10
كنت أعيش في نزل في إيلينج. كانت السنوات تتعاقب أو بالأحرى تزحف. وكانت لوير بينفيلد قد غاب أثرها تقريبا عن ذاكرتي. كنت نموذجا لموظف المدينة الشاب العادي، الذي ينطلق ليلحق بقطار الساعة الثامنة والربع ويتآمر على زملائه الآخرين في العمل. وكنت أحظى بتقدير كبير في الشركة، وراضيا تماما عن حياتي؛ فقد كان وهم النجاح فيما بعد الحرب يتملكني، بقدر أو بآخر. لا بد أنك تتذكر تلك الكلمات المعسولة: النشاط، والحركة، والثبات، والشجاعة. المضي قدما أو ترك المسار. ثمة مكان للجميع في القمة. لا شيء يعرقل الرجل الجيد عن النجاح. والإعلانات في المجلات عن الشاب الذي ربت رئيسه في العمل على كتفه، والمدير التنفيذي المتسم بالحزم والحماس الذي يكسب الكثير من المال، ويعزو نجاحه إلى دورة تدريبة ما، حصل عليها بالمراسلة. من الطريف أننا صدقنا ذلك جميعا، حتى رجال مثلي من الذين لم يطبقوا الكثير منه؛ وذلك لأنني لست وصوليا أو بائسا، ولأنني بطبيعتي لا يمكنني أن أكون أيا منهما. ولكن هكذا كانت روح العصر. تقدم! انجح! وإن رأيت رجلا قد سقط فشلا، فأجهز عليه قبل أن يستعيد قواه. بالطبع كان ذلك في بداية العشرينيات من القرن العشرين، حيث كانت بعض آثار الحرب قد اختفت ولم تكن الأزمات قد أنهكتنا بعد.
كان لدي عضوية ممتازة في مكتبة بوتس، وحضرت حفلات رقص رخيصة الثمن، وانضممت إلى نادي تنس محلي. تعرف نوادي التنس تلك التي تكون في الضواحي الأنيقة، حيث الأجنحة الخشبية الصغيرة، والسياجات العالية ذات الشبكات الحديدية؛ التي يثب فيها الشباب مرتدين الملابس البيضاء القبيحة جيئة وذهابا، ويصيحون «خمسة عشر، أربعين!» و«تعادل!» بأصوات فيها محاكاة لا بأس بها للطبقة العليا. تعلمت لعب التنس، ولم يكن رقصي شديد السوء، وأبليت بلاء حسنا في التعرف على الفتيات. في سن الثلاثين تقريبا، لم أكن شابا قبيحا، بوجهي الأحمر وشعري السمني اللون؛ وفي تلك الأيام كانت لا تزال ميزة لصالح الشاب أن يكون قد خدم في الحرب. لم أنجح، حينئذ أو في أي وقت آخر، أن أبدو كرجل نبيل؛ ولكن من ناحية أخرى قد لا تعرف أنني ابن صاحب متجر صغير من بلدة ريفية. تمكنت من إثبات نفسي في مجتمع إيلينج شديد التنوع، حيث تتداخل طبقة صغار الضباط مع طبقة المهنيين العاديين. قابلت هيلدا لأول مرة في نادي التنس.
كانت هيلدا في ذلك الوقت في الرابعة والعشرين من عمرها. كانت فتاة خجولة قصيرة ونحيفة، بشعر داكن وحركات جميلة، وكانت تشبه كثيرا الأرانب البرية، ويعزى ذلك إلى عينيها الكبيرتين للغاية. كانت من هؤلاء الأشخاص الذين لا يتحدثون كثيرا، ولكنهم يظلون على الحياد في أي محادثة دائرة، ويعطون انطباعا بأنهم يستمعون. وكانت إن فتحت فمها، فلا تقول عادة إلا «أوه، أجل، أعتقد ذلك أيضا»؛ موافقة على أي شيء يقال في آخر الحديث. أما في التنس، فقد كانت تقفز بكل رشاقة ولم يكن لعبها سيئا، ولكن كانت لها طريقة صبيانية بائسة نوعا ما. كان اسم عائلتها فنسنت.
إذا كنت متزوجا، فقد تتساءل أحيانا في نفسك: «ما الذي جعلني بحق الجحيم أتزوج؟» ولطالما قلت ذلك عن زواجي بهيلدا. مرة أخرى، أرجع بذاكرتي خمسة عشر عاما، لأسأل نفسي: لماذا تزوجت هيلدا؟
لقد تزوجتها، من ناحية، بالطبع، لأنها كانت شابة وجميلة جدا. وفوق كل ذلك، لا يسعني القول إلا أنه كان من الصعب للغاية علي أن أفهم ما تريده بالفعل؛ لأنها جاءت من أصول مختلفة تماما عني. لذا، كان علي أن أتزوجها أولا ثم أتعرف عليها بعد ذلك، بينما إن كنت قد تزوجت إلسي ووترز مثلا، لكنت سأعرف ممن تزوجت. كانت هيلدا تنتمي إلى طبقة لم أكن أعلم عنها شيئا إلا من القيل والقال، طبقة الضباط المعدمين. لأجيال عديدة في الماضي كان في عائلتها الجنود، والبحارة، ورجال الدين، والضباط الإنجليز الهنود، وما إلى ذلك. لم يكن لديهم أي أموال قط، ولكن أيا منهم لم يفعل أي شيء قط يمكنني اعتباره عملا. فلتقل ما شئت، ولكن ثمة شيئا فيهم يجذب من ينتمون مثلي إلى طبقة أصحاب المتاجر الأتقياء، طبقة بسطاء التدين، ومن يتناولون وجبة تتضمن الشاي بعد الظهيرة. لا يؤثر ذلك في الآن، ولكن كان له أثره حينها. لا تسئ فهم ما أقول، فلا أعني أنني تزوجت هيلدا لأنها تنتمي إلى طبقة كنت أخدمها يوما من وراء طاولة البيع، في محاولة لتسلق السلم الاجتماعي، ولكن كل ما في الأمر أنني لم أتمكن من فهمها، ومن ثم خدعني مظهرها. ومن الأشياء الأخرى التي لم أفهمها بالتأكيد هو أن الفتيات في عائلات الطبقة المتوسطة المعدمة تلك كن على استعداد للزواج من أي شيء يرتدي بنطالا، وذلك فقط للهروب من المنزل.
لم يمض وقت طويل قبل أن تأخذني هيلدا لمقابلة عائلتها. ولم أعلم إلا في ذلك الحين أنه كانت ثمة مستعمرة كبيرة من الإنجليز الهنود في إيلينج. اكتشفت عالما جديدا! كان ذلك بمثابة اكتشاف لي.
هل تعرف هذه العائلات من الإنجليز الهنود؟ من المستحيل تقريبا أن تتذكر عندما تكون في منازلهم أن الشوارع خارجها كانت في إنجلترا، وأننا كنا في القرن العشرين؛ فبمجرد أن تطأ قدماك عتبات بيوتهم، تصبح في الهند في ثمانينيات القرن التاسع عشر. لا بد أنك تعلم هذه الأجواء، حيث أثاث المنازل من خشب الساج المنحوت، والصواني من النحاس الأصفر، ورءوس النمور المتربة على الجدران، والسيجار التريشينوبولي، والمخلل الأحمر الحار، والصور الفوتوغرافية الصفراء لرجال مرتدين لخوذات تقيهم من الشمس، والكلمات الهندستانية التي من المفترض أنك تعرف معناها، والحكايات الخالدة عن اصطياد النمور، وما قاله سميث لجونز في بونا عام 1887. إنه عالم صغير خاص بهم خلقوه لأنفسهم، كحويصلة يحتمون بها. بالنسبة لي، كان بالطبع كل شيء جديدا ومثيرا للاهتمام نوعا ما. لم يذهب العجوز فنسنت والد هيلدا إلى الهند فقط، بل إلى مكان أكثر غرابة، بورنيو أو ساراواك، لا أتذكر أيهما. كان النموذج المثالي لهؤلاء، فقد كان أصلع تماما، ويكاد لا يرى وجهه خلف شاربه؛ وكان لديه الكثير من الحكايات عن أفاعي الكوبرا وأوشحة الخصر العريضة، وما قاله حاكم المقاطعة في عام 1893. وكانت والدة هيلدا باهتة كالصور الفوتوغرافية المعلقة على الجدران. وكان لديهما كذلك ابن، اسمه هارولد، يعمل في وظيفة رسمية في سيلان، وكان في المنزل في إجازة في الوقت الذي قابلت فيه هيلدا أول مرة. كان لديهم منزل صغير مظلم في أحد تلك الشوارع الخلفية المخفية في إيلينج. وكانت به دوما رائحة السيجار التريشينوبولي، وكان مليئا عن آخره بالرماح، وقصبات النفخ، والزخارف من النحاس الأصفر، ورءوس الحيوانات البرية؛ لذا، فبالكاد يمكنك الحركة فيه.
تقاعد العجوز فنسنت في عام 1910، ومنذ ذلك الحين أظهر هو وزوجته نشاطا كبيرا، ذهنيا وبدنيا، كزوج من المحار. كنت في ذلك الوقت قد انبهرت بشكل غامض بهم لكونهم عائلة بها رواد وعقداء، بل وحتى أميرال. وكان موقفي من عائلة فنسنت، وموقفهم مني، مثالا جيدا على الحمق الذي قد يغدو عليه الناس عندما يخرجون عن عالمهم. ضعني بين أهل التجارة - سواء أكانوا مديري شركات أو باعة متجولين - وسأكون قادرا على الحكم عليهم جيدا. ولكنني ليست لدي أي خبرة في طبقة الضباط ورجال الدين والذين يعيشون من ريع العقارات، وكنت أميل إلى التقرب من هؤلاء المستبعدين المنقرضين. فقد كنت أنظر إليهم باعتبارهم أعلى مني منزلة اجتماعيا وفكريا، بينما أساءوا فهمي، فظنوا أنني رجل أعمال واعد سيجني الكثير من المال قريبا. لأشخاص مثلهم، كانت «الأعمال»، سواء أكانت التأمين البحري أو بيع الفول السوداني، مجرد لغز خفي. وكل ما كانوا يعرفونه أنها وسيلة مبتذلة لجني الأموال. اعتاد العجوز فنسنت الحديث بانبهار عن عملي «في الأعمال» - أتذكر مرة أنه خانه التعبير وقال: «في التجارة» - ولكن كان من الواضح أنه لم يكن يفهم الفرق بين العمل موظفا والعمل لحسابك الخاص. وكانت لديه فكرة غامضة بأنه بما بأنني كنت «في» شركة فلاينج سلامندر، فإنه لا بد أنني سأرتقي إلى قمتها عاجلا أو آجلا عن طريق الترقية. وأعتقد أنه من المحتمل أن يكون لديه كذلك تصور عني في المستقبل وأنا أقرضه المال. هارولد بالتأكيد كان لديه ذلك التصور، إذ كنت أستطيع رؤيته في عينه. في الواقع، حتى بما هو عليه دخلي الآن، كنت على الأرجح سأقرض هارولد المال في هذه اللحظة إن كان حيا. لحسن الحظ أنه مات بعد بضع سنوات من زواجنا، من مرض معوي أو شيء من هذا القبيل، وكذلك مات العجوزان فنسنت.
حسنا، تزوجت هيلدا، وكان الأمر من بدايته فاشلا. لعلك تسأل لماذا تزوجتها؟ ولكن لماذا تزوجت أنت زوجتك؟ تحدث تلك الأمور لنا. ترى هل ستصدقني إن قلت لك إنني خلال أول عامين أو ثلاثة أعوام من الزواج كنت أفكر جديا في قتل هيلدا؟ بالطبع لا يقدم المرء في الواقع قط على تلك الأمور، وإنما هي نوع من الخيال الذي نستمتع بالتفكير فيه. إلى جانب ذلك، الرجل الذي يقتل زوجته دائما ما يقبض عليه. وعلى الرغم من أنه يمكنك بذكاء ادعاء حجة غياب عن مسرح الجريمة، فالشرطة تعلم جيدا أنه أنت من فعلها، وسوف يثبتونها عليك بطريقة أو بأخرى. عندما تقتل الزوجة، يكون زوجها دائما هو المشتبه فيه الأول، ما يعطيك لمحة جانبية صغيرة عن فكرة الناس الحقيقية عن الزواج.
Bilinmeyen sayfa