أما أمي، فلا أتذكرها إلا وهي سمينة، ولا شك أنني ورثت منها ضعف الغدة النخامية، أو أيا كان سبب بدانتي.
كانت امرأة ضخمة البنية، أطول من أبي بقليل، وكان شعرها أفتح كثيرا من شعره، وكانت تحب ارتداء الفساتين السوداء؛ ولكن فيما عدا يوم الأحد، لا أتذكرها إلا مرتدية مئزرها. قد أكون مبالغا، ولكن ليس كثيرا، عندما أقول إنني لا أتذكرها قط إلا وهي تطبخ. عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، يبدو أنك ترى الناس دائما في أماكن معينة وفي مواقف مميزة بعينها. ويبدو لك أنهم يفعلون الأشياء نفسها دائما، تماما مثلما أفكر في أبي، فأتذكره دائما خلف طاولة البيع في المتجر وشعره مغطى بالكامل بالطحين، ويجمع الأعداد بقلم رصاص صغير يرطبه بين شفتيه، وتماما كذلك مثلما أتذكر عمي إيزيكيال بلحيته البيضاء وهو يفرد جسمه ويخبط على مئزره الجلدي، وأيضا مثلما أتذكر أمي عند طاولة المطبخ وساعداها مغطيان بالدقيق، وتفرد قطعة من العجين.
أنت تعرف بالتأكيد شكل المطابخ التي كانت في بيوت تلك الأيام، ذلك المكان الضخم المظلم المنخفض بعض الشيء ذو العارضة الخشبية الكبيرة في السقف والأرضية الحجرية والقبو أسفله. كان كل شيء ضخما، أو هكذا بدا لي عندما كنت طفلا. كان ثمة حوض حجري كبير بلا صنبور، ولكن بمضخة من الحديد؛ وخزانة تغطي أحد الجدران ويصل ارتفاعها للسقف، وموقد ضخم يحرق فيه نصف طن من الحطب والفحم كل شهر، وقد مر عليه وقت طويل فغطي بالرصاص الأسود. أرى أمي عند الطاولة تفرد قطعة كبيرة من العجين، وأرى نفسي أزحف حولها وألعب بقطع من حطب الموقد وقطع الفحم ومصائد الخنافس الصفيح (فقد كنا نضعها في كل الزوايا المظلمة، واعتدنا وضع الجعة فيها كطعم)، وكنت من حين إلى آخر أصعد إلى الطاولة لأتذوق وأستجدي قضمات من الطعام. لم تكن أمي توافق على تناول الطعام بين الوجبات، وكانت دائما تجيبني قائلة: «امض إلى حالك الآن! لن أدعك تفسد على نفسك عشاءك. عيناك أكبر من بطنك.» ولكن في أحيان نادرة، كانت تقطع لي شريحة رفيعة من قشر الفواكه المسكرة.
طالما أحببت مشاهدة أمي وهي تصنع المعجنات؛ فثمة سحر في مشاهدة أي أحد وهو يفعل شيئا يفهمه جيدا، وأنا كنت أشاهد امرأة تعرف جيدا كيف تطبخ؛ أعني كيف تلف العجين. كانت ذات هيئة متحفظة ومميزة وتتسم بالهيبة؛ هيئة تدل على الرضا عن النفس، ككاهنة تقيم طقسا مقدسا، وكانت هي في قرارة نفسها ترى نفسها هكذا بالفعل. كان لأمي ساعدان عريضان وقويان وضاربان إلى الحمرة، وكانا عادة ملطخين بالطحين. وعندما كانت تطبخ، كانت حركاتها كلها محكمة وصارمة على نحو عجيب؛ ففي يديها مضرب البيض والمفرمة ومرقاق العجين تقوم بعملها كما هو المفترض منها. وعندما كنت تراها وهي تطبخ كنت تعلم أنها في عالم تنتمي إليه، وبين أشياء تفهم فيها جيدا. وفيما عدا عندما كانت تقرأ صحف يوم الأحد وتتحدث في بعض الأمور المتعلقة بالقيل والقال في بعض الأحيان، لم يكن العالم يعني شيئا لها؛ فعلى الرغم من أنها كانت تقرأ بسهولة أكثر من أبي، واعتادت على خلافه قراءة الروايات القصيرة والصحف، فقد كانت جاهلة بشكل لا يمكن تصوره. كنت مدركا لذلك حتى عندما كنت في العاشرة من عمري. لا يمكنها بالتأكيد إخبارك بما إذا كانت إيرلندا تقع في شرق إنجلترا أم في غربها، وأشك في أنه كان بإمكانها في أي وقت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى أن تخبرك باسم رئيس الوزراء. إضافة إلى ذلك، لم يكن لديها أدنى رغبة في معرفة مثل تلك الأشياء. عندما قرأت كتبا بعد ذلك عن بلدان الشرق حيث تعدد الزوجات والحرملك السري حيث تحبس النساء ويراقبهن الحراس السود المخصيون، فكرت في مدى صدمة أمي إذا سمعت بهذا الأمر. بإمكاني سماع صوتها وهي تقول: «يا للهول! كيف يحبسون زوجاتهم هكذا؟! هذا غير معقول!» لن تكون صدمتها هنا بسبب معرفتها بأمر الحراس المخصيين، ولكن في الحقيقة لأنها عاشت حياتها في مساحة صغيرة وذات خصوصية كأي حرملك؛ فحتى في بيتنا كانت ثمة أماكن لم تطأها قدماها قط؛ فلم تذهب قط إلى العلية خلف الساحة، وكانت نادرا ما تذهب إلى المتجر. لا أعتقد أنني رأيتها يوما تخدم أحد الزبائن، ولم تكن تعرف مكان أي شيء في المتجر، وربما لم تكن تعرف الفرق بين القمح والشوفان حتى تطحن حبوبهما. ولم عليها أن تعرف الفرق؟ العمل بالمتجر كان يمثل عمل أبي «عمل الرجل»، وحتى فيما يتعلق بأموره المادية، فلم يكن لديها فضول كبير لمعرفتها. أما عملها، «عمل المرأة»، فقد كان الاهتمام بالمنزل وإعداد الطعام وغسل الملابس ورعاية الأطفال. وكانت تستاء كثيرا إذا رأت أبي أو أي رجل يحاول خياطة زر بنفسه.
كما هو الحال في مواعيد الوجبات وفي غيرها من الأشياء، كان منزلنا من تلك المنازل التي يسير فيه كل شيء بانضباط كالساعة. أو لا، ليس كالساعة لأن هذا يوحي بشيء ميكانيكي. لقد كانت الأمور تسير سيرا طبيعيا؛ إذ كنت تعلم أن الإفطار سيكون على الطاولة في صباح الغد، تماما كما تعلم أن الشمس ستشرق في الصباح. وكانت أمي طوال حياتها تذهب إلى الفراش في الساعة التاسعة، وتستيقظ في الخامسة، وكانت على ما يبدو تعتقد أن السهر مفسدة، وأنه للمنحطين والأجانب والأرستقراطيين. وعلى الرغم من أنها لم تمانع في الاستعانة بكيتي سيمونز لتمشيتي أنا وجو، لم تكن لتتقبل قط فكرة أن تساعدها امرأة في أعمالها المنزلية؛ فقد كانت تعتقد اعتقادا راسخا أن الخادمات دائما ما يجرفن الأتربة أسفل خزانة المطبخ. كانت وجباتنا جاهزة دائما في أوقاتها المحددة، وكانت وجبات دسمة؛ لحم البقر المسلوق، مع الدامبلنج، ولحم البقر المشوي مع بودينج يوركشاير، ولحم الضأن المسلوق مع براعم الكبر، ورأس خنزير، وفطيرة التفاح، وبودينج الزبيب، ولفائف بالمربى ... كل ذلك يسبقه ويعقبه صلاة ما قبل الأكل. كانت لا تزال الأفكار القديمة حول تنشئة الأطفال قائمة على الرغم من أنها بدأت تفقد مكانتها بسرعة. نظريا، كان الأطفال لا يزالون يضربون ويذهبون للنوم ولم يتناولوا سوى الخبز والماء، وبالطبع كنت تحرم من تناول الطعام على المائدة إذا أصدرت المزيد من الضوضاء أثناء تناول الطعام، أو أصابتك غصة بسبب الطعام أو الشراب، أو رفضت تناول شيء «جيد لصحتك»، أو «قمت بالرد على الكبار». ولكن عمليا، لم يكن ثمة الكثير من الانضباط في عائلتنا، ومن بين والدي كانت أمي الأكثر حزما. أما أبي، فعلى الرغم من ترديده الدائم لمقولة «إن تركت العصا يفسد الولد»، فلم يكن في واقع الأمر حازما معنا، وخاصة مع جو، الذي كان عنيدا منذ صغره. كان دائما يهدد بأنه سيضرب جو ضربا مبرحا، وكان يروي لنا الحكايات - التي أعتقد الآن أنها كانت كذبا - حول الجلد المرعب الذي كان والده يجلده له بحزام جلدي، ولكننا لم نر أي أثر لذلك. وفي الوقت الذي كان فيه جو في الثانية عشرة من عمره، كان قويا لدرجة أن أمي لم تعد تستطيع أن تثبته أسفل ركبتيها لتضربه، وبعد ذلك لم يكن يصيبه شيء من العقاب.
في ذلك الوقت، كان لا يزال من المقبول من الآباء أن يكرروا الأوامر والنواهي لأبنائهم طوال اليوم، وكنا دائما ما نسمع رجلا يتباهى بأنه «سيقتل ابنه ضربا» إذا رآه يدخن أو يسرق تفاحا أو عشا للطيور. بعض العائلات كانت تعامل أبناءها هكذا بالفعل؛ فقد أمسك السروجي العجوز لوفجروف بولديه ضخمي البنية اللذين كانا في السادسة عشرة والخامسة عشرة وهما يدخنان في سقيفة الحديقة، وأثخنهما ضربا حتى كان بإمكانك سماع صوت ضربه لهما في كل مكان بالبلدة. كان لوفجروف مدخنا شرها. لم يبد أن الضرب كان له أي تأثير على الإطلاق؛ فكل الأولاد كانوا يسرقون التفاح وأعشاش الطيور، ويتعلمون التدخين عاجلا أو آجلا، ولكن الاعتقاد في أن الأطفال يجب أن يعاملوا بقسوة كان لا يزال قائما. كانت تقريبا جميع الأشياء التي تستحق القيام بها ممنوعة، نظريا على الأقل. وفي اعتقاد أمي، كان كل شيء يريد أن يفعله الأولاد «خطرا»؛ فالسباحة خطر، وتسلق الأشجار خطر، وكذلك التزحلق، واللعب بكرات الثلج، والتعلق بالعربات من الخلف، واللعب بالمرجام والنبلة، وحتى الصيد. وكانت كذلك كل الحيوانات خطرة، باستثناء نايلير والقطتين والدغناش جاكي؛ فكل حيوان لديه طرقه الخاصة المعروفة التي يهاجم الأطفال بها: الخيول تعض، والخفاش يعلق بالشعر، وحشرة أبو مقص تدخل إلى الأذن ، والبجع يكسر السيقان بضربة من أحد جناحيه، والثيران تركل، والثعابين «تلدغ». كل الثعابين تلدغ في اعتقاد أمي، وعندما أخبرتها بما قرأت في موسوعة بيني من أنها لا تلدغ بل تعض، لم تقل شيئا سوى أن أمرتني ألا أرد على كلامها. كما كانت تعتقد أن السحالي والديدان البطيئة والعلاجيم والضفادع والسمندلات تلدغ؛ كل الحشرات تلدغ، ما عدا الذباب والخنافس. وكذلك كانت ترى أن جميع أنواع الأطعمة، ما عدا الأطعمة التي نأكلها في وجباتنا بالمنزل، إما سامة أو «مضرة بالصحة»؛ فالبطاطس سامة للغاية، وكذلك الفطر إلا إذا اشتريته من بائع الخضار، وعنب الثعلب يسبب المغص، والتوت يسبب طفحا جلديا. وكان في اعتقادها أيضا أنك إذا استحممت بعد الوجبات، فستموت بسبب تشنج العضلات، وإذا جرحت يدك بين الإبهام والسبابة، فستصاب بالتيتانوس؛ وإذا غسلت يديك في ماء سلق البيض، فستظهر فيها ثآليل. كذلك كل شيء تقريبا في المتجر كان ساما بالنسبة لأمي؛ ولذلك وضعت البوابة عند المدخل. طعام الأبقار سام، وكذلك ذرة الدجاج، وبذور الخردل، وحبوب كارسوود الخاصة بالدواجن. والحلوى أيضا مضرة والأكل بين الوجبات مضر، ولكن من الغريب أنه كانت ثمة أنواع معينة من الأطعمة التي كانت تسمح أمي بتناولها بين الوجبات؛ فعندما كانت تصنع مربى البرقوق، كانت تتركنا نأكل شرابها الذي كانت تزيله من أعلاها، وكنا نأكل منه بنهم حتى نمرض. وعلى الرغم من أن كل شيء تقريبا في العالم كان إما مضرا أو ساما، فقد كانت ثمة أشياء معينة في اعتقاد أمي ذات فائدة غامضة؛ فالبصل كان علاجا لكل شيء تقريبا، وربط جورب حول العنق كان علاجا لاحتقان الحلق، والكبريت في ماء شرب الكلاب يعمل كدواء منعش ومنشط؛ لذلك كان بعض من الكبريت موضوعا في وعاء شرب نايلير القديم خلف الباب الخلفي، وظل كذلك لسنوات دون أن يتغير.
اعتدنا تناول الشاي في الساعة السادسة؛ فقرابة الساعة الرابعة تكون أمي قد انتهت تقريبا من أعمالها المنزلية، وبين الرابعة والسادسة اعتادت تناول كوب من الشاي في هدوء و«قراءة صحيفتها»، كما كانت تطلق على الأمر. في الحقيقة، لم تكن تقرأ عادة الصحيفة إلا يوم الأحد؛ فصحف باقي أيام الأسبوع لم يكن بها إلا الأخبار اليومية، ونادرا ما يكون بها أخبار عن جرائم قتل، ولكن محرري صحف يوم الأحد أدركوا أن الناس لا يهتمون في الواقع بما إذا كانت جريمة القتل حديثة أم لا؛ وعندما لم يكن لديهم جرائم جديدة، كانوا يعيدون نشر جريمة قديمة مع التعديل فيها، وقد ترجع هذه الجرائم في بعض الأحيان إلى عهد الدكتور بالمر والسيدة مانينج. أعتقد أن أمي كانت ترى العالم خارج لوير بينفيلد في الأغلب على أنه مكان لارتكاب جرائم القتل. وكان لجرائم القتل سحر رهيب عليها؛ لأنها - كما كانت تقول عادة - كانت لا تعلم كيف يمكن أن يصبح البشر بهذا الشر؛ بحيث يقطعون أعناق الزوجات، ويدفنون الآباء أسفل الأرضيات الإسمنتية، ويلقون الرضع في الآبار. كيف لأي شخص أن يفعل مثل تلك الأشياء؟! حدثت فظائع جاك السفاح الشهير تقريبا في الوقت الذي كان فيه أبي وأمي متزوجين، والمصاريع الخشبية الكبيرة التي اعتدنا إغلاق نوافذ المتجر بها كل ليلة كانت ترجع إلى تلك الفترة. كان قد انتهى عهد مصاريع نوافذ المتاجر، ولم تعد موجودة في معظم متاجر هاي إستريت، ولكن أمي شعرت بالأمان في وجودها، وكانت دائما تقول إنها كان يراودها شعور مرعب بأن جاك السفاح مختبئ في لوير بينفيلد. كما ضايقتها كثيرا قضية كريبن، ولكن ذلك كان بعد سنوات عديدة عندما شارفت على البلوغ. يمكنني سماع صوتها الآن وهي تقول: «لقد أخرج أحشاء زوجته ودفن جثتها في مخزن الفحم! هذا غير معقول! ترى ماذا كنت سأفعل بذلك الرجل إن أمسكت به!» الغريب في الأمر أنها عندما كانت تفكر في بشاعة ذلك الطبيب الأمريكي الصغير الذي مزق زوجته (وأخفى فعلته بمهارة حيث أخرج كل عظامها من جسمها ورمى برأسها في البحر، على حد تذكري للأحداث)، كانت الدموع تنزل من عينيها.
أما معظم أيام الأسبوع، فكانت تقرأ في الغالب مجلة «هيلداس هوم كومبانيون»، التي كانت في تلك الأيام جزءا من الأثاث المعتاد لأي منزل كمنزلنا، وفي الواقع لا تزال كذلك حتى الآن، على الرغم من أن المجلات النسائية الأكثر بساطة التي ظهرت منذ الحرب قد حلت محلها بعض الشيء. ألقيت نظرة على نسخة منها منذ بضعة أيام. لقد تغيرت ولكن أقل كثيرا مما تغير كل شيء، فهي لا تزال تحتوي على القصص المتسلسلة نفسها التي تستمر ستة أشهر (وجميعها تنتهي بالنهايات السعيدة)، ولا يزال بها النصائح المنزلية نفسها، والإعلانات نفسها لماكينات الخياطة وعلاجات مشاكل السيقان. لم يتغير فيها الكثير سوى الطباعة والرسومات التوضيحية. في الماضي كانت البطلة تبدو كعداد البيض، والآن تبدو كالأسطوانة. كانت أمي تقرأ ببطء وتصر على أخذ الفائدة التي تساوي ثلاثة بنسات ثمن المجلة. وكانت تجلس على الكرسي ذي الذراعين الأصفر القديم بجوار المدفأة، وتضع قدميها على سياجها الحديدي، وتحضر الشاي الثقيل في إبريق صغير تضعه على صفيحة المدفأة؛ وكانت تقرأ صفحات المجلة من أولها لآخرها ببطء: القصة المتسلسلة، والقصتان القصيرتان، والنصائح المنزلية، وإعلانات مرهم زام بوك، والرد على أسئلة المراسلين. كانت عادة تستمر في قراءة المجلة طوال الأسبوع، وفي بعض الأسابيع لم تكن تستطيع حتى إنهاء قراءتها. وأحيانا كانت حرارة النار أو أزيز الذباب الأزرق في فترة ما بعد الظهيرة في فصل الصيف يجعل النعاس يغلب عليها، وفي حوالي الساعة السادسة إلا ربع كانت تهب مستيقظة وتنظر إلى الساعة على رف المدفأة وتقلق؛ لأن موعد الشاي سيتأخر، ولكنه لم يكن يتأخر قط.
في تلك الأيام وحتى عام 1909 بالتحديد، كان أبي لا يزال قادرا على استئجار صبي ليساعده في المتجر، واعتاد على ترك المتجر له لينضم إلينا وقت تناول الشاي وظهر يديه مغطى بالكامل بالطحين. حينها كانت تتوقف أمي عن تقطيع شرائح الخبز لوهلة، وتقول له: «هلا باركت لنا المائدة يا زوجي.» وبينما كنا نحني رءوسنا جميعا إلى صدورنا، كان أبي يتمتم بخشوع: «اجعلنا يا رب شاكرين بحق لما أعددت لنا من طعام، آمين.» بعد ذلك عندما كبر جو قليلا، أصبحت تقول له: «بارك لنا المائدة اليوم يا جو.» وكان جو يتمتم بالصلاة. لم تبارك أمي المائدة قط؛ فقد كان يجب أن يكون المبارك من الذكور.
كان الذباب الأزرق يطن دائما في الصيف في وقت ما بعد الظهيرة. ولم يكن منزلنا صحيا؛ فقط بعض منازل الأغنياء في لوير بينفيلد هي التي كانت كذلك. أظن أنه لا بد أن البلدة كان بها خمسمائة منزل، ولم يكن بالتأكيد منها إلا عشرة منازل فقط بها حمام، أو خمسون فقط بها ما يمكننا وصفه الآن بدورة المياه. في الصيف، كنت أشم دائما رائحة القمامة في ساحتنا الخلفية، وكانت جميع المنازل تعاني من وجود الحشرات بها. كان لدينا خنافس في الألواح الخشبية لجدران المنزل، وصراصير ليل في مكان ما خلف الموقد بالمطبخ، هذا بالطبع بالإضافة إلى ديدان الطحين التي كانت في المتجر. في تلك الأيام، لم تكن حتى ربة المنزل الجيدة كأمي ترى ما يدعو إلى الاعتراض من وجود الخنافس في المنزل؛ فقد كانت جزءا من المطبخ مثلها مثل الخزانة أو مرقاق العجين. ولكن الحشرات كانت في ازدياد، والمنازل في الشارع القذر خلف مصنع الجعة، حيث تعيش كيتي سيمونز، كانت يجتاحها البق. أمي أو أي من زوجات أصحاب المتاجر كانت ستموت خجلا إذا كان في بيتها بق. في الواقع، كان من الأفضل أن يقول المرء إنه لا يعرف حتى شكل البق.
Bilinmeyen sayfa