تحولت المشاجرة العنيفة إلى مشاجرة خاصة بين التروتسكي والفتى ذي الشعر الأشقر. وكانا يتناقشان حول ما إذا كان عليك الانضمام للجيش إذا اندلعت الحرب. وبينما كنت أتقدم شيئا فشيئا بمحاذاة صفوف الكراسي للخروج، نادى علي الرجل ذو الشعر الأشقر، قائلا: «يا سيد بولينج! اسمع. إذا اندلعت الحرب وكانت لدينا الفرصة لتحطيم الفاشية للأبد، فهل ستقاتل؟ أعني لو كنت شابا.»
أظن أنه يعتقد أنني في الستين من عمري.
قلت: «بالتأكيد لا؛ فقد اكتفيت من المرة السابقة.» «ولكن ماذا عن تحطيم الفاشية؟!» «أوه، فلتذهب الفاشية إلى الجحيم! شهدنا ما يكفي من التحطيم بالفعل، إن كنت تريد رأيي.»
تدخل التروتسكي متحدثا عن الوطنية الاشتراكية وخيانة العمال، ولكن قاطعه الآخرون وقالوا له: «ولكنك تفكر في عام 1914. لقد كانت مجرد حرب إمبريالية عادية، ولكن الوضع الآن مختلف. اسمع. عندما تسمع عما يحدث في ألمانيا، ومعسكرات الاعتقال، وضرب النازيين للناس بالهراوات المطاطية، وجعل اليهود يبصق بعضهم على وجوه بعض، فهل لا يجعل ذلك دمك يفور؟»
إنهم يتحدثون دائما عن فوران الدم. أتذكر أنها العبارة نفسها التي كانت تقال خلال الحرب.
قلت له: «لقد تجاوزت هذه المرحلة عام 1916، كما ستفعل أنت عندما تعرف رائحة خنادق الحرب.»
ثم فجأة بدا لي أنني أراه، وكان الأمر كما لو أنني لم أكن أراه على نحو جيد حتى تلك اللحظة.
كان وجهه مفعما بالحيوية والشباب على غرار وجه تلميذ وسيم، وكانت عيناه زرقاوين وشعره أصفر باهتا، وكان ينظر إلي وللحظة دمعت عيناه بالفعل! وكان كالجميع له رأي في مسألة اليهود الألمان! ولكني في الحقيقة كنت أعلم ما يشعر به. لقد كان شابا ضخم البنية، وربما يلعب الراجبي مع فريق البنك، وهو ذكي أيضا. انظر إليه؛ إنه موظف بنك في ضاحية بائسة، يجلس خلف نافذة يكسوها الجليد، ويدخل الأرقام في دفتره، ويعد أكواما من الأوراق المالية، ويتملق مديره، ويشعر أن حياته تتعفن. وفي الوقت نفسه، عبر أوروبا، يحدث الحدث الكبير؛ حيث تنفجر القذائف فوق الخنادق، وتشحن موجات من المشاة عبر تيار من الدخان، وربما بعض أصدقائه في إسبانيا يقاتلون. بالطبع هو راغب للغاية في خوض الحرب. كيف لك أن تلومه؟ للحظة، كان لدي شعور خاص بأنه ابني، الأمر الذي كاد ليتحقق بالنظر إلى عمري وعمره. تذكرت حينها ذلك اليوم الحار القائظ من شهر أغسطس عندما لصق صبي بيع الصحف قصاصة مكتوبا عليها «إنجلترا تعلن الحرب على ألمانيا»، وتدافعنا جميعا إلى الرصيف بمآزرنا البيضاء وابتهجنا.
قلت له: «اسمع يا بني، إنك تسيء فهم الأمر برمته. في 1914، ظننا أنه سيكون أمرا عظيما، ولكنه لم يكن كذلك، بل كان فوضى لعينة. وإذا حدث مرة أخرى، فلا تزج بنفسك فيه. لماذا تعرض جسمك لأن يملأه الرصاص؟ حافظ عليه من أجل إحدى الفتيات . أنت تعتقد أن الحرب كلها بطولات ونياشين، ولكني أقول لك إنها ليست كذلك. لا يعطونك بنادق بحراب هذه الأيام، وإن أخذتها فلن يكون الوضع كما تتخيل. لن تشعر بأنك بطل، فكل ما ستعلمه هو أنك لن تنام لثلاثة أيام، وأنك ستتعفن كحيوان ابن عرس، وأنك ستبلل سروالك من الخوف، وأن يديك ستتجمد من البرد حتى لا تستطيع حمل بندقيتك. ولكن كل ذلك لا يهم، فما يهم هو ما سيحدث بعد انتهاء الحرب.»
بطبيعة الحال، لم يحدث كلامي أي انطباع؛ فكل ما يأتي في ذهن هؤلاء الشباب هو أنك قد عفا عليك الزمان، فكان الأمر كما لو أنني أقف على باب بيت للدعارة موزعا أوراق الدعاية الدينية.
Bilinmeyen sayfa