الأرض الملحة، لن تنفع النار ولا العقار في إصلاحه وخلاصه.
حكيم ثالث :
إذا كان لم يتقبل التعليم في بدء نشوئه ونموه، فالآن مستحيل أن يقبل التعليم.
حكيم رابع :
كان النحس متصلا بطالع هذا الصبي.
المؤرخ :
ولكن سندباد الذي حضر هذا الاجتماع فتح فمه وقال:
سندباد :
الآن يزول هذا النحس. أنا أقبله وأعلمه.
المؤرخ :
نظر الحكماء إلى بعضهم، وخافوا على أنفسهم. لاذوا بالصمت مليا، قبل أن يقول واحد منهم:
حكيم :
إن كلمات السندباد تشبه البرق والرعد والسحاب الذي جفت منه قطرات المطر.
المؤرخ :
وابتسم سندباد حين لمح ضباب الحقد يغشى نظراتهم، وقال:
سندباد :
ألا تعلمون أن الحكمة في الإنسان مثل المسك والعنبر، كلما ابتل عوده بالماء ذاع شذاه وانتشر عبيره؟ ألم يستطع الإنسان بالعقل والحيلة أن يستنزل الطائر من الهواء، ويستخرج السمكة من قاع البحر، ويروض الأسد والنمر والوحش الجامح؟
أحد الحكماء :
إن هي إلا كلمات لا يعرف حقيقتها إلا من يري ثمرتها. وشأنها يا سندباد شأن حبات القمح قبل أن يطحن ويخبز ويؤكل، والسفن الطافية على ظهر البحر قبل بلوغ الميناء، والشجعان قبل رجوعهم إلى ديارهم ظافرين، والمرضى حتى يشفوا من الأسقام، والحوامل حتى يضعن حملهن.
حكيم آخر :
ولهذا لا نستطيع أن نمتدح كلامك حتى نتبين نتيجته.
سندباد :
ولكنني أعد الملك أن أتولى تربية ابنه، حتى تفوق حكمته حكمتكم أجمعين، وإذا لم أنجز وعدي، سأقدم رأسي لتقضي فيها بحكمة وعدل قضاءها.
الحكماء :
مهلا يا سندباد مهلا! لقد استغرقت في تحصيل المعارف والعلوم حتى كاد بحر حكمتك أن يغرقنا. كل طائر أعطيته حبة تربيتك جعلته ندا للعنقاء والطاووس، وكل من زينته بحلي فضلك وعقلك يستطيع مساواة الشمس ومناظرة القمر.
سندباد :
إني لا أغتر بمقالكم، ولا يخفى علي خوفكم وترددكم.
الحكماء :
إن كان ثمة خوف فهو عليك.
سندباد :
حقا؟ سأذهب للملك، وأعلن استعدادي لتربية الأمير.
الحكماء :
وسنذهب معك، ونعلن أنك ستجعله أحكم الحكماء.
سندباد :
حقا؟ وسأنجز وعدي في أقصر وقت ممكن (يذهب) .
حكيم (همسا) :
وبعدها تسقط رأسك في حجرك.
الحكماء (همسا) :
أو تسقط رءوسنا في سلة الجلاد.
الفصل العاشر
المؤرخ :
واتفق الحكماء على اختيار السندباد الحكيم لتعليم الأمير، وعهد أبوه إليه بتربية ابنه وتعليمه مكارم الأخلاق، وقوانين السياسية، وآداب السلطنة، ودقائق الشريعة، وحقائق الطريقة. وشغل سندباد بتعليم الأمير جهد استطاعته، وقدم له كل ما في وسعه من الجهد والطاقة، وبذل كل ما في صدره من مدخر المعارف والطرائف. لكن الصبي لم يوطن قلبه على العلم، ولم يتحمل مشقة الحفظ والتحصيل. وظل سندباد يقول لنفسه: لعل وعسى! والولد لا يتقدم ولا يتأخر، وبلغ الملك عما كان من ابنه فتفكر وتحير، وظهرت على صفحات وجهه آثار التغير، ثم ملكه الغضب فصاح فيمن حوله:
الملك :
هل ولد ابني بلا قلب ولا رأس؟ أكان سندباد يضرب بالمطرقة على حديد بارد، أم كان ينقش على سطح الماء؟ أحضروا سندباد! أحضروه في الحال!
المؤرخ :
وحضر السندباد، فبادره الملك قائلا:
الملك :
لماذا لم تألف قريحة الأمير الأدب والحكمة مع مشقة التعليم؟ هل قصرت في تربيته ورعايته، أم كنت كمطرب الأصم، وحامل المرآة إلى الأعمى؟ تكلم! لا تخف عني شيئا.
سندباد :
لا يخفى على جلال مولاي، ولا على هؤلاء الأكابر - وهم نجوم سماء الفضل، ورياحين بستان العدل - أن هذا الذي يشرف بالكلام إليكم قد تبحر في الحكمة والعلم، وقضى عمره في التعليم والتعلم. لقد قدمت كل ما يمكن ويتصور من الاجتهاد، ولكن ما كل من طلب وجد وجد، ولا كل من ذهب ورد.
الملك :
إن الجواد الجامح أو الفيل الوحشي يعطونه لمن يروضه ويهذبه، فيودع جموحه ويغير طباعه في مدة يسيرة. فما بالك لم تروض الأمير؟!
سندباد :
لقد عجزت عن تغيير قلبه وطبعه؛ لأن ذلك أمر خفي عني، لا يتيسر بغير التأييد السماوي.
الملك :
أتحمل السماء ذنب تقصيرك؟
سندباد :
بل يحمله طالع الأمير.
الملك :
ماذا تقصد؟
سندباد :
لقد زال النحس الذي تربص به طوال تلك المدة، وبدأت السعود تطلع في فلكه، وأتعهد بأن أعلمه في ستة شهور.
الملك :
ما لم يتعلمه في اثنتي عشرة سنة؟
سندباد :
نعم يا مولاي. أعلمه معالي الأخلاق، ودقائق العلوم وأسرار التنجيم، وطرق علم الطب وخواص الأدوية.
الملك :
في ستة شهور؟
سندباد :
بلا زيادة ولا نقصان.
الملك :
وإذا حدث التقصير والتأخير؟
سندباد :
أكون مستوجبا عقوبة ملك الملوك.
الملك :
أهو وعد آخر؟
سندباد :
بل وعد أخير أشفعه بطلب صغير.
الملك :
تكلم ... قل ما بدا لك.
سندباد :
أن تأمر ببناء بيت مكعب تصقل سطوحه بالجص والمحارة، وتهيأ للنقش عليها والكتابة.
الملك :
وماذا ستكتب عليها؟
سندباد :
هذ ا ما سوف يعرفه الملك والحضور، عندما تسألون الأمير، فيتكلم بعد ستة شهور.
المؤرخ :
أخذ سندباد يبذل جهده في تربية الأمير، وواظب الأمير وتحمل الآلام في مطالعة الصور والأشكال بقوة البصر، وسماع دقائق العلوم ولطائف الحكم بحاسة السمع، حتى حفظ الغرر والدرر، واستوعب العجائب والغرائب. وكان سندباد قد أمر بأن تنقش صور البروج والكواكب على أحد سطوح البيت المكعب، وتسطر على سطح آخر أنواع المعاملات والأخلاق والآداب والعبادات ، وتثبت على سطح ثالث أسباب العلل، وأسماء الأدوية وصنوف الأمزجة، وتبين على سطح رابع أنواع الأصوات ومراتب الأوتار ومدارج الأوزان والألحان، وترسم على سطح خامس الأشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ومستقيمات ومنحنيات، ويسطر على سطح سادس قواعد تدبير الرياسة والسياسة، وقوانين العدل والإنصاف. ولما انقضت المدة وانتهت المهلة بعث الملك إلى السندباد رسولا يقول: ها قد حل الموعد؛ فهل أنجزت الوعد؟ وبعث سندباد إلى الملك على لسان الرسول: إن شئت أيها الملك أحضر إليك ولدك في الغد. ثم التفت للأمير، وقال:
سندباد :
لقد أبلغت أباك أنك ستكون عنده صباح الغد. سنعرض عليه ما حصلت، وتظهر ما حفظت، وتشهد الجميع أنك قد أصبحت نوارة شجرة الملك، وكوكب سماء الحكم.
الأمير :
ليكن ما تريد يا معلمي.
سندباد :
غير أنني لم أنظر بعد في النجوم لأعرف طالعك.
الأمير :
افعل يا سيدي كما تقول، وانظر في النجوم؛ لتعرف طالعي ونصيبي.
المؤرخ :
ونهض سندباد على قدميه ووضع الاصطرلاب، وظل ينظر درجات الطالع ويتحقق من الصور والأشكال والهيئات، ثم صرخ ولطم وجهه وصاح:
سندباد :
ويلي! ويلي! ماذا أفعل؟!
الأمير :
ماذا بك يا معلمي؟ ماذا رأيت حتى تفعل هذا بنفسك؟!
سندباد :
انظر بنفسك يا ولدي، وستعرف لماذا صرخت ولطمت وجهي. في طالعك نحوسة وخطر إلى سبعة أيام متصلة. وإذا تكلمت في هذه الأيام السبعة مع أي مخلوق يكون في ذلك هلاكك.
الأمير :
إن أمرت ألا أفتح فمي سبعة شهور كاملة؛ فلن أعصي أمرك. اطمئن يا معلمي.
سندباد :
كيف أطمئن يا ولدي؟ إذا صحبتك إلى الحضرة العلية تقع في الخطر، وإذا لم أصحبك أتعرض لعقوبة الملك. من لي بعلاج هذا المشكل وتدبير هذا المعضل؟! إنهم سيصحبونك غدا.
الأمير :
وأين المشكل والمعضل يا معلمي؟ سأطيع أمرك ولن أفتح فمي ... وعندما يقتضي الحال تتدخل حكمتك.
سندباد :
وإذا كانت طوالع النجوم تقول: توار أنت يا سندباد في هذه الأيام السبعة؟
الأمير :
فلتتوار أنت إذن ... ولتتدخل حكمتي.
المؤرخ :
ولما ظهرت أنوار ملكة الكواكب، ذهب الأمير إلى حضرة أبيه ووقف صامتا . وكلما ألح الملك والوزراء، وسألوه أن يتكلم لم يسمعوا منه أي جواب. فقال الملك:
الملك :
لعله يخجل من هذه الجماعة، ولا يطلق لسان المقال في حضرتنا. أرسلوه إلى سراي الحرم؛ عساه يتكلم مع أهل الحجاب.
المؤرخ :
كان في حرم الملك جارية هي الجمال بعينه، وكانت قد عشقت الأمير من مدة مديدة، فلما أن غاب عنها قنعت من وصاله بالخيال، وعللت قلبها عن فراقه بالآمال، وما كادت تسمع بما جرى، حتى ذهبت إلى الملك وقالت:
الجارية :
يا منبع الجلال ومطلع الكمال، أرسل الأمير إلى حجرة جاريته، لقد رعيت الدر اليتيم، وعوضته عن حنان أمه.
الملك :
نعم الرأي ما رأيت يا درة قلبي وقرة عيني ... ليذهب إلى حجرتك؛ عساه أن يتكلم معك.
المؤرخ :
وأخذت الجارية بيد الأمير، ودخلت معه في حجرة الخلوة. واقتربت منه وهي تبثه لواعج الشوق، وتفتح قفص الصدر؛ ليغرد طائر العشق. لم يفتح الأمير فمه، فمدت يدها إلى يده، وقربت صدرها من صدره، وتلوت وهمست في أذنه:
الجارية :
افتح فمك كالوردة بوعد صادق، حتى لا أمزق القميص كزهرة الشقائق. إنها دعوى القلب، أنا معك، لا تصرخ! ها هو باب حكم العشق، وها أنت وأنا.
المؤرخ :
وبقي فم الأمير مختوما بشمع الصمت. فمالت عليه، حتى كادت أن تلمس شفتيه وقالت:
الجارية :
ضع يدك في يدي. عاهدني أن أسلمك هذا الملك، وإذا وفيت الوعود ولم تنقض العهود.
المؤرخ :
ولم يستطع الأمير أن يكتم إعصار غيظه، فأطلق من فمه بركان غضبه:
الأمير :
كيف تدخلين هذا المستحيل في حد الإمكان؟
الجارية :
أسم الملك بالحيلة، وأضع تاج المملكة على رأسك.
الأمير :
هل يليق بالابن أن يتعرض لحرم الأب؟ هل أبطل حق الشريعة والفتوى، من أجل قضاء شهوة؟ إنني إذا قلت كلمة في هذه الأيام السبعة تكون سبب هلاكي وضياعي. ولولا كوكب النحس والخطر، لأبلغت أمرك للملك المنتقم. لكنني سأسكت وأنتظر، حتى تنقضي أيام النحوس وساعات البؤس، فتنالين جزاء العقوق، وتعاقبين على خيانة الحقوق.
المؤرخ :
وخرج الأمير من حجرة الجارية، وهو في أشد الغضب. وفكرت فيما بينها وبين نفسها، وقالت وهي تعض بنان الندم على سوء تدبيرها، وتغص بالدمع المنهمر على هول مصيرها:
الجارية :
ويلي ويلي! لقد لوثت عرضي بالخيانة والفضيحة، وصيرته هدف سهام العقاب والعذاب، ولو سمع الشاه الأعلى بما جرى لبطلت ثقته في عهدي وكمال محبتي، وأنكر قديم إخلاصي وودي. ويلي! ويلي! لقد عرضت نفسي لسخطه: ولا أمان للبحر والنار والسلطان. وإذا أمكنني تجنب البحر والنار؛ فكيف أتجنب غضب الملك؟ ليس أمامي إلا أن ألجأ إلى لطف الحيلة، وبديع التمويه والتزوير. ليس أمامي إلا أن أطأ الروح بالقدم في هذا الطريق! وقبل أن تنقضي مهلة الأيام السبعة ويقرر الأمير خيانتي، فلا بد أن أسبقه وأتهمه بالخيانة.
المؤرخ :
ومزقت الجارية ثيابها على الفور، وانتزعت شعرها وخمشت وجهها، وصاحت وهي تجري إلى تخت الشاه متنكرة متحيرة.
الجارية :
الغياث يا مسلمين! يا أيها السلطان! يا ملك العالم! يا ظل الله في الأرض ومأوى كل مظلوم! أيجوز أن يصير في عهد عدلك ظلم، وترتكب في حق ذاتك خيانة؟
الملك :
ومن الذي ارتكب هذه الخيانة؟ من تجرأ على هذا الظلم؟
الجارية :
لما صحبت الأمير إلى حجرتي، أشفقت عليه شفقة الأمومة، وقلت له: يا ثمرة الشجرة الملكية! لم هذا الصمت؟ ولماذا لا يغني بلبل لسانك على شجرة الكلام؟ فما كان منه إلا كما قالوا: سكت دهرا ونطق كفرا.
فتح فمه وقال: موجب صمتي داء حبك الذي لا علاج له، وهجرك الذي لا ينتهي. آه! لقد وضعت يد العشق قفل السكوت على فمي، فاعلمي أن حبك امتزج بمائي وطيني، واستقر في قلبي من المهد إلى هذا العهد. لقد أسعف الحظ، وأرسلني الشاه الي حجرتك، فأطلقي روحي من قيد هواك، واروي عطش فمي من ماء بحرك، واقبلي خدمتي في كعبة جمالك، حتى أقضي على أبي بالسيف أو بالسم. ولما رأيت أن الجنون قد استولى على قلبه، وخفت أن يتبع الأقوال الذميمة بارتكاب الفاحشة والجريمة، خلصت شرفي من خناجر يديه، وجريت إلى ظل رحمتك، وعدت لك وأنا أقول ما قالت زليخا: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا؟
المؤرخ :
وتأثر الملك وتعكر، ثم قال في غضب الأسد الغضنفر:
الملك :
إلا أن يسجن أو عذاب أليم ... لا لا ... ليس هذا ولدي ... إنه ليس من أهلي ... لا بد من قلع الشوكة وقتل الأفعى! ولا علاج للعضو المريض إلا القطع أو الحرق!
المؤرخ :
وأشار للسياف أن أخرجه وأهلكه، ولولا أنكم كنتم هناك ...
الحكماء :
نحن؟ ... هناك في بلاط السلطان!
المؤرخ :
نعم نعم. الحكماء والوزراء السبعة، كلكم كامل وعاقل، وناصح وعادل، تزينون سماء المملكة كالسيارات السبعة، وتثبتون قواعدها برأيكم الصائب، وذهنكم الثاقب. فقد اتفق أن كان الوزراء في طريقهم إلى الحضرة، فلما سمعوا ما قالته الجارية، اجتمعوا للتشاور والتأمل، وقال الوزير الأكبر:
الوزير الأكبر :
لا يليق أن يلتفت السلطان إلى مقال امرأة ناقصة العقل.
وزير :
ويهلك ابنه في سورة غضبه.
وزير :
ثم يتحسر ويندم، حين لا تنفع الحسرة والندامة.
وزير :
وعندئذ لن يتهم رأي السلطان، ولن يشك في عقله.
وزير :
بل سندان نحن ونرمي بسهام السخف والحمق.
وزير :
ويلقي علينا ذنب تعجله، ويعاقبنا على جريمته.
الوزير الأكبر :
ويبقى عرش المملكة بغير وريث، ويطمع العدو في الديار، ويودي بالطيب والخبيث.
وزير :
وإذا أمضى السلطان عزيمته، ونفذ أمره ...
وزير :
لم يسبق أن فعل هذا بغير مشورتنا وتدبيرنا.
الوزير الأكبر :
فلنسرع إليه قبل أن يقر قراره.
وزير :
ويندم على حمقه وطيشه.
وزير :
ونندم نحن على عقلنا وحكمتنا!
الفصل الحادي عشر
المؤرخ :
أخذ الوزراء والحكماء السبعة يتشاورون ويتدبرون، واتفقت كلمتهم على الطريقة التي يخلصون بها الأمير من هول المصير؛ فيذهب كل واحد منهم إلى حضرة السلطان، ويروي له حكاية في مكر النساء وكيدهن، وبذلك يبطل الحكاية التي تكون الجارية قد روتها له في اليوم السابق لتستحثه على قتل الأمير. وأعجبتهم الفكرة الحكيمة، ومضوا في تنفيذها لعلها تدفع الداهية العظيمة وتؤجل العقوبة الجسيمة، حتى تمر أيام النحوس، وتتبدل بأوقات السعود التي تحيي موات النفوس. وأسرع الوزير والحكيم الأول إلى السياف وقال له:
الوزير :
أوقف عقوبة الأمير، حتى تتكشف الأمور.
السياف :
لقد أبلغني رسوله الآن، بمشيئة حضرة السلطان.
الوزير :
قلت أوقفها يا غبي، وحذار أن تلمس شعرة من رأس الصبي.
السياف :
وإذا وصلني المرسوم والفرمان، وعليه ختم السلطان؟
الوزير :
تلقيه في النار بلا إبطاء، ما لم تجد عليه أختام الحكماء السبعة والوزراء.
المؤرخ :
وذهب الوزير إلى حضرة السلطان، وقدم شروط الطاعة ولوازم الثناء، ثم قال: ليس يوافق رأي السلطان الكافي، وعقله الوافي، الإقدام على مثل هذه العقوبة الهائلة، والتي يتعذر تداركها حين تنكشف شمس اليقين، من حجاب الشبه والظنون، ويصبح حالكم كحال ذلك الرجل الذي قتل ببغاءه بافتراء امرأته. ولما ميز الحق من الباطل، والزور من الصدق، لم تجده الحسرة، ولم تنفعه الندامة ... وهنالك مسألة الملك.
الملك :
وكيف كانت تلك الحكاية؟ قل يا وزير.
المؤرخ :
وروى الوزير حكاية عن كيد النساء، أتبعها بحكاية أخرى عن دهائهن ومكرهن، لكي يصرف الملك عن تسليم الأمير لريح الفناء، بتزوير واحدة من بنات حواء. وسمعت الجارية في اليوم التالي أن الملك أجل عقوبة ابنه؛ لأن أحد الوزراء الحكماء ثناه عن إمضاء عزمه، فذهبت أمام تخت الشاه، واستغاثت بعدله وإنصافه، وحثته على الإسراع في تنفيذ العقوبة، حتى لا يحدث له عين ما حدث للقصار من ولده العاق.
الملك :
وكيف كانت تلك الحكاية؟ احكي أيتها الجارية!
المؤرخ :
وروت عليه حكاية القصار الذي كان مشغولا بغسل الثياب في النهر، فرأي ابنه الأحمق الجاهل يغرق مع حماره في الدوامة، واندفع في الماء لينقذه، فتشبث به الولد وأغرقه معه. فلما سمع الملك الحكاية قال:
الملك :
هيا يا سياف! عجل برقبة ابني الفاسق العاق!
المؤرخ :
وعندما وصل الخبر إلى الوزير الثاني أسرع للسياف، وقال:
الوزير :
أحذرك كما حذرك الوزير الأول! أجل القتل حتى أرى السلطان، وأحدثه عن فوائد ترك التهور والبعد عن مكائد النساء.
المؤرخ :
وجاء الوزير الثاني، فروى رواية وحكى حكاية عن الرجل الذي ترك طفله الوحيد مع قط يحرسه، ثم رجع إلى بيته فوجد على فمه آثار دماء. وجن جنونه حين تصور أنها دماء ابنه، فقتل القط شر قتلة، ثم اكتشف سوء فعله، عندما دخل بيته، ووجد الطفل نائما في مهده وعلى الأرض مزق من لحم ثعبان أسود أنشب فيه القط الوفي مخلبه ونابه ... وعادت الجارية في اليوم التالي، فروت رواية وحكت حكاية لإحباط تدبير الحكماء لنجاة الأمير، وتأجيل القرار المهلك الخطير. وهكذا استمر الحال إلى أن انقضت الأيام السبعة التي حكم على الأمير بأن يلزم فيها الصبر والسكون، حتى يرتفع من درجات النحوس إلى كواكب الخير والسعود. وانطلق لسان الأمير فأرسل إلى الوزير الكبير، وأثنى على حكمته هو ومن معه من الوزراء، وطلب منه أن يذهب إلى أبيه، ويحمل إليه البشرى بنجاته من كل مكروه، ويطلب منه الأمر بإقامة محفل يضم الأعيان والكبراء، ويعرض فيه الأمير محصوله من علم العلماء وحكمة الحكماء. واجتمع الجمع العظيم، وطفق الأمير يظهر علمه المكنون، ويبرهن بالحكايات على مخالفة التقارير للتدابير، وكيفية تحول حاله من التعسير إلى التيسير، واتجاه همته إلى تحصيل أنوار العلم والعرفان، وأزهار الحكمة والبيان ... والفضل لله ولسندباد ... فالتفت الملك إلى السندباد الحكيم، وقال:
الملك :
كنت واثقا من عقلك وحكمتك، وفضلك وشهامتك. ولكن قل لي يا سندباد: كيف ساعدت ولدي على تحصيل هذه الحكمة الجليلة، في هذه المدة القليلة؟
سندباد :
ليأذن مولاي بأن يرد الأمير على سؤاله.
الملك :
قل يا ولدي.
الأمير :
أصل كل العلوم العقل، وأصل العقل الحكمة، والحكمة فيض رباني، أو من يكون مسعود الحظ، تتهيأ له الأسباب فتتنزل عليه.
الملك :
والأسباب من تقدير الله يا ولدي.
الأمير :
جلت قدرته، وهو مسبب كل الأسباب!
الملك :
وبحكمة هذا الشيخ العاقل.
الأمير :
حكمته ورعايته وفضله. أما الأسباب فعدة حكم أو كلمات.
الملك :
كلمات؟ ماذا تقصد؟
الأمير :
كلمات دونها الشيخ على جدران القصر.
الملك :
يدهشني قولك. تقصد ذلك البيت المكعب الذي طلب السندباد بناءه؟
الأمير :
وعلى كل جدار سطر حكمه.
الملك :
أسمعني بعضا منها ... قل.
الأمير :
من يستمع لأقوال الواشي والنمام، يندم إذ لا يجدي الندم ويحيا في الآلام.
الملك :
الحمد لله الذي نجانا منه.
الأمير :
من يتربى في حضن الفطنة والعقل التام لا يغفل عن مكر عدو كالثعبان السام.
الملك :
نعم يا بني. أوشكت أن أغفل عنه.
الأمير :
مهما فعل الإخوان؛ فلا تبغض أحدا، فالجرح المؤلم من كف صديق لا يؤلم أبدا.
الملك :
صدقت يا ولدي. لولاهم لجرحت جرحا لا يداوى.
الأمير :
شاور - إن رمت الرأي الصائب - أرباب الحكمة والعقل الثاقب.
الملك :
ونعم ما أشار به الحكماء السبعة من غير استشارة!
الأمير :
احذر أعداءك في الداخل، واضمم حاشية الثوب؛ فالسهم المارق من قوسك سيصيب القلب.
الملك :
الحمد لله الذي أطاش السهم الغادر.
الأمير :
العاقل من لزم الصمت وصام الدهر، إن نطق بقول يتدبر عاقبة الأمر.
المؤرخ :
ورفع الملك يديه إلى السماء، وقال: الحمد لله الذي زين ولدي بزينة العقل والحكمة، والآن أوان العزلة، والاستعداد للزاد، والتهيؤ للمعاد. ذهب القادمون واحدا واحدا، ولا أحد يدل على العائدين.
الحكماء :
آه ... وذهبنا نحن أيضا.
المؤرخ :
ورجعتم يا حكماء اليونان السبعة ... في أجيال منها الحكماء، ومنها أعداء الحكمة.
الحكماء :
أما الحكماء فقد تابعت خطاهم، لكن من هم أعداء الحكمة؟
المؤرخ :
الدجالون ومن نطقوا باسم الحكمة، تجار الكلمة، والقوالون الوراقون الكتبة. يتحرك قلم ولسان، والقلب الغادر خوان، وكر أفاع يفزع منه الشيطان ... والكذبة كالجارية بقصر السلطان.
الحكماء :
قلب خوان؟ والكذبة كالجارية بقصر السلطان؟ ماذا تقصد؟
الفصل الثاني عشر
المؤرخ :
ذهبت الجارية والأمير والسلطان والسندباد. لكن بقيت تلك الكلمات على جدران القصر.
الحكماء :
الكلمات على جدران القصر؟!
المؤرخ :
تلك التي رددها الوزراء السبعة والأمير، تلك التي حفظت حكمتكم وحفظته.
الحكماء :
حكمتنا نحن؟
المؤرخ :
ربما تغيرت قليلا، ربما صارت خيوطا في بساط شرقي، ونسجت منها حكايات وحكايات ... لكنها أنقذت رأس الأمير.
الحكماء :
وكيف عرفها الوزراء أو الحكماء السبعة؟
المؤرخ :
لا ندري كيف. هل نفختها ريح الوجدان الشعبي، فطارت من جزر اليونان لأرض العرب
1
وأرض الفرس؟ هل نقلتها قوافل التجار المسافرين، أو حملتها سيوف المحاربين؟ كل ما ندريه أنها تسللت إلى القلوب قبل أن تظهر في وقت الشدة.
الحكماء :
وهل لاحظت وجه الشبه بينهما؟
المؤرخ :
وأنتم؟ ألم تلاحظوه؟
صولون :
حذار! لا تبالغ في شيء!
المؤرخ :
قالها الوزراء السبعة كل بطريقته. وعندما أسرف السلطان في تهوره علموه أن العاقل هو من يلزم حده.
طاليس :
الزم حدك! هذا قولي.
المؤرخ :
ولما سبق لسانه عقله حذروه.
خيلون :
لا تجعل لسانك يسبق عقلك.
كليوبوليس :
استمع كثيرا، وتكلم قليلا.
المؤرخ :
وكذلك حذر الوزراء السبعة: العاقل من لزم الصمت وصام الدهر، إن نطق بقول يتدبر عاقبة الأمر.
بيرياندر :
ليتهم قالوا للملك ما قلت: إن حالفك الحظ فراع العدل، وإذا النحس أصابك فارع الحكمة والعقل.
المؤرخ :
وهل قالوا له غير هذا؟ لقد اندفع وراء طيشه وغضبه، فظلوا يلحون عليه أن يتريث ويؤجل قراره:
شاور إن رمت الرأي الصائب،
أرباب الحكمة والعقل الثاقب.
صولون :
لو بدأ بمعرفة النفس.
طاليس :
ألم أقل إنها أصعب شيء؟
المؤرخ :
ولكنه عرفها في النهاية ... ولولا حكمتكم ...
صولون :
قلت لا تبالغ في شيء!
المؤرخ :
لولاها ما بقيت رأس الأمير على رقبته، فالحكمة تتدخل في وقت المحنة. وإذا غابت، وافتقد الناس الحكماء ولم يجدوا القدوة ...
الحكماء :
فالكارثة أو اللعنة!
المؤرخ :
ذلك حق؛ ولهذا نحيا في المحنة.
الحكماء :
كيف وما زلت تردد حكمتنا؟
المؤرخ :
وأعلمها ويعلمها غيري. نكتب عنها ونرددها، لكن من يحييها؟ ومن يذكرها ويحققها في نفسه؟
الحكماء :
هل غاب الحكماء، وجفت آبار الحكمة؟
المؤرخ :
بل أصبح كهان الحكمة أعدى أعداء الحكمة.
طاليس :
دعنا نسمعهم صوت العقل.
صولون :
أو ندعوهم للمأدبة الكبرى.
طاليس :
ونذكرهم - قبل فوات الوقت - بأقوال الحكماء السبعة.
المؤرخ :
هل يجدي هذا مع من لا يعرف نفسه؟
طاليس :
لن يجدي شيء غيره! ... أنا أبدأ قولي:
اعرف نفسك!
معرفة الناس هي الحكمة،
لكن معرفة النفس ضياء.
والنور الأكمل لا يتدفق،
لا يترقرق إلا من مهجة شمسك.
صن نبع صفائك.
ذد عنك السحب؛ لكيلا تغشي شمس سمائك،
واعرف نفسك يا صاح بنفسك!
المؤرخ :
أتفيد الحكمة من لا يعرف حده؟
كليوبوليس :
اسمع قولي له:
الزم حدك، لا تطمع!
وإذا أحسست الرغبة؛ فارغب في شيء واحد:
ألا ترغب شيئا!
ليس هنالك جرم أبشع،
لا نكبة في العالم أفظع
من أن تأسرك الشهوة،
ويسوقك ثور الجشع الأعمى
للثور الأجشع.
فارض بما عندك واقنع.
الألوان الخمسة تعمي البصر فلا تطمع.
والنغمات الخمس الناشزة تصم السمع،
فارقد في حضن الصمت،
وازهد في اللذة فاللذة باب الموت.
مر على الحان ولا تتطلع.
حتى المعرفة أو الفطنة،
حتى الحكمة إن جاوزت الحد،
فنبذ الحكمة أنفع!
من ربح العالم فهو الخاسر،
أما من خسر النفس
فإن خسارته أوجع.
المؤرخ :
والمتظاهر ... لا يشغله إلا المظهر،
هل يجدي معه النصح؟
بياس :
تدبر!
واصدق مع نفسك.
كن، لا تظهر!
واسمع قول «بياس» وتفكر:
هل تظهر علمك، وتؤكد أنك في العلم مقدم؟
ليتك تعلم
أن العلم يميت الحكمة،
والأعلم ليس هو الأحكم!
في أوقات المحن وزحف الطوفان الأعظم،
يصبح أذكى الناس كأغباهم،
والأفصح فيهم أبكم.
هل تظهر أنك أنت البطل الأوحد؟
أنك بعد المذبحة الكبرى
صرت المنتصر الأعظم؟
البطل الأوحد - فيما يؤثر من أقدم عهد -
كسب المعركة ووفى الوعد،
ثم توارى لم تره إلا عين الرب.
عبر إلى الشط الآخر وانتظر الشعب،
انتظر الموكب والبطل الظافر؛
ليتوجه إكليل المجد.
مالت شمس نهار، وانحدرت شمس أخرى للغرب.
أما البطل فغاب، ولم يظهر بعد!
2
المؤرخ :
من يتخذ الحكمة ترفا، أو يجعل منها حلية، ويثرثر - مثل الحاوي - في زمن الضنك عن الحرية، ما قولك له؟!
بيتاكوس :
لن ينفع قول في زمن يسقط معنى القول.
فاجدل من قولي حبل الثورة والفعل،
يا من تلبس ثوب الحكمة في زمن المحنة والأحزان،
اصنع من قولك حجرا وارجم كل الأوثان.
الشعب العاجز لا يملك دفعا للطغيان.
هل تتأمل ضوء القمر، وشعبك في الوحل مهان؟
الثورة هي فصل الحكمة، ثر وتحرك!
واغضب للحق، وأعلن للعالم سرك وارفع صوتك!
وإذا اختل نظام الشعب، وساد الرعب،
وضاع الواجب والقانون؛
فالحكمة في المحنة خوف والطيبة ضعف،
والعقل جنون.
عندئذ تستل الحكمة سيف العدل،
وترفع أعلام الثورة والحرية،
وتقاتل؛ كي لا يسقط هذا العالم
في كف العسف الدموية.
جاء الحكماء وجاء الرسل، وتركوا للناس وصية.
للفقراء المحتاجين، لخبز الحكمة والحرية .
فروا من وجه طغاة الأرض ولبوا صوت الشعب،
واجتمعوا تحت لواء البؤس زمانا.
ثم تواروا في ليل الغيب:
رهبان الهند وكهنة طيبة والفقراء بمكة،
أتباع البوذا وزرادشت، وكونفوشيوس والطاوية،
والمحزونون مع المحزون على جبل الزيتون، وفي جلجلة يوم الصلب مدوا حكمتهم طوق نجاة للبؤساء، وعاشوا من أجل قضية الحكمة في وقت المحنة تثأر وتثور وتضرب!
كن نورا في ليل العالم والحكمة شمسا وسماء،
تنقشع السحب وتقصر عنك سهام السفلة والسفهاء،
واترك هذا العالم خيرا مما كان عليه،
حين أتيت إليه.
المؤرخ :
حق ما قلت، ويبقى القول هو القول.
أعداء الحكمة لن ينفع معهم قول أو فعل.
الحكماء :
جرب!
المؤرخ :
جربت وألقيت البذر،
لم أحصد غير الحسرة والثمر المر.
الحكماء :
قد يقع المطر على أرض صالحة خصبة،
ويمر الصدق على الكاذب فيحرك قلبه.
المؤرخ :
أعداء الحكمة في هذا العصر
صم كالصخر.
شبوا في حجر المكر، وشابوا في حضن الغدر.
ماذا تنتظر من الأوغاد الكذبة،
القوالين الوراقين الكتبة،
شهود الزور ونهازي الفرص،
لصوص الموتى والأحياء النهبة؟
هل ينبت زرع في أرض خربة؟
اغتالوا الحق وراحوا يبكون الميت،
وأقاموا المأتم، وانطلقوا وبأعلى صوت:
الكاذب ينعى الصدق، وينشد أروع مرثية،
والمتسلط يبكي الحرية.
والمتسلق يندب حظ الشرف الضائع وعبيد السلطة يفتون عن الثورة.
والساجد للدولار يحض الناس على الزهد،
ويسهب في مدح الفقر وإخلاص النية.
والكل يصيح، ويصرخ ويثير من اللاشيء قضية.
الحكماء :
الكل؟ ألا تستثني أحدا؟
المؤرخ :
أستثني القلة وأقل من القلة ... من بالطبع أو العزة والأنفة ... عاشوا في كنف الغربة.
الحكماء :
أتعيش الحكمة في تلك الغربة؟
المؤرخ :
وتعزي النفس بذكرى الحكماء السبعة.
الحكماء :
ومن سيعزي الحكماء السبعة؟
المؤرخ :
إن الحكمة تبكي أيضا.
الحكماء :
ابكي أيتها الحكمة،
ابكي أيتها الحكمة.
عبد الغفار مكاوي
يناير 1987م
ملاحظات
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل الثاني عشر
Bilinmeyen sayfa