الإهداء
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Bilinmeyen sayfa
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملاحظات
الإهداء
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
Bilinmeyen sayfa
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملاحظات
Bilinmeyen sayfa
الحكماء السبعة
الحكماء السبعة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى ذكرى يوسف كرم
الفيلسوف الحق
والقدوة العالية،
في أيام صرعت فيها القيم
وغابت عنا القدوة.
Bilinmeyen sayfa
تقديم
كان أفلاطون هو أول من ذكر الحكماء السبعة وأسماءهم في محاورته «بروتا جوارس (343ق.م.)، ثم جاء مؤرخ الفلسفة اليونانية ديوجينيس اللائرسي «حوالي سنة 220 بعد الميلاد» فروى في كنزه النفيس، وهو كتابه عن حياة الفلاسفة المشهورين وآرائهم، الكثير من أخبارهم وحكمهم الموجزة التي تلخص تجربة حياتهم، وأورد أسماءهم السبعة المعروفة، وقال: إن آخرين يضيفون إليهم «أناخارسيس»، و«ميسون»، و«فيريكيديس»، و«إبيمينيدس»، وربما زيد عليهم اسم الطاغية «بيزيستراتوس»، وأسماء أخرى تصل بهم إلى ثلاثة وعشرين حكيما! وظل الناس يتناقلون أنباءهم وحكاياتهم وكلماتهم من العصر اليوناني إلى عصر النهضة.
وكان من الطبيعي أن تتغير صورهم وأسماؤهم وتفسير الرواة لهم من عصر إلى عصر، حتى لقد وصل ذكرهم وطرف من أخبارهم إلى الشرق، فسجلت قصة من روائع الأدب الفارسي بعض أقوالهم الجامعة على لسان سندباد الحكيم والوزراء السبعة، في كتاب السندباد (سندباد نامه). وأشار إليهم بعض فلاسفة الإسلام ومؤرخي الحكمة وطبقات الحكماء إشارات لا تخلو من الطرافة «كالبيروني، والشهرستاني، وابن النديم، والشهرزوري، والمبشر بن فاتك».
لم يكن هؤلاء الحكماء فلاسفة بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد كانوا - باستثناء «طاليس» أبي الفلسفة و«صولون» الشاعر والمشرع الأثيني المعروف - رجال عمل وبناة دول، اشتهروا بالأمانة والصدق وقهر النفس واحترام القوانين. وكانت تجارب حياتهم، بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد، التي تبلورت في حكمهم وكلماتهم بمثابة البذور التي نمت بعد ذلك في أشكال فكرية حية. فأصبحت «اعرف نفسك» عند سقراط نظرية عن ارتباط الفضيلة بالعلم والمعرفة، وتطورت «لا تسرف في شيء» عند أرسطو إلى ما يسمى بنظرية الوسط الذهبي، وتغلغلت فكرتهم المحورية عن التزام الحد والاعتدال في روائع العقل والوجدان اليوناني في الفلسفة والشعر، وأناشيد الجوقة في المأساة.
التقيت بالحكماء السبعة في سنوات الطلب قبل ما يزيد على الربع قرن. فقد هداني الحظ - في لحظة نادرة من تلك اللحظات التي يفتر فيها ثغره عن بسمة ضنينة - إلى كتاب استوعب عباراتهم وحكاياتهم وأخبارهم الأصيلة، وحققه ونشره العالم الألماني الأستاذ برونو سنيل، «حياة الحكماء السبعة وآراؤهم، ميونيخ، سلسلة توسكولوم 1952م». ثم ظلت أمواج الأيام والأحداث تتقاذف قارب شوقي للكتابة عنهم، حتى سألني زميل كريم
1
أن أشارك في كتاب تذكاري عن مؤرخ الفلسفة العظيم وأستاذ الأساتذة، المرحوم يوسف كرم. وما كان لي أن أتخلف عن ركب الوفاء لهذا الحكيم الحق، الذي كان وسوف يظل القدوة والمثل الأعلى، خصوصا وأنا أشهد في جيلي وزماني مصرع الحكمة وسفهها وتشويهها على أيدي عدد من الصغار الذين ابتليت بهم، وبدأت العمل في المشروع القديم. وما لبثت المادة المترامية الأطراف أن أقنعتني بالتخلي عن صورة المقال والبحث التقليدية، وفرضت علي هذا الشكل الذي يجمع بين النثر والشعر، ويزاوج بين الفلسفة والمسرح، ويمر في حياة الحكماء والتأمل في مصير الحكمة بعدهم إلى الحد الذي يحرمهم من الدخول بين دفتي ذلك الكتاب ... ثم توالت أمواج الأيام والأحداث، فعصفت بشراع حياتي في محنة شخصية فجعتني في بعض الزملاء والأبناء، الذين توهمت ذات يوم أنهم ذخر البقية الباقية من العمر.
وقد علمتني المحنة أن الشر والغدر المتعمد وصمة على جبين البشرية كلها، كما علمتني في الوقت نفسه أن الظالم والمظلوم والقاتل والمقتول صائرون في النهاية إلى التراب الذي يسوي بينهم على صدر أمنا الأرض. ومع أن المحن الشخصية لا تكفي لإقامة علم ولا فن؛ إذ لا بد أن تجد معادلها الموضوعي، في شكل فكري أو أدبي باق، وأن تبلور دموعها في لآلئ صلبة صافية؛ فقد دفعتني بقوة الضرورة القاهرة لإتمام هذا العمل الذي تراه بين يديك. وهو عمل ربما أثار في نفسك، كما أثار في نفسي، شجونا تتصل بمحنتنا العربية التي لا تخرج المحن الفردية والجماعية المتوالية عن أن تكون صورا مصغرة منها، وشظايا وشرارات من نيران جحيمها الذي نصنعه لأنفسنا بأنفسنا.
ربما سألتني: لماذا الحكماء السبعة في زمن نعلم أن الحكمة غابت عنه، وصارت ضعفا واستسلاما أو يأسا وركودا وظلاما، وتحولت عند عدد كبير ممن جعلوها مهنتهم إلى كتب ميتة ومذكرات ركيكة، وإملاء وتلقين واجتراء وتكرار، تجني كلها على النشء جناية لا تغتفر؟ ما جدوى التذكير بهذه الشخصيات التي تنتمي إلى حضارة وثقافة أخرى، في ظروفنا الحضارية والثقافية التي أصبحت أزمات تدهورها وانهيارها غير خافية على أحد؟ وهل تستطيع بعض الشخصيات أو الكلمات المضيئة فوق بحار الظلمات التاريخية أن تمد طوق النجاة للسفينة الغارقة؟
إذا كانت الحكمة والحكماء قد غابا عن المسرح العالمي والمحلي (باستثناء قلة من شيوخنا ورعاتنا الأجلاء قد لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة)؛ فإن ورثة الحكماء، وهم المثقفون، وسليلة الحكمة، وهي الثقافة، يستحقان أن نقف معهما قليلا، ونذكرهما بالماضي العريق والأجداد المنسيين. وأسارع فأبشر القارئ بأنني سأكفيه وأكفي نفسي عبء الجدل الممل العقيم عن تعريف الثقافة ومقوماتها، والفرق بينها وبين الحضارة والمدنية ... إلخ. وسأتجه مباشرة إلى حملة الثقافة وهم المثقفون، بل سأحصر نفسي في دائرة واحدة من دوائرهم الكثيرة، وهي دائرة المربين والمعلمين - وأنا واحد منهم - لعلنا نستطيع أن نستوحي الحكمة والحكماء، ونقيم لأنفسنا محاكمة نقف فيها أمام أنفسنا ونراجعها ونحاسبها، فمراجعة النفس ومحاسبتها، بالمعنى الكوني الشامل، قد كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من الحكمة.
Bilinmeyen sayfa
لا شك في أن التعميم يمكن أن يبتعد بنا عن الحق والإنصاف، ولا شك أيضا في أن حياة المثقفين في الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بنا في العقود الثلاثة الأخيرة لم تكن سهلة ولا يسيرة، بل كانت في معظم الأحيان شبه مستحيلة، وأدت في كثير من الأحيان إلى شعور المثقف بالاغتراب المضاعف، وكادت أن تصل به إلى حافة الجنون. كما أن الحياة في ظل النظم الفردية المطلقة التي غابت عنها الحرية والقانون قد أفرخت مسوخا شتى من الطفيليين، والانتهازيين والنرجسيين المتضخمين، وتجار الكلمة والعلم، وحواة الشعارات، والمغازلين للسلطة بعين وللتقدمية بالعين الأخرى، حتى ليأخذنا العجب وتغلبنا الحسرة، فنهتف مع الشاعر صلاح عبد الصبور، على لسان سعيد في مسرحيته «ليلى والمجنون»: «ربي! كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا القدر من السفلة والأوغاد؟!»
ومع ذلك، فإن الظلام لم يستطع أن يطبق علينا تماما. فهنالك إنجازات حقيقية في مختلف ميادين الإبداع والبحث العلمي قد تمت، وروائع قليلة العدد قد استطاعت أن تبرز فوق مياه الطوفان وتتحداه. والذي يعصم النفس من الغرق في اليأس والحزن أن حياتنا لم تخل من المخلصين العاملين في صمت، والمتفانين إلى حد الاستشهاد، والمترفعين المتعففين مهما أصابهم من الضيق والضنك والإملاق، وإن بقي علينا أن ندركهم قبل أن يهلكهم الموت البطيء بسموم المرارة والإحباط!
بيد أن الأهم من ذلك كله أن مفاهيم الثقافة والعلم والتعليم قد أصبحت في أشد الحاجة إلى المراجعة الشاملة، كما أصبحت نظمها ومناهجها وغاياتها وفلسفاتها، إن كانت هنالك فلسفات، في حاجة إلى البداية من الصفر. وكما يحدث في أوقات الأزمات والمحن التي تلم بالأفراد والشعوب، وتطرح فيها الأسئلة الكبرى والنهائية، ويتحتم على ملاحي السفن المهددة بالغرق أن يواجهوا أنفسهم بهذا السؤال: إلى أين ينتهي بنا السير؟ كذلك تقتضي الضرورة أن نسأل أنفسنا: ماذا نعلم ولماذا نعلم؟ هل استطعنا أن نعلم الشباب، وننمي فيهم روح التفكير النقدي المستقل، والبحث المتحرر من التميز والهوى؟ هل حققنا أقل قدر من النجاح في إزالة الأوهام الراسخة وتحطيم الأصنام العقلية والتمييزات البالية؟ ولماذا أخفقت الثقافة والعلم في تغيير واقع ملايين الناس ووعيهم تغييرا ملحوظا، ولم تخط بهم خطوات ملموسة على طريق الحرية والتقدم والاستنارة؟ هل اكتفينا بنقل المعلومات والمذاهب والنظريات - وليته كان نقلا أمينا في كل الأحوال - وشاركنا، عن قصد أو غير قصد، في قمع الفكر النقدي المستقل، ومد ظلال الركود القبيح والتهاوي والعناء على مجتمعاتنا ككل؟ ألم يساعد ذلك في النهاية - بجانب عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية معروفة ولا حاجة لذكرها - في ظهور تلك النباتات الشيطانية التي تشابكت وتضخمت في حقل المعرفة والأدب والفن، حتى أوشكت أن تحيله إلى غابة تمرح وتصفر فيها أفاعي الانتهازية والتسلط واستغلال العلم والمعرفة، في جمع الثروة وممالأة السلطة والسعار إلى الشهرة والمنصب والمجد الكاذب؟ هل وعينا الدرس القائل إن المعلم في حاجة إلى تعليم، والمربي في حاجة إلى تربية، فتحملنا المسئولية بشجاعة وتشبثنا بإعلاء القيم في زمن سقوط القيم، وتمسكنا بالراية شأن الجنود المناضلين؟ وهل استطعنا أخيرا أن نقف متساندين جبهة واحدة للضمير اليقظ، كما وقف الحكماء والمعلمون الحقيقيون على الدوام، لنرد المحنة عن حضارتنا التي يطبق عليها الحصار وتتعرض للتصفية - لا بفعل الصهيونية والاستعمار وحدهما - وتضطر إلى التراجع والانكماش، كأنها كائن خرافي آن أوان انقراضه، بعد أن لم يعد له مكان في عالم تجاوزه وأنكره وسخر منه، اللهم إلا أن يصبح حقل تجارب من كل نوع؟
قلت إن الظلام لم يطبق بعد، فما زال هناك أمل، ولا بد أن يكون الأمل. إن الكثيرين قد سقطوا أو تاهوا. وكثيرون أيضا قد تحملوا وصمدوا صمود الرواقيين في عصور الشك واليأس والوحشية والجبروت. ولو قدر لحكمة هؤلاء الحكماء وغيرهم أن تبعث حية؛ لمدت يدها لمن سقطوا أو تاهوا قائلة: إن كل شيء لم ينته بعد. تعالوا إلى طريقي ولنبدأ من جديد؛ فالأمر لا يتعلق بنا بقدر ما يتعلق بحضارة تخترمها الكوارث، وتنتظرها كوارث أكبر. وإذا اختنق الإبداع وتهاوت إرادة الفكر الحر المستقل حكمت الحضارة على نفسها بالانتحار. أما أولئك الذين تحملوا وصمدوا؛ فسوف تواجههم قائلة: ليست الشجاعة في الصمود والكبرياء الجريحة فحسب. إن الشجاعة والحقيقة في تغيير الواقع بالفعل. أعلم أنكم تعبتم وعانيتم، ولكن تذكروا عشرات من المفكرين الذين انتهت حياتهم في السجن أو المحرقة على الصليب أو المشنقة. إنهم لم يفاجئوا في لحظاتهم الأخيرة بالشر والغدر، وإن لم يتوقعوا أن يصل إلى ما وصل إليه من القسوة والخسة. ومع ذلك لا يصح أن تنسوا أن بقايا رمادهم هي الأرض التي تقف عليها الحقيقة والحرية والأمل في التطور، ولولا أنوار إبداعهم وكفاحهم؛ لصار تاريخ البشرية ظلمات فوق ظلمات.
إن الحكم التي ستقرؤها على ألسنة الحكماء السبعة لا يمكنها بطبيعة الحال أن تثير كل هذه الأسئلة، أو توحي بكل هذه القضايا والمشكلات. فلا بد من الاعتراف بأن بعضها سخيف وساذج، وبعضها الآخر مجرد وصايا عملية ترتبط بالعادات والتقاليد الشعبية في ذلك العهد البعيد من عهود الحضارة الإغريقية المبكرة. ثم إن أروع أقوالهم، مثل «اعرف نفسك»، و«ابتغ الحد والقصد في كل شيء»، و«أدرك قيمة اللحظة» ... إلخ، يمكن أن تفسر، وقد فسرت بالفعل تفسيرات متنوعة. ولكن المهم بعد كل شيء هو قراءة هذه الحكم الماضية على ضوء الحاضر. وإذا كان الماضي لا يعود ولا يتكرر أبدا، فإن نفس المشكلات والأخطار يمكن أن تواجه الشعوب والحضارات المختلفة عندما تجد نفسها على مفترق طريق تاريخي يقتضي حكمة جديدة يحققها حكماء من نوع جديد. وإذا كان العلم قد حل اليوم محل الحكمة القديمة؛ فإن من واجب العلماء والمعلمين أن يضفوا عليه كبرياءها وجلالها وإخلاصها في السعي إلى الحقيقة المنزهة. ولا بد كذلك أن يعيدوا إليه دورها العريق في إنقاذ المدينة، والدفاع عن أسوارها، وحرية أهلها ... لقد قيل إن الأنبياء غير المسلحين يخفقون دائما (مكيافيللي). ومع أن المثقفين الذين نقصدهم قبل غيرهم، وهم العلماء والمعلمون، ليسوا رسلا ولا أنبياء - على الرغم من بيت شوقي المشهور الذي لم يعد أحد يصدقه، أو يأخذه مأخذ الجد - فإن سلاحهم الوحيد الذي لا يجوز أن يتخلوا عنه هو الشجاعة. فلا قيمة لعلم أو فكر لا يؤصل الحرية، ولا جدوى من تعليم فقد شجاعة التساؤل والنقد المستقل. ولذلك لم يدهشني كثيرا أن أكتشف، بعد الفراغ من كتابة هذه الحوارية، أنها تنتهي بسطور تتردد فيها أصداء أبيات من قصيدة شهيرة عن يوميات نبي يحمل قلما، يتنظر نبيا، يحمل سيفا (من مسرحية ليلى والمجنون لصلاح عبد الصبور). ولا تريد هذه السطور الغاضبة أن تهاجم أحدا، ولا أن تدين وضعا محددا. وهي كذلك لا تهدف إلى تعرية جوانب ضعف لا يخلو منها البشر بحكم طبيعتهم البشرية، كما أنها بعيدة كل البعد عن أن تضع على رءوس المثقفين أو المعلمين هالة شاعرية وهمية. إن الأمر في الواقع لأكبر من ذلك وأخطر؛ لأن الخطر الذي يتهدد حضارتنا يتخطى الأشخاص والظواهر والأوضاع المحددة بالأزمان والبلدان. وقد أكدت السطور السابقة أن المثقفين والعلماء والمعلمين بوجه خاص هم ملاحو السفينة الموشكة على الغرق.
واليوم آن الأوان لكي يوجهوا السفينة ويصححوا اتجاهها، ويوقظوا ركابها. ولن يقدروا على ذلك حتى يبدءوا بأنفسهم، ويستيقظوا من سباتهم، ويحاسبوا ضمائرهم، ويراجعوا علمهم ومعرفتهم وفكرهم وسلوكهم. فإذا استطاعت هذه المحاورات مع الحكماء السبعة أن تدعوهم إلى محاورة النفس، وتذكرهم بأن الحكمة لم تمت ولا يمكن أن تموت، وأنها تحيا وتتجدد وتقاتل عند الضرورة كلما أرادوا الحياة لأنفسهم وحضارتهم وثقافتهم، إذا استطاعت أن تحقق شيئا من ذلك؛ فقد بلغت غاية ما أتمناه.
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
المؤرخ يقلب في الأوراق، يجمع الوثائق ويتحقق من الحقائق التي اختلطت بالغرائب والخرافات والأساطير، وحكايات الخوارق. وعندما يدلهم الأفق وتأخذه الحيرة من كل سبيل يرفع صوته: يا أشباح الزمن الماضي، من عمق القرن السادس قبل الميلاد. صوت من زمن المحنة يدعوكم، فاستمعوا له، شبح يتشبث بالصدق وبالحكمة في عصر الكذب الشائن والغدر الخائن، يرجو أن يتحاور معكم، أن يسألكم وتجيبوه. وتتزاحم الأشباح وترتفع الأصوات. السبعة صاروا سبعة عشر وأكثر، والحيرة تزداد عليه فيهتف:
المؤرخ :
Bilinmeyen sayfa
عشتم مثلي في زمن المحنة، والمحنة عاناها الشعر وقاستها الكلمة. في العقود الأولى من قرنكم السادس، كانت أصوات الشعراء ما تزال عالية شجية: «سافو» و«ألكايوس» من جزيرة «لسبوس»، «سيمونيدس» و«ميمنيرموس» من «أيونيا»، «صولون» الشاعر والمشرع الشهير من أثينا. لكن لا بد أنهم قد ماتوا جميعا قبل انتصاف القرن، ولم يخلفهم أحد، ولا بد أن الجيل الذي تلاهم قد خبت فيه نار الشعر، وخرست قيثاره، حتى حلت سنة 530، فانطلقت شرارته المقدسة من جديد. هذا الجيل المجدب هو الذي ازدهرت فيه حكمتكم، حكمتكم التي لم تكن شعرا ولا فلسفة، بل تجسيدا للفطنة والخبرة والتجربة العملية.
الحكماء :
تتسرع في توجيه التهمة، وتضن علينا بالحكمة، مع أنا منذ القدم نسمى الحكماء.
المؤرخ :
معذرة، أنا لا أتهم ولا أدافع، بل أتلمس آثار الحكمة، أو أبكي فوق الأطلال. ما ذنبي إذا كان عصري هو عصر سقوط القيم، وزمني ضاعت فيه الحكمة والعقل؟ ما ذنبي إن كانت كتب التاريخ تمجدكم أحيانا، أو تبخل في أحيان أخرى فتسميكم الرجال الأذكياء؟ هلا أجبتم على سؤالي؟
الحكماء :
لا ندري كيف نرد عليك! ربما لأن الواقع العملي في أيامنا بدأ يفرض سلطانه فازدرى الشعر، واستصغر شأن الكلمة، وأخذ يولي وجهه شطر حقائق الحياة.
المؤرخ :
ربي! هذا ما نلقاه الآن.
الحكماء :
Bilinmeyen sayfa
أتدين زمانك وزماني؟
المؤرخ :
لا لا، بل أهمس من عجز لساني وجناني. أكمل قولك.
الحكماء :
أو لأن العاطفة الدينية شطت في التعليق، حتى تاهت وسقطت في الهاوية العميقة التي تستعصي على العبارة والخطاب.
المؤرخ :
مهما يكن الأمر؛ فقد راجت حكمتكم.
الحكماء :
حكمتنا؟ ها أنت تعود إلى الحق. لقد تناقلتها الأفواه، فلم تكن بحاجة إلى التدوين، اللهم إلا على أحجار «أوستيا»
1
Bilinmeyen sayfa
أو على جدران معبد «دلف». ولهذا ليس عجيبا أن ينسبها الإغريق إلى الإله أبوللو، أو إلى جني بحري حكيم كانوا يدعونه عجوز البحر الإلهي.
المؤرخ :
معنى هذا أنها وجدت قبل وجودكم؟ انتظروا ... لقد وردت في اللوح الحادي عشر من ملحمة جلجاميش البابلية سيرة سبعة حكماء أسسوا مدينة أوروك، كما تلقى حكماء الهند السبعة الذين يسمون «الريشي» الحكمة وفن الغناء من الآلهة، ووضع شاعركم «هوميروس» مجلس حكماء سبعة تحت تصرف «أجاممنون» و«برياموس».
2
حكمتكم أقدم مما أتصور أقدم مما كنت أقدر.
الحكماء :
ولكن لم يتأكد صدقها إلا بنسبتها إلينا. نحن الذين كافحنا وأسسنا، وتجولنا فوق الأرض الغانية بدمنا ولحمنا.
المؤرخ :
ورفعتم لمصاف الأبطال، ونسجت حولكم الحكايات والخرافات.
الحكماء :
Bilinmeyen sayfa
هل يقع الذنب علينا؟ كنا بشرا مثل البشر، صمدنا لأعاصير الزمن القلقة، أعلينا بناء حياتنا وحياتنا وحياة شعوبنا؟ أتلومنا؛ لأن الناس جللت رءوسنا بغار الحكمة الذي بخلت به على رءوس الشعراء، أم لأن الأفكار العظيمة لا يصدقها الناس حتى ينسبوها إلى عظيم حقها في الواقع؟ أم لأن الحكايات والخرافات والأساطير عادة ما تغزل خيوطها بعد موت أبطالها؟
3
أولا يكفينا أن حكمتنا راجت؟!
المؤرخ :
بل ما زالت رائجة وعلى كل لسان، انتشرت بين الأمم وفي مختلف الأزمان.
الحكماء :
حكمتنا راجت في قرن سكتت فيه أوتار الشعر.
المؤرخ :
وبدأت تزدهر شجرة الفلسفة.
الحكماء :
Bilinmeyen sayfa
الفلسفة؟
المؤرخ :
صفة أخرى للحكمة ... ولحب الحكمة ... كان من الممكن ألا تبدأ لولاكم. كان من الممكن ألا تزدهر الشجرة لولا البذرة.
الحكماء :
والبذرة ألقيناها في التربة. هل ما زلت تضن علينا؟
المؤرخ :
لست أضن عليكم بالحكمة، لست بخيلا باسم الحكماء. لكن التاريخ يحيرني وتحيرني الأسماء، حتى العدد اختلفت فيه الآراء.
الحكماء :
هذا ليس جديدا. من منتصف القرن السادس قالوا: سبعة. زادوا العدد، فقالوا: سبعة عشر حكيما ... ليس جديدا ما نسمعه منك.
المؤرخ :
Bilinmeyen sayfa
بل ما تشهد به الوثائق أو تشهد عليه. مع ذلك تتردد فيها أربعة أسماء. صولون المشرع.
صولون :
والشاعر أيضا، لا تنس.
المؤرخ :
كيف لأحد أن ينساك؟ الشك يحيط بأخبار الحكماء الستة. أما أنت فرأس الجبل يطل على تاريخ اليونان.
صولون :
رأس الجبل؟ كلامك هذا يضحكني ... مع أن الكاهن العجوز في مصر قال لي: يا صولون، يا صولون، ستبقون على الدوام أطفالا أيها الإغريق؛ إذ لا يوجد شيخ إغريقي.
المؤرخ :
تلك رواية أفلاطون.
4
Bilinmeyen sayfa
لكن حفظ التاريخ لنا أشعارا منك.
صولون :
هل تذكرون مرثيتي التي بدأتها بهذه السطور:
الآن عرفت الأمر،
والألم عميق في أعماق الصدر،
وأنا أشهد أكبر أبناء أبوينا ينهار ويدحر.
المؤرخ :
هكذا بدأتها بعد أن اشتد النزاع في الدولة، واستعبدت الأقلية أغلبية المواطنين، وثار الشعب على الأغنياء والأعيان. احتدم الصراع بينهما وطال، وانتخبوك رئيسا وقاضيا يفصل بينهم، وكلفوك بتدبير نظامهم ووضع دستورهم. كنت حكيما ورحيما، لم تؤثر أي الحزبين على الآخر، فوقفت في صفهما، ونصحتهما بالصلح ووقف الصراع. كان الكل يجلك ويقدر موهبتك، مع أنك لم تكن أغناهم أو أرفعهم في المنصب والجاه . ورحت تحذر الأغنياء من الترف والتطرف، وتنصحهم بالتواضع والاعتدال، وتلقي الذنب عليهم وعلى تكبرهم وجشعهم إلى المال فيما حاق بالمدينة من خراب. اسمع شهادة حكيم آخر بعدك: حرر صولون الشعب في الحاضر والمستقبل، عندما حرم اقتراض المال في مقابل رهن الجسد، وضع القوانين، وأصدر تشريعا بالإعفاء من الديون العامة والخاصة أو بنفض الأعباء.
5
المؤرخ :
Bilinmeyen sayfa
ويذكرنا هذا باسم آخر.
بيتاكوس : «بيتاكوس» من ميتيلينه. سموني الطاغية، وكنت رحيما بالأوغاد.
صولون :
طاغية ورحيم! ... حقا ما أغرب هذا!
بيتاكوس :
وما وجه الغرابة يا صولون؟ أنت نفسك سمعت عني كما سمعت كلمتي.
صولون :
لما بلغني قولك «من الصعب أن يكون المرء طيبا»، أعجبتني حكمتك، وقلت: «ومن الصعب أن يكون جميلا.»
بيتاكوس :
وهل عرفت متى قلتها أو كيف؟ لقد رأيت أعدائي يتكاثرون، ولاحظت الكراهية في عيون الشعب الذي أنصفته وكافأته؛ لكي أرفعه من وهدة بؤسه، وفي ضمائر الأغنياء والنبلاء الذين قلمت مخالبهم من أجله. ونفيت بعضهم من المدينة، فأخذوا يهددونني ويتآمرون على قتلي. واشتد بي اليأس، فذهبت إلى معبد الإله، وتوسلت أمام المذبح أن يحررني من السلطة.
Bilinmeyen sayfa
المؤرخ :
نعم، نعم. أدركت صعوبة أن يكون الإنسان طيبا في عالم شرير.
أدركت بأن الحاكم مهما فعل يظل كريها مكروها ... فالأغنياء، كرهوك؛ لأنك وقفت بجانب الشعب وانحدرت من صلبه. والشعب كرهك؛ لأنك كنت فقيرا مثله، وجلست على كرسي الحكم.
وردد الجميع أغنية تسخر منك:
اطحني أيتها الطاحونة اطحني؛
فقد كان «بيتاكوس» نفسه يطحن،
بيتاكوس الملك في ميتيلينه العظيمة.
طاليس :
سمعت الأغنية بنفسي، لما زرت جزيرة «لسبوس»، وتوقفت بقرية «أريسوس».
بيتاكوس :
Bilinmeyen sayfa
هل سمعت كذلك أناشيد الحقد والهجاء التي أطلقها الشاعر «ألكايوس» وعصابته؟ أنا لم أكرهه ولم أكره شعره. تمنيت أن يضع يده في يدي، ويساعدني مع غيره من النبلاء على النهوض بالمدينة، لكنهم أنكروا عدلي وشجاعتي التي اعترف بها الإغريق في كل مكان. لم يغتفروا لي أبدا أنني تزوجت امرأة من طبقتهم، هي ابنة «دراكون» ومن نسل الأتريديين. وأخذ الشاعر الحقود يعيرني بقدمي المفلطحة التي كنت أجرها بصعوبة ، ويصفني بالدعي والمتسخ والمبطون، بل أشاع أنني أوفر ضوء المصباح وسماني ملتهم الظلمات.
المؤرخ :
ولهذا نفيته عن المدينة، ولم ينقطع هجاؤه ولا دعواته للآلهة الأقوياء بأن يخلصوه من محنة المنفى ومرارته، ويطلقوا ربات القصاص عليك، ويعينوه وعصبته على قتلك بالسيف، وتحرير الشعب من آلامه ومخاوفه، زاعمين أنك حنثت بالقسم الذي قطعته على نفسك، وابتلعت المدينة في جوفك.
بيتاكوس :
ومع أني عفوت عنهم بعد القبض عليهم ... فلم يرحمني التاريخ من وصمة الطغيان.
المؤرخ :
ولا رحمك المؤرخون ... فاللقب ارتبط باسمك في كل المأثورات. أما «بياس» القاضي من آسيا الصغرى؛ فقد سخا عليه الزمن بلقب «الحكيم».
بياس :
معلم الناس أشرار، هذا ما قلته. لما حاصر «ألياتيس» ملك الليديين مدينتنا «بريينه»، أصدرت الأمر بأن يعلف بغلان إلى حد التخمة، ويساقا إلى معسكر الأعداء. وفزع الملك حين رآهما، وعرف أن لدينا من مخزون الغلة ما يكفي حتى الحيوانات؛ ولهذا بعث إلينا رسولا يطلب السلم والسلام.
المؤرخ :
Bilinmeyen sayfa
وكيف لفظت الأنفاس؟
بياس :
اسمع يا ولدي. لما شخت وطعنت بي السن استدعيت للشهادة أمام المحكمة. وتكلمت وأبرأت المظلوم من التهمة. وانطلق محامي الخصم، وأخذ يدافع عنه فسئمت، وأملت الرأس على حجر حفيدي حتى نمت ... هل بلغك يا ولدي ما فعلوه بالمظلوم؟
المؤرخ :
برأه القضاة من التهمة، ثم وجدوك ميتا على حجر حفيدك.
بياس :
حمدا للآلهة؛ فقد صدق كذلك ما قلته: «إن أردت أن تقيم في مدينة؛ فكن طيبا مع جميع المواطنين.»
6
المؤرخ :
كلمة بليغة من رجل خلدته البلاغة ... والاسم الرابع هو «طاليس الملطي».
Bilinmeyen sayfa
طاليس :
أول من نقى الحكمة من سحب الأسطورة وضباب الغيب، أول من سأل سؤال العقل عن المبدأ والأصل وقال: ...
المؤرخ : «أصل جميع الأشياء هو الماء، بالآلهة امتلأت كل الأشياء.»
طاليس :
وكذلك قلت: «اعرف نفسك.»
المؤرخ :
أأنت القائل، أم نقشت قبلك فوق جدار المعبد في «دلف»؟ ما أعمقها كلمة! لكن تتنازعها الأسماء.
بيرياندر :
أي جحود هذا؟ كيف نسيتم اسمي؟
الحكماء :
Bilinmeyen sayfa
مهلا يا «برياندر»! هل ينسى الطاغية القاسي من «كورنثة»؟ من بلغ الذروة في القسوة؛ ولهذا احتاج إلى الحرس الخاص؟
المؤرخ :
وكان قوامه ثلاثمائة من حملة الدروع والحراب.
بيرياندر :
أتذكرون صرامتي وتنسون عدلي؟ لقد حرمت على المواطنين أن يكون لهم عبيد. نهيتهم عن تبديد الوقت في اللهو والفراغ، وأوجدت لكل منهم عملا. أعلنت الحرب على الترف وعاقبت المتسكعين في الأسواق. لم أثقل على الناس بالضرائب، واكتفيت بما نحصله من السوق والميناء. وزعت أراضي النبلاء على الفقراء. لم أتخط حدود العدل، ولم أتعد على إنسان، وكرهت الشر وألقيت القوادات بقاع البحر! أنسيتم كيف صالحت بين أهل «ميتيلينه» (تحت قيادة بيتاكوس)، وأهل «أثينا» (تحت زعامة فرينون)، عندما تصارعا على ملكية «سيبايون»، ففصلت بينهم بالحق، واحتفظ كل منهم بما كان يملكه؟ لقد ازدهرت في عهدي التجارة والحضارة. يكفي أن الشاعر «أريون» كان صديقي!
المؤرخ : «أريون الميثميني» من أهالي «لسبوس»؟ من تمت في عهدك معجزته؟ أشجى الأصوات غناء فوق القيثار، وأول من أنشد شعر «الديثيرامب» وسماه، وقدم جوقته فوق المسرح في «كورنثة»؟ لا لن ينساك التاريخ ولن ينساه. لن ينسي معجزته التي رواها علينا أبو التاريخ إذ استقل مركبا كان عليها قراصنة ولصوص، تآمروا عليه عندما ظنوه يخفي الكنوز، مع أنه لم يكن يملك إلا قيثاره! وانطلق يغني؛ عل غناء الشاعر يسكت فيهم نزعات الشر. جاء الدلفين صديق الإنسان على صوت غنائه، وسرعان ما ألقى الشاعر بنفسه على ظهره، فحمله إلى البر، ورسا به على رأس تانياروس.
المؤرخ :
لا لم ينس التاريخ ... وكذلك يذكر قولك: «كل شيء يرجع إلى المران.» لكن سؤالا يحضرني الآن.
خيلون :
قبل سؤالك، هل يمكن أن تهمل اسمي؟ أم تهمل تحذيري: «إن ضمنت غيرك حلت بك المصائب»؟ أو لم يبن أهالي أسبرطة لي المعبد في الطريق من المغزل إلى أبواب المدينة؟
Bilinmeyen sayfa
المؤرخ :
وهناك قدسوك ورفعوا ذكر البطل الخالد ... لكن أرجع لسؤالي: لم آثرتم هذا الكلم الموجز؟
7
الحكماء :
من يستصغر شأن الكلمة يقتصد في استعمالها. كانت أيامنا توجب العمل وحسم القرار؛ ولهذا بقيت كلماتنا القليلة قواعد لهداية الحياة، تحذيرات من الوقوع في الأوهام الساذجة، والتسرع في الثقة بالناس ، نصائح باللجوء إلى التحفظ والحرص والاعتدال والتزام الحد.
المؤرخ :
لكن بالغتم في الإيجاز. يكفي أن يروي الشاعر «ألكايوس» هذه الكلمة التي يقولها على لسان «أريستوداموس» الذي ضم إليكم في العصور المتأخرة: «الرجل - المال»،
8
وأن يضيف الشاعر «يندار» وكأنه يشرحها: قال هذا عندما اختفى أصدقاؤه مع اختفاء أملاكه ... يكفي أيضا أن تقرأ كلمات أخرى توحي بتشكككم في الإنسان، ورؤيتكم للوجه الشائه خلف قناع البهتان: «لا تتطرف في شيء»، «صعب على المرء أن يكون طيبا»، «الحد هو الأفضل»، «أغلب الناس أشرار».
الحكماء :
Bilinmeyen sayfa