لا تعتقد أنني لم أحزن لموت أمي. لقد حزنت بالفعل؛ فلم أعد أحارب في الخنادق، ويمكنني أن أشعر بالحزن على موت أحد الأشخاص. ولكن ما لم أكن أهتم به أو حتى أعرف أنه كان يحدث قط هو انقضاء الحياة القديمة التي كنت أعرفها. بعد الجنازة، رجعت العمة مارثا - التي كانت فخورة للغاية بأن لها «ضابطا حقيقيا» في عائلتها وكانت ستستغل الجنازة لجذب الانتباه إلي، إن كنت قد سمحت لها - إلى دوكسلي بالحافلة، واستأجرت عربة إلى المحطة كي أستقل القطار إلى لندن ثم إلى كولتشيستر. مررنا في طريقنا بالمتجر، ولم يكن أحد قد أخذه منذ وفاة والدي. كان مغلقا وكان زجاج النافذة أسود وعليه غبار، وقد أحرق لهيب نفخ أحد السمكرية اسم «إس بولينج» على اللافتة. حسنا، كان في ذلك المكان المنزل الذي عشت فيه طفلا وصبيا وشابا؛ حيث كنت أزحف إلى أرضية المطبخ وأشم رائحة العنبريس وأقرأ «دونوفان الشجاع»؛ وحيث كنت أؤدي واجباتي المنزلية لمدرسة القواعد اللغوية، وأخلط معجون الخبز، وأصلح ثقوب الدراجة، وأجرب ارتداء أول ياقة عالية في حياتي. بدا لي ذلك المنزل حينها دائما كالأهرامات، ولكنني إن رجعت لها مرة أخرى الآن فسيكون بمنزلة شيء عارض. أبي، وأمي، وجو، وصبيان المتجر، والكلب نايلير العجوز، والكلب سبوت الذي اقتنته عائلتي بعد نايلير، وطائر الدغناش جاكي، والقطتان، والفئران في العلية؛ كل ذلك قد رحل ولم يتبق شيء سوى الغبار. ولم أعد أكترث بشيء. حزنت على موت أمي، وحزنت كذلك على موت أبي؛ ولكن ذهني كان شاردا في أشياء أخرى طوال الوقت. كنت فخورا بعض الشيء برؤية الناس لي في عربة أجرة، وهو الشيء الذي لم أكن حينها قد اعتدت عليه؛ وكنت أفكر في ارتدائي لبنطالي المضلع الجديد، وفي حذائي العسكري اللامع الجميل الذي يختلف عن الأحذية الخشنة التي يرتديها الجنود والشباب الآخرون في كولتشيستر؛ وكنت أفكر في الجنيهات الستين التي تركتها أمي، وفي كيف سأنفقها. كما كنت كذلك أشكر ربي أنني لم أقابل إلسي.
كان للحرب تأثير استثنائي على الناس. وما كان أكثر استثنائية من أنها تقتل الناس هو طريقتها في بعض الأحيان لإنقاذهم من الموت. كانت كفيضان عظيم يدفعك نحو الموت، وفجأة تقذف بك إلى مكان ما، حيث تجد نفسك تفعل أشياء لا يمكن تصورها، وغير مبررة، وتتقاضى عليها أجرا إضافيا. كانت ثمة كتائب من الجنود العاملين تعمل في رصف طرق في الصحراء التي لا تقود إلى أي مكان؛ وكان ثمة رجال مهجورون على جزر في المحيط لمراقبة السفن الحربية الألمانية التي كانت قد غرقت قبل ذلك بسنوات، وكانت بعض الوزارات المختلفة مزودة بجيش من الجنود الذين مهمتهم القيام بالأعمال المكتبية والكتابة على الآلة الكاتبة، الأمر الذي استمر حتى سنوات بعد انتهاء مهمتهم، في إحدى صور البطالة المقنعة. كان الناس يقحمون في وظائف غير ذات معنى، ثم تنساهم السلطات لسنوات عديدة. هذا ما حدث معي، والذي لولاه ما كنت في الغالب في مكاني اليوم. والتسلسل الكامل للأحداث مشوق للغاية.
بعد فترة وجيزة من إعلان تعييني ضابطا جاء استدعاء لضباط فيلق خدمة الجيش. وبمجرد أن سمع القائد المسئول عن تدريب المعسكر أنني أعلم شيئا عن مجال البقالة (لم أقل إنني عملت خلف طاولة البيع)، أمرني أن أرسل اسمي. جرى الأمر على ما يرام، وكنت للتو على وشك الانتقال إلى مدرسة تدريب أخرى لضباط فيلق خدمة الجيش، التي كانت في مكان ما في ميدلاندز حيث كان هناك حاجة إلى ضابط شاب لديه معرفة بالبقالة للعمل في السكرتارية لدى السير جوزيف تشيم، الذي كان ذا شأن كبير في الفيلق. لا أعلم لماذا اختاروني، ولكنهم على أي حال قد فعلوا؛ فلطالما اعتقدت أنهم ربما اختلط عليهم الأمر بين اسمي واسم شخص آخر. بعد ثلاثة أيام، كنت أؤدي التحية العسكرية في مكتب السير جوزيف. كان رجلا كبير السن نحيفا، ومنتصب القامة وحسن المظهر، أشيب الشعر وذا أنف حاد أخلف في نفسي انطباعا قويا على الفور؛ إذ بدا جنديا محترفا مثاليا ممن استحقوا وسام التميز الخاص بسان مايكل وسان جورج ووسام الخدمة المتميزة، ويشبه تماما الرجل الذي يظهر في إعلانات دي ريشكا كما لو كان شقيقه التوأم؛ ولكنه في حياته المدنية كان مديرا لسلسلة كبيرة لمتاجر البقالة، التي بلغت شهرتها مختلف أنحاء العالم بفضل ما يسمونه نظام تشيم لتخفيض الأجور. توقف عن الكتابة عندما دخلت عليه، ونظر إلي متفحصا، وقال: «هل أنت من الأعيان؟» «لا يا سيدي.» «جيد. إذن لعلك تنجز لنا عملا.»
فيما يقرب من ثلاث دقائق، استطاع بخبرته أن يعلم أنني لم تكن لدي أي خبرة في السكرتارية، ولم أكن أعرف الاختزال، ولم يسبق لي استخدام الآلة الكاتبة، وأنني قد عملت في متجر للبقالة مقابل ثمانية وعشرين شلنا في الأسبوع؛ ولكنه قال إنني سأتعلم كل ذلك، وإنه كان هناك الكثير من أبناء الطبقات العليا في هذا الجيش اللعين، ولكنه كان يريد شخصا يمكنه العد لأكثر من عشرة. أعجبت به وتطلعت إلى العمل معه، ولكن في هذه اللحظة تحديدا فرقت بيننا مرة أخرى القوى الغامضة التي بدت أنها كانت تدير الحرب؛ فقد كان يتشكل كيان يدعى قوات دفاع الساحل الغربي، أو بالأحرى كانوا يتحدثون عنه، ونشأت فكرة غامضة عن إقامة مستودعات للمؤن وغيرها من المخازن في نقاط مختلفة على طول الساحل. وكان من المفترض أن يكون السير جوزيف مسئولا عن المستودعات في جنوب غرب إنجلترا. وفي اليوم الذي انضممت فيه لمكتبه، أرسلني لفحص المؤن في مكان يدعى مستودع الميل اثني عشر على ساحل كورنوول الشمالي؛ أو بالأحرى كانت وظيفتي هي معرفة ما إذا كانت ثمة مؤن هناك بالفعل أو لا. لم يبد أحد متأكدا من الأمر، فذهبت إلى هناك واكتشفت أن المؤن عبارة عن إحدى عشرة صفيحة من لحم البقر المعلب، وذلك عندما وصلتني برقية من وزارة الحربية أخبرتني أن أتولى أمر المؤن في مستودع الميل اثني عشر وأظل هناك حتى إشعار آخر. أرسلت برقية بالرد أقول فيها: «لا توجد مؤن في مستودع الميل اثني عشر.» ولكن سبق السيف العزل؛ ففي اليوم التالي وصلني خطاب رسمي يخبرني أنني أصبحت القائد العام لمستودع الميل اثني عشر. وهذه في الحقيقة هي نهاية القصة؛ فقد ظللت في رتبة القائد العام لمستودع الميل اثني عشر حتى نهاية الحرب.
لم يكن أحد يعلم شيئا عن المغزى من كل ذلك؛ فلا فائدة من أن تسألني عن ماهية كيان قوات دفاع الساحل الغربي، أو عما كان من المفترض أن يفعله. حتى حينها لم يتظاهر أحد بمعرفة شيء، ولكنه على أي حال لم يكن له وجود؛ فلم يكن سوى مشروع خطر على ذهن أحد المسئولين - أظن أنه كان نتيجة إشاعة غامضة عن غزو ألماني قادم عبر إيرلندا - ولم تكن مستودعات الطعام التي كان من المفترض أن توجد على طول الساحل إلا من وحي الخيال. الأمر برمته لم يستمر إلا لثلاثة أيام كالفقاعة، ثم نسيه الجميع ونسوني معه. أما الصفائح الإحدى عشرة للحم البقري المعلب التي رأيتها، فقد كان الضباط الذين كانوا في ذلك المكان في وقت سابق في مهمة غامضة أخرى قد تركوها وراءهم؛ كما تركوا كذلك رجلا عجوزا ضعيف السمع بشدة اسمه الجندي ليدجبرد، ولكني لم أعرف قط ما كان من المفترض أن يفعله ليدجبرد هناك. يا ترى هل ستصدق أنني ظللت أحرس صفائح اللحم البقري المعلب الإحدى عشرة تلك منذ منتصف عام 1917 وحتى بداية عام 1919؟ ربما لن تصدقني ولكنها الحقيقة، وحتى ذلك لم يبد غريبا حينها. وبحلول عام 1918، كنت قد تخلصت من عادة توقع حدوث الأشياء بالطرق المنطقية.
كانوا يرسلون إلي مرة كل شهر نموذجا رسميا طويلا يطالبوني فيه بذكر عدد المعاول وحالتها، وأدوات الحفر، ولفات الأسلاك الشائكة، والبطاطين، وملاءات الأرض المضادة للماء، وعدد الإسعافات الأولية، وألواح الحديد المموج، وصفائح مربى البرقوق والتفاح التي في عهدتي. كنت ببساطة أكتب «صفرا» أمام كل البنود وأرسل النموذج، ولم يحدث شيء قط. وفي لندن، كان ثمة أحد يدخل بيانات النماذج في هدوء؛ ويرسل المزيد من النماذج ويدخل بياناتها، وهكذا . هكذا كانت تسير الأمور. أصحاب المناصب الرفيعة الغامضون الذين كانوا يديرون الحرب كانوا قد نسوا وجودي، ولم أذكرهم بنفسي؛ فقد كنت في مكان منعزل لم يكن يؤدي إلى أي مكان آخر، وبعد عامين في فرنسا لم يكن الشعور بالوطنية يغمرني لدرجة تجعلني أريد الخروج من تلك الحالة.
كنت في جزء منعزل من الساحل حيث لم تكن ترى إنسانا قط سوى بعض الفلاحين الذين بالكاد سمعوا عن اندلاع حرب في البلاد؛ وعلى بعد ربع ميل أسفل تل صغير، كان صوت البحر يدوي ويموج على سهول شاسعة من الرمال. كانت السماء تمطر في تسعة أشهر من السنة، وفي الأشهر الثلاثة الأخرى تهب الرياح الأطلسية العاتية. لم يكن ثمة شيء سوى الجندي ليدجبرد وأنا وكوخان من أكواخ الجيش - أحدهما كان كوخا مقبولا بغرفتين، والذي كنت أقيم فيه - وصفائح اللحم البقري المعلب الإحدى عشرة. وكان ليدجبرد شيطانا عجوزا فظا، ولم أتمكن قط من معرفة الكثير عنه سوى أنه كان يزرع الخضراوات ويبيعها للتجار في الأسواق قبل أن ينضم إلى الجيش. تشوقت أن أعرف كيف رجع سريعا إلى سابق عهده؛ فحتى قبل أن أذهب إلى مستودع الميل اثني عشر، كان قد حفر قطعة أرض صغيرة حول أحد الكوخين وبدأ في زراعة البطاطس، كما حفر قطعة أرض أخرى في الخريف حتى زرع ما يقرب من نصف فدان. وفي بداية عام 1918، شرع في تربية الدجاج، الذي تزايدت أعداده بحلول نهاية الصيف؛ وعلى مشارف نهاية العام، ربى فجأة خنزيرا لا أعلم من أين جلبه. لا أعتقد أنه قد خطر في باله أن يتساءل عما نفعله في ذلك المكان، أو ما هي قوات دفاع الساحل الغربي وما إذا كان لها وجود بالفعل. ولن أستغرب إن سمعت أنه ما زال هناك يربي الخنازير ويزرع البطاطس في البقعة التي كانت يوما مستودع الميل اثني عشر؛ بل أتمنى أن يكون ما زال هناك بالفعل، وأتمنى له حظا سعيدا.
في ذلك الوقت، كنت أفعل شيئا لم تتسن لي الفرصة من قبل أن أفعله عندما كنت أعمل بدوام كامل. كان هذا الشيء هو القراءة.
ترك الضباط الذين كانوا في ذلك المكان قبلي بضعة كتب، أغلبها من الطبعات الرخيصة وكلها تقريبا من ذلك النوع التافه الذي كان يقرؤه الناس في ذلك الوقت: قصص إيان هاي وسابر وكريج كينيدي وأشياء من هذا القبيل. ولكن في وقت ما كان هناك شخص يعرف جيدا الكتب التي تستحق القراءة وتلك التي لا تستحق. أنا نفسي في ذلك الوقت لم تكن لدي مثل تلك المعرفة؛ فالكتب الوحيدة التي قرأتها طواعية كانت القصص البوليسية، وفي بعض الأحيان النادرة كنت أقرأ الكتب الجنسية البذيئة. في الواقع، أنا لم أخطط لأن أكون رفيع الثقافة حتى الآن؛ ولكن إن سألتني حينها عن اسم كتاب «جيد»، لأجبتك برواية «المرأة التي أعطيتها لي»، أو (تخليدا لذكرى راعي الكنيسة) «السمسم والزنابق». على أي حال، كان الكتاب «الجيد» بالنسبة لي هو الكتاب الذي لا يهتم أحد بقراءته. ولكني وجدت نفسي في ذلك المكان، في وظيفة ليس فيها شيء لأفعله، وبجواري البحر يندفع على الشاطئ والأمطار تنهمر على الواجهة الزجاجية للنافذة - وصف كامل من الكتب التي كانت كما لو أنها تحدق في وجهي على الرف المؤقت الذي أعده أحد الضباط السابقين على حائط الكوخ. بطبيعة الحال، بدأت أقرأ فيها من الغلاف إلى الغلاف، وحاولت في البداية جاهدا انتقاء الأفضل، كخنزير ينتقي طعامه من دلو مليء بالقمامة.
ولكنني وجدت بينها ثلاثة أو أربعة كتب كانت مختلفة عن الكتب الأخرى. لا، لا بد أنك قد أسأت الفهم! لا تتسرع وتظن أنني فجأة قد وجدت كتبا لمارسيل بروست أو هنري جيمس أو من شابههما؛ فلم أكن لأقرأها حتى إن كنت قد وجدتها. ولكن تلك الكتب التي أتحدث عنها لم تكن ذات مستوى ثقافي عال على الإطلاق؛ ولكنك من حين لآخر قد تجد كتابا في المستوى الذهني الذي وصلت إليه تماما في تلك اللحظة، لدرجة أنه يبدو كما لو أنه قد كتب خصيصى لأجلك. أحد تلك الكتب كان «تاريخ السيد بولي» لإتش جي ويلز، وكان في طبعة رخيصة للغاية متهالكة الأوراق. هل تتخيل الأثر الذي تركه في نفسي، وكيف لشخص مثلي، بالطريقة التي تربيت بها ابنا لصاحب متجر في بلدة ريفية، أن يقع كتاب كذلك في يده؟ من تلك الكتب أيضا كان «شارع سينستر» لكومبتون ماكنزي، الذي كان فضيحة الموسم قبل عدة سنوات سابقة على ذلك الحين، وكنت قد قرأت بعض الإشاعات الغريبة عنه في لوير بينفيلد. وجدت أيضا رواية «النصر» لكونراد، التي أصابتني أجزاء منها بالملل. ولكن كتب كتلك تجعلك تبدأ في التفكير. كان هناك كذلك عدد قديم من مجلة ذات غلاف أزرق، وكان بها قصة قصيرة ل «دي إتش لورانس»، ولكنني لا أتذكر اسمها. كانت قصة عن مجند إلزامي في الجيش الألماني دفع برئيسه الرقيب الأول من أعلى حافة أحد الحصون، ثم هرب وقبض عليه في غرفة نوم فتاته. حيرتني تلك القصة كثيرا؛ فلم أستطع فهم ما تدور حوله، ولكنها تركت لدي شعورا غريبا بأنني أريد أن أقرأ قصصا أخرى مماثلة لها.
Bilinmeyen sayfa