الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
الجزء الأول
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع
هدنة لالتقاط الأنفاس
هدنة لالتقاط الأنفاس
تأليف
جورج أورويل
ترجمة
ياسمين العربي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
الجزء الأول
1
خطرت الفكرة على ذهني، في الواقع، في اليوم الذي حصلت فيه على طقم أسناني الجديد.
أتذكر ذلك الصباح جيدا؛ فقرابة الساعة الثامنة إلا الربع قفزت من على السرير ودخلت الحمام مسرعا، مباشرة قبل أن يتمكن الطفلان من الدخول. كان صباحا موحشا من صباحات شهر يناير، بسمائه المعكرة الرمادية، الضاربة إلى الصفرة. بالأسفل، من المربع الصغير لنافذة الحمام، تمكنت من رؤية المساحة العشبية التي تبلغ عشر ياردات طولا، وخمس ياردات عرضا، بسياجها من الشجيرات والرقعة الفارغة في المنتصف، التي نسميها الحديقة الخلفية. كانت تلك الحديقة الخلفية، بالسياج نفسه والعشب نفسه، خلف كل منزل من منازل شارع إلزمير. الفارق الوحيد الذي قد يميز منزلا عن الآخر هو أنه عندما لا يكون ثمة أطفال في المنزل لا تكون في الحديقة تلك البقعة الفارغة في المنتصف.
كنت أحاول حلاقة ذقني بشفرة حلاقة كليلة بعض الشيء، بينما كانت المياه تنساب في حوض الاستحمام. نظر إلي وجهي في المرآة، وأسفلها في كأس المياه الموضوعة على الرف الصغير فوق حوض الغسيل، كانت توجد الأسنان الخاصة بذلك الوجه. كان ذلك طقم الأسنان المؤقت الذي أعطاه لي طبيب الأسنان خاصتي وورنر لأستخدمه حتى يصنع لي طقما جديدا. إن وجهي ليس بذلك القبح في الواقع؛ فهو وجه من تلك الوجوه ذات اللون البني المائل إلى الحمرة التي دائما ما يصاحبها شعر سمني اللون وعينان ذاتا لون أزرق فاتح. لم يصبني الشيب أو الصلع قط، حمدا لله، وعندما أركب طقم أسناني لا يبدو علي على الأرجح عمري الحقيقي، الذي هو الخامسة والأربعون.
ذكرت نفسي بضرورة شراء شفرات حلاقة جديدة، ودخلت إلى حوض الاستحمام وبدأت أغسل جسمي بالصابون. غسلت ذراعي (لدي ذراعان قصيرتان وسمينتان مبقعتان بالنمش حتى المرفقين) ثم أخذت فرشاة الظهر وغسلت بها كتفي من الخلف، اللذين لا أتمكن من الوصول إليهما بيدي. إنه لأمر مزعج، ولكن ثمة أجزاء عدة في جسمي لا يمكنني الوصول إليها هذه الأيام. الحقيقة هي أن جسمي يميل قليلا إلى البدانة. لا أعني أنني أصبحت كالأشخاص الضخام الذين يظهرون في استعراضات المهرجانات؛ فوزني لا يتعدى تسعين كيلوجراما، وفي آخر مرة أخذت قياس خصري كان ثمانية وأربعين أو تسعة وأربعين، لا أتذكر بالتحديد. ولست كذلك ممن يعرفون بالبدناء «المقززين»؛ فليس لدي ذلك البطن المتدلي إلى الركبتين. كل ما هنالك أنني عريض الوركين وممتلئ الأرداف بعض الشيء حتى أكاد آخذ شكل البرميل. هل تعرف ذلك النوع من الرجال البدناء الودودين والمتسمين بالنشاط، ذلك النوع الرياضي الضخم الذي يطلق عليه الناس اسم البدين أو المكتنز، الذي دائما ما يكون روح الجمع وفاكهته؟ أنا من هذا النوع. «البدين»، هذا هو الاسم الذي يطلقونه علي عادة. بولينج البدين؛ فاسمي هو جورج بولينج.
ولكن في تلك اللحظة لم أكن أشعر بأنني روح الجمع وفاكهته. وقد هالني أنني في تلك الأيام كان ينتابني على نحو شبه دائم شعور بالكآبة في الصباح الباكر، على الرغم من أنني أنام جيدا وأن هضمي للطعام على ما يرام. كنت أعلم سبب هذا الشعور بالطبع؛ إنه تلك الأسنان المؤقتة اللعينة، التي كانت تبدو كبيرة بفعل المياه في الكأس، وكانت تبتسم لي كأسنان في جمجمة. لقد كان ينتج عن التقائها باللثة شعور بغيض؛ لذعة وقشعريرة شديدة كما لو كنت قد قضمت تفاحة حامضة. إلى جانب ذلك، ولتعتقد ما تشاء، فإن طقم الأسنان يمثل نقطة تحول في حياة المرء؛ ففي الوقت الذي تخسر فيه آخر سنة طبيعية في فمك، لن يعود باستطاعتك بالتأكيد أن تمزح متخيلا نفسك أحد أبطال هوليوود الجذابين. وقد كنت بدينا بالإضافة إلى كوني في الخامسة والأربعين. وعندما وقفت لأغسل نصفي الأسفل ألقيت نظرة على شكلي. إن ما يشاع عن أن الرجال البدناء لا يمكنهم رؤية أقدامهم مجرد هراء، ولكن في الحقيقة عندما أقف على قدمي منتصب الظهر لا يمكنني أن أرى إلا النصفين الأماميين منهما. وقد خطر ببالي وأنا أغسل بطني بالصابون أنه لا يمكن لامرأة أن تنجذب إلي، إلا إذا كانت تتقاضى أجرا على ذلك. لا يعني ذلك أنني كنت أريد أن تنجذب امرأة إلي في تلك اللحظة.
لكن ما أدهشني أنه في ذلك الصباح كانت ثمة أسباب من المفترض أن تجعلني في مزاج أفضل؛ أهمها: أنني لم أكن ذاهبا إلى العمل ذلك اليوم. إن السيارة القديمة، التي «أغطي» بها منطقتي (نسيت أن أخبرك أنني أعمل في مجال التأمين في شركة فلاينج سلامندر للتأمين على الحياة، والتأمين ضد الحرائق، والسطو على المنازل، وإنجاب التوائم، وغرق السفن، وتحطمها ... وكل شيء.) كانت في الجراج قيد الإصلاح؛ وعلى الرغم من أنه كان علي أن أمر على مكتب لندن لتسليم بعض الأوراق، فقد أخذت ذلك اليوم إجازة كي أذهب للحصول على طقم أسناني الجديد. إلى جانب ذلك، كان ثمة أمر آخر يشغل ذهني من وقت لآخر في الفترة السابقة؛ إذ كان لدي سبعة عشر جنيها لم يعلم أحد عنها شيئا؛ أعني أحدا من العائلة. وقد جرى الأمر على النحو التالي. وجد زميل معنا في الشركة، يدعى ميلورز، كتابا بعنوان «علم التنجيم وسباقات الخيل»، الذي أثبت أن الأمر برمته يعتمد على تأثير النجوم على ألوان الملابس التي يرتديها الفرسان. حسنا، في أحد السباقات كانت تشارك فرس تدعى عروس القرصان، وكان حظها ضئيلا في الفوز، ولكن فارسها كان يرتدي اللون الأخضر، الذي بدا أنه لون النجوم الطالعة. كان ميلورز المهووس بأمور التنجيم يراهن بالعديد من الجنيهات على الفرس وترجاني أن أفعل مثله. في النهاية، ولإسكاته في المقام الأول، خاطرت بعشرة شلنات على الرغم من أنني لا أمارس الرهانات في العادة. وكما هو متوقع، وصلت عروس القرصان إلى خط النهاية دون مجهود يذكر. أنا لا أتذكر التفاصيل على وجه الدقة، ولكن نصيبي كان سبعة عشر جنيها. وبدافع فطري - غريب على الأحرى، وربما يشير إلى علامة فارقة أخرى في حياتي - اكتفيت بوضع النقود في البنك ولم أخبر أحدا بالأمر . لم يسبق أن فعلت شيئا كهذا من قبل؛ فالزوج والأب الصالح كان سينفقها في شراء فستان لهيلدا (زوجتي) وحذاءين للطفلين، ولكنني كنت زوجا وأبا صالحا لمدة خمسة عشر عاما، وكنت قد بدأت أضيق ذرعا بالأمر.
بعدما وضعت الصابون على جسمي بالكامل، شعرت بالتحسن وتمددت في حوض الاستحمام للتفكير في شأن الجنيهات السبعة عشر وفيم أنفقها. بدا أن الاختيارين المتاحين أمامي هما إما أن أقضي عطلة نهاية الأسبوع مع امرأة وإما أن أصرفها شيئا فشيئا على النثريات؛ كالسيجار وكئوس الويسكي المضاعفة. فتحت الصنبور للحصول على المزيد من الماء الساخن، وكنت أفكر في النساء والسيجار؛ وعندئذ سمعت ضوضاء كما لو أن قطيعا من الجاموس ينزل الدرجتين اللتين تقودان إلى الحمام. كانا الطفلين بالطبع. إن وجود طفلين في منزل بحجم منزلنا لهو أمر أشبه بكمية كبيرة من الجعة في قدح صغير. كان ثمة قرع مسعور في الخارج ثم صرخة ألم. «أبي! أريد الدخول!» «لا يمكنك ذلك. انصرف!» «لكن أبي! أريد الدخول إلى مكان ما!» «إذن ادخل مكانا آخر. انصرف. فأنا أستحم.» «أبي! أريد الدخول!»
لا فائدة من الأمر! أعرف أن هذه إشارة خطر قادم. المرحاض في غرفة الاستحمام، وبالطبع هو كذلك في منزل كمنزلنا. أخرجت السدادة من حوض الاستحمام ونشفت جسمي جزئيا بأقصى ما تمكنت من سرعة. وفي اللحظة التي فتحت فيها الباب، اندفع بيلي الصغير - ابني الأصغر البالغ من العمر سبعة أعوام - وتخطاني متفاديا ضربة على رأسه كنت أخطط لها. فقط عندما اقتربت من إنهاء ارتدائي لملابسي وبحثت عن رابطة عنق، اكتشفت أن عنقي ما زال عليه بعض الصابون.
من البغيض أن يكون عنقك زلقا بالصابون. إنه شعور لزج ومقزز؛ والغريب في الأمر أنه مهما حرصت على إزالة الصابون عنه بالإسفنجة، فبمجرد أن تكتشف أنه زلق يصاحبك هذا الشعور اللزج طوال اليوم. نزلت الدرج بمزاج سيئ وعلى استعداد أن أكون سيئ الطبع.
غرفة الطعام في منزلنا، مثل غرف الطعام الأخرى في منازل شارع إلزمير، هي مكان صغير وضيق، تبلغ مساحته أربع عشرة قدما طولا، واثنتي عشرة قدما عرضا، أو ربما اثنتي عشرة قدما طولا وعشر أقدام عرضا؛ والخوان المصنوع من خشب البلوط ذو الطراز الياباني، بدورقي الخمر الفارغين وحامل البيض الفضي الذي أعطته والدة هيلدا لنا هدية في زفافنا، كان يضيق المكان. كانت العجوز هيلدا عابسة خلف إبريق الشاي، في حالتها المعتادة من الذعر والرعب بسبب إعلان صحيفة «نيوز كرونيكال» عن ارتفاع سعر الزبد، أو شيء من هذا القبيل. لم تكن قد أوقدت مدفأة الغاز؛ وعلى الرغم من أن النوافذ كانت مغلقة، فقد كان المنزل باردا برودة موحشة. انحنيت للأسفل وأشعلت المدفأة بعود ثقاب، وأخذت أتنفس بصوت عال من أنفي (فالانحناء يجعلني دائما ألهث بشدة) في نوع من التلميح لهيلدا. نظرت إلي نظرة خاطفة بطرف عينيها كما كانت تنظرها إلي دائما عندما تعتقد أنني أفعل شيئا متهورا.
إن هيلدا في التاسعة والثلاثين من عمرها، وعندما قابلتها أول مرة كانت تبدو تماما كالأرنبة البرية. وهي لا تزال كذلك بعض الشيء، ولكنها أصبحت شديدة النحافة ويشوبها بعض الذبول، مع كآبة دائمة ونظرة قلقة في عينيها، وعندما يزيد انزعاجها عن المعتاد تحدب كتفيها وتشبك ذراعيها أمام صدرها كامرأة غجرية عجوز تجلس أمام موقدها. إنها من هؤلاء الأشخاص الذين يستمدون متعتهم الأساسية في الحياة من توقع الكوارث؛ الكوارث التافهة فقط بالطبع. أما الحروب والزلازل والأوبئة والمجاعات والثورات، فلا تأبه لها. زيادة سعر الزبد وتضخم فاتورة الغاز وتلف أحذية الطفلين وقسط الراديو؛ هذا ما تهتم به هيلدا كل يوم. إنها تدرك ما اكتشفت مؤخرا أنه متعة فعلية والمتمثل في أن تتحرك ذهابا وإيابا وذراعاها أمام صدرها، بينما تعبس في وجهي قائلة: «ولكن يا جورج الأمر في غاية الخطورة! ولا أعلم ماذا سنفعل! فلا أعلم من أين سيأتي المال! لا يبدو أنك مدرك لخطورة الأمر»، وهكذا دواليك. إنه من الراسخ بثبات في عقلها أننا سينتهي بنا الحال في ملجأ للفقراء. الغريب في الأمر هو أننا إذا حدث في يوم وذهبنا إلى أحد ملاجئ الفقراء، فلن يكون لدى هيلدا حرج قيد أنملة بقدر ما يكون لدي؛ بل إنها في الواقع قد تستمتع كثيرا بشعور الأمن هناك.
كان الطفلان قد سبقاني بالفعل إلى الدور الأرضي، وقد اغتسلا وارتديا ملابسهما في سرعة البرق كما يفعلان دائما عندما لا تكون أمامهما فرصة لإبعاد أي شخص آخر عن الحمام. وعندما جلست إلى طاولة الإفطار، كانا يخوضان جدالا وصل إلى مرحلة «لقد فعلت ذلك!» «لا، لم أفعل!» «بل فعلت!» «لا، لم أفعل!» وبدا لو أنهما سيظلان هكذا طوال النهار حتى أمرتهما أن يتوقفا. ليس لدي أطفال سواهما؛ بيلي الذي يبلغ من العمر سبعة أعوام ولورنا التي تبلغ أحد عشر عاما. ينتابني شعور غريب تجاه الطفلين؛ فمعظم الوقت لا أكاد أطيق النظر إليهما، ناهيك عن محادثاتهما التي لا تحتمل. إنهما في تلك السن المملة الطامحة لاحتياجات العيش البسيطة؛ حيث يدور تفكير الطفل حول أشياء مثل المساطر والمقالم ومن حصل على أعلى درجة في مادة اللغة الفرنسية. في أحيان أخرى، خاصة عندما يكونان نائمين، أشعر بشيء مختلف تماما؛ إذ أقف في بعض الأحيان أمام سريريهما في ليالي الصيف المضيئة وأشاهدهما وهما نائمان، بوجهيهما المستديرين وشعرهما الكتاني اللون الأفتح من لون شعري بعدة درجات، ويعطيني هذا ذلك الشعور الذي تحس به حين تقرأ قول الإنجيل إن أحشاءك قد حنت؛ ففي تلك الأحيان أشعر أنني مجرد غلاف حبوب جاف لا يساوي شيئا، وأن قيمتي الوحيدة هي في أن أجيء بهذين الكائنين إلى الحياة وأطعمهما حتى يكبرا. ولكن ذلك الشعور لا يستمر إلا للحظات، بينما أغلب الوقت يكون وجودي المنفصل عنهما مهما للغاية لي، وأشعر أنه ما زالت أمام كلب عجوز مثلي حياة طويلة ومزيد من الأوقات الجيدة، وفكرة أن أكون وديعا كالبقرة الحلوب التي تطعم الزوجة والأطفال لا تروق لي.
لم نتحدث كثيرا في ساعة الإفطار. وقد كانت هيلدا في ذلك المزاج «لا أعلم ماذا سنفعل!» من ناحية بسبب سعر الزبد، ومن ناحية أخرى بسبب قرب انتهاء إجازات الكريسماس وكان لا يزال علينا دفع خمسة جنيهات مصاريف للمدرسة عن الفصل الدراسي الأخير. أكلت بيضتي المسلوقة وفردت بعضا من مربى جولدن كراون على قطعة من الخبز. تصر هيلدا على شراء هذا الشيء. إن سعره خمسة بنسات ونصف البنس، ومكتوب على الملصق خاصته بأصغر خط يسمح به القانون: إنه يحتوي على «نسبة معينة من عصير الفاكهة متعادل الحموضة». استفزني ذلك فتحدثت، بالطريقة الغاضبة التي أتحدث بها في بعض الأحيان، عن أشجار الفاكهة متعادلة الحموضة متسائلا عن شكلها والبلدان التي تنمو فيها حتى أثرت في النهاية غضب هيلدا. لم يكن ذلك لأنها تمانع من سخريتي منها، ولكن لأنها على نحو غامض تظن أنه من الكريه أن نسخر من أي شيء نوفر فيه بعض المال.
ألقيت نظرة على الصحيفة، ولكن لم تكن ثمة أخبار تذكر. في الجنوب في إسبانيا وفي الجانب الآخر في الصين كان الناس يتقاتلون كعادتهم؛ وعثر على ساقي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية؛ وكان زفاف الملك زوجو على كف عفريت. وفي النهاية، في حوالي الساعة العاشرة، وقبل ما كنت أتوقع، خرجت إلى البلدة. ذهب الطفلان للعب في الحدائق العامة. كان صباحا باردا برودة موحشة. وبمجرد أن تخطيت عتبة الباب، هبت ريح كريهة التصقت بالصابون المتبقي على عنقي، وجعلتني أشعر فجأة بأن ملابسي لم تعد صالحة للخروج وأن كل ما في لزج.
2
هل تعرف الشارع الذي أسكن فيه، شارع إلزمير بمنطقة غرب بلتشلي؟ حتى إذا لم تكن تعرفه، فبالتأكيد تعرف خمسين شارعا آخر يشبهه تماما.
تعرف كيف تنتشر هذه الشوارع في جميع الضواحي الداخلية والخارجية. وهي تتشابه دائما. إنها طويلة، بصفوف طويلة من منازل صغيرة نصف مستقلة - إن أرقامها في شارع إلزمير تصل إلى 212، ومنزلنا هو المنزل رقم 191 - تشبه منازل الإيجار المملوكة للبلدية، بل هي أكثر قبحا عادة؛ حيث الواجهات المكسوة بالجص، والبوابات المطلية بزيت القطران، وسياج الشجيرات، والأبواب الأمامية الخضراء. ومن سكانها آل لوريل وميرتل وهوثورن ومون إبري ومون ريبوس، وبيل فيو. ربما في منزل واحد من كل خمسين منزلا يوجد شخص غير اجتماعي ممن قد ينتهي بهم الحال في ملجأ للفقراء، والذي قد طلي بابه الأمامي باللون الأزرق وليس الأخضر.
هذا الإحساس اللزج حول عنقي قد أكسبني مزاجا أشعر فيه بالإحباط. من الغريب أن تشعر بالكآبة بسبب عنق زلق؛ إذ يبدو أنه يسلبك كل نشاطك، مثلما تكتشف فجأة في مكان عام أن نعل أحد زوجي حذائك قد انخلع. لم تكن لدي أي أوهام عن نفسي في ذلك الصباح، ولكن الأمر كان كما لو كنت أقف على مسافة وأشاهد نفسي أنزل إلى الشارع بوجهي الأحمر البدين وطقم أسناني وملابسي القديمة. إن رجلا مثلي لا يقدر على أن يبدو كالوجهاء. وحتى إذا رأيتني على مسافة مائتي ياردة، فستعلم على الفور أنه ليس بالضرورة أنني أعمل في مجال التأمين، بل بائع متجول أو مندوب مبيعات؛ فالملابس التي كنت أرتديها كانت في الواقع الزي الرسمي لمن يعملون في مثل مهنتي. لقد كنت أرتدي بدلة رمادية بخطوط متعرجة كانت في حالة سيئة بعض الشيء، ومعطفا أزرق قيمته خمسون شلنا، وقبعة مستديرة، ولا أرتدي قفازا. ويبدو علي ذلك المظهر المميز لهؤلاء الذين يبيعون أشياء بعمولة، وقد كان مظهرا غليظا وفظا. في أفضل أوقاتي، عندما أشتري بدلة جديدة أو عندما أدخن السيجار، قد أبدو مثل وكيل مراهنات بسباقات الخيل أو صاحب حانة، وعندما أكون في أسوأ حالاتي، قد أبدو مثل بائعي المكانس الكهربائية؛ أما في الأوقات العادية، فقد يمكنك جيدا معرفة أي نوع من الرجال أنا. «لا بد أنه يتقاضى من خمسة إلى عشرة جنيهات في الأسبوع.» هكذا ستقول لنفسك بمجرد أن تراني. من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، أعد في المستوى المتوسط لسكان شارع إلزمير.
أصبح الشارع لي وحدي تقريبا؛ فقد هرع الرجال للحاق بقطار الثامنة وإحدى وعشرين دقيقة، وكان النساء يجلسن أمام مواقد الغاز. عندما يكون لديك الوقت للنظر حولك، وعندما يتصادف أن تكون في مزاج جيد، فثمة شيء يجعلك تضحك بينك وبين نفسك عند السير في هذه الشوارع في الضواحي الداخلية والخارجية، والتفكير في هؤلاء الذين يعيشون فيها؛ لأنه، في نهاية المطاف ، ما ظنك بهذا الشارع الذي يسمى شارع إلزمير؟! إنه مجرد سجن بزنزانات مصطفة؛ صف من غرف التعذيب شبه المنفصلة، حيث يرتجف ويرتعش هؤلاء الفقراء المصابون بالهزال الذي يحصلون في الأسبوع على خمسة جنيهات إلى عشرة جنيهات، وكل واحد منهم لديه مدير في عمله ينغص عليه حياته، وزوجة تستبد به كالكابوس، وأطفال يمتصون دمه كالعلقات. ثمة الكثير من الهراء مما يقال عن معاناة الطبقة العاملة، ولكنني لست شديد الأسف على هؤلاء الكادحين. هل عرفت يوما عامل حفر يظل مستيقظا بالليل يفكر في طرده من العمل؟ يعاني أبناء الطبقة العاملة بدنيا، ولكنهم يضحون رجالا أحرارا عندما لا يعملون. ولكن في كل صندوق من تلك الصناديق الصغيرة المكسوة بالجص يسكن وغد مسكين لا يتحرر قط إلا عندما ينام بعمق ويحلم بأنه يلقي بمديره في قعر بئر ثم يلقي عليه قطعا من الفحم المتقد.
في واقع الأمر، إن المشكلة الأساسية لدى أشخاص مثلنا، بحسب تصوري، هي أننا جميعا نتخيل أن لدينا شيئا قد نخسره. بادئ ذي بدء، فإن تسعة أعشار سكان شارع إلزمير يتصورون أنهم يملكون منازلهم، ولكن شارع إلزمير والحي بأكمله الذي يحيط به حتى تصل إلى هاي إستريت هو جزء من مشروع احتيالي ضخم باسم عقارات هيسبيريدز، وهو ملك لجمعية البناء تشيرفول كريديت. تكاد تكون جمعيات البناء النصاب الأذكى في العصر الحديث. إن مجال التأمين الذي أعمل فيه يمارس خداعا أيضا، أشهد على ذلك، ولكنه خداع صريح مكشوفة أوراقه، بينما ما يميز خداع جمعيات البناء هو أن ضحاياها يعتقدون أنها تعمل لمنفعتهم؛ إنها تضربهم بعنف ويقبلون هم يدها. إنني أعتقد في بعض الأحيان أن عقارات هيسبيريدز يجب أن تكرم بتمثال ضخم يمثل إله جمعيات البناء، الذي سيكون تمثالا غريب الأطوار، ومن بين أمور أخرى، سيكون ثنائي الجنس. سيمثل الجزء الأعلى من التمثال مديرا عاما، بينما يمثل الجزء الأسفل زوجة بشكلها العائلي. وفي إحدى يديه سيحمل مفتاحا ضخما - مفتاح ملجأ الفقراء بالطبع - وفي اليد الأخرى سيحمل ذلك الشيء الأشبه بالبوق الفرنسي الذي تخرج منه الهدايا، الذي يطلقون عليه قرن الوفرة، والذي ستخرج منه أجهزة راديو محمولة ووثائق تأمين على الحياة وأطقم أسنان وأقراص أسبرين وواقيات ذكرية ومداحل حدائق إسمنتية.
في حقيقة الأمر إننا في شارع إلزمير لا نملك منازلنا، حتى عندما ننتهي من دفع أقساطها؛ فهي ليست حيازة عقارية خالصة، بل هي فقط حيازة على سبيل الإيجار. وهي قيمتها خمسمائة وخمسون جنيها تدفع على مدة ستين عاما؛ وهي من ذلك النوع من المنازل التي إذا دفعت سعرها نقدا دفعة واحدة، فسيكون سعرها ثلاثمائة وثمانين تقريبا. ذلك يمثل فائدة قدرها مائة وسبعون لصالح شركة تشيرفول كريديت، ومن نافلة القول أن تشيرفول كريديت تتحصل على أكثر من ذلك من هذه العملية؛ حيث تشمل الجنيهات الثلاثمائة والثمانين ربح المقاول، ولكن تشيرفول كريديت، تحت اسم ويلسون آند بلوم، تبني المنازل بنفسها وتستولي على ربح المقاول، وكل ما تضطر إلى دفعه هو تكلفة مواد البناء، ولكنها تتحصل كذلك على مكسب من مواد البناء؛ إذ تبيع لنفسها تحت اسم بروكس آند سكاتربي الطوب والبلاط والأبواب وإطارات النوافذ والرمل والإسمنت، والزجاج على ما أظن. ولم أستغرب على الإطلاق عندما علمت أنهم تحت اسم مستعار آخر يبيعون لأنفسهم الأخشاب لصناعة الأبواب وإطارات النوافذ. وكذلك - وهو شيء متوقع جدا - فعلى الرغم من أننا قد صدمنا جميعا عندما اكتشفنا الأمر، فإن تشيرفول كريديت لا تلتزم دائما بتعهداتها. عندما بنيت المنازل في شارع إلزمير كان من المفترض أن تكون محاطة ببعض المساحات المفتوحة، التي لم تكن لتكون مذهلة للغاية، ولكن جيدة كي يلعب فيها الأطفال، وقد أطلقوا عليها اسم مروج بلات. لم يكن أي من ذلك موثقا بالمستندات، ولكنه كان دائما معروفا لدينا أن مروج بلات لن تقام أبدا. ولكن غرب بلتشلي كانت ضاحية متنامية، وافتتح مصنع مربى روثويل في عام 1928 ومصنع أنجلو أمريكي للدراجات المصنوعة من الصلب في عام 1933، وكان عدد السكان في تزايد وارتفعت قيمة الإيجارات. لم أر قط السير هربرت كروم أو أيا من أصحاب الصيت في شركة تشيرفول كريديت وجها لوجه، ولكن يمكنني تخيلهم ولعابهم يسيل جشعا؛ لذا، وصل عمال البناء فجأة وبدأ إنشاء المنازل على أرض مروج بلات. وبدأت صيحات الغضب تتصاعد من سكان هيسبيريدز، وأسسوا جمعية للدفاع عن حقوقهم، لكن بلا فائدة. لقد قضى علينا محامي كروم في خمس دقائق، وتم البناء على أرض مروج بلات. ولكن الخدعة الأكثر مكرا حقا، تلك التي جعلتني أشعر أن العجوز كروم يستحق لقب البارون الذي كان يملكه، هي الخدعة الذهنية؛ فبفضل الوهم وحده الذي لدينا بأننا نملك منازلنا، وأن لنا ما يسمى «قدما في المكان»، تحولنا نحن الساذجين المساكين من سكان هيسبيريدز وغيرها من الأماكن المماثلة إلى عبيد كروم مخلصين للأبد. نحن جميعا أصحاب المنازل المحترمين، أو بالتحديد المحافظين (المؤيدين والمتملقين)، لم نجرؤ على أن نقتل الإوزة التي تبيض البيض الذهبي! وحقيقة أننا لم نكن بالفعل أصحاب منازل؛ لأننا ما زلنا نسدد أثمانها والرعب المميت من أن شيئا قد يحدث قبل أن نتمكن من سداد آخر قسط ينخر في عظامنا، زادت ببساطة من تأثير الأمر علينا. جميعا اشترينا، والأدهى من ذلك أننا اشترينا بمالنا الخاص. كل فرد من هؤلاء الأوغاد المدوسين بالأقدام المساكين يعمل ويعرق كي يدفع ضعف السعر الحقيقي لمنزل من الطوب يدعى على نحو زائف «بيل فيو»، الذي يعني المنظر الجميل، ولكنه عكس ذلك تماما. وكل شخص من هؤلاء الضائعين المساكين على استعداد للموت في ميدان الحرب دفاعا عن بلده ضد البلشفية.
انعطفت إلى شارع وولبول ثم إلى هاي إستريت، حيث القطار الذاهب إلى لندن في العاشرة وأربع عشرة دقيقة. كنت أمر للتو على متجر لبيع الأشياء الرخيصة وتذكرت حينها الملاحظة التي وضعتها في ذهني هذا الصباح لأشتري مجموعة من شفرات الحلاقة. وعندما وصلت إلى مكان بيع الصابون، كان مدير الفرع - أو أيا كان مسماه الوظيفي - يسب الفتاة المسئولة هناك. بوجه عام، لم يكن ثمة العديد من الناس في المكان في تلك الساعة من الصباح. في بعض الأحيان إذا ذهبت إلى هناك بعد وقت الفتح مباشرة، فسترى جميع البائعات مصطفات لسماع سبابهن الصباحي؛ لا لشيء إلا كي يستقمن في العمل خلال اليوم. يقال إن سلاسل المتاجر الكبيرة هذه بها رجال لديهم قدرة خاصة على السخرية اللاذعة والإيذاء، الذين يرسلون من فرع إلى آخر ليوبخوا الفتيات كي يعملن جيدا. كان مدير الطابق شيطانا قبيحا ضئيل الحجم، أصغر من الحجم العادي، بكتفين مربعتين تماما وشارب رمادي شائك. وقد عنف لتوه الفتاة بشأن شيء ما، من الواضح أنه خطأ ما ارتكبته يتعلق بحساب الباقي من إحدى عمليات الشراء، وكان يلومها بصوت يشبه صوت المنشار الدائري، قائلا: «أيتها الغبية! بالطبع لم تحسبيها جيدا! بالطبع لم تفعلي. ستنالين عقابا شديدا، سترين. أيتها الغبية!»
وقبل أن أمنع نفسي من النظر إليهما، لمحت عيناي الفتاة. لم يكن من اللطيف أن ينظر إليها رجل بدين مثلي في منتصف العمر بوجهه الأحمر بينما تتلقى السباب. صرفت وجهي بأسرع ما تمكنت وتظاهرت بالاهتمام بالأشياء الموضوعة على طاولة البيع المجاورة؛ حلقات الستائر أو غيرها من الأشياء. انتبه لها مرة أخرى، وقد كان أحد هؤلاء الذين ينصرفون ثم يعودون إليك فجأة مندفعين كاليعسوب.
وقال لها: «بالطبع لم تحسبيها جيدا! فلا يهمك إن خسرنا شلنين. لا يهمك على الإطلاق. ما قيمة الشلنين بالنسبة لك؟ إنك لا تكلفين نفسك عناء حسابها جيدا. أيتها الغبية! لا يهمك سوى مصلحتك. لا تفكرين في الآخرين، أليس كذلك؟»
استمر هذا الصراخ لمدة خمس دقائق تقريبا بصوت يصل إلى منتصف المتجر. وتابع الانصراف عنها ليجعلها تظن أنه انتهى من توبيخها، ثم العودة إليها فجأة مندفعا ليخوض جولة تعنيف أخرى. وأثناء ابتعادي شيئا فشيئا قليلا ألقيت نظرة خاطفة عليهما. كانت الفتاة صغيرة في الثامنة عشرة من عمرها تقريبا، ممتلئة قليلا بوجه غير مبال بعض الشيء، من ذلك النوع الذي لا يحسن حساب الباقي بأي حال. تحول لونها إلى الوردي الباهت وكانت تتلوى، في الواقع كانت تتلوى من الألم؛ فقد كان الأمر تماما كما لو أنه كان يمزقها بالسوط. وكانت الفتيات عند طاولات البيع الأخرى يتظاهرن بعدم سماع شيء. كان شيطانا ضئيل الحجم قوي البنية قبيحا، من ذلك النوع المشاكس من الرجال الذين يفردون صدورهم ويضعون أيديهم أسفل أطراف معاطفهم؛ ذلك النوع الذي يصلح أن يكون في رتبة رقيب أول، ولكنه ليس طويلا بما يكفي. هل تلاحظون كثرة الرجال الضئيلي البنية في الأعمال القائمة على التنمر؟ كان ملتصقا بها بوجهه وشاربه وجميع جسمه تقريبا؛ كي يصرخ في وجهها مباشرة، بينما الفتاة بالكامل تتورد خجلا وتتلوى.
وأخيرا، قرر أنه قد قال ما فيه الكفاية، وانصرف مختالا كأميرال على سطح مؤخرة سفينة، واقتربت من طاولة البيع لأشتري الشفرات. لقد علم أنني سمعت كل كلمة، كما علمت هي كذلك، وكلاهما كان يعلم أنني أعلم أنهما يعلمان. ولكن الأسوأ في الأمر أنه لمصلحتي عليها أن تتظاهر بأن شيئا لم يحدث وتتصرف بذلك السلوك المتحفظ من الحفاظ على المساحة بيننا، التي يجب على البائعات أن يحافظن عليها بينهن وبين الزبائن من الرجال. كان عليها تمثيل دور الشابة الناضجة لنصف دقيقة بعد أن رأيتها تسب كالخادمات. كان وجهها لا يزال متوردا وكانت يداها ترتجفان. طلبت منها شفرات رخيصة وبدأت تبحث عنها في صينية الشفرات التي بقيمة ثلاثة بنسات. ثم استدار الشيطان الضئيل مدير الفرع نحونا، وللحظة ظن كلانا أنه كان قادما ليعيد الكرة. جفلت الفتاة ككلب رأى سوطا، ولكنها كانت تنظر إلي بطرف عينيها. يمكنني أن أرى أنها كانت تكرهني كرهها للشيطان لأنني قد رأيتها وهي تسب. يا له من أمر غريب!
انصرفت ومعي شفرات الحلاقة. وأخذت أسال نفسي: لماذا يتحملن ذلك؟ إنه الخوف بالتأكيد؛ فإن نبسن ببنت شفة ردا على الإهانة، فسيطردن. وكذلك الأمر في كل مكان. فكرت في أمر الشاب الذي يخدمني في بعض الأحيان في متجر البقالة الذي نتعامل معه والذي ينتمي لسلسلة متاجر تحمل نفس الاسم. إنه فتى ضخم للغاية في عمر العشرين، بوجنتين كالوردتين وساعدين ضخمين؛ ومن الأرجح أن يعمل في الحدادة. وها هو في سترته البيضاء منحنيا على طاولة البيع فاركا يديه ومرددا: «نعم سيدي! صحيح جدا يا سيدي! طقس لطيف بالنسبة لهذا الوقت من العام يا سيدي! كيف يمكنني أن أتشرف بمساعدتك اليوم يا سيدي؟» وهو في الواقع يطلب منك أن تهينه، وأن تعطيه الأوامر بالطبع، والزبون دائما على حق. الشيء الذي يمكنك أن تراه على وجهه هو الفزع المميت من أن تبلغ عن أنه غير صبور ومن ثم يطرد من عمله. إلى جانب ذلك، كيف له أن يعرف أنك لست أحد الجواسيس الذين ترسلهم الشركة لمراقبة سير العمل؟ الخوف! نحن نسبح فيه. إنه العنصر الأساسي للحياة التي نعيشها؛ فكل من لا يرعبه فقدان عمله يرتعب من الحرب أو الفاشية أو الشيوعية أو من شيء ما. يتصبب اليهود عرقا عندما يتذكرون هتلر. خطر في ذهني أن ذلك الوغد الضئيل ذا الشارب الشائك ربما كان في ذلك المشهد اللعين أكثر خوفا على عمله مما كانت الفتاة؛ فلربما كانت لديه عائلة يعولها، وربما هو في المنزل، رجل حليم ولطيف يزرع الخيار في حديقته الخلفية، ويدع زوجته تجلس على حجره وأولاده يشدون شاربه، من يعلم. وعلى المنوال نفسه قد لا تكون قد سمعت عن قاض في محاكم التفتيش الإسبانية أو أحد من كبار المسئولين في الشرطة السرية للاتحاد السوفييتي دون أن تسمع أنه في حياته الخاصة كان رجلا جيدا وطيبا، وزوجا وأبا صالحا، ويرعى طائر الكناري الأليف الذي يربيه، وما إلى ذلك.
كانت الفتاة الواقفة إلى طاولة بيع الصابون تنظر إلي وأنا أخرج من الباب، وكادت لتقتلني إن كان باستطاعتها. عجبا، لقد كرهتني بشدة لأنني رأيتها! كرهتني أكثر مما كرهت مديرها.
3
كانت ثمة طائرة قاذفة للقنابل تطير على ارتفاع منخفض فوق القطار الذي كنت أركب فيه. ولمدة دقيقة أو دقيقتين بدت متزامنة في حركتها مع القطار. وكان يجلس أمامي رجلان سوقيان يرتديان معطفين رثين، وكان من الواضح أنهما مروجان من نوع متدن؛ فلربما كانا مروجي جرائد. كان أحدهما يقرأ صحيفة «ديلي ميل»، والآخر كان يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس». ويمكنني أن أستشف من سلوكهما أنهما يظناني مثلهما. أما في الجهة الأخرى من العربة ، فقد كان يجلس كاتبا محام بحقيبتين سوداوين ويتبادلان أطراف حديث مليء بالهراء القانوني الذي يعنى به إبهارنا وإعلان أنهما لا ينتميان للقطيع من العامة.
كنت أشاهد الأجزاء الخلفية للمنازل التي نمر عليها. وكان القطار بعد غرب بلتشلي يمر أغلب الوقت على أحياء فقيرة، ولكن ثمة شعورا بالسلام يأتيك من النظر إلى الساحات الخلفية الصغيرة ببعض الأزهار الموجودة في صناديق والأسطح المستوية؛ حيث تنشر النساء الملابس وأقفاص الطيور المعلقة على الجدران. تمايلت الطائرة القاذفة للقنابل السوداء الكبيرة قليلا، وارتفعت في الهواء حتى إنني لم أعد أستطيع رؤيتها. كنت أجلس وظهري إلى المحرك. وكان أحد المروجين الجالسين أمامي قد نظر إلى الطائرة بانتباه لمدة ثانية واحدة فقط. أعلم ما كان يفكر فيه؛ لأنه كان ما يفكر فيه أي أحد. لا يتطلب الأمر أن تكون رفيع الثقافة كي تفكر في هذه الأمور في أيامنا هذه. في غضون سنتين أو سنة، ما الذي سيكون علينا فعله عندما نرى مثل هذه الأشياء؟ هل سنختبئ في السراديب ونبلل سراويلنا من الخوف؟
وضع المروج صحيفة «ديلي ميل» خاصته، وقال: «لقد تحدد الفائز بسباق تيمبلجيت.»
كان كاتبا المحامي يقولان بعض الهراء المتخصص عن الملكية التامة المطلقة والمقابل الاسمي. تحسس المروج الآخر جيب صدريته وأخرج سيجارة ملتوية من ماركة وودباين. وتحسس الجيب الآخر ثم مال نحوي، وقال: «هل معك أعواد ثقاب أيها البدين؟»
بحثت عن أعواد الثقاب. «البدين»، ألاحظت ما قال؟ إنه أمر مثير للاهتمام حقا. لمدة دقيقتين تقريبا توقفت عن التفكير في القنابل، وبدأت أفكر في شكلي كما كنت أتفحصه في الحمام هذا الصباح.
صحيح للغاية أنني بدين؛ وفي الواقع فإن الجزء العلوي من جسمي يشبه كثيرا حوض الاستحمام، ولكن المثير للاهتمام، على ما أظن، هو أنه فقط لأنه تصادف وكنت ممتلئا بعض الشيء، فإن كل شخص تقريبا وحتى الغرباء عنك تماما سيعطون الحق لأنفسهم أن ينعتوك بهذا اللقب المهين؛ تعليقا على مظهرك. افترض أن رجلا كان أحدب أو لديه حولا في عينيه أو شفة أرنبية، فهل ستناديه بصفة تذكره بذلك؟ ولكن كل رجل بدين يطلق عليه الناس الألقاب كأمر واقع. أنا من ذلك النوع الذي يضربه الناس على ظهره ويلكمونه في صدره بشكل تلقائي، وكلهم تقريبا يظنون أنني أحب ذلك. إنني لا أدخل في أي وقت من الأوقات إلى حانة كراون في بودلي (حيث أذهب إلى هناك مرة في الأسبوع من أجل العمل) دون أن يهمزني في ضلوعي هذا الأحمق ووترز، الذي يعمل مندوب مبيعات متجولا لشركة سيفوم للصابون، ولكنه دائم الوجود تقريبا في حانة كراون، ويغني قائلا: «هنا، يرقد البدين المسكين توم بولينج!» وهي المزحة التي لا يمل منها أبدا الحمقى اللعناء في الحانة. لووترز إصبع يشبه قضيبا من الحديد. يظنون جميعا أن الرجل البدين ليست لديه أي مشاعر.
أخذ المروج عود ثقاب آخر مني كي يسلك أسنانه به ورمى لي بالعلبة. أطلق القطار صفارته على جسر حديدي؛ وقد ألقيت نظرة بالأسفل حيث لمحت عربة بضائع لأحد المخابز وسلسلة طويلة من العربات المحملة بالإسمنت. الغريب في الأمر، حسبما كنت أظن، أنهم نوعا ما على حق بخصوص الرجال البدناء؛ فالرجال البدناء في الحقيقة، وخاصة هؤلاء الذين ولدوا على هذه الحال - أي كانوا بدناء منذ الطفولة بعبارة أخرى - ليسوا كباقي الرجال. إذ تأخذ حياتهم بأكملها منحنى آخر يميل للكوميديا الخفيفة؛ ولكن في حالة ذوي البنية الضخمة كمن يجلبونهم في استعراضات المهرجانات أو في الواقع أي أحد يزيد وزنه على مائة وخمسة وعشرين كيلوجراما، لا تكون حياتهم كوميديا خفيفة بقدر ما تكون مسرحية هزلية رخيصة. شهدت البدانة والنحافة في حياتي، وأعرف الفرق الذي تحدثه السمنة في مظهر المرء. إنها تحرمك نوعا ما من التأثر الشديد بالأشياء. أشك في أن رجلا عاش حياته كلها بدينا، رجلا نعت بالبدين منذ نعومة أظفاره، أشك في أنه قد شعر يوما بأي مشاعر عميقة حقيقية. إذ كيف له أن يشعر بتلك الأمور؟ إنه ليس له أي خبرة فيها؛ فلا يمكنه حتى أن يلعب دورا تراجيديا في أحد المشاهد؛ لأن المشهد الذي يوجد فيه رجل بدين لا يكون تراجيديا بل كوميديا. فلتتخيل رجلا بدينا في دور هاملت، على سبيل المثال! أو ممثلا كأوليفار هاردي في دور روميو. وجدت الأمر كوميديا للغاية عندما كنت أفكر فيه قبل بضعة أيام وأنا أقرأ رواية اشتريتها من مكتبة بوتس، وكان اسمها «الحب الضائع». اكتشف البطل في الرواية أن حبيبته قد فضلت عليه رجلا آخر. وهو رجل من هؤلاء الذين تقرأ عنهم في الروايات من ذوي الوجوه المرهفة الشاحبة والشعر الداكن والدخل الخاص. أتذكر تقريبا ما جرى في ذلك الجزء من الرواية:
جال ديفيد في الغرفة ذهابا وإيابا ضاغطا بيديه على جبينه، وبدا أن الخبر قد أحدث له صدمة، ولوقت طويل لم يستطع تصديق الأمر. شيلا خانته! هذا مستحيل! وفجأة باغته الإدراك، ورأى الحقيقة العارية بكل رعبها. كانت ثقيلة عليه للغاية؛ فانهار في نوبة مفاجئة من البكاء.
على أي حال، كان شيئا من هذا القبيل. وجعلني ذلك أفكر في الأمر، وقد بدا لي كالآتي. هكذا من المتوقع أن يتصرف كل الناس أو بعضهم؛ ولكن ماذا عن رجل مثلي؟ لنفترض أن هيلدا ذهبت لقضاء إحدى عطلات نهاية الأسبوع مع شخص آخر - لا أعني أن الأمر سيهمني في شيء، بل في الواقع سيسعدني أن أكتشف أنها لا تزال تملك هذا القدر من الحيوية - ولكن لنفترض أن الأمر يهمني، فهل سأنهار في نوبة مفاجئة من البكاء؟ هل سيتوقع أحد أن أفعل ذلك؟ لا يمكنك توقع ذلك من شخص بمثل حجمي؛ سيبدو الأمر شائنا تماما.
كان القطار يسير على جسر. وأسفلنا على مسافة غير بعيدة يمكن رؤية أسقف المنازل التي تمتد بلا توقف؛ تلك الأسقف الحمراء الصغيرة، التي ستسقط عليها القنابل، والتي كانت مضاءة قليلا في هذه اللحظة؛ لأن شعاعا من أشعة الشمس كان ساقطا عليها. من الطريف أننا لا نتوقف عن التفكير في أمر القنابل. بالطبع لا شك في أنه سيحدث قريبا؛ إذ يمكنك أن تعرف مدى قربه من نبرة التفاؤل التي يتحدثون بها عنه في الصحف. كنت أقرأ مقالا في صحيفة «نيوز كرونيكال» منذ بضعة أيام، وجاء به أن الطيارات القاذفة للقنابل لا يمكنها أن تتسبب في أي ضرر هذه الأيام؛ فالمدافع المضادة للطائرات قد تطورت كثيرا لدرجة أن الطائرة القاذفة للقنابل يجب أن تبقى على ارتفاع عشرين ألف قدم. يعتقد الكاتب، كما لاحظت، أنه إذا كانت الطائرة على ارتفاع بعيد فلن تصل القنابل إلى الأرض، أو الاحتمال الأكبر أن ما يعنيه في الواقع هو أنها لن تدرك ترسانة أسلحة وولويتش وستضرب فقط أماكن مثل شارع إلزمير.
ولكن إجمالا أعتقد أن الأمر ليس بذلك السوء أن يكون المرء بدينا. من الأشياء المميزة للرجل البدين أنه دائما مشهور؛ فليس هناك في الواقع أي صحبة، من وكلاء المراهنات إلى الأساقفة، لا يجد الرجل البدين له بينهم مكانا ويشعر بالارتياح وسطهم. أما عن النساء، فالرجل البدين محظوظ بينهن أكثر مما يعتقد الناس؛ من الهراء أن تتخيل، كما يفعل بعض الناس، أن المرأة تنظر إلى الرجل البدين على أنه مجرد مزحة. إن الحقيقة هي أن المرأة لا تنظر إلى أي رجل كمزحة إذا استطاع أن يخدعها بزعمه أنه يحبها.
يجب أن تعرف أني لم أكن بدينا طوال حياتي، ولكني اكتسبت وزنا زائدا منذ ثماني سنوات أو تسع، وأظن أنني قد اكتسبت فيها أغلب صفات الرجل البدين. ولكن في الواقع كذلك أني لست بدينا من الداخل، أي من الناحية الذهنية. لا! لا تسئ فهمي. لا أحاول أن أبدو لك وديعا كزهرة ناعمة، أو أن أبدو من هؤلاء الذين يبتسمون لك بينما هم يعانون ويتألمون، وما إلى ذلك؛ فلا يمكن لأحد أن يعمل في مجال التأمين إذا كان لديه أي من هذه الصفات. أنا فظ متبلد الإحساس وأتكيف مع بيئتي. ما دامت الأشياء في أي مكان في العالم تباع بالعمولة، ويحصل الناس على سبل معيشتهم بوقاحة تامة وغياب للمشاعر النبيلة؛ فإن رجلا مثلي سيسلك ذلك المسلك. في كل الأحوال تقريبا أستطيع كسب العيش، الذي يكون دائما بحد الكفاف ولم يمثل ثروة قط، وحتى في أثناء الحرب والثورة والوباء والمجاعة يمكنني أن أدعم نفسي للبقاء على قيد الحياة أكثر من معظم الناس. أنا من ذلك النوع من الرجال، ولكن لدي شيء آخر في داخلي، في الأغلب أثر متخلف من الماضي، وسأخبركم به لاحقا. أنا بدين ولكني نحيف من داخلي. ألم يخطر ببالك من قبل أن ثمة رجلا نحيفا داخل كل رجل بدين، تماما كما يقولون إن هناك تمثالا كامنا في كل قالب من الحجر؟
الرجل الذي استعار أعواد ثقابي كان يخلل أسنانه جيدا وهو يقرأ صحيفة «ديلي إكسبريس».
قال: «لا يبدو أنهم قد أحرزوا تقدما كبيرا في قضية الساقين.»
قال الآخر: «لن يتمكنوا من حلها أبدا؛ إذ كيف يمكن معرفة شيء من زوج من السيقان؛ فكل السيقان متشابهة، أليس كذلك؟»
قال الأول: «قد يتعقبون الجاني من خلال قطعة الورق التي لفهما بها.»
في الأسفل يمكنك رؤية أسقف المنازل تمتد بلا توقف، وتلتف في كل اتجاه مع التفاف الشوارع، ولكنها تمتد بلا توقف كما لو كنا نمر فوق سهل ضخم. أيا كان الطريق الذي تأخذه إلى لندن، فستمر على عشرين ميلا تقريبا من المنازل الممتدة دون توقف. يا إلهي! كيف للطائرات القاذفة للقنابل ألا تضربنا عندما تأتي؟ فنحن رقعة كبيرة وواضحة في مركز الهدف. ستصيبنا دون سابق إنذار على الأرجح؛ إذ من ذا الذي سيكون بذلك الحمق حتى يعلن عن الحرب قبلها في هذه الأيام؟ لو كنت مكان هتلر، لأرسلت الطائرات القاذفة للقنابل في أثناء مؤتمر لنزع السلاح. يوما ما في صباح هادئ وفي أثناء تدفق الموظفين على جسر لندن، وبينما تغرد طيور الكناري وتنشر النساء العجائز السراويل النسائية على الحبال، سنسمع أزيز المدافع وأصوات قذف القنابل. ستتطاير حينئذ المنازل في الهواء، وتنغمر السراويل النسائية بالدماء، وتغرد طيور الكناري على الجثث.
أعتقد أنه أمر مثير للشفقة على نحو ما. نظرت إلى الأسطح الممتدة بلا توقف كالبحر الكبير، فرأيت أميالا وأميالا من الشوارع، ومتاجر الأسماك المقلية، والكنائس الصغيرة، وصالات السينما، والأزقة الممتلئة بالمطابع الصغيرة، والمصانع، والعمارات السكنية، والمشروعات الصغيرة، ومعامل الألبان ، ومحطات الوقود، وغيرها الكثير. إنه لمكان هائل! ويا لها من سكينة تامة تلك التي تغشاه! إنه كبرية كبيرة بلا وحوش؛ بلا إطلاق نار أو قذف بالقنابل اليدوية أو ضرب بالعصي المطاطية. إذا فكرت في الأمر، ففي إنجلترا بأكملها في هذه اللحظة ليس ثمة نافذة واحدة في غرفة نوم يطلق من خلالها أحد النار بمدفع رشاش.
ولكن ماذا بعد خمسة أعوام من الآن؟ أو عامين؟ أو عام واحد؟
4
سلمت أوراقي في مكتب لندن. كان وورنر أحد أطباء الأسنان الأمريكان الذين تمتاز أسعار خدماتهم بأنها منخفضة، وكانت غرفة الفحص لديه، أو «الردهة» كما يحب أن يسميها، في منتصف مبنى كبير من المكاتب، بين مكتب مصور ومكتب تاجر جملة للواقيات الذكرية. وصلت مبكرا عن موعدي، ولذا كان ثمة وقت لتناول بعض الطعام. لا أعلم ما الذي جعلني أذهب إلى حانة للوجبات السريعة من منتجات الألبان وغيرها، رغم أنني أتجنب تلك الأماكن عادة. نحن الذين نتحصل على خمسة إلى عشرة جنيهات أسبوعيا لا يمكننا الاستفادة كثيرا من أماكن تناول الطعام في لندن. إذا كنت ترى أن المبلغ الذي يجب أن ينفقه المرء في وجبة هو شلن وثلاثة بنسات، فأمامك إما ليون أو إكسبريس ديري أو إيه بي سي؛ وإلا فستأكل وجبة خفيفة كئيبة في إحدى الحانات؛ نصف لتر من الجعة المرة وشريحة فطيرة باردة، تكون شديدة البرودة حتى إنها تكون أكثر برودة من الجعة. خارج حانة منتجات الألبان، كان الأولاد يروجون للطبعات الأولى للصحف المسائية.
وخلف طاولة البيع الحمراء البراقة، كانت تقف فتاة بقبعة بيضاء طويلة أمام ثلاجة، وفي مكان ما في الخلف كان الراديو يصدر صوتا عاليا ومزعجا. ما الذي جاء بي إلى هنا بحق الجحيم؟ سألت نفسي هذا السؤال عندما دخلت. ثمة أجواء في تلك الأماكن تصيبني بالإحباط. كل شيء هناك أملس وبراق وانسيابي؛ فتوجد مرايا وطلاء مينا وألواح كروم، أينما نظرت، وكل الاهتمام بالديكور وليس بالطعام. لا يوجد هنا طعام حقيقي على الإطلاق، وإنما هي أشياء بأسماء أمريكية، وهي كأشياء وهمية لا يمكنك تذوقها، ويصعب التصديق في وجودها. كل شيء يأتي من كرتونة أو علبة من الصفيح أو يخرج من الثلاجة أو ينبعث من صنبور أو ينضغط من أنبوب. ولا توجد راحة أو خصوصية؛ فالمكان كله مجهز بتلك الكراسي المرتفعة التي لا ظهر لها، الموضوعة إلى مكان ضيق لتتناول الطعام عليه، والمرايا في كل مكان حولك. هناك نوع من الدعاية يطفو على الأرجاء مختلطا بضجيج الراديو، ما يشعر بأن الطعام لا يهم، وكذلك الراحة، وكذلك أي شيء عدا أن يكون كل شيء أملس ولامعا وانسيابيا. كل شيء انسيابي في هذه الأيام، حتى الرصاصة التي يحتفظ بها هتلر ليطلقها عليك. طلبت فنجان قهوة كبيرا وقطعتين من نقانق الفرانكفورتر. وضعت الفتاة ذات القبعة البيضاء الطعام أمامي بالفتور نفسه الذي تلقي به بيض النمل لسمكة زينة.
خارج الباب صاح بائع صحف: «ستار، نيوز، إستاندرد!» رأيت العنوان يرفرف أمام ركبتيه: «الساقان. اكتشافات جديدة.» هل لاحظت أنهم كتبوا كلمة «الساقان» فقط. إنها اختصرت إلى هذا. منذ يومين، وجدوا ساقي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية، وكانت الساقان ملفوفتين بقطعة من الورق البني؛ ومع انتشار الخبر في طبعات الصحف المتتالية، كان من المفترض أن يهتم الشعب كله ويتعاطف مع صاحبة هاتين الساقين المدمرتين، لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى مزيد من المقدمات الصحفية. وكانت الساقان الوحيدتان في الأخبار في ذلك الوقت. فكرت وأنا أتناول قطعة من الخبز، إنه لغريب أمر هؤلاء القتلة الكسالى اليوم؛ فبعد كل هذا التقطيع لأجسام الناس، يترك المجرم أجزاء منها في أنحاء القرى. أين ذلك من الدراما القديمة لتسميم أفراد العائلة، مثل قضايا كريبين وسيدون والسيدة مايبريك؟ الحقيقة على ما أعتقد أنه لا يمكنك ارتكاب جريمة قتل جيدة إلا إذا كنت تعتقد أنك ستشوى في الجحيم على إثرها.
في هذه اللحظة، أخذت قضمة من إحدى قطعتي النقانق خاصتي، ثم يا إلهي!
حقيقة لم أتوقع أن يكون لهذا الشيء مذاق جيد؛ فقد توقعت ألا يكون له مذاق، مثل قطعة الخبز، ولكن هذه كانت تجربة لا تنسى. دعني أحاول أن أصفها لك.
لنقانق الفرانكفورتر جلد مطاطي، بالطبع، وطقم أسناني لم يكن متناسبا بشكل جيد معها؛ فكان علي أن أحركه كالمنشار قبل أن أتمكن من غرس أسناني في جلد النقانق، وفجأة! انفجر ذلك الشيء في فمي كالكمثرى الفاسدة؛ إذ كان شيئا لينا فظيعا يتسرب في جميع أرجاء لساني. أما عن المذاق، فلبرهة لم أستطع تصديق الأمر، فلففت لساني حوله مرة أخرى وجربته ثانية. لقد كان عبارة عن سمك! نقانق، شيء يسمونه فرانكفورتر، محشو بالسمك! نهضت وخرجت على الفور دون أن أمس قهوتي. الرب أعلم ماذا قد أرادوا أن يكون مذاق هذا الشيء.
بالخارج، لوح بائع الصحف بصحيفة «إستاندرد» في وجهي وصاح: «الساقان! اكتشافات رهيبة! وأسماء كل الفائزين في سباق الخيل! الساقان! الساقان!» كنت لا أزال أدحرج ذلك الشيء حول لساني، وأبحث عن مكان أستطيع أن أبصقه فيه. تذكرت شيئا كنت قد قرأته في صحيفة ما عن مصانع الأطعمة تلك في ألمانيا حيث يصنع كل شيء من شيء آخر تماما، ويسمون ذلك بالطعام الاصطناعي. تذكرت كذلك أني قرأت أنهم كانوا يصنعون النقانق من السمك، ويصنعون السمك بلا شك من شيء آخر مختلف. جعلني ذلك أشعر أنني قد أخذت قضمة من العالم الحديث واكتشفت أصوله الحقيقية. هذه هي الطريقة التي تسير بها الأمور اليوم؛ كل شيء براق وانسيابي، كل شيء مصنع من شيء آخر. السليوليد والمطاط وفولاذ الكروم في كل مكان، والمصابيح القوسية متوهجة طوال الليل، والأسقف الزجاجية فوق رءوسنا، وأجهزة الراديو تصدح كلها بالنغمة نفسها، والغطاء النباتي يتضاءل، والإسمنت يغطي كل شيء، والسلاحف المزيفة ترعى أسفل أشجار الفاكهة المتعادلة الحموضة. ولكن عندما يتعلق الأمر بضروريات الحياة وتغرس أسنانك في شيء صلب، مثل النقانق، فهذا ما ستحصل عليه؛ سمك فاسد في جلد مطاطي، انفجار شيء قبيح في فمك.
عندما وضعت طقم أسناني الجديد، شعرت بتحسن كبير. إنه يتلاءم جيدا وبسلاسة مع اللثة، وعلى الرغم من أنه قد يبدو من السخف أن أقول إن طقم الأسنان من شأنه أن يشعرك بأنك أصغر سنا، فهذه حقيقة. جربت أن أبتسم لنفسي في نافذة أحد المتاجر، ولم يكن الأمر سيئا كما ظننت؛ فعلى الرغم من أن وورنر خدمته رخيصة الثمن، فهو فنان جدا ولا يريدك أن تبدو كمن يظهرون في إعلانات معاجين الأسنان. وهو لديه خزانة كبيرة مليئة بأطقم الأسنان - التي أراني إياها ذات مرة - كلها مرتبة حسب الحجم واللون، وهو يختار منها كصائغ يختار أحجارا كريمة لعقد. كان سيظن تسعة أشخاص من بين كل عشرة أشخاص أن أسناني طبيعية.
ألقيت نظرة على نفسي بالحجم الكامل في نافذة أخرى كنت أمر أمامها، وقد هالني أنني وجدت نفسي في الواقع لست بذلك السوء. أعترف أنني بدين بعض الشيء، ولكن الأمر ليس مثيرا للاشمئزاز؛ فقط ما يقول عنه الخياطون «جسم ممتلئ»، كما أن بعض النساء يحببن الرجل ذا الوجه الأحمر. أعتقد أنني ما زلت أتمتع بالحيوية. تذكرت الجنيهات السبعة عشر، وعزمت بلا أدنى شك على أن أنفقها على امرأة. كان لدي ثمة وقت لتناول الجعة قبل أن تغلق الحانات، فقط لتطهير الأسنان؛ وقد شعرت بالغنى لامتلاكي سبعة عشر جنيها، فتوقفت أمام متجر السجائر واشتريت سيجارا بستة بنسات من النوع الذي أحبه كثيرا. يبلغ طول السيجار الواحد من ذلك النوع ثماني بوصات، وهو مصنوع بالكامل من أوراق نقية من هافانا. أظن أن الملفوف ينمو في هافانا كنموه في أي مكان آخر.
عندما خرجت من الحانة، شعرت باختلاف نوعا ما.
شربت كأسين من الجعة أمداني بدفء داخلي، وكان دخان السيجار يتسرب حول أسناني الجديدة، ويعطيني شعورا بالانتعاش والنظافة والسلام الداخلي. شعرت فجأة أنني أقرب إلى أن أكون مفكرا أو فيلسوفا. كان جزء من ذلك يرجع إلى أنه لم يكن لدي عمل أؤديه، ورجع ذهني إلى التفكير في الحرب كما فعلت في صباح هذا اليوم عندما كانت الطائرة القاذفة للقنابل تطير فوق القطار. شعرت بنوع من الإحساس التنبئي، ذلك الإحساس الذي يجعلك تتوقع نهاية العالم ويشعرك بنوع خاص من المتعة.
كنت أسير غربا إلى شارع إستراند، ورغم برودة الجو بعض الشيء، سرت ببطء للاستمتاع بالسيجار. كان الازدحام المعتاد الذي تشق طريقك فيه بصعوبة واصلا للرصيف، وكان على وجوه الجميع ذلك التعبير الأبله الثابت الذي يعتلي وجوه الناس في شوارع لندن، وكان هناك الازدحام المروري المعتاد بالحافلات الحمراء الكبيرة التي تتحسس طريقها بين السيارات وزئير المحركات وصفير أبواق السيارات. أظن أن تلك الضوضاء كافية لإيقاظ الموتى، ولكنها ليست كافية لإيقاظ هؤلاء القوم. شعرت كما لو أنني الشخص الوحيد المستفيق في مدينة من السائرين نياما. هذا وهم بالتأكيد؛ فعندما تسير وسط حشد من الغرباء، يكاد يكون من المستحيل ألا تتخيل أنهم جميعا تماثيل شمعية، لكنهم أيضا يرونك كما تراهم على الأرجح. وهذه الحالة التنبئية التي تنتابني هذه الأيام، ذلك الشعور بأن الحرب على الأبواب وأن الحرب هي نهاية كل شيء، لا تنتابني وحدي؛ فكلنا يشعر بالأمر، بشكل أو بآخر. أعتقد حتى أنه بين الأشخاص الذين يعبرون الطريق في هذه اللحظة لا بد أن ثمة رجلا قد ارتسمت في ذهنه صور تجمع بين انفجارات القذائف والوحل. أيا كانت الفكرة التي تفكر فيها، فهناك ملايين الأشخاص الذين يفكرون في الأمر نفسه في اللحظة نفسها. ولكن هذا ما كنت أشعر به: جميعنا على ظهر مركب واحد يحترق، ولا يعلم أحد بالأمر إلا أنا. نظرت إلى الوجوه التي تتسم بالغباء التي مرت أمامي، ورأيتهم كالديوك الرومية في شهر نوفمبر حيث نأكلها في عيد الشكر؛ فلم يكن لديهم أدنى فكرة عما سيحدث لهم. كان الأمر كما لو أنني منحت تقنية الأشعة السينية في عيني، ويمكنني أن أرى هياكل عظمية سائرة أمامي.
تخيلت المستقبل بعد بضع سنوات، ورأيت هذا الشارع - لنقل - بعد خمس سنوات أو ثلاث (إذ كان من المتوقع أن تندلع الحرب في عام 1941) بعد بدء القتال.
لا، لم يتحطم كل شيء، فقط حدثت بعض التغييرات المتمثلة في بعض الشظايا والقذارة، وأصبحت نوافذ المتاجر فارغة تقريبا ومليئة بالغبار حتى إنه لا يمكنك النظر خلالها. وفي شارع جانبي، ثمة حفرة ضخمة خلفتها القنابل ومجموعة من المباني المحترقة التي بدت كالسن المجوفة. لا بد أن ذلك بفعل مركب الثرميت. كل شيء هادئ هدوءا غريبا، والجميع شديدو النحافة. تأتي فصيلة من الجنود مسرعة، جميعهم في نحافة جرافة العشب، ويجرون أقدامهم. وللقائد شارب لولبي، ويقف كمدك البندقية، ولكنه نحيف أيضا ويسعل بشدة على نحو يكاد يمزق أحشاءه. ويتخلل سعاله محاولاته للصياح في الجنود بذلك الأسلوب القديم الذي يستخدمونه في ساحات تدريب الجنود؛ «أنت يا جونز! ارفع رأسك! علام تنظر في الأرض؟ كل أعقاب السجائر قد التقطت منذ سنوات.» وفجأة تداهمه نوبة من السعال يحاول إيقافها، لكنه لا يستطيع، فينحني بشدة لأسفل ويكاد يلفظ أحشاءه، ثم يتحول وجهه إلى اللون الوردي والأرجواني، ويرتخي شاربه، وتدمع عيناه.
يمكنني سماع دوي صفارات إنذار الغارات الجوية وأصوات مكبرات الصوت تصدح عاليا بأن قواتنا المجيدة قد احتجزت مائة ألف أسير. وأرى مؤخرة غرفة في دور علوي في برمنجهام حيث يبكي صبي عمره خمس سنوات ويصرخ طالبا قطعة خبز، وأمه لم تعد يمكنها التحمل، فتصيح فيه فجأة قائلة: «اخرس أيها الوغد الصغير!» ثم تخلعه ثوبه وتضربه بشدة على مؤخرته؛ لأنه ليس ثمة أي خبز ولن يكون. أرى كل ذلك. أرى الملصقات والطوابير على الطعام وزيت الخروع والهراوات المطاطية والمدافع الرشاشة التي تطلق النيران بغزارة من نوافذ غرف النوم.
هل سيحدث ذلك؟ لا أحد يعلم. في بعض الأيام يستحيل تصديق أن هذا سيحدث. وفي أيام أخرى أقول لنفسي إنه خوف نابع مما نقرؤه في الصحف. وفي أيام أخرى أعلم حتى النخاع أن الأمر آت لا محالة.
عندما وصلت بالقرب من تقاطع تشارينج كروس، كان الأولاد ينادون على طبعة تالية من الصحف المسائية؛ حيث المزيد من الهراء حول الجريمة. «الساقان: بيان جراح شهير.» ثم جذب انتباهي عنوان آخر: «تأجيل حفل زفاف الملك زوجو» الملك زوجو! اسم عجيب! يكاد يكون من المستحيل أن تصدق أن رجلا باسم كهذا ليس زنجيا شديد السواد كالفحم.
ولكن في هذه اللحظة حدث شيء غريب؛ فاسم الملك زوجو - الذي أظن أنه اختلط بصوت ما في حركة المرور أو رائحة روث الخيول أو شيء من هذا القبيل؛ لأنني رأيته عدة مرات ذلك اليوم - قد أيقظ شيئا في ذاكرتي.
إن الماضي لشيء غريب. إنه يرافقك باستمرار. أعتقد أنه لا تمر ساعة على الإطلاق دون أن تفكر في أشياء حدثت منذ عشر سنين أو عشرين سنة، وعلى الرغم من ذلك فهي معظم الوقت لا وجود لها؛ فهي مجرد مجموعة من الحقائق التي تعلمناها كغيرها من العديد من الأشياء في كتب التاريخ. ثم يأتي منظر أو صوت أو رائحة بالصدفة، وخاصة الرائحة، لتحفز ذكرياتك؛ ولا يأتي الماضي لك فحسب، بل تصبح فعليا في الماضي. كان هذا ما حدث لي في هذه اللحظة.
وجدت نفسي في الكنيسة الرعوية ببلدة لوير بينفيلد، وقد عدت ثمانية وثلاثين عاما إلى الوراء. بالحديث عن المظهر الخارجي، أعتقد أنني كنت لا أزال أسير في شارع إستراند وأنا بدين وفي الخامسة والأربعين من عمري وبطقم أسنان وقبعة مستديرة، ولكن في داخلي كنت جورج بولينج البالغ من العمر سبع سنوات، وأحد الأبناء الصغار لصامويل بولينج، تاجر الذرة والحبوب القاطن في 57 هاي إستريت بلوير بينفيلد. كنا في صباح يوم الأحد، ويمكنني أن أشم رائحة الكنيسة. كيف يمكنني أن أشم رائحتها؟! تعلم الرائحة التي تكون في الكنائس، تلك الرائحة الخاصة المألوفة التي تنم عن أن المكان به رطوبة شديدة وأتربة وتعفن. وثمة نفحة من شحم الشموع، وربما دخان بخور، ورائحة بعض الفئران؛ وفي صباح يوم الأحد تمتزج بتلك الرائحة قليلا رائحة الصابون الأصفر وصوف الملابس، ولكن الرائحة السائدة هي رائحة الأتربة والعفن المألوفة، التي تشبه رائحة الموت والحياة ممتزجين معا. إنها كرائحة غبار الجثث في الواقع.
في تلك الأيام كان طولي حوالي أربع أقدام. وكنت أقف على وسادة الركوع كي أتمكن من الرؤية عبر المقاعد الخشبية أمامي، وكان يمكنني الشعور بملمس رداء أمي الأسود المصنوع من الصوف في يدي. وكنت أشعر كذلك بجوربي المرفوع فوق ركبتي - فقد كنا نرتديها بهذا الشكل في تلك الأيام - وحافة الياقة العريضة البيضاء التي كانوا يأزرونني بها في صباح يوم الأحد. يمكنني كذلك سماع أزيز آلة الأرغن وصوتين قويين يصدعان بالمزامير؛ ففي كنيستنا كان ثمة رجلان يقودان الغناء، وفي الواقع كانا يغطيان على الآخرين فلا يسمع لأحد غيرهما صوت. كان أحدهما يدعى شوتير، وكان سماكا، وكان الآخر العجوز ويثرال، وكان نجارا وحانوتيا. وكانا قد اعتادا الجلوس كل منهما أمام الآخر على كلا جانبي صحن الكنيسة على المقعدين الخشبيين الأقرب للمنبر. كان شوتير رجلا قصيرا وبدينا بوجه أملس شديد الحمرة وأنف كبير وشارب متدل ولحية تبعد كثيرا عن فمه. أما ويثرال فقد كان مختلفا تماما؛ فقد كان شيطانا عجوزا في نحو الستين من عمره، نحيفا وطويلا وقويا، وذا وجه كالجمجمة وشعر رمادي متيبس يبلغ طوله نصف بوصة في جميع أنحاء رأسه. لم أر قط رجلا على قيد الحياة يبدو تماما كالهيكل العظمي مثله؛ إذ يمكنك رؤية كل خط في الجمجمة في وجهه، كما أن جلده كان كالرق، وكان فكه الكبير الأشبه بالمصباح مليئا بالأسنان الصفراء التي تصعد وتهبط كفك هيكل عظمي في أحد متاحف التشريح. ولكن مع كل هذا الضعف بدا قويا كالحديد؛ كما لو أنه سيعيش مائة عام وسيصنع توابيت كل فرد في تلك الكنيسة قبل أن يموت. كان صوتاهما مختلفين كذلك؛ فقد كان في صوت شوتير نوع من الصخب اليائس والمعذب، كشخص في عنقه سكين يصرخ بآخر كلماته طلبا للمساعدة. أما ويثرال فقد كان ذا صوت كضوضاء قصف الرعد المروعة والمضطربة المتولدة من أعماقه، كصوت دحرجة براميل ضخمة ذهابا وإيابا تحت الأرض. وعلى الرغم من مقدار الضوضاء التي يصدرها، تعلم دائما أن لديه المزيد منها الذي لم يصدره بعد. أطلق عليه الأطفال اسم رامبيل تامي (أي قرقرة البطن).
وقد اعتادا الترتيل كما لو أن كلا منهما يرد على الآخر، وخاصة عند تلاوة المزامير، وكان ويثرال من ينطق دائما بالجزء الأخير. أعتقد حقا أنهما كانا صديقين في حياتهما الخاصة، ولكن عندما كنت طفلا كنت أتخيلهما عدوين لدودين يحاول كل منهما إخراس الآخر. عندما كان يصيح شوتير: «الرب راعي»، كان ويثرال يرد: «فلا يعوزني شيء» فيغطي بصوته عليه تماما. كان يمكنك دائما معرفة القائد من بينهما. اعتدت أن أنتظر بشغف على وجه خاص المزمور الذي يتحدث عن سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان (وهذا ما ذكرني به اسم الملك زوجو). كان شوتير يستهل الترنيم قائلا: سيحون ملك الأموريين
Sihon king of the Amorites ، ثم لنصف ثانية تقريبا كنت تسمع باقي المصلين يتغنون بكلمة و
and ، ثم كان جهير ويثرال يصدح بنغمة كموجة عاتية ويغطي على صوت الجميع في عبارة عوج ملك باشان
Og the king of Bashan . أتمنى لو أن بإمكاني أن أسمعك ضوضاءه التي تشبه صوت البراميل المتدحرجة والمدمدمة تحت الأرض عندما يصل لكلمة
Og ؛ حتى إنه اعتاد على إدغام آخر حرف في كلمة
and
في الكلمة التي تليها، ما جعلني وأنا صغير جدا أظن أن الآية تقول: دوج ملك باشان
Dog the king of Bashan . ولكن بعد ذلك، عندما تعلمت الأسماء الصحيحة، رسمت صورة في ذهني لسيحون وعوج، فرأيتهما كتمثالين من تلك التماثيل المصرية القديمة التي رأيت صورا لها في موسوعة بيني، تلك التماثيل الحجرية الضخمة التي يبلغ ارتفاعها ثلاثين قدما والجالسة على عروشها الواحد أمام الآخر، وأيديهم على ركبهم، وتعلو وجوههم ابتسامة غامضة وباهتة.
كيف لي أن أتذكر كل ذلك؟! هذا الشعور الغريب - كان مجرد شعور؛ إذ لا يمكنك وصفه بأنه أحد الأنشطة - الذي اعتدنا أن نسميه «الكنيسة»؛ ورائحة الجثث المألوفة تلك، وحفيف ملابس يوم الأحد، وأزيز الأرغن، والأصوات الجهورية، وبقعة الضوء من الفتحة في النافذة التي تتسلل ببطء أعلى صحن الكنيسة. بطريقة أو بأخرى كان البالغون قادرين على إقناع الأطفال بأن هذا الأداء الغريب كان ضروريا. وكنت تصدق ذلك تماما كما تصدق الإنجيل، الذي كنت تتعرض له بجرعات كبيرة في تلك الأيام؛ فقد كانت نصوصه على كل حائط، وكنت تحفظ أجزاء كاملة من العهد القديم عن ظهر قلب. وحتى الآن فإن رأسي مملوء ببعض آياته: «وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب»، «وأشير أقام على ساحل البحر، وفي فرضه سكن»، «واتبعهم من دان إلى بئر سبع »، «ضربه هناك في بطنه فمات». لم تفهم معناها قط، ولم تحاول أو ترد الفهم؛ فقد كانت مجرد نوع من الأدوية، شيئا ذا مذاق غريب عليك أن تبتلعه، وأن تعلم أنه ضروري بشكل أو بآخر. إنه هراء أسطوري حول أشخاص بأسماء مثل شمعي ونبوخذ نصر وأخيتوفيل وحشبدانة؛ هؤلاء الأشخاص الذين يرتدون أثوابا كثيفة وطويلة ولهم لحى آشورية، ويركبون الجمال بين المعابد وأشجار الأرز ويفعلون المعجزات؛ يقدمون عطايا محرقة، ويهيمون على وجوههم في أتانين النار المتقدة، ويثبتون بالمسامير على الصلبان، وتبتلعهم الحيتان. وكل ذلك ممزوج برائحة المقابر المألوفة والملابس الصوفية وأزيز الأرغن.
كان ذلك هو العالم الذي رجعت إليه عندما رأيت الخبر في الصحيفة عن الملك زوجو. لبرهة لم أتذكر ذلك العالم فحسب، بل دخلت فيه. بالطبع لا تدوم مثل هذه الانطباعات لأكثر من ثوان معدودة؛ بعد ذلك بقليل، كان الأمر كما لو أنني قد فتحت عيني مرة أخرى، ووجدت نفسي في الخامسة والأربعين وسط الزحام المروري في شارع إستراند. لكن ذلك ترك نوعا من الأثر علي؛ ففي بعض الأحيان عندما تخرج من قطار أفكارك، تشعر كأنك تصعد لأعلى بعد أن كنت غاطسا في مياه عميقة، ولكن هذه المرة حدث العكس تماما؛ فقد شعرت كما لو أنني عندما رجعت إلى عام 1900 كنت أتنفس هواء حقيقيا. حتى الآن وأنا أفتح عيني، إن جاز القول، فإن كل هؤلاء الحمقى الذين يمشون في عجلة من أمرهم ذهابا وإيابا والملصقات ورائحة البنزين الكريهة وزئير المحركات، كل ذلك بدا لي غير حقيقي مقارنة بصباح الأحد في لوير بينفيلد منذ ثمانية وثلاثين عاما مضت.
رميت السيجار وأكملت سيري ببطء. كان يمكنني أن أشم رائحة الجثث، كما يمكنني أن أشمها الآن؛ فقد رجعت إلى لوير بينفيلد وأنا الآن في عام 1900. بجوار معلف الخيول في السوق، كان حصان الحمال يحمل مخلاته في فمه. وفي متجر الحلوى بأحد الأركان كانت الأم ويلر تزن كرات البراندي بقيمة نصف بنس. وكانت عربة السيدة رامبلينج تمر بالنمر الجالس في الخلف في بنطاله القصير المبيض وذراعاه مطويتان. وعمي إيزيكيال كان يسب جو تشامبرلين. وكان رقيب التجنيد يرتدي سترته القرمزية، وأفروله الأزرق الضيق، وقبعته الصغيرة المستديرة، وكان يتبختر جيئة وذهابا ويلف شاربه. وكان السكارى يتقيئون في الفناء خلف حانة جورج. كانت الملكة فيكتوريا في وندسور، والله في السماء، والمسيح على الصليب، ويونان في بطن الحوت، وشدرخ وميشخ وعبدنغو في أتون النار المتقدة، وسيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان يجلسان على عرشيهما ناظرا كل منهما إلى الآخر، لا يفعلان شيئا بالتحديد، فقط موجودين ومحتفظين بمكانيهما كمسندين للحطب المشتعل في موقد أو كالأسد وأحادي القرن رمزي المملكة المتحدة.
هل ولى هذا العالم للأبد؟ لست متأكدا، ولكني أقول لك إنه كان عالما جيدا للعيش فيه، وأنا أنتمي إليه، وأنت أيضا تنتمي إليه.
الجزء الثاني
1
العالم الذي تذكرته للحظة عندما رأيت اسم الملك زوجو في إحدى الصحف كان مختلفا تمام الاختلاف عن العالم الذي أعيش فيه الآن، لدرجة أنه قد يصعب عليك تصديق أنني قد انتميت إليه يوما.
أعتقد أنك الآن قد رسمت لي صورة نوعا ما في ذهنك - رجل بدين في منتصف العمر بطقم أسنان ووجه أحمر - ولا بد أنك كنت تتخيل تلقائيا أنني كنت دائما على هذه الحالة حتى منذ أن كنت في المهد. ولكن خمسة وأربعين عاما وقت طويل؛ وعلى الرغم من أن بعض الناس لا يطرأ عليهم التغير أو التطور، فالبعض الآخر تصيبهم تلك الأمور. لقد تغيرت كثيرا، وعشت أوقاتا جيدة وأخرى صعبة؛ لكن كان أغلبها جيدا في الحقيقة. قد يبدو ما أقوله غريبا، ولكن أبي على الأرجح كان سيفخر لو تمكن من رؤيتي الآن؛ فلطالما اعتقد أنه من الرائع أن يمتلك أحد أبنائه سيارة وأن يعيش في منزل به حمام. حتى في وضعي الحالي فأنا متفوق بعض الشيء عن الوضع الذي نشأت فيه، وفي بعض الأوقات، وصلت إلى مستويات لم نكن لنحلم بها في تلك الأيام الخوالي فيما قبل الحرب.
قبل الحرب! يا ترى إلى متى سنظل نردد تلك العبارة؟ إلى متى سنرددها قبل أن تصبح الإجابة «أي حرب؟» بالنسبة لي، فإن الحرب التي تأتي لأذهان الناس عندما يقولون «قبل الحرب» قد تتمثل في الغالب في حرب البوير. لقد ولدت في عام 1893، ويمكنني بالفعل تذكر اندلاع حرب البوير؛ وذلك بسبب المناقشة العظيمة التي دارت بين أبي وعمي إيزيكيال حولها. ولدي ذكريات عديدة أخرى ترجع إلى ما قبل ذلك بعام تقريبا.
أول شيء أتذكره هو رائحة قش نبات العنبريس. لقد كنت أصعد الممر الحجري المؤدي من المطبخ إلى المتجر، وكانت رائحة العنبريس تزداد قوة بطول الطريق. وكانت أمي قد ثبتت بوابة خشبية في المدخل كي تمنعني أنا وجو (كان جو أخي الأكبر) من دخول المتجر. ما زلت أتذكر وقوفي هناك ممسكا بالقضبان، ورائحة العنبريس ممتزجة برائحة الجص الرطبة للممر. استغرق الأمر مني سنوات حتى تمكنت على نحو ما من تحطيم البوابة والدخول إلى المتجر عندما لم يكن به أحد. حينها سقط فجأة فأر كان قد دخل أحد صناديق الطحين، وجرى بين قدمي، وقد أصبح أبيض اللون تماما من الطحين. لا بد أن هذا قد حدث عندما كنت في السادسة من عمري تقريبا.
عندما تكون صغيرا جدا، يبدو أنك تعي فجأة أشياء كانت تحت ناظريك لوقت طويل في الماضي. إن الأشياء التي حولك تتكشف لك كل على حدة تماما كما يحدث أثناء استيقاظك من النوم. على سبيل المثال، فقط عندما كان عمري أربع سنوات تقريبا أدركت أن لدينا كلبا. كان اسمه نايلير، وكان عجوزا أبيض اللون من فصيلة الترير الإنجليزية التي لم تعد موجودة هذه الأيام. قابلته أسفل طاولة المطبخ، وبطريقة ما بدا أنني فهمت، ولم أعلم ذلك إلا في تلك اللحظة، أنه كلبنا وأن اسمه كان نايلير. على المنوال نفسه وفي وقت قبل ذلك ليس بالكثير، اكتشفت أن خلف البوابة في نهاية الممر كان ثمة مكان تنبعث منه رائحة العنبريس. والمتجر نفسه بما فيه من موازين ضخمة ومقاييس خشبية وجاروف معدني، والكتابة باللون الأبيض على الجدار، وطائر الدغناش في قفصه - الذي لم يكن يمكنك رؤيته جيدا حتى عند الوقوف على الرصيف؛ لأن النافذة كانت متسخة دائما - كل هذه الأشياء كانت تتضح لذهني الواحد تلو الآخر كقطع أحجية الصور المقطعة.
يمر الوقت، وتصبح خطواتك أكثر ثباتا، وتبدأ في فهم جغرافية المكان شيئا فشيئا. أعتقد أن لوير بينفيلد كانت كأي بلدة بها سوق يسكنها ما يقرب من ألفي شخص. كانت في أكسفوردشير - لاحظ أنني أكرر كلمة «كانت» على الرغم من أن المكان ما زال موجودا - على بعد نحو خمسة أميال من نهر التيمز، وكانت تقع في واد صغير، ويفصلها عن النهر تموج منخفض من التلال، وخلفها تلال أعلى. علت التلال غابة بدت ككتل زرقاء ضبابية يمكن وسطها رؤية منزل أبيض كبير به رواق. كان هذا منزل بينفيلد («القصر» كما كان يسميه الجميع)، وكان أعلى التل يعرف باسم أبر بينفيلد على الرغم من عدم وجود قرية هناك في ذلك الوقت ولا قبل ذلك بمائة سنة أو أكثر. لا بد أنني كنت في السابعة من عمري تقريبا عندما لاحظت وجود منزل بينفيلد؛ فعندما تكون صغيرا جدا لا تنظر إلى مسافات بعيدة، ولكن بحلول ذلك الوقت كنت قد عرفت كل بوصة في البلدة، التي كان شكلها تقريبا كالصليب والسوق في وسطها. كان متجرنا في هاي إستريت قبل دخولك للسوق بقليل، وفي الركن كان متجر السيدة ويلر للحلوى حيث كنت تنفق نصف بنس عندما يكون معك. كانت الأم ويلر عجوزا شمطاء قذرة، وكان الناس يشكون في أنها كانت تمص الحلوى المدورة وتضعها مرة أخرى في الوعاء، ولكن لم يثبت عليها أحد الأمر. بعيدا عن ذلك بكثير كان هناك متجر الحلاقة والسجائر بلافتة إعلان سجائر عبد الله - ذلك الإعلان الذي به الجنود المصريون، ومن الغريب للغاية أنهم يستخدمون الإعلان نفسه حتى يومنا هذا - ورائحة الكحول القوية لعطر ما بعد الحلاقة وتبغ اللاذقية. خلف المنازل كان يمكنك رؤية مداخن مصانع الجعة. وفي وسط السوق كان معلف الخيول الحجري، وأعلى مياهه كانت دائما ثمة طبقة رقيقة من الغبار والتبن.
قبل الحرب، وخاصة قبل حرب البوير ، كان الصيف يمتد طوال العام. أدرك تماما أن هذا وهم، ولكن جل ما أحاول قوله هو الحال التي أتذكر عليها تلك الأيام. إذا أغلقت عيني وفكرت في بلدة لوير بينفيلد في أي وقت قبل أن أبلغ عامي، لنقل، الثامن، فسأتذكرها دائما في فصل الصيف، وهذا سواء أكنت في السوق في وقت الغداء حيث الغبار المغطي لكل شيء وحصان الحمال يغرس أنفه في مخلاته وهو يمضغ الطعام، أو كنت في يوم حار فيما بعد الظهيرة في المروج الغضة الخضراء الرائعة حول البلدة، أو كنت قرب وقت الغسق في الزقاق خلف الحقول الزراعية ورائحة تبغ الغلايين وزهور المنثور التي تنساب عبر السياج النباتي. ومع ذلك أتذكر بالفعل الفصول المختلفة؛ لأن جميع ذكرياتي مرتبطة بأشياء تؤكل، والتي تتنوع حسب فصول العام المختلفة. وأخص بالذكر الأشياء التي كان المرء يجدها عند الأسيجة النباتية. في شهر يوليو كان ينبت التوت الشوكي - ولكنه كان نادرا للغاية - وكان توت العليق الأسود يصبح ناضجا وصالحا للأكل. وفي سبتمبر كنا نجد الخوخ الشوكي والبندق، ولكن أفضل أنواع البندق كانت دائما في الأغصان العالية التي لم نكن ننالها. وفي الشهور التالية كنا نجد جوز أشجار الزان والتفاح البري. كان هناك أيضا بعض الأطعمة الثانوية التي تتناولها عندما لا يكون ثمة شيء أفضل، ومنها الزعرور البري - ولكنه لم يكن مستساغا - وثمر الورد البري، الذي له مذاق قوي لطيف عند تنظيف الشعر الذي يكون عليه. كانت كذلك حشيشة الملاك من النباتات الجيدة في بداية فصل الصيف، خاصة عندما تكون عطشان، وكذلك كان الأمر مع سيقان العديد من النباتات. نأتي بعد ذلك إلى الحماض البستاني، وهو جيد مع الخبز والزبد، وجوز الخنزير، ونوع من النفل الخشبي الذي له مذاق مر. وحتى بذور نبات لسان الحمل تكون أفضل من لا شيء عندما تكون بعيدا جدا عن المنزل وجائعا بشدة.
كان جو أكبر مني بعامين. وفي سنوات طفولتنا المبكرة، كانت أمي معتادة على دفع ثمانية عشر بنسا في الأسبوع لكيتي سيمونز مقابل تمشيتي أنا وأخي في وقت ما بعد الظهيرة. كان والد كيتي يعمل في مصنع الجعة، وكان لديه أربعة عشر طفلا؛ لذلك كانت عائلتها تبحث دائما عن الأعمال الصغيرة المؤقتة. وكانت فقط في الثانية عشرة من عمرها عندما كان جو في السابعة من عمره وكنت أنا في الخامسة، ولم تكن أكثر منا نضجا بكثير. كانت معتادة على سحبي من ذراعي ومناداتي ب «صغيري»، وكانت مكلفة بمنع اصطدامنا بالعربات التي تجرها الكلاب أو مطاردة الثيران لنا، ولكننا لم نكن نخوض أي مناقشة إلا وكنا جميعا على قدم المساواة. وقد اعتدنا المشي لمسافات طويلة للتنزه - وكنا دائما بالطبع نقطف الثمار ونتناولها طوال الطريق - إلى الزقاق خلف الحقول، وعبر مروج روبير، وإلى الطاحونة، حيث البركة التي بها حيوانات سمندل الماء وسمك الشبوط الصغير (حيث كنت أنا وجو نذهب هناك لنصطاد عندما كنا في سن أكبر قليلا)، وكنا نرجع عبر شارع أبر بينفيلد كي نمر على متجر الحلوى في طرف البلدة. كان هذا المتجر في موقع سيئ أدى إلى إفلاس كل من امتلكوه، وعلى حد علمي كان لثلاث مرات متجرا للحلوى ومرة متجرا للبقالة ومرة متجرا لإصلاح الدراجات؛ ولكن كان له سحر خاص على الأطفال. حتى عندما لا يكون لدينا المال، كنا نمر في طريقه كي نلزق أنوفنا بنافذته. ولم تكن كيتي تترفع على الإطلاق عن أن تشاركنا الحلوى التي نشتريها بربع بنس وتتعارك معنا على حصتها فيها. كان يمكنك شراء أشياء بربع بنس في تلك الأيام؛ فمعظم الحلوى كانت الأوقيات الأربع منها ببنس، وكانت ثمة حلوى كذلك اسمها برادايس ميكستشر الست أوقيات منها ببنس، وكانت في الغالب تجميعا للحلوى المكسورة من الأواني الأخرى. كما كانوا يبيعون شيئا آخر اسمه فارذينج إيفرلاستنجس، وكان بطول الياردة ولم نكن نتمكن من إنهاء تناوله في نصف الساعة. أما الحلوى على أشكال الفئران والخنازير فكان كل ثمان منها ببنس، وكذلك كانت حلوى العرقسوس التي كانت تأتي على شكل مسدسات، وكان كيس الفشار الكبير بنصف بنس، وكان كيس الجوائز - الذي يحتوي على عدة أنواع مختلفة من الحلوى وخاتم ذهبي اللون وأحيانا صافرة - ببنس واحد. لا ترى أكياس الجوائز الآن، وكثير جدا من أنواع الحلوى التي كانت في تلك الأيام قد اختفت اليوم. كان ثمة نوع من الحلوى البيضاء المسطحة بشعارات مطبوعة فوقها، ونوع آخر من الحلوى الوردية اللزجة في علبة بيضاوية الشكل من الخشب ومعها ملعقة صغيرة من الصفيح لتأكلها بها، وكان الاثنان بنصف بنس. ولكن اختفى هذان النوعان، واختفت كذلك حلوى الكراوية المجففة، وأصابع الشوكولاتة، وأعواد السكر، وكذلك حبات الحلوى الملونة الصغيرة للغاية، التي كانت بديلا جيدا إذا لم يكن معك سوى ربع بنس. وماذا عن مشروب بيني مونيستير؟ هل يرى أحد مشروب بيني مونيستير اليوم؟ كان في زجاجة كبيرة تسع أكثر من ربع جالون من شراب الليمون الفوار، وكل ذلك ببنس واحد. هذا شيء آخر من الأشياء التي قضت عليها الحرب.
أرى الصيف دائما عندما أتذكر الماضي. يمكنني الشعور بالعشب من حولي وهو في طولي نفسه، والإحساس بالحرارة الصاعدة من الأرض، وكذلك رؤية الغبار في الزقاق، والضوء المخضر الدافئ القادم عبر أغصان شجر البندق. أرى ثلاثتنا مصطفين على نحو متتال، نأكل الثمار التي نقطفها من السياج النباتي، وكيتي تسحبني من ذراعي وتقول لي: «هيا يا صغيري!» وفي بعض الأحيان كانت تنادي على جو وتصرخ فيه قائلة: «جو! ارجع هنا حالا! وإلا فستعاقب!» كان جو ولدا ضخم البنية، برأس كبير وثقيل بعض الشيء، وسمانتين ضخمتين؛ وهو من ذلك النوع من الأولاد الذين يفعلون أشياء خطرة دائما. في السابعة من عمره، كان قد ارتدى بالفعل البناطيل القصيرة، والجوارب الثقيلة السوداء التي تصل إلى الركبتين، والأحذية العالية الرقبة التي كان يرتديها الأولاد في تلك الأيام، بينما كنت لا أزال أرتدي نوعا من الأردية الخارجية الطويلة الفضفاضة التي اعتادت أمي على حياكتها لي بيديها. وكانت كيتي ترتدي فساتين رثة سيئة تشبه فساتين الآنسات، التي كانت الأخوات يتوارثنها من جيل إلى جيل في عائلتها. وكانت لديها قبعة كبيرة مضحكة تخرج منها ضفائرها، وتنورة ذات ذيل طويل يجرجر على الأرض، وحذاء بأزرار كعبه مهترئ. كانت صغيرة البنية لا يزيد طولها بكثير عن طول جو، ولكنها لم تكن سيئة في «رعاية» الأطفال؛ ففي عائلة مثل عائلتها، يكاد الطفل «يرعى» أطفالا آخرين بمجرد فطامه. وقد كانت من حين إلى آخر تحاول التصرف كالناضجات والسيدات، وكانت تقطع حديثنا بالأمثال والأقوال المأثورة، التي كانت تعتقد أنها جواب مفحم؛ فإذا قلت: «لا تبالي»، ترد على الفور: «من لا يبالي أجبر على أن يبالي. من لا يبالي علق. من لا يبالي وضع في قدر من الماء المغلي حتى مات.»
أو إذا سببتها كانت ترد قائلة: «الكلمات الحادة لا تكسر العظام.» وعندما تتفاخر تقول لك: «يأتي الفخر قبل السقوط.» وقد تحقق ما قالت بالفعل في أحد الأيام عندما كنت أتبختر متظاهرا أنني جندي فسقطت في روث البقر. لقد كانت عائلتها تعيش في مكان صغير وقذر، أشبه بجحر الجرذان في الحي الفقير خلف مصنع الجعة، وكان المكان مكتظا بالأطفال كالهوام. نجحت العائلة بأكملها في الهروب من الذهاب إلى المدرسة، الأمر الذي كان سهلا بعض الشيء في تلك الأيام، وكان الأطفال يخرجون لقضاء مشاوير للآخرين ولأداء أعمال مؤقتة أخرى بمجرد تمكنهم من المشي. وقد سجن أحد إخوتها الكبار شهرا لسرقته بعض اللفت. توقفت عن تمشيتنا بعد ذلك بعام عندما كان جو في الثامنة من عمره وأصبح صعبا على فتاة التحكم فيه، وقد اكتشف أنه في منزل كيتي ينام كل خمسة من أفراد العائلة في سرير واحد، وكان يتهكم عليها بسبب هذا الأمر.
كم كانت كيتي مسكينة! لقد أنجبت طفلها الأول عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. لم يكن أحد يعلم والد الطفل، وربما لم تكن كيتي نفسها متيقنة ممن يكون أيضا. وقد اعتقد معظم الناس أنه أحد إخوتها. أخذ الملجأ الطفل، وعملت كيتي خادمة في وولتن. بعد ذلك ببعض الوقت تزوجت سمكريا، وكان حتى بمقاييس عائلتها دون المستوى. وقد كانت آخر مرة أراها فيها في عام 1913. كنت أتنزه بالدراجة عبر وولتن، ومررت ببعض الأكواخ الخشبية المروعة بجوار خط السكة الحديدية، وكان يحيط بكل منها سياج من القطع الخشبية التي تصنع منها البراميل، حيث اعتاد الغجر التخييم في أوقات معينة في العام تسمح لهم الشرطة بها. خرجت امرأة شمطاء، بوجه دخاني مليء بالتجاعيد وشعر منسدل، وتبدو كأنها في عامها الخمسين على أقل تقدير، من أحد هذه الأكواخ وبدأت تنفض حصيرة بالية. كانت هذه المرأة هي كيتي، التي لا بد أنها كانت في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمرها.
2
كان يوم الخميس هو يوم السوق. كان الرجال بوجوههم الحمراء المستديرة كقرع اليقطين وثياب العمل الواسعة القذرة خاصتهم وأحذيتهم الضخمة الملطخة بروث الأبقار الجاف، الذين يحملون العصي الطويلة من خشب شجر البندق، يقودون حيواناتهم إلى السوق في الصباح الباكر. لعدة ساعات كانت ثمة ضجة هائلة من نباح الكلاب، ونخير الخنازير، والرجال في عربات التجار الذين يريدون أن يشقوا طريقهم وهم يلوحون بسياطهم ويسبون، وكل من له علاقة بالماشية يصرخ ويضرب بالعصي. وكانت الضجة الكبرى دائما عندما يجلبون ثورا إلى السوق. حتى في ذلك العمر، هالني أن معظم الثيران كانت حيوانات غير مؤذية ومطيعة، وأن كل ما تريده هو أن تصل إلى مرابطها بسلام، ولكن الثور لم يكن ليعد ثورا إذا لم تخرج نصف البلدة لملاحقته ومطاردته. وفي بعض الأحيان كانت بعض الحيوانات المرتعبة، والتي عادة ما تكون من العجول الصغيرة، تهرب وتركض إلى أحد الشوارع الجانبية؛ ومن ثم فأي أحد تصادف وجوده في طريقها كان يقف في منتصف الطريق ويلوح بذراعيه للخلف كريش الطاحونة الهوائية، ويصرخ: «ووه! ووه!» كان من المفترض أن لهذا التصرف تأثيرا مهدئا على الحيوان، ولكنه بالتأكيد كان يخيفه.
في منتصف الصباح، كان بعض المزارعين يدخلون المتجر ويفحصون عينات من الحبوب بتمريرها خلال أصابعهم. ولم يكن أبي في الواقع يتعامل كثيرا مع المزارعين؛ لأنه لم يكن لديه عربة لتوصيل البضائع ولا يمكنه تحمل الديون طويلة الأجل، فكانت معظم معاملاته صغيرة الحجم للغاية، كبيع طعام الدواجن والعلف لتجار الخيول وما شابه. وكان العجوز بروير، الذي كان يعمل في الطاحونة، وغدا عجوزا بخيلا بلحية ذقن رمادية، يقف هناك لمدة نصف الساعة يفحص بأصابعه عينات ذرة الدجاج ويجعلها تسقط في جيبه غير مبال، ثم كان بالتأكيد يذهب في النهاية دون شراء أي شيء. كانت الحانات في المساء ممتلئة بالسكارى، وكان نصف اللتر من الجعة في تلك الأيام ببنسين، وكان بها بعض أحشاء الحيوانات على عكس الجعة اليوم. وطوال الوقت في خلال حرب البوير، كان رقيب التجنيد يجلس في حانة جورج الرخيصة كل مساء خميس وسبت، وكان متأنقا في ملبسه وينفق ببذخ. وفي بعض الأحيان في الصباح التالي، كنت تراه يجر صبيا بدينا أحمر الوجه غبيا من صبيان المزرعة الذي قبل أن يجرى تجنيده مقابل حصوله على شلن عندما كان مخمورا للغاية ليجد نفسه في الصباح في حاجة إلى دفع عشرين جنيها ليتخلص من هذه الورطة. اعتاد الناس الوقوف على عتبات بيوتهم والإيماء برءوسهم عندما كانوا يشاهدونهما يمران، تماما كما لو كانوا في جنازة. «عجبا الآن! التجنيد! فلتفكر فقط في الأمر! شاب غض مثل ذلك!» كان الأمر صادما لهم؛ إذ كان الالتحاق بالجيش بالنسبة لهم تماما كهروب بناتهم من المنزل. كان موقفهم من الحرب، ومن الجيش، غريبا للغاية؛ فقد كانت لديهم تلك الفكرة التي كانت لدى الإنجليز القدامى أن من يرتدون الزي العسكري هم حثالة الأرض، وأن أي أحد ينضم للجيش سيموت سكران، ويذهب مباشرة إلى الجحيم؛ ولكنهم في الوقت نفسه كانوا أناسا وطنيين صالحين، يضعون أعلام الاتحاد في نوافذهم، ويؤمنون إيمانا راسخا بأن الإنجليز لم يهزموا قط في أي معركة ولن يهزموا أبدا. وفي ذلك الوقت، كان الجميع، وحتى المنشقين عن الكنيسة، يغنون أغاني حماسية عن معركة الخط الأحمر الرفيع والجندي الشاب الذي مات في ميدان المعركة بعيدا عن بلاده. هؤلاء الجنود الشباب كانوا يموتون دائما «وسط سيل من الرصاص والشظايا»، على ما أتذكر. حيرني الأمر طفلا؛ فقد كان يمكنني تخيل طلقات الرصاص، ولكن ما شكل صورة غريبة في ذهني كان تطاير الشظايا في الهواء. عندما حررت بلدة مافيكنج، هلل الناس بشدة، وأحيانا كانوا يصدقون بغض النظر عن أي شيء الحكايات التي تروج عن البويريين القائلة بأنهم كانوا يرمون الأطفال الرضع في الهواء ويشوونهم على حرابهم كاللحم على الأسياخ. استاء العجوز بروير بشدة من مناداة الأطفال إياه ب«كروجر»، لدرجة أن حلق لحيته قرب نهاية الحرب. كان موقف الناس من الحكومة مماثلا تماما؛ فقد كانوا جميعا إنجليزا أوفياء لأوطانهم، وأقسموا على أن الملكة فيكتوريا كانت أفضل ملكة على الإطلاق، وأن الأجانب أشرار، ولكن في الوقت نفسه لم يفكر أحد قط في دفع الضرائب، حتى رسوم ترخيص كلابهم إن استطاعوا إيجاد أي طريقة لتجنب ذلك.
قبل الحرب وبعدها، كانت لوير بينفيلد دائرة انتخابية لليبراليين. وفي أثناء الحرب عقدت انتخابات فرعية وفاز فيها المحافظون. كنت صغيرا جدا على أن أفهم كل ذلك، وكل ما كنت أعرفه هو أنني كنت محافظا؛ لأنني أحببت أعلامهم الزرقاء أكثر من الأعلام الحمراء، وأتذكر ذلك على وجه التحديد بسبب رجل سكران سقط على أنفه على الرصيف خارج حانة جورج. وكان من الغريب أنه لم يلاحظه أحد، وظل في مكانه لساعات تحت الشمس الحارقة وجسمه ينزف من حوله حتى جف الدم، وتحول إلى اللون الأرجواني. وفي وقت انتخابات عام 1906، كنت كبيرا بما يكفي لفهم ما يحدث، بدرجة أو بأخرى، وأصبحت حينئذ ليبراليا؛ لأن الجميع كانوا كذلك. وقد طاردوا مرشح المحافظين لمسافة نصف ميل، وألقوا به في بركة مليئة بالطحالب. لقد كان الناس يأخذون السياسة في تلك الأيام على محمل الجد؛ فكانوا يشرعون في تخزين البيض الفاسد الذي سيلقون به أعداءهم من المرشحين قبل الانتخابات بأسابيع.
في وقت مبكر للغاية في حياتي عندما اندلعت حرب البوير، أتذكر الشجار الكبير الذي كان بين أبي وعمي إيزيكيال. كان لعمي إيزيكيال متجر صغير لبيع الأحذية في أحد الشوارع المتفرعة من هاي إستريت، وكان يصلح الأحذية كذلك. كان عملا صغيرا وكان يصغر أكثر فأكثر، الأمر الذي لم يكن يهم عمي إيزيكيال كثيرا؛ لأنه لم يكن متزوجا. كان أخا غير شقيق لأبي وكان أكبر منه بكثير؛ إذ كان يكبره بعشرين سنة على الأقل، وفي السنوات الخمس عشرة أو ما يقرب من ذلك التي عرفته فيها، لم يتغير على الإطلاق. كان رجلا عجوزا حسن المظهر، طويلا بعض الشيء، ذا شعر أبيض ولحية بيضاء لم أر لها مثيلا، كانت بيضاء كزغب الزهرة الشائكة. وكان دائما ما يخبط على مئزره الجلدي ويقف باستقامة شديدة - كي يصحح ما فعله الانحناء لساعات طويلة على قالب صنع الأحذية، على ما أعتقد - ثم يدوي بآرائه قاذفا بها مباشرة في وجهك ومنتهيا بما يشبه القوقأة الغامضة. كان عجوزا شديد الإيمان بالليبرالية كليبرالي القرن التاسع عشر، ذلك النوع الذي لا يكتفي بسؤالك عما قاله جلادستون في عام 1878، بل يمكنه أن يجيبك عن سؤاله، وهو أحد القلائل في لوير بينفيلد الذين لم تتغير آراؤهم طوال وقت الحرب. وكان دائم الإدانة لجو تشامبرلين وبعض الأشخاص الذين أسماهم «حثالة بارك لين». يمكنني سماعه الآن في إحدى مناقشاته مع والدي، وهو يقول: «هم وإمبراطوريتهم المترامية الأطراف! لا يمكنهم أن يبعدوا كثيرا عن ناظري. ها ها ها!» ثم أسمع صوت أبي الهادئ القلق حي الضمير يرد عليه بعبء الرجل الأبيض ودوره تجاه السود المساكين الذين عاملهم هؤلاء البوير بطريقة شائنة. لمدة أسبوع أو ما شابه بعد أن أعلن عمي إيزيكيال أنه مؤيد للبوير ومعاد للإمبريالية البريطانية، كادا لا يتحدثان، وتشاجرا مرة أخرى عندما بدآ في تداول روايات الفظائع التي ارتكبها كلا الجانبين. كان أبي قلقا للغاية من الحكايات التي سمعها، وكان يتناقش فيها مع عمي إيزيكيال. وسواء أكان عمي إيزيكيال معاديا للإمبريالية البريطانية أم لا، فبالتأكيد لم يكن يستطيع أن يرى أن ما فعله هؤلاء البوير من إلقاء الأطفال الرضع في الهواء وشيهم لهم على الحراب أمر جيد، حتى إن كانوا مجرد أطفال سود. ولكن عمي إيزيكيال ضحك في وجه أبي ساخرا من كلامه؛ فقد أساء أبي فهم الأمر! فلم يكن البوير هم من يرمون الأطفال الرضع في الهواء، بل الجنود البريطانيون! ظل ممسكا بي ليوضح له ما يحدث - ولا بد أنني كنت في ذلك الحين في الخامسة من عمري تقريبا - قائلا: «إنهم يلقونهم في الهواء ويضعونهم في الأسياخ كالضفادع، أؤكد لك! مثلما قد ألقي بهذا الطفل هنا!» ثم أرجحني في الهواء وكاد أن يلقي بي، وكان يمكنني تخيل نفسي بوضوح وأنا أطير في الهواء وأسقط بقوة على سن حربة.
كان أبي على النقيض التام من عمي إيزيكيال. لا أعلم الكثير عن جدي وجدتي؛ فقد ماتا قبل أن أولد. وكل ما أعرفه هو أن جدي كان إسكافيا، وقد تزوج في عمر كبير من أرملة بائع حبوب، وهكذا حصلنا على المتجر. لم تكن هذه المهنة تناسب أبي في الواقع، لكنه أتقنها جيدا وكان يعمل بلا كلل. وفيما عدا يوم الأحد وفي أحيان نادرة في المساء خلال الأسبوع، أنا لا أتذكره إلا والطحين على ظهر يديه وبين خطوط وجهه وعلى ما تبقى من شعره. تزوج أبي في الثلاثينيات من عمره، ولا بد أنه كان في الأربعين من عمره تقريبا في أول صورة له في ذهني عنه. كان رجلا قصيرا، أشيب بعض الشيء وضئيل البنية للغاية، وكان دائما يرتدي قميصا دون أي شيء فوقه، ومئزرا أبيض، وكان يعلوه غبار الطحين دائما. كان رأسه مستديرا وأنفه غير حاد، وكان بشارب كثيف ونظارة، وكان شعره سمني اللون كشعري؛ ولكنه فقد معظمه وكان دائما يغطيه الطحين. تحسن حال جدي كثيرا بزواجه من أرملة بائع الحبوب؛ وتعلم أبي في مدرسة وولتن للقواعد اللغوية، التي كان المزارعون والتجار ميسورو الحال يرسلون أبناءهم إليها؛ بينما كان عمي إيزيكيال يحب التباهي بأنه لم يدخل مدرسة في حياته وأنه كان يعلم نفسه القراءة على ضوء شمعة بعد ساعات العمل. ولكنه كان سريع البديهة أكثر بكثير من أبي؛ فقد كان بإمكانه مجادلة أي شخص، وكان يردد الكثير من عبارات كارلايل وسبنسر. أما أبي فلم يكن حاضر الذهن مثله، ولم يكن مغرما قط بقراءة الكتب أو ما كان يسميه «التعلم عن طريق القراءة»، ولم تكن لغته الإنجليزية جيدة . في أوقات ما بعد الظهيرة يوم الأحد، حيث الوقت الوحيد الذي كان يستريح فيه، كان يجلس بجانب الموقد في غرفة المعيشة ليستمتع بما كان يطلق عليه «القراءة الجيدة» لصحيفة يوم الأحد. كانت صحيفته المفضلة هي صحيفة «صنداي بيبول»، بينما كانت أمي تفضل صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد»؛ لأنها تعرض أخبار جرائم قتل أكثر من وجهة نظرها. يمكنني رؤيتهما الآن في أحد أيام الأحد فيما بعد الظهيرة - وفي فصل الصيف بالطبع؛ فأنا أتذكر الصيف دائما - مع رائحة لحم الخنزير المشوي، والخضاة التي لا تزال تنساب في الهواء، وأمي بجوار المدفأة تشرع في قراءة آخر جريمة قتل، ولكنها يغلبها النعاس وفمها مفتوح؛ وأبي في الجانب الآخر من المدفأة يرتدي خفه ونظارته، ويحاول بصعوبة قراءة السطور العديدة ذات الطباعة المشوشة. كل ذلك مع الشعور اللطيف للصيف الذي يحيط بك من كل مكان، ونبات إبرة الراعي في النافذة، وهديل طائر الزرزور الآتي من مكان ما، وأنا أجلس أسفل الطاولة ومعي مجلة «بي أو بي» متخيلا غطاء المائدة خيمة. بعد ذلك وفي موعد تناول الشاي، كان أبي وهو يقضم الفجل والبصل الأخضر يتحدث متأملا عما قرأه، من الحرائق وغرق السفن، وفضائح المجتمع الراقي، وتلك الآلات الطائرة الجديدة، والرجل (الذي ألاحظ أنه يظهر في صحف أيام الأحد حتى يومنا هذا مرة كل ثلاث سنوات) الذي ابتلعه حوت في البحر الأحمر ولفظه بعدها بثلاثة أيام ليخرج من جوفه حيا ومغطى بعصارته الهضمية البيضاء. كان أبي دائم الشك نوعا ما في هذه القصة، وفي أمر آلات الطيران الجديدة؛ بخلاف ذلك كان يصدق كل شيء يقرؤه. حتى عام 1909 لم يصدق أحد في لوير بينفيلد أن الإنسان قد يتعلم الطيران في يوم من الأيام، وكان المعتقد السائد أنه إن أراد الله أن يجعلنا نطير لأعطانا أجنحة؛ ولكن عمي إيزيكيال كان يرد على ذلك بغضب بأنه إن أراد الله أن نسوق لخلقنا بعجلات، ولكن حتى هو لم يصدق خبر آلات الطيران الجديدة.
لم يكن أبي يعير انتباهه لمثل هذه الأمور إلا فيما بعد ظهيرة يوم الأحد، وربما في المساء الوحيد في الأسبوع الذي يطل فيه سريعا على حانة جورج ليشرب كوبين من الجعة. أما في غير ذلك من الأوقات، فقد كان دائما غارقا في العمل بشكل أو بآخر. لم يكن في الواقع ثمة الكثير مما يمكن القيام به، ولكنه بدا منشغلا دائما؛ إما في العلية خلف الفناء مكافحا لإصلاح جوال أو بالة، أو في مساحة التخزين الصغيرة المليئة بالأتربة خلف طاولة البيع في المتجر، حيث يجمع الأعداد في دفتر ملاحظات بقلم رصاص صغير. كان رجلا شديد الأمانة والكرم، وشديد الحرص على توفير البضاعة الجيدة، ولم يخدع أحدا، الأمر الذي لم يكن حتى في تلك الأيام أفضل الطرق لتحقيق أرباح كبيرة في العمل. كان سيلائمه أكثر لو أنه شغل منصبا رسميا صغيرا، كمدير مكتب البريد على سبيل المثال، أو ناظر محطة في إحدى القرى، ولكنه لم يكن لديه من الجرأة وحب المغامرة ما يدفعه إلى اقتراض بعض المال وتوسيع عمله، ولم يكن لديه من الخيال كذلك ما يجعله يفكر في خطوط بيع جديدة. كان ذلك من طباعه المتأصلة حتى إن أمارة الإبداع الوحيدة التي بينها، وهي اختراع خليط جديد من الحبوب لطيور الأقفاص (خلطة بولينج، هكذا كان اسمه، حيث كانت مشهورة على نطاق ما يقرب من خمسة أميال)، كانت في الواقع بفضل عمي إيزيكيال. كان عمي مولعا بالطيور وكان لديه عدد كبير من طيور الحسون في متجره المظلم الصغير، وكان يعتقد أن طيور الأقفاص تفقد ألوانها بسبب قلة التنوع في غذائها. في الساحة خلف المتجر، كان لأبي قطعة أرض صغيرة جدا يزرع فيها ما يقرب من عشرين نوعا من الحشائش أسفل شبكة سلكية، وكان يجففها ويخلط حبوبها ببذور الكناري العادية. كان من المفترض أن يكون جاكي طائر الدغناش المعلق في نافذة المتجر إعلانا لخلطة بولينج. وبالتأكيد، على خلاف معظم طيور الدغناش في الأقفاص، لم يتحول قط لون جاكي إلى اللون الأسود.
أما أمي، فلا أتذكرها إلا وهي سمينة، ولا شك أنني ورثت منها ضعف الغدة النخامية، أو أيا كان سبب بدانتي.
كانت امرأة ضخمة البنية، أطول من أبي بقليل، وكان شعرها أفتح كثيرا من شعره، وكانت تحب ارتداء الفساتين السوداء؛ ولكن فيما عدا يوم الأحد، لا أتذكرها إلا مرتدية مئزرها. قد أكون مبالغا، ولكن ليس كثيرا، عندما أقول إنني لا أتذكرها قط إلا وهي تطبخ. عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، يبدو أنك ترى الناس دائما في أماكن معينة وفي مواقف مميزة بعينها. ويبدو لك أنهم يفعلون الأشياء نفسها دائما، تماما مثلما أفكر في أبي، فأتذكره دائما خلف طاولة البيع في المتجر وشعره مغطى بالكامل بالطحين، ويجمع الأعداد بقلم رصاص صغير يرطبه بين شفتيه، وتماما كذلك مثلما أتذكر عمي إيزيكيال بلحيته البيضاء وهو يفرد جسمه ويخبط على مئزره الجلدي، وأيضا مثلما أتذكر أمي عند طاولة المطبخ وساعداها مغطيان بالدقيق، وتفرد قطعة من العجين.
أنت تعرف بالتأكيد شكل المطابخ التي كانت في بيوت تلك الأيام، ذلك المكان الضخم المظلم المنخفض بعض الشيء ذو العارضة الخشبية الكبيرة في السقف والأرضية الحجرية والقبو أسفله. كان كل شيء ضخما، أو هكذا بدا لي عندما كنت طفلا. كان ثمة حوض حجري كبير بلا صنبور، ولكن بمضخة من الحديد؛ وخزانة تغطي أحد الجدران ويصل ارتفاعها للسقف، وموقد ضخم يحرق فيه نصف طن من الحطب والفحم كل شهر، وقد مر عليه وقت طويل فغطي بالرصاص الأسود. أرى أمي عند الطاولة تفرد قطعة كبيرة من العجين، وأرى نفسي أزحف حولها وألعب بقطع من حطب الموقد وقطع الفحم ومصائد الخنافس الصفيح (فقد كنا نضعها في كل الزوايا المظلمة، واعتدنا وضع الجعة فيها كطعم)، وكنت من حين إلى آخر أصعد إلى الطاولة لأتذوق وأستجدي قضمات من الطعام. لم تكن أمي توافق على تناول الطعام بين الوجبات، وكانت دائما تجيبني قائلة: «امض إلى حالك الآن! لن أدعك تفسد على نفسك عشاءك. عيناك أكبر من بطنك.» ولكن في أحيان نادرة، كانت تقطع لي شريحة رفيعة من قشر الفواكه المسكرة.
طالما أحببت مشاهدة أمي وهي تصنع المعجنات؛ فثمة سحر في مشاهدة أي أحد وهو يفعل شيئا يفهمه جيدا، وأنا كنت أشاهد امرأة تعرف جيدا كيف تطبخ؛ أعني كيف تلف العجين. كانت ذات هيئة متحفظة ومميزة وتتسم بالهيبة؛ هيئة تدل على الرضا عن النفس، ككاهنة تقيم طقسا مقدسا، وكانت هي في قرارة نفسها ترى نفسها هكذا بالفعل. كان لأمي ساعدان عريضان وقويان وضاربان إلى الحمرة، وكانا عادة ملطخين بالطحين. وعندما كانت تطبخ، كانت حركاتها كلها محكمة وصارمة على نحو عجيب؛ ففي يديها مضرب البيض والمفرمة ومرقاق العجين تقوم بعملها كما هو المفترض منها. وعندما كنت تراها وهي تطبخ كنت تعلم أنها في عالم تنتمي إليه، وبين أشياء تفهم فيها جيدا. وفيما عدا عندما كانت تقرأ صحف يوم الأحد وتتحدث في بعض الأمور المتعلقة بالقيل والقال في بعض الأحيان، لم يكن العالم يعني شيئا لها؛ فعلى الرغم من أنها كانت تقرأ بسهولة أكثر من أبي، واعتادت على خلافه قراءة الروايات القصيرة والصحف، فقد كانت جاهلة بشكل لا يمكن تصوره. كنت مدركا لذلك حتى عندما كنت في العاشرة من عمري. لا يمكنها بالتأكيد إخبارك بما إذا كانت إيرلندا تقع في شرق إنجلترا أم في غربها، وأشك في أنه كان بإمكانها في أي وقت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى أن تخبرك باسم رئيس الوزراء. إضافة إلى ذلك، لم يكن لديها أدنى رغبة في معرفة مثل تلك الأشياء. عندما قرأت كتبا بعد ذلك عن بلدان الشرق حيث تعدد الزوجات والحرملك السري حيث تحبس النساء ويراقبهن الحراس السود المخصيون، فكرت في مدى صدمة أمي إذا سمعت بهذا الأمر. بإمكاني سماع صوتها وهي تقول: «يا للهول! كيف يحبسون زوجاتهم هكذا؟! هذا غير معقول!» لن تكون صدمتها هنا بسبب معرفتها بأمر الحراس المخصيين، ولكن في الحقيقة لأنها عاشت حياتها في مساحة صغيرة وذات خصوصية كأي حرملك؛ فحتى في بيتنا كانت ثمة أماكن لم تطأها قدماها قط؛ فلم تذهب قط إلى العلية خلف الساحة، وكانت نادرا ما تذهب إلى المتجر. لا أعتقد أنني رأيتها يوما تخدم أحد الزبائن، ولم تكن تعرف مكان أي شيء في المتجر، وربما لم تكن تعرف الفرق بين القمح والشوفان حتى تطحن حبوبهما. ولم عليها أن تعرف الفرق؟ العمل بالمتجر كان يمثل عمل أبي «عمل الرجل»، وحتى فيما يتعلق بأموره المادية، فلم يكن لديها فضول كبير لمعرفتها. أما عملها، «عمل المرأة»، فقد كان الاهتمام بالمنزل وإعداد الطعام وغسل الملابس ورعاية الأطفال. وكانت تستاء كثيرا إذا رأت أبي أو أي رجل يحاول خياطة زر بنفسه.
كما هو الحال في مواعيد الوجبات وفي غيرها من الأشياء، كان منزلنا من تلك المنازل التي يسير فيه كل شيء بانضباط كالساعة. أو لا، ليس كالساعة لأن هذا يوحي بشيء ميكانيكي. لقد كانت الأمور تسير سيرا طبيعيا؛ إذ كنت تعلم أن الإفطار سيكون على الطاولة في صباح الغد، تماما كما تعلم أن الشمس ستشرق في الصباح. وكانت أمي طوال حياتها تذهب إلى الفراش في الساعة التاسعة، وتستيقظ في الخامسة، وكانت على ما يبدو تعتقد أن السهر مفسدة، وأنه للمنحطين والأجانب والأرستقراطيين. وعلى الرغم من أنها لم تمانع في الاستعانة بكيتي سيمونز لتمشيتي أنا وجو، لم تكن لتتقبل قط فكرة أن تساعدها امرأة في أعمالها المنزلية؛ فقد كانت تعتقد اعتقادا راسخا أن الخادمات دائما ما يجرفن الأتربة أسفل خزانة المطبخ. كانت وجباتنا جاهزة دائما في أوقاتها المحددة، وكانت وجبات دسمة؛ لحم البقر المسلوق، مع الدامبلنج، ولحم البقر المشوي مع بودينج يوركشاير، ولحم الضأن المسلوق مع براعم الكبر، ورأس خنزير، وفطيرة التفاح، وبودينج الزبيب، ولفائف بالمربى ... كل ذلك يسبقه ويعقبه صلاة ما قبل الأكل. كانت لا تزال الأفكار القديمة حول تنشئة الأطفال قائمة على الرغم من أنها بدأت تفقد مكانتها بسرعة. نظريا، كان الأطفال لا يزالون يضربون ويذهبون للنوم ولم يتناولوا سوى الخبز والماء، وبالطبع كنت تحرم من تناول الطعام على المائدة إذا أصدرت المزيد من الضوضاء أثناء تناول الطعام، أو أصابتك غصة بسبب الطعام أو الشراب، أو رفضت تناول شيء «جيد لصحتك»، أو «قمت بالرد على الكبار». ولكن عمليا، لم يكن ثمة الكثير من الانضباط في عائلتنا، ومن بين والدي كانت أمي الأكثر حزما. أما أبي، فعلى الرغم من ترديده الدائم لمقولة «إن تركت العصا يفسد الولد»، فلم يكن في واقع الأمر حازما معنا، وخاصة مع جو، الذي كان عنيدا منذ صغره. كان دائما يهدد بأنه سيضرب جو ضربا مبرحا، وكان يروي لنا الحكايات - التي أعتقد الآن أنها كانت كذبا - حول الجلد المرعب الذي كان والده يجلده له بحزام جلدي، ولكننا لم نر أي أثر لذلك. وفي الوقت الذي كان فيه جو في الثانية عشرة من عمره، كان قويا لدرجة أن أمي لم تعد تستطيع أن تثبته أسفل ركبتيها لتضربه، وبعد ذلك لم يكن يصيبه شيء من العقاب.
في ذلك الوقت، كان لا يزال من المقبول من الآباء أن يكرروا الأوامر والنواهي لأبنائهم طوال اليوم، وكنا دائما ما نسمع رجلا يتباهى بأنه «سيقتل ابنه ضربا» إذا رآه يدخن أو يسرق تفاحا أو عشا للطيور. بعض العائلات كانت تعامل أبناءها هكذا بالفعل؛ فقد أمسك السروجي العجوز لوفجروف بولديه ضخمي البنية اللذين كانا في السادسة عشرة والخامسة عشرة وهما يدخنان في سقيفة الحديقة، وأثخنهما ضربا حتى كان بإمكانك سماع صوت ضربه لهما في كل مكان بالبلدة. كان لوفجروف مدخنا شرها. لم يبد أن الضرب كان له أي تأثير على الإطلاق؛ فكل الأولاد كانوا يسرقون التفاح وأعشاش الطيور، ويتعلمون التدخين عاجلا أو آجلا، ولكن الاعتقاد في أن الأطفال يجب أن يعاملوا بقسوة كان لا يزال قائما. كانت تقريبا جميع الأشياء التي تستحق القيام بها ممنوعة، نظريا على الأقل. وفي اعتقاد أمي، كان كل شيء يريد أن يفعله الأولاد «خطرا»؛ فالسباحة خطر، وتسلق الأشجار خطر، وكذلك التزحلق، واللعب بكرات الثلج، والتعلق بالعربات من الخلف، واللعب بالمرجام والنبلة، وحتى الصيد. وكانت كذلك كل الحيوانات خطرة، باستثناء نايلير والقطتين والدغناش جاكي؛ فكل حيوان لديه طرقه الخاصة المعروفة التي يهاجم الأطفال بها: الخيول تعض، والخفاش يعلق بالشعر، وحشرة أبو مقص تدخل إلى الأذن ، والبجع يكسر السيقان بضربة من أحد جناحيه، والثيران تركل، والثعابين «تلدغ». كل الثعابين تلدغ في اعتقاد أمي، وعندما أخبرتها بما قرأت في موسوعة بيني من أنها لا تلدغ بل تعض، لم تقل شيئا سوى أن أمرتني ألا أرد على كلامها. كما كانت تعتقد أن السحالي والديدان البطيئة والعلاجيم والضفادع والسمندلات تلدغ؛ كل الحشرات تلدغ، ما عدا الذباب والخنافس. وكذلك كانت ترى أن جميع أنواع الأطعمة، ما عدا الأطعمة التي نأكلها في وجباتنا بالمنزل، إما سامة أو «مضرة بالصحة»؛ فالبطاطس سامة للغاية، وكذلك الفطر إلا إذا اشتريته من بائع الخضار، وعنب الثعلب يسبب المغص، والتوت يسبب طفحا جلديا. وكان في اعتقادها أيضا أنك إذا استحممت بعد الوجبات، فستموت بسبب تشنج العضلات، وإذا جرحت يدك بين الإبهام والسبابة، فستصاب بالتيتانوس؛ وإذا غسلت يديك في ماء سلق البيض، فستظهر فيها ثآليل. كذلك كل شيء تقريبا في المتجر كان ساما بالنسبة لأمي؛ ولذلك وضعت البوابة عند المدخل. طعام الأبقار سام، وكذلك ذرة الدجاج، وبذور الخردل، وحبوب كارسوود الخاصة بالدواجن. والحلوى أيضا مضرة والأكل بين الوجبات مضر، ولكن من الغريب أنه كانت ثمة أنواع معينة من الأطعمة التي كانت تسمح أمي بتناولها بين الوجبات؛ فعندما كانت تصنع مربى البرقوق، كانت تتركنا نأكل شرابها الذي كانت تزيله من أعلاها، وكنا نأكل منه بنهم حتى نمرض. وعلى الرغم من أن كل شيء تقريبا في العالم كان إما مضرا أو ساما، فقد كانت ثمة أشياء معينة في اعتقاد أمي ذات فائدة غامضة؛ فالبصل كان علاجا لكل شيء تقريبا، وربط جورب حول العنق كان علاجا لاحتقان الحلق، والكبريت في ماء شرب الكلاب يعمل كدواء منعش ومنشط؛ لذلك كان بعض من الكبريت موضوعا في وعاء شرب نايلير القديم خلف الباب الخلفي، وظل كذلك لسنوات دون أن يتغير.
اعتدنا تناول الشاي في الساعة السادسة؛ فقرابة الساعة الرابعة تكون أمي قد انتهت تقريبا من أعمالها المنزلية، وبين الرابعة والسادسة اعتادت تناول كوب من الشاي في هدوء و«قراءة صحيفتها»، كما كانت تطلق على الأمر. في الحقيقة، لم تكن تقرأ عادة الصحيفة إلا يوم الأحد؛ فصحف باقي أيام الأسبوع لم يكن بها إلا الأخبار اليومية، ونادرا ما يكون بها أخبار عن جرائم قتل، ولكن محرري صحف يوم الأحد أدركوا أن الناس لا يهتمون في الواقع بما إذا كانت جريمة القتل حديثة أم لا؛ وعندما لم يكن لديهم جرائم جديدة، كانوا يعيدون نشر جريمة قديمة مع التعديل فيها، وقد ترجع هذه الجرائم في بعض الأحيان إلى عهد الدكتور بالمر والسيدة مانينج. أعتقد أن أمي كانت ترى العالم خارج لوير بينفيلد في الأغلب على أنه مكان لارتكاب جرائم القتل. وكان لجرائم القتل سحر رهيب عليها؛ لأنها - كما كانت تقول عادة - كانت لا تعلم كيف يمكن أن يصبح البشر بهذا الشر؛ بحيث يقطعون أعناق الزوجات، ويدفنون الآباء أسفل الأرضيات الإسمنتية، ويلقون الرضع في الآبار. كيف لأي شخص أن يفعل مثل تلك الأشياء؟! حدثت فظائع جاك السفاح الشهير تقريبا في الوقت الذي كان فيه أبي وأمي متزوجين، والمصاريع الخشبية الكبيرة التي اعتدنا إغلاق نوافذ المتجر بها كل ليلة كانت ترجع إلى تلك الفترة. كان قد انتهى عهد مصاريع نوافذ المتاجر، ولم تعد موجودة في معظم متاجر هاي إستريت، ولكن أمي شعرت بالأمان في وجودها، وكانت دائما تقول إنها كان يراودها شعور مرعب بأن جاك السفاح مختبئ في لوير بينفيلد. كما ضايقتها كثيرا قضية كريبن، ولكن ذلك كان بعد سنوات عديدة عندما شارفت على البلوغ. يمكنني سماع صوتها الآن وهي تقول: «لقد أخرج أحشاء زوجته ودفن جثتها في مخزن الفحم! هذا غير معقول! ترى ماذا كنت سأفعل بذلك الرجل إن أمسكت به!» الغريب في الأمر أنها عندما كانت تفكر في بشاعة ذلك الطبيب الأمريكي الصغير الذي مزق زوجته (وأخفى فعلته بمهارة حيث أخرج كل عظامها من جسمها ورمى برأسها في البحر، على حد تذكري للأحداث)، كانت الدموع تنزل من عينيها.
أما معظم أيام الأسبوع، فكانت تقرأ في الغالب مجلة «هيلداس هوم كومبانيون»، التي كانت في تلك الأيام جزءا من الأثاث المعتاد لأي منزل كمنزلنا، وفي الواقع لا تزال كذلك حتى الآن، على الرغم من أن المجلات النسائية الأكثر بساطة التي ظهرت منذ الحرب قد حلت محلها بعض الشيء. ألقيت نظرة على نسخة منها منذ بضعة أيام. لقد تغيرت ولكن أقل كثيرا مما تغير كل شيء، فهي لا تزال تحتوي على القصص المتسلسلة نفسها التي تستمر ستة أشهر (وجميعها تنتهي بالنهايات السعيدة)، ولا يزال بها النصائح المنزلية نفسها، والإعلانات نفسها لماكينات الخياطة وعلاجات مشاكل السيقان. لم يتغير فيها الكثير سوى الطباعة والرسومات التوضيحية. في الماضي كانت البطلة تبدو كعداد البيض، والآن تبدو كالأسطوانة. كانت أمي تقرأ ببطء وتصر على أخذ الفائدة التي تساوي ثلاثة بنسات ثمن المجلة. وكانت تجلس على الكرسي ذي الذراعين الأصفر القديم بجوار المدفأة، وتضع قدميها على سياجها الحديدي، وتحضر الشاي الثقيل في إبريق صغير تضعه على صفيحة المدفأة؛ وكانت تقرأ صفحات المجلة من أولها لآخرها ببطء: القصة المتسلسلة، والقصتان القصيرتان، والنصائح المنزلية، وإعلانات مرهم زام بوك، والرد على أسئلة المراسلين. كانت عادة تستمر في قراءة المجلة طوال الأسبوع، وفي بعض الأسابيع لم تكن تستطيع حتى إنهاء قراءتها. وأحيانا كانت حرارة النار أو أزيز الذباب الأزرق في فترة ما بعد الظهيرة في فصل الصيف يجعل النعاس يغلب عليها، وفي حوالي الساعة السادسة إلا ربع كانت تهب مستيقظة وتنظر إلى الساعة على رف المدفأة وتقلق؛ لأن موعد الشاي سيتأخر، ولكنه لم يكن يتأخر قط.
في تلك الأيام وحتى عام 1909 بالتحديد، كان أبي لا يزال قادرا على استئجار صبي ليساعده في المتجر، واعتاد على ترك المتجر له لينضم إلينا وقت تناول الشاي وظهر يديه مغطى بالكامل بالطحين. حينها كانت تتوقف أمي عن تقطيع شرائح الخبز لوهلة، وتقول له: «هلا باركت لنا المائدة يا زوجي.» وبينما كنا نحني رءوسنا جميعا إلى صدورنا، كان أبي يتمتم بخشوع: «اجعلنا يا رب شاكرين بحق لما أعددت لنا من طعام، آمين.» بعد ذلك عندما كبر جو قليلا، أصبحت تقول له: «بارك لنا المائدة اليوم يا جو.» وكان جو يتمتم بالصلاة. لم تبارك أمي المائدة قط؛ فقد كان يجب أن يكون المبارك من الذكور.
كان الذباب الأزرق يطن دائما في الصيف في وقت ما بعد الظهيرة. ولم يكن منزلنا صحيا؛ فقط بعض منازل الأغنياء في لوير بينفيلد هي التي كانت كذلك. أظن أنه لا بد أن البلدة كان بها خمسمائة منزل، ولم يكن بالتأكيد منها إلا عشرة منازل فقط بها حمام، أو خمسون فقط بها ما يمكننا وصفه الآن بدورة المياه. في الصيف، كنت أشم دائما رائحة القمامة في ساحتنا الخلفية، وكانت جميع المنازل تعاني من وجود الحشرات بها. كان لدينا خنافس في الألواح الخشبية لجدران المنزل، وصراصير ليل في مكان ما خلف الموقد بالمطبخ، هذا بالطبع بالإضافة إلى ديدان الطحين التي كانت في المتجر. في تلك الأيام، لم تكن حتى ربة المنزل الجيدة كأمي ترى ما يدعو إلى الاعتراض من وجود الخنافس في المنزل؛ فقد كانت جزءا من المطبخ مثلها مثل الخزانة أو مرقاق العجين. ولكن الحشرات كانت في ازدياد، والمنازل في الشارع القذر خلف مصنع الجعة، حيث تعيش كيتي سيمونز، كانت يجتاحها البق. أمي أو أي من زوجات أصحاب المتاجر كانت ستموت خجلا إذا كان في بيتها بق. في الواقع، كان من الأفضل أن يقول المرء إنه لا يعرف حتى شكل البق.
كان الذباب الأزرق الكبير يهاجم السلم ويستقر بلهفة على الأغطية السلكية التي نحكم بها تغطية اللحم. وقد اعتاد الناس على أن يقولوا: «تبا للذباب!» لكن الذباب كان قدرنا، وبخلاف أغطية اللحم والورق اللاصق والقاتل للذباب، لم يكن باستطاعتك فعل شيء للتخلص منه. قلت منذ قليل إن أول ما أتذكره هو رائحة قش العنبريس، ولكن رائحة القمامة هي أيضا من أولى الروائح التي تأتي إلى ذاكرتي. عندما أتذكر مطبخ أمي بأرضيته الحجرية ومصائد الخنافس والسياج الصلب والموقد الأسود، أكاد أسمع دائما طنين الذباب الأزرق وأشم رائحة القمامة، وكذلك نايلير الذي كانت له رائحة قوية كبقية الكلاب. وثمة روائح وأصوات أسوأ بكثير . ترى أيها ستسمعه أولا؛ طنين الذباب الأزرق، أم أزيز طائرة قاذفة للقنابل؟
3
بدأ جو في الذهاب إلى مدرسة وولتن للقواعد اللغوية قبلي بعامين، ولم يذهب أي منا إليها إلا في عمر التاسعة؛ فقد كان الذهاب إلى المدرسة يعني السير بالدراجات مسافة أربعة أميال صباحا ومساء، وكانت أمي تخاف أن تسمح لنا بالذهاب وسط الزحام، الذي كان في ذلك الوقت يعني عددا قليلا للغاية من السيارات.
ذهبنا لعدة سنوات إلى مدرسة في منزل السيدة العجوز هاوليت، التي كان يذهب إليها معظم أبناء أصحاب المتاجر لتقيهم عار الذهاب إلى المدارس الابتدائية المؤسسة بأموال الضرائب، على الرغم من أن الجميع كان يعرف أن الأم هاوليت كانت نصابة عجوزا ومعلمة سيئة. كانت تتجاوز السبعين، وكانت لا تسمع جيدا على الإطلاق، وكانت بالكاد ترى وهي مرتدية نظارتها، ولم يكن لديها من الأدوات سوى عصا وسبورة وبضعة كتب مهترئة لقواعد اللغة والعديد من ألواح الكتابة الأردوازية ذات الرائحة الكريهة. وكانت بالكاد تسيطر على الفتيات، أما الأولاد فقد كانوا يضحكون عليها ويتغيبون عن الحضور كما يشاءون. حدثت ذات مرة فضيحة مرعبة في المدرسة؛ إذ وضع أحد الأولاد يده تحت ثوب فتاة، ولكني لم أكن أفهم الخطأ الذي ارتكبه الولد في ذلك الوقت، ونجحت الأم هاوليت في التكتم على الأمر.
وعندما كنت تفعل شيئا سيئا، كانت تقول: «سوف أخبر والدك.» ولكنها نادرا جدا ما كانت تخبر الآباء بالفعل. وكنا أذكياء بما يكفي لمعرفة أنها لا تجرؤ على فعل ذلك كثيرا، وحتى عندما كانت تضربنا بالعصا، كان كبر سنها وعدم لياقتها يجعلان من السهل علينا تفادي الضربات.
كان جو في الثامنة من عمره فقط عندما انضم إلى مجموعة مشاكسة من الفتيان، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم اليد السوداء. كان قائدهم سيد لوفجروف، الابن الأصغر للسروجي، الذي كان في الثالثة عشرة من عمره تقريبا، وكان ثمة ولدان آخران من أبناء أصحاب المتاجر، وولد يعمل في مصنع الجعة، ومزارعان كانا في بعض الأوقات يتهربان من العمل لمقابلة المجموعة لبضع ساعات. كان المزارعان ضخمي البنية، وكانا يدخلان على المجموعة بقوة وعلى نحو مفاجئ مرتديين بنطالين قصيرين مصنوعين من قماش قطني مضلع، وكانا يتحدثان بلكنة محلية متدنية، وكان بقية الأولاد في المجموعة يعدونهما أقل شأنا منهم، ولكنهم كانوا يتساهلون معهما؛ لأنهما يعلمان عن الحيوانات الكثير مما لا يعلمه الآخرون، حتى إن أحدهما، وكانت كنيته جينجر، كان يصطاد الأرانب بيديه في بعض الأحيان؛ فكان إذا رأى أرنبا على العشب، ينقض عليه كنسر باسطا جناحيه. كان ثمة فارق اجتماعي كبير بين أبناء أصحاب المتاجر وأبناء العمال والمزارعين، ولكن الفتيين المحليين لم يكونا عادة يوليان اهتماما كثيرا للأمر حتى بلغا السادسة عشرة تقريبا. وكان للمجموعة كلمة سر و«اختبار» كان يتضمن جرح أحد الأصابع وتناول دودة أرض، وكانوا يتفاخرون بأنهم عصابة مرعبة. بالتأكيد تمكنوا من تحويل أنفسهم إلى أشخاص مؤذية؛ فقد كانوا يكسرون النوافذ، ويطاردون الأبقار، ويخلعون مقارع الأبواب، ويسرقون كما كبيرا من الفاكهة. في بعض الأحيان في الشتاء، كانوا يجلبون بعض حيوانات ابن مقرض ويذهبون لاصطياد الجرذان عندما يسمح لهم المزارعون بذلك. وكانت لديهم جميعا المراجم والنبال، وكانوا دائما يدخرون المال لشراء مسدس صغير، الذي كان بخمس شلنات في تلك الأيام؛ ولكن مدخراتهم لم تزد قط عن ثلاثة بنسات. أما في الصيف، فقد اعتادوا الذهاب لصيد السمك وسرقة بيض أعشاش الطيور. عندما كان جو في مدرسة السيدة هاوليت، كان يتغيب عن المدرسة مرة في الأسبوع على الأقل، وحتى عندما ذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية، كان يتغيب مرة كل أسبوعين تقريبا. كان ثمة فتى في مدرسة القواعد اللغوية، وكان ابن بائع مزادات، يمكنه تقليد خط أي شخص، وكان إذا أعطيته بنسا يزور لك خطابا من أمك يقول إنك كنت مريضا بالأمس. بالطبع كنت فتى مشاغبا وجديرا بالانضمام إلى مجموعة اليد السوداء، ولكن جو كان دائما يمنعني، ويقول إنهم لا يريدون معهم أي أطفال لعينة.
وكان ما يروق لي فيما يفعلون حقا هو صيد السمك. في عمر الثامنة، لم أكن قد صدت السمك بعد إلا بشبكة اشتريتها ببنس واحد يمكنك في بعض الأحيان أن تصطاد بها سمك أبي شوكة. كانت أمي دائمة القلق من تركنا نذهب إلى أي مكان بجوار الماء، وقد «حرمت» صيد السمك كعادة الآباء في ذلك الوقت في «تحريم» كل شيء تقريبا، ولم أكن في ذلك الحين قد فهمت أن البالغين لا يرون إلا مواضع أقدامهم. ولكن فكرة صيد السمك كانت تسحرني وتملؤني بالإثارة، وفي كثير من الأحيان كنت أذهب إلى البركة عند الطاحونة وألقي نظرة على أسماك الشبوط الصغيرة وهي تتشمس على سطح البركة، وفي أحيان أخرى تحت شجرة الصفصاف في الركن، كنت أرى سمك الشبوط الكبير الأشبه بالألماس، الذي كان يبدو لي ضخما - إذ كان طوله ست بوصات على ما أظن - وهو يقفز فجأة إلى السطح ليلتهم اليرقات بسرعة ثم يغطس في الماء مرة أخرى. كنت أقضي ساعات ملصقا أنفي بنافذة متجر والاس في هاي إستريت، حيث تباع عدد صيد السمك والبنادق والدراجات. واعتدت الاستلقاء في السرير مستيقظا في الصباح في الصيف أفكر في الحكايات التي أخبرني بها جو عن صيد السمك، وكيف يمزج معجون الخبر، وكيف تهتز فلينة الصنارة وتغطس، وكيف تشعر بتقوس القصبة وبسحب السمكة للخيط. أتعجب من ذلك الإشعاع السحري الذي تلقي به الأسماك وصيدها في أعين الأطفال. يشعر بعض الأطفال بالشيء نفسه تجاه البنادق والرماية، وبعضهم الآخر يشعرون به تجاه الدراجات النارية أو الطيارات أو الخيول. إنه ليس بالشيء الذي يمكنك شرحه أو تبريره؛ إنه سحر بحت. في صباح أحد الأيام - في شهر يونيو ولا بد أنني كنت في الثامنة من عمري - علمت أن جو كان ينوي التغيب عن المدرسة والذهاب لصيد السمك، وقررت أن أتبعه. ولكن بطريقة ما خمن جو ما كنت أفكر فيه، وأخذ يهاجمني ونحن نرتدي ملابسنا قائلا: «حسنا أيها الصغير جورج! لا تظن أنك ستذهب معي للقاء مجموعة أصدقائي اليوم، بل سترجع إلى المنزل.» «لا، أنا لا أظن شيئا. أنا لا أفكر في الأمر.» «بل تفكر! تفكر في الذهاب للقاء المجموعة.» «لا، لا أفكر !» «بل تفكر!» «لا، لا أفكر!» «بل تفكر! ولكنك سترجع إلى المنزل. نحن لا نريد أي أطفال لعينة معنا.»
كان جو قد تعلم لتوه كلمة «لعين»، وكان دائم الاستخدام لها. وقد سمعه أبي مصادفة مرة وهو يقولها، وأقسم إنه سيقتله ضربا، ولكن كعادته لم يفعل شيئا. انطلق جو بعد الإفطار بدراجته ومعه حقيبته وقبعة المدرسة، وكان ذلك مبكرا عن موعده بخمس دقائق كما هي عادته عندما كان ينوي التغيب عن المدرسة؛ وعندما جاء موعد مغادرتي المنزل للذهاب إلى مدرسة الأم هاوليت، تسللت واختبأت في الزقاق خلف الحقول. كنت أعلم أن المجموعة ذاهبة إلى البركة التي عند الطاحونة، وكنت أنوي أن أتبعهم حتى لو قتلوني لفعل ذلك. كنت أعلم أنهم ربما يضربونني وأنني قد لا أتمكن من الرجوع إلى المنزل على الغداء، ومن ثم ستعلم أمي أنني قد تغيبت عن المدرسة وسأضرب مرة أخرى، ولكني لم أكترث لأي من ذلك؛ فقد كنت أتطلع بشدة لصيد السمك مع المجموعة. وكنت ماكرا أيضا. انتظرت حتى ابتعد جو قليلا بدراجته وأخذ الطريق إلى الطاحونة، ثم ذهبت إلى الزقاق ولففت حول المروج في الجانب البعيد للسياج، وذلك حتى أقترب من البركة قبل أن تراني المجموعة. كان صباحا رائعا من صباحات شهر يونيو. وكان عشب الحوذان بزهره الأصفر يصل إلى ركبتي، وكانت ثمة نسمة من الرياح تحرك قمم أشجار الدردار، وكانت أوراق الأشجار كسحب خضراء ناعمة وغالية كالحرير. كانت الساعة التاسعة صباحا، وكنت في الثامنة من عمري، وكل شيء حولي كان يدل على بداية فصل الصيف: السياجات المتشابكة الضخمة حيث الورود البرية لا تزال مزهرة، والقليل من السحب البيضاء الناعمة المتحركة فوق الرءوس، والتلال المنخفضة على مبعدة، والكتل الزرقاء المعتمة للغابة حول أبر بينفيلد. ولكن لم يكن أي من ذلك يعنيني؛ فكل ما كنت أفكر فيه هو البركة الخضراء وأسماك الشبوط والمجموعة ومعهم الخطافات وخيوط الصيد وطعم معجون الخبز. كانوا كما لو أنهم في الجنة وكان علي الانضمام إليهم. سرعان ما تمكنت من التسلسل إليهم، وقد كانوا أربعة: جو وسيد لوفجروف وصبي مصنع الجعة وأحد ابني أصحاب المتاجر، أظن أن اسمه كان هاري بارنز.
استدار جو ورآني؛ فقال: «يا إلهي! إنه الصبي.» وجاء لي كقط ذكر مستعد للشجار، وقال: «حسنا، ها أنت ذا! ماذا قلت لك؟ ارجع إلى المنزل بأقصى سرعة.»
كنت أنا وجو نميل إلى التحدث بلهجة الطبقة العاملة عندما نكون غاضبين. تراجعت من أمامه.
وقلت: «لن أرجع إلى المنزل.» «بل ستفعل.»
قال سيد: «اقرص أذنه يا جو؛ فنحن لا نريد أي أطفال معنا.»
قال جو: «هل ستذهب إلى المنزل؟» «لا.» «اذهب إلى المنزل على الفور يا ولد! اذهب إلى المنزل على الفور.»
ثم أخذ يهاجمني، وفي اللحظة التالية كان يطاردني ويمسك بي بين الحين والآخر، ولكني لم أبتعد عن البركة وجريت في دوائر. ولكنه سرعان ما أمسك بي وأطاح بي أرضا، ثم جثا على عضدي وأخذ يلوي أذني، وهو ما كان عقابه المفضل لي الذي لم أكن أتحمله. أخذت أنوح في ذلك الوقت، ولكني لم أستسلم وأعده بالذهاب إلى المنزل؛ فقد كنت أريد البقاء وصيد السمك مع المجموعة. وفجأة، وقف الباقون في صفي وطلبوا من جو النزول عن صدري والسماح لي بالبقاء إن أردت. ومن ثم بقيت في النهاية.
كان معهم خطافات وخيوط صيد وفلينات وقليل من معجون الخبز في خرقة، وصنع كل منا لنفسه عصا من أفرع شجرة الصفصاف التي كانت في زاوية البركة. وكانت المزرعة على بعد مائتي ياردة فقط تقريبا، وكان علينا أن نختبئ جيدا لأن العجوز بروير كان يغضبه بشدة صيد السمك. لم يكن الأمر في الواقع يعنيه في شيء، فلم يكن يستخدم البركة إلا في إمداد ماشيته بالماء، ولكنه كان يكره الأولاد. كان الباقون لا يزالون يشعرون بالغيرة مني، وظلوا يطلبون مني أن أتنحى جانبا ويخبرونني بأنني ما أنا إلا طفل، وأنني لا أعرف شيئا عن الصيد. كما قالوا إنني أتسبب في جلبة ترعب الأسماك فتفر هاربة، على الرغم من أن جلبتي كانت أضعف بكثير من الجلبة التي كان يحدثها أي منهم. وفي النهاية، لم يسمحوا لي بالجلوس بجوارهم وأرسلوني إلى جانب آخر من البركة، حيث كان الماء ضحلا أكثر ولم يكن ثمة الكثير من الظل، وقالوا إن طفلا مثلي بالتأكيد سيظل يرش الماء ويرعب الأسماك فتفر هاربة. كانت رقعة رديئة من البركة حيث لا تأتي أي أسماك عادة. كنت أعلم ذلك، وبدا أنني علمت بشيء من الفطرة أماكن وجود الأسماك. ومع ذلك، كنت أصطاد في النهاية، إذ كنت أجلس على الضفة العشبية وقصبة الصيد في يدي، والذباب يطن من حولي، ورائحة النعناع البري النفاذة تكاد تفقدك الوعي، وكنت أشاهد الفلينة الحمراء تطفو على المياه الخضراء، وكنت فرحا بشدة على الرغم من أن آثار دموعي كانت لا تزال مختلطة بالأتربة وتغطي كامل وجهي.
الرب وحده يعلم كم من الوقت جلسنا في ذلك المكان. وكان الصباح يطول أكثر فأكثر، وتزداد حرارة الشمس على نحو متزايد، ولم يكن أحد منا قد اصطاد سمكة. كان يوما هادئا وحارا وصافيا ما يمكن من الصيد. طفت الفلينات فوق الماء دونما اهتزاز. وكان يمكنك أن ترى أعماق البركة كما لو كنت تنظر عبر زجاج داكن الخضرة. وفي منتصف البركة، كان يمكنك رؤية الأسماك تعوم أسفل السطح مباشرة وتتشمس، وفي بعض الأحيان في العشب المائي بالقرب من الجانب كان يأتي سمندل زاحفا لأعلى ويستقر هناك بأصابعه على العشب وأنفه خارج بعض الشيء من الماء. ولكن الأسماك لم تكن تمسك بالطعم. ظل الآخرون يصرخون بأنهم قد اصطادوا شيئا، ولكن ذلك لم يحدث قط. وامتد وقت جلوسنا أكثر فأكثر وازدادت حرارة الجو، وكاد الذباب يأكلني حيا، وكانت رائحة النعناع البري أسفل الضفة كرائحة متجر حلوى الأم ويلر. واشتد بي الجوع، وما زاد الأمر سوءا أنني لم أكن أعلم على وجه التحديد من أين سيأتيني غدائي، ولكني جلست ساكنا كالفأر ولم أصرف عيني عن الفلينة. أعطاني الآخرون بعضا من الطعم بحجم البلية تقريبا، وأخبروني أنه كاف لي، ولكني لوقت طويل لم أتمكن حتى من وضعه في خطافي؛ ففي كل مرة كنت أسحب فيها الخيط كانوا يسبونني لإحداثي ضجة تخيف السمك على بعد خمسة أميال.
أظن أننا قد مكثنا نحو ساعتين قبل أن تهتز فلينة صنارتي فجأة. وكنت أعلم أنني حصلت على سمكة. لا بد أنها سمكة كانت تمر بالصدفة ورأت طعمي. لا شك في حركة الفلينة عندما تأكل السمكة الطعم؛ فهي تختلف كثيرا عن حركتها عندما تشد الخيط من غير قصد. في اللحظة التالية تمايلت تمايلا حادا وكادت تغطس في الماء. لم أستطع تمالك نفسي أكثر من ذلك، فصرخت على الآخرين قائلا: «لقد اصطدت سمكة!»
صاح سيد لوفجروف على الفور: «تبا!»
ولكن في اللحظة التالية لم يكن ثمة شك في الأمر؛ فقد غطست الفلينة باستقامة أسفل الماء، وكنت ما زلت أستطيع رؤيتها تحت الماء، بلونها الأحمر المعتم، وشعرت بضغط القصبة في يدي. يا إلهي، يا له من شعور رائع! اهتز الخيط واشتد وبه سمكة في طرفه! رأى الآخرون قصبتي تتقوس، وفي اللحظة التالية ألقوا جميعا بقصباتهم واندفعوا ملتفين حولي. سحبت الصنارة سحبة كبيرة، وخرجت السمكة - سمكة فضية اللون كبيرة ورائعة - محلقة في الهواء. وفي هذه اللحظة، صحنا جميعا صيحة خوف. انزلقت السمكة من الخطاف وسقطت على النعناع البري أسفل الضفة، ولكنها سقطت في الماء الضحل حيث لا يمكنها الرجوع للبركة، وربما لثانية ظلت مستلقية هناك على جانبها بلا حول ولا قوة. رمى جو بنفسه في الماء، ورشنا جميعا بالماء، وأمسك بها بكلتا يديه صائحا: «أمسكت بها!» ثم رمى بها على العشب وكنا جميعا جاثمين حولها. يا له من منظر ونحن نحدق فيها بإعجاب! كان الكائن المسكين المحتضر يرفرف لأعلى ولأسفل، وكانت حراشفه تتلألأ بكل ألوان الطيف. كانت سمكة شبوط ضخمة يبلغ طولها سبع بوصات على الأقل، ولا بد أن وزنها كان ربع رطل. عجبا لصريخنا عندما رأيناها! ولكن بعد ذلك ببرهة أحسسنا كما لو أن ظلا قد سقط علينا، فرفعنا رءوسنا لنرى، وقد كان العجوز بروير يقف فوقنا بقبعته اللبادية المستديرة الطويلة - وهي واحدة من تلك القبعات التي اعتاد الناس ارتداءها والتي كانت بين القبعة العالية والقبعة المستديرة - ورباطي ساقيه المصنوعين من جلد البقر وعصاه البندقية اللون السميكة في يديه.
انكمشنا مرتعدين فجأة كما تفعل طيور الحجل عندما يحوم صقر فوق رءوسها. نظر إلينا واحدا تلو الآخر، وكان لديه فم عجوز كريه بلا أسنان، وكان يبدو منذ أن حلق لحية ذقنه كطائر كسار البندق.
قال: «ماذا تفعلون هنا أيها الأولاد؟»
لم يكن ثمة الكثير من الشك حول ما كنا نفعله. لم يجبه أحد.
فزأر فجأة: «سأعلمكم كيف تصطادون في بركتي!» ثم انقض علينا ضاربا إيانا في كل اتجاه.
تفرقت مجموعة اليد السوداء وهربت. تركنا كل القصبات خلفنا وكذلك السمكة. وطاردنا العجوز بروير عبر المروج، وكانت ساقاه متيبستين ولم يستطع الحركة بسرعة، ولكنه كان قد ضربنا ضربا عنيفا قبل أن نغيب عن ناظره. تركناه في منتصف الحقل وهو يصرخ فينا بأنه يعلم أسماءنا جميعا وسيخبر آباءنا. كنت في الخلف وتلقيت معظم الضربات؛ فظهرت علي بعض آثار الضرب الحمراء الكريهة في سمانتي ساقي عندما وصلنا إلى الجانب الآخر من السياج.
قضيت ما تبقى من اليوم مع المجموعة. ولم يكونوا قد حسموا أمرهم بشأن ما إذا كنت قد أصبحت عضوا بعد، ولكنهم كانوا يعاملونني جيدا في ذلك الوقت. كان على صبي مصنع الجعة العودة إلى العمل، حيث كان متغيبا عنه في الصباح بحجة كاذبة أو أخرى. أما بقيتنا، فقد ذهبنا للسير طويلا بتسكع وتعال، في ذلك النوع من جولات السير التي يذهب فيها الأولاد عندما يكونون بعيدا عن المنزل ليوم كامل، وخاصة عندما يتغيبون دون إذن. كانت هذه أول جولة سير حقيقية خاصة بالأولاد، وهي مختلفة اختلافا كبيرا عن جولات السير التي كنت أذهب فيها أنا وأخي مع كيتي سيمونز. تناولنا الطعام في أحد خنادق المياه الجافة في طرف البلدة، الذي كان مليئا بالعلب المعدنية الصدئة ونبات الشمر البري. أعطاني الآخرون بعضا من طعامهم، وكان مع سيد لوفجروف بنس، فاشترى أحدهم به مشروب بيني مونيستير الذي تقاسمناه معا.
كان الطقس شديد الحرارة، وكانت رائحة الشمر نفاذة للغاية، والغازات الموجودة في مشروب بيني مونيستير جعلتنا نتجشأ. بعد ذلك قمنا للتجول على الطريق الأبيض المغبر إلى أبر بينفيلد؛ كانت تلك هي المرة الأولى التي أسلك فيها ذلك الطريق، على ما أعتقد، وإلى غابة أشجار الزان المفروشة بأوراق الأشجار الميتة والجذوع الناعمة الضخمة التي تصل إلى السماء فتبدو الطيور على الفروع العلوية متناهية الصغر كالنقاط. كان يمكنك الذهاب إلى أي مكان تريده في الغابة في تلك الأيام. وكان منزل بينفيلد مغلقا، ولم يعد الناس به يربون طيور التدرج، وكان أقصى ما يمكنك أن تراه هناك هو سائق عربة يحمل بعض الأخشاب. كانت ثمة شجرة مقطوعة بالمنشار، وبدت حلقات جذعها كلوح تصويب، وقد صوبنا عليها بالحجارة. ثم صوب بعضنا على الطيور بالمراجم، وأقسم سيد لوفجروف إنه أصاب شرورا، وإنه قد ألصقه بشوكة في الشجرة، ولكن جو قال إنه يكذب، وتجادلا وكادا أن يتشاجرا. ثم نزلنا إلى تجويف طباشيري مليء بطبقات من أوراق الشجر الميتة، وأخذنا نصرخ لنسمع صدى صوتنا. صرخ واحد منا بكلمة بذيئة، فصرخنا جميعا بكل الكلمات البذيئة التي نعرفها، وسخروا مني لأنني لم أكن أعرف سوى ثلاث فقط. قال سيد لوفجروف إنه يعلم كيف يولد الأطفال، وإن الأمر مشابه تماما لما يحدث لدى الأرانب باستثناء أن الطفل يخرج من سرة المرأة. وأخذ هاري بارنز يحفر كلمته على جذع شجرة، ولكنه سئم من الأمر بعد أول حرفين. ثم درنا مقتربين من كوخ في منزل بينفيلد. قيل إنه في مكان ما في هذه الأنحاء كانت ثمة بركة بها أسماك ضخمة، ولكن لم يجرؤ أحد قط على الدخول لأن العجوز هودجز، ساكن الكوخ الذي كان بمنزلة الحارس، كان «يكره» الأولاد. كان يحرث حديقة خضراواته بالقرب من الكوخ عندما مررنا بالمكان. خاطبناه بوقاحة من وراء السور حتى طاردنا وأبعدنا، ثم نزلنا إلى شارع وولتن وخاطبنا سائقي العربات بوقاحة كذلك مع الاستمرار بالسير في الجانب الآخر من السياج حتى لا ينالونا بسياطهم. وبجوار شارع وولتن، كان ثمة مكان كان بالماضي مقلع حجارة ثم مكبا للقمامة، ثم في النهاية غمرته شجيرات توت العليق الأسود. وكانت به أكوام ضخمة من العلب المعدنية القديمة الصدئة، وإطارات الدراجات، والقدور ذات الثقوب، والزجاجات المحطمة، والأعشاب التي تنمو في كل مكان حول كل ذلك، وقد قضينا ما يربو على الساعة واتسخنا من رءوسنا إلى أخمص أقدامنا ونحن نبحث عن أعمدة الأسوار الحديدية؛ لأن هاري بارنز أقسم إن الحداد في لوير بينفيلد سيدفع ستة بنسات لمن يجيء له بقنطار من الحديد الخردة. ثم وجد جو عشا على إحدى شجيرات توت العليق الأسود لطائر سمنة ميت وكان به صغاره غير مكتملي الريش. وبعد مفاوضات طويلة حول ما نفعل بها، أخرجناها من العش وألقيناها بالحجارة، ثم دهسناها بأقدامنا في النهاية. وقد كان عددها أربعا، ودهس كل منا واحدا. كان قد اقترب موعد الشاي، وكنا نعلم أن العجوز بروير سيفي بكلمته وأن آباءنا في انتظارنا ليوسعونا ضربا، ولكننا قد اعتصرنا الجوع فلم نعد نستطيع التغيب عن المنزل أكثر من ذلك. عدنا أدراجنا أخيرا إلى المنزل، مع مشاجرة أخيرة في الطريق؛ حيث رأينا جرذا ونحن نمر على المزارع وطاردناه بالعصي، وأتى خلفنا العجوز بينيت مدير محطة السكك الحديدية - الذي يعمل في مزرعته كل ليلة وكان شديد الفخر بها - وكان في غضب شديد؛ لأننا خضنا بأرجلنا في الأرض التي كان يزرعها بصلا.
مشيت عشرة أميال ولم أتعب، وتبعت المجموعة طوال النهار وحاولت فعل كل شيء يفعلونه، وكانوا ينادونني ب «الطفل» ويوبخونني كلما سنحت الفرصة، ولكنني تمكنت بشكل أو بآخر من أن أفعل ما أردت. كان في داخلي شعور رائع، شعور لا يمكنك معرفة شيء عنه إلا إذا جربته، ولكن إذا كنت رجلا، فستشعر به عاجلا أم آجلا. علمت أنني لم أعد طفلا وأنني أصبحت صبيا. وإنه لمن الرائع أن يغدو المرء صبيا، حيث التجول في أماكن لا يمكن للكبار الإمساك بك فيها، ومطاردة الجرذان، وقتل الطيور، ورمي الحجارة، ومخاطبة سائقي العربات بوقاحة، والصياح بكلمات بذيئة. إنه شعور بالقوة والتفوق، وبمعرفة كل شيء ، والخوف من لا شيء، وكل ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا بكسر القواعد وقتل الكائنات الحية. الطرق المغبرة البيضاء، والشعور بالحرارة والعرق على الملابس، ورائحة الشمر والنعناع البري، والكلمات البذيئة، والرائحة الكريهة لمكب القمامة، ومذاق شراب الليمون الفوار الذي يجعل المرء يتجشأ، ودهس الطيور الصغيرة، والشعور بالسمكة وهي تشد الخيط؛ كل ذلك كان جزءا من هذا الشعور. حمدا لله أنني رجل؛ فالنساء لا يشعرن بذلك الشعور.
بالطبع طاف العجوز بروير على الجميع وأخبرهم بأمرنا. بدا أبي شديد العبوس، وأخذ حزاما من المتجر، وقال إنه «سيقتل جو ضربا»، ولكن جو قاوم وصاح ورفس، وفي النهاية لم يتمكن أبي من أن ينال منه إلا ببعض الضربات. ومع ذلك، ضربه مدير المدرسة بالعصا في اليوم التالي. حاولت المقاومة أيضا، ولكني كنت صغيرا لدرجة مكنت أمي من أن تضعني أسفل ركبتها وضربتني بالحزام. ومن ثم أكون بذلك قد ضربت ثلاث مرات في ذلك اليوم؛ مرة من جو، ومرة من العجوز بروير، ومرة من أمي. قررت المجموعة في اليوم التالي أنني لم أكن قد أصبحت عضوا بالفعل فيها بعد، وأنه يجب علي أن أخوض «الاختبار» (تلك الكلمة التي عرفوها من قصص الهنود الحمر). كانوا صارمين في إصرارهم على أن آخذ قضمة من الدودة قبل أن أبتلعها. علاوة على ذلك، ولأنني كنت الأصغر ولأنهم كانوا يشعرون بالغيرة مني لأنني الوحيد الذي تمكن من صيد شيء؛ فقد قالوا جميعا بعد ذلك إن السمكة التي اصطدتها لم تكن كبيرة. عادة عندما يتحدث الناس عن الأسماك، تبدو أكبر في كل مرة؛ ولكن سمكتي كانت تبدو أصغر فأصغر، حتى سمعتهم يقولون إنهم يخالونها لا تزيد حجما عن سمكة المنوة.
ولكن الأمر لم يعنني؛ فقد ذهبت للصيد، ورأيت الفلينة تغطس في الماء وشعرت بالسمكة تشد الخيط، ومهما قالوا من أكاذيب فلم يتمكنوا من أن يسلبوني ذلك الشعور.
4
في السنوات السبع التالية، منذ كنت في الثامنة وحتى أصبحت في الخامسة عشرة، فإن الشيء الأساسي الذي أتذكره هو صيد السمك.
لا أتذكر أنني كنت أفعل شيئا آخر. الأمر وما فيه هو أنك عندما ترجع بذاكرتك لفترة طويلة من الزمن، تبدو أشياء بعينها وكأنها كانت تأخذ الحيز الأكبر من الوقت حتى تغطي على كل شيء آخر. تركت مدرسة الأم هاوليت وذهبت إلى مدرسة القواعد اللغوية بحقيبة جلدية وقبعة سوداء ذات أشرطة صفراء؛ وحصلت على دراجتي الأولى، كما حصلت بعد ذلك بوقت طويل على بنطالي الطويل الأول. كانت دراجتي الأولى بترس ثابت؛ لأن الدراجات ذات الترس الحر كانت باهظة الثمن في ذلك الحين. وعندما كنت تقودها على طريق منحدر، كنت ترفع قدميك لأعلى على المسند الأمامي وتترك الدواستين تدوران مصدرتين أزيزا. كانت هذه من المعالم المميزة لأوائل القرن العشرين؛ ولد ينحدر بدراجته على الطريق، ورأسه للوراء، وقدماه في الهواء. ذهبت إلى مدرسة القواعد اللغوية في خوف وارتجاف من الحكايات المرعبة التي أخبرني بها جو حول المدير العجوز ذي اللحية الكبيرة (كان اسمه ويكسي)، الذي كان بطبيعة الحال رجلا قصيرا ومرعبا بوجه كوجه الذئب، وكان يضع في آخر حجرة الدراسة الكبيرة صندوقا زجاجيا به عصي والتي كان يخرج إحداها في بعض الأحيان ويلوح بها في الهواء بطريقة مرعبة. ولكن المفاجئ في الأمر أنني أبليت بلاء حسنا في المدرسة؛ فلم أتخيل قط أنني سأكون أفضل في الدراسة من جو، الذي كان أكبر مني بسنتين وكان يتنمر علي كلما فتح فاه. في الواقع، كان جو شديد الغباء، وكان يضرب بالعصا مرة تقريبا كل أسبوع، وكان تقريبا ترتيبه متأخرا على مستوى المدرسة حتى بلغ السادسة عشرة من عمره. في الفصل الدراسي الثاني، حصلت على جائزة في الحساب وأخرى في مادة غريبة كنا نتعامل فيها غالبا مع الزهور المضغوطة وكانوا يسمونها مادة العلوم، وعندما كنت في الرابعة عشرة من عمري كان ويكسي يتحدث عن المنح الدراسية وجامعة ريدينج. كان أبي، الذي كان لديه طموح لجو ولي في تلك الأيام، مهتما بشدة بضرورة ذهابي إلى «الجامعة». وكانت ثمة فكرة تحوم في الأرجاء أنني سأصبح معلما في مدرسة، وأن جو سيصبح بائع مزادات.
ولكنني ليست لدي أي ذكريات كثيرة مرتبطة بالمدرسة. وعندما أختلط برجال من الطبقات العليا، كما حدث خلال الحرب، أفاجأ بحقيقة أنهم لم يتعافوا قط من آثار تلك التربية المرعبة التي يتعرض لها الأولاد في المدارس العامة، التي إما أن تسطح عقولهم ليصبحوا أنصاف أذكياء أو يقضوا بقية حياتهم يقاومونها. لكن الأمر لم يكن كذلك مع الأولاد في طبقتي، طبقة أبناء أصحاب المتاجر والمزارعين؛ فقد كنت تذهب إلى مدرسة القواعد اللغوية وتظل فيها حتى تبلغ السادسة عشرة، وذلك فقط لتبين أنك لم تكن من أبناء الطبقة العاملة. ولكن المدرسة كانت في الأساس مكانا تريد الهروب منه، فلم يكن لديك أي شعور بالولاء، ولا ذلك الشعور الأبله بالانتماء إلى الحجارة الرمادية القديمة (وقد كانت قديمة بالفعل بالتأكيد، فقد أسس المدرسة الكاردينال وولزي)، ولم تكن ثمة رابطة عنق للطلاب السابقين ولا حتى أغنية للمدرسة. وكان يمكنك فعل ما تشاء في الأيام التي كانوا يعطون لنا فيها نصف يوم دراسي؛ لأن الألعاب لم تكن إلزامية، وعادة ما كنا لا نمارسها. كنا نلعب كرة القدم مرتدين الحمالات؛ وعلى الرغم من أنه كان يعد من المناسب لعب الكريكيت بالحزام، كنت ترتدي قميصك وبنطالك العاديين. اللعبة الوحيدة التي كنت أهتم بها كانت كريكيت الجذوع، التي كنا نلعبها في الفناء الحصوي في وقت الراحة بمضرب مصنوع من خشب صناديق التعبئة وكرة من مواد متعددة.
ولكنني أتذكر رائحة حجرة الدراسة الكبيرة، حيث رائحة الحبر والغبار والأحذية، وكتلة الحجارة في الفناء التي كانت درجا للصعود وكانت تستخدم لسن السكاكين، ومتجر الخباز الصغير في الجهة الأخرى حيث يباع نوع من الكعك التشيلسي، الذي كان بحجم ضعف حجم الكعك التشيلسي الذي تراه في أيامنا هذه، وكان يسمى لاردي باستيرز، وكان بنصف بنس. فعلت كل ما تفعله في المدرسة. حفرت اسمي على طاولة الدرس وضربت على ذلك، كنت تضرب دائما على ذلك إذا ما شوهدت، ولكن كان من المتعارف عليه بين الأولاد أنه كان ينبغي عليك حفر اسمك. كما لطخت أصابعي بالحبر، وقضمت أظفاري ، وصنعت أسهما من الورق، ولعبت لعبة الكونكرز، ونشرت وسط زملائي نكاتا بذيئة، وتعلمت ممارسة العادة السرية، وخاطبت العجوز بلورز معلم اللغة الإنجليزية بوقاحة، وتنمرت بقسوة على ويلي سيميون القصير، ابن الحانوتي الذي كان معتوها ويصدق كل شيء تخبره به. وكانت خدعتنا المفضلة إرساله إلى المتاجر لشراء أشياء لا وجود لها، وقد انطلت على ويلي المسكين كل الدعابات القديمة؛ فكان المغفل الذي ذهب لشراء طوابع بريد ببنس، والمطرقة المطاطية، ومفك الأعسر، وقدر الطلاء المخطط. وكنا نمارس الألعاب الرياضية في أحد الأيام فيما بعد الظهيرة، ووضعناه في حوض، وطلبنا منه أن يرفع نفسه لأعلى بالمقابض. انتهى الحال به في إحدى المصحات، يا له من مسكين! ولكننا لم نكن نستمتع بالحياة إلا في أيام الإجازات.
ثمة أشياء جيدة كان بإمكاننا أن نفعلها في تلك الأيام. في الشتاء، اعتدنا على استعارة اثنين من حيوان ابن مقرض - لم تكن أمي تسمح قط لي ولجو بالاحتفاظ بهما في المنزل، وقد كانت تقول إنها «أشياء ذات رائحة كريهة» - ونتجول حول المزارع ونطلب من أصحابها السماح لنا بصيد بعض الجرذان. كانوا يسمحون لنا في بعض الأحيان، ولكن في أحيان أخرى كانوا يطردوننا، ويقولون إننا أكثر إزعاجا من الجرذان. وفي أواخر الشتاء، كنا نتبع آلة درس القمح ونساعد في قتل الجرذان في أثناء مهاجمتها لأكوام القمح. في أحد أيام الشتاء، لا بد أن ذلك كان في عام 1908، فاض نهر التيمز ثم تجمد حتى أضحى مناسبا للتزلج لأسابيع؛ وكسر هاري بارنز ترقوته على الجليد. وفي بداية الربيع، كنا نذهب لصيد السناجب باستخدام عصي غليظة، ثم بعدها للعبث بأعشاش الطيور. كان لدينا اعتقاد أن الطيور لا يمكنها العد، وأنه لا بأس إن تركنا لها بيضة واحدة، ولكننا كنا وحوشا صغيرة قاسية، وكنا في بعض الأحيان ندك العش وندوس على البيض أو صغار الطيور. كانت لدينا لعبة أخرى نلعبها عندما كانت الضفادع الصغيرة تخرج من بيضها؛ إذ كنا نمسكها وندس فوهة منفاخ الدراجة في مؤخراتها، فتنتفخ لأعلى حتى تنفجر. هكذا حال الأولاد ، لا أعلم لماذا. أما في الصيف، فكنا نركب الدراجات وندور حول بورفورد وير ونستحم فيها، حيث غرق وولي لوفجروف - قريب سيد - عام 1906 بعدما علق في الأعشاب في القاع، وعندما انتشلوا جثمانه بالخطاف وارتفع إلى السطح، كان وجهه شديد السواد.
ولكن صيد السمك كان أمتع الأشياء. ذهبنا عدة مرات إلى بركة العجوز بروير، واصطدنا سمك شبوط وتنش صغيرا، واصطدنا ذات مرة سمكة أنقليس كبيرة، كما اصطدنا في برك أبقار أخرى، والتي كنا نمشي إليها في يوم السبت بعد الظهيرة. ولكن بعد أن حصلنا على الدراجات، بدأنا في صيد السمك في نهر التيمز عند بورفورد وير. بدا الأمر أكثر نضوجا عن صيد السمك في برك الأبقار، حيث لم يكن هناك مزارعون يطردوننا، وكانت أسماك النهر كبيرة، ولكن على حد علمي لم يتمكن أحد من صيدها.
يا له من شعور غريب، ذلك الشعور الذي أكنه تجاه صيد السمك، الذي لا يزال لدي في الحقيقة. لا يمكنني أن أصف نفسي بالصياد؛ فلم أصطد في حياتي قط سمكة طولها قدمان، ومضت ثلاثون سنة الآن منذ آخر مرة أمسكت فيها قصبة الصيد بيدي. ولكنني عندما أعيد النظر في كل فترة صباي من عمر الثامنة إلى عمر الخامسة عشرة، أجد أن ذكرياتي تتمحور حول تلك الأيام التي كنا نذهب فيها للصيد. كل تفصيلة راسخة بوضوح في ذاكرتي. أتذكر كل يوم على حدة وكل سمكة على حدة، فليس ثمة بركة أبقار أو ماء راكد لا يمكنني تصوره إذا ما أغمضت عيني وفكرت في تلك الأيام. يمكنني تأليف كتاب عن فنيات الصيد. عندما كنا أطفالا، لم يكن لدينا الكثير من الأدوات؛ فقد كانت تتكلف الكثير ومعظم البنسات الثلاثة التي كنا نأخذها في الأسبوع (التي كانت مصروف الجيب المعتاد في تلك الأيام)، كانت تذهب على الحلوى وكعك اللاردي باستيرز.
كان الأطفال الصغار جدا يصطادون عادة بالدبابيس المثنية، التي كانت غير مسنونة بما يكفي لتتمكن من الصيد؛ ولكن كان بإمكانك صنع خطاف جيد جدا (على الرغم من أنه بالطبع لم يكن له شوكة) بثني إبرة على نيران شمعة باستخدام كماشة. يعرف صبية المزارع كيف يضفرون شعر الخيول حتى يصبح كالأحشاء، ويمكنك صيد سمكة صغيرة بضفيرة واحدة من شعر الخيل. في وقت لاحق، استخدمنا القصبات التي كنا نشتريها بشلنين وحتى البكرات التي لا يعتاد استخدامها في الصيد. يا إلهي! ترى كم ساعة قضيتها محدقا في نافذة متجر والاس؟! حتى البنادق عيار 410. والمسدسات الصغيرة لم تثر اهتمامي بقدر ما أثارته أدوات صيد السمك. وأتذكر نسخة كتالوج جاماج التي حصلت عليها من مكان ما - أظن أنه كان صندوق قمامة - ودرستها كما لو كانت الكتاب المقدس. ما زلت قادرا حتى الآن على سرد جميع تفاصيل بدائل الأحشاء والأسلاك وخطافات ليميريك ومضارب الصيد ومفكات الخطافات وبكرات نوتينجهام، وغيرها الكثير من الأدوات والفنيات.
ثم نأتي لأنواع الطعم التي كنا نستخدمها. كان في متجرنا دائما الكثير من دود الطحين، الذي كان جيدا ولكن ليس للغاية؛ فالنغف كان أفضل، وكان علينا التوسل للعجوز جرافيت الجزار ليعطينا إياه، واعتادت المجموعة استخدام القرعة أو لعبة حادي بادي ليقرروا من يذهب ويطلبها منه؛ لأن جرافيت لم يكن عادة يتقبل الأمر. كان شيطانا عجوزا ضخما خشن الوجه ذا صوت كنباح كلب الدرواس، وعندما ينبح - كما كان يفعل عادة عندما يتحدث للأولاد - كانت جميع السكاكين والأدوات المعدنية في مئزره الأزرق تهتز مجلجلة. كنت تذهب إليه بصفيحة دبس سكر فارغة، وتنتظر حتى لا يوجد لديه زبائن، ثم تقول بكل أدب: «إذا سمحت يا سيد جرافيت، ألديك أي نغف اليوم؟»
فيصيح عادة قائلا: «ماذا؟! نغف! نغف في متجري! لم أر شيئا كهذا منذ سنين. أتظن أن لدي نغفا في متجري؟»
كان لديه بالتأكيد، وكان في كل مكان. ولكنه كان يقتله بعصا في نهايتها قطعة من الجلد، يمكنه بها الوصول إلى مسافات بعيدة، ويدهسه بها حتى يصبح كالعجينة. كنت تخرج من عنده في بعض الأحيان خالي الوفاض، ولكن جرت العادة على أن يناديك بمجرد مغادرتك المتجر، ويقول: «أنت! اذهب إلى الفناء الخلفي وألق نظرة، فلربما تجد نغفة أو اثنتين إذا ما أمعنت النظر.»
وكنت عادة ما تجدها في مجموعات صغيرة في كل مكان. وكانت رائحة الفناء الخلفي لجرافيت كساحة قتال؛ فلم يكن يملك الجزارون ثلاجات في ذلك الوقت. يعيش النغف أطول إذا احتفظت بها في نشارة الخشب.
يرقات الدبابير جيدة كذلك، ولكن من الصعب جعلها تلتصق في الخطاف إلا لو حمصتها أولا. عندما كان يجد أحد عشا للدبابير، كنا نخرج في الليل ونسكب عليه زيت التربنتين ونسد الحفرة بالطين. وفي اليوم التالي تكون الدبابير كلها قد ماتت، ويمكنك الحفر وإخراجها من العش وأخذ يرقاتها. وذات مرة حدث خطأ في هذه العملية، حيث لم يقع الزيت في الحفرة أو شيء من هذا القبيل، وعندما فتحنا الحفرة خرجت كل الدبابير التي حبست طوال الليل دفعة واحدة وأخذت تطن. لم تكن لسعاتها على أجسامنا مؤلمة للغاية، ولكن كان من المؤسف أنه لم يكن أحد يقف بساعة توقيف؛ لأننا جرينا جميعا بأقصى سرعة. يكاد يكون الجندب أفضل طعم للأسماك، خاصة لسمك الشوب؛ إذ يمكنك أن تثبته في الخطاف دون أي مجهود، فقط تضرب به على سطح الماء جيئة وذهابا، أو كما يسمون تلك الحركة «الوثب على سطح الماء». ولكن لا يمكنك أبدا الحصول على أكثر من اثنين أو ثلاثة منه في المرة الواحدة. هناك كذلك ذباب القارورة الخضراء، الذي كان أيضا صعبا في اصطياده، وهو أفضل طعم لسمك الداس، خاصة في الأيام التي تكون فيها المياه هادئة. وكان عليك وضعه في الخطاف حيا كي يتلوى أمام الأسماك. يلتهم سمك الشوب الدبابير، ولكن وضع دبور حي في الخطاف كان يتطلب مهارة عالية.
يا لها من أعداد كبيرة من الأشياء التي كان بإمكاننا استخدامها كطعوم! هناك معجون الخبز الذي تصنعه بضغط الخبز الأبيض المبلل في خرقة، ومعجون الجبن ومعجون العسل ومعجون اليانسون. وهناك القمح المسلوق كذلك الذي لا بأس به في اصطياد سمك الروش. كما كانت الديدان الحمراء طعما جيدا كذلك لسمك القوبيون، وكنت تجدها في أكوام السماد الشديد القدم. وكان يمكنك كذلك أن تجد نوعا آخر من الديدان كان يسمى دود الأرض، وهو نوع من الديدان مخطط وذو رائحة تشبه رائحة حشرة أبي مقص، وكان طعما جيدا لسمك الفرخ. كانت كذلك ديدان الأرض العادية جيدة لسمك الفرخ، وكان عليك وضعها في أشنة للحفاظ عليها طازجة وحية، لكن إذا حاولت إبقاءها في الأرض فستموت. أيضا ذلك الذباب البني الذي تجده في روث البقر كان جيدا جدا لاصطياد سمك الروش. كان يمكنك أن تصطاد سمك الشوب بحبة كرز - أو هكذا كانوا يقولون - وقد رأيت سمكة روش اصطيدت بزبيبة مأخوذة من كعكة.
في تلك الأيام، من السادس عشر من شهر يونيو (عندما يبدأ موسم صيد الأسماك غير المنتمية لعائلة السلمون) وحتى منتصف الشتاء، لم تكن تراني عادة إلا وفي جيبي علبة صفيح بها ديدان أو نغف. خضت بعض المشاجرات مع أمي حول الأمر، ولكنها استسلمت في النهاية وخرج الصيد من قائمة المحرمات، حتى إن أبي أهداني قصبة صيد بقيمة شلنين في الكريسماس عام 1903. كان جو في الخامسة عشرة من عمره تقريبا عندما بدأ في مطاردة الفتيات، ومنذ ذلك الحين كان نادرا ما يذهب للصيد؛ إذ اعتبره لعبة أطفال. ولكن كان ثمة نحو ستة من الأولاد الآخرين الذين كانوا مهووسين بالصيد مثلي. يا إلهي! ما أجمل أيام الصيد هذه! أتذكر في الأيام الحارة التي تشتد فيها الرطوبة فيما بعد الظهيرة عندما كنت أمدد رجلي تحت طاولتي في حجرة الدراسة، وكان صوت العجوز بلورز يزعجنا بشرح الخبر وصيغ الشرط وصلة الموصول، ولم يكن حينها في ذهني إلا الماء الراكد بجوار بورفورد وير والبركة الخضراء أسفل شجر الصفصاف وسمك الداس الذي يعوم جيئة وذهابا. ثم أتذكر الاندفاع الرهيب على الدراجات بعد تناول الشاي إلى تشامفورد هيل وإلى أسفل النهر لقضاء ساعة في الصيد قبل الغروب. وأتذكر أيضا المساء في أيام الصيف الهادئة وحركة الماء الواهنة في البركة وحلقات المياه التي ترتفع فيها الأسماك، والذباب الصغير الذي يكاد يأكلك حيا، وقطعان سمك الداس التي تحتشد حول خطافك، ولكنها لا تقضم الطعم أبدا. وأتذكر أيضا ذلك النوع من الحماس المرتبط بمشاهدتك لظهور الأسماك السوداء التي تحتشد حولك وأنت تأمل وتصلي (أجل، كنت أصلي بالفعل) أن تغير إحدى الأسماك رأيها وتقضم طعمك قبل أن تظلم السماء بشدة. يأتي دائما حينها وقت عبارة «لنجلس خمس دقائق أكثر»، ثم «فقط خمس دقائق أكثر»؛ حتى تضطر في النهاية إلى السير بجوار دراجتك إلى البلدة لأن تاولر، الشرطي، كان يطوف في الأرجاء وقد يقبض عليك بتهمة القيادة بلا مصباح. أتذكر كذلك تلك الأوقات في إجازات الصيف حيث نذهب لقضاء اليوم بأكمله خارج المنزل ومعنا البيض المسلوق والخبز والزبد وزجاجة من عصير الليمون، ونمارس الصيد، ثم نسبح، ثم نمارس الصيد مرة أخرى، وأحيانا كنا نصطاد شيئا. وفي الليل كنت أرجع إلى المنزل بيدين متسختين، وأكون جائعا للغاية حتى إنني قد آكل ما تبقى من معجون الخبز الذي أعددته للصيد، مع ثلاث أو أربع سمكات داس ذات رائحة كريهة وملفوفة في منديلي. كانت أمي دائما ترفض طبخ السمك الذي أحضره لها؛ فلم تر قط أن أسماك النهر قابلة للأكل، باستثناء التروتة والسلمون، وكانت تقول عنها إنها «أشياء موحلة كريهة». أكثر الأسماك التي أتذكرها جيدا هي تلك التي لم أصطدها، وخاصة السمك الضخم الذي كنت تراه دائما عندما تذهب للسير بمحاذاة مسار جر القوارب بعد ظهيرة يوم الأحد ولا يكون معك قصبة صيد. لم يكن الناس يصطادون في أيام الأحد، حتى إن مجلس حماية نهر التيمز لم يكن يسمح به. وكان عليك في أيام الأحد أن تذهب فيما كان يسمى «نزهة هادئة» ببدلتك السوداء الثقيلة والياقة العريضة البيضاء التي تكاد تنشر رقبتك. وقد كان في يوم الأحد أن رأيت سمكة كراكي طولها ياردة كاملة نائمة في المياه الضحلة بالقرب من الضفة، وكدت أصيبها بحجر. وفي بعض الأحيان في البرك الخضراء على حافة القصب، قد ترى سمكة تروتة التيمز الضخمة تسبح أمامك. تصبح أحجام سمك التروتة ضخمة للغاية في نهر التيمز، ولكن غالبا ما يصعب اصطياده. ويقولون إن أيا من صيادي نهر التيمز الكبار، وهم هؤلاء الرجال كبار السن ذوو الأنوف الكبيرة الأطراف، الذين تراهم في كل مواسم العام متدثرين في معاطفهم وجالسين على الكراسي الصغيرة القابلة للطي ومعهم صناراتهم التي يبلغ طول الواحدة منها عشرين قدما، على استعداد أن يفرغ عاما كاملا من حياته لصيد سمكة تروتة من نهر التيمز. لا أجد ذلك غريبا؛ فأنا أتفهم موقفهم، وكنت أتفهم موقفهم أكثر حينها.
بالطبع كانت تحدث أشياء أخرى في حياتي. لقد كان يزيد طولي ثلاث بوصات في كل عام، وبدأت أرتدي البناطيل الطويلة، وفزت ببعض الجوائز في المدرسة، ودخلت فصولا استعدادا لطقس التأكيد الديني، ورويت نكاتا بذيئة، وبدأت أحب القراءة، وأصبحت مهووسا بالفئران البيضاء والنفش الشبكي وطوابع البريد. ولكنني دائما أتذكر صيد السمك. وأتذكر النهار في الصيف والمروج المنبسطة بجوار النهر، والتلال الزرقاء البعيدة، وشجر الصفصاف أعلى الماء الراكد، والبرك بالأسفل التي تبدو كزجاج شديد الخضرة. كما أتذكر المساء في الصيف والسمك الذي يشق المياه، وطيور السبد التي تحوم حول رأسك، ورائحة زهور المنثور والنبات المستخرج منه تبغ اللاذقية. لا تسئ فهم مقصدي مما أحكيه لك؛ فلست أحاول أن أعرض عليك أيا من تلك الأشعار عن أيام الطفولة؛ لأنني أعلم أن كل ذلك هراء. العجوز بورتيوس (صديقي المدرس المتقاعد، الذي سأحدثك عنه فيما بعد) رائع في نسج أشعار الطفولة، وهو في بعض الأحيان يقرأ علي بعضا منها من الكتب، ككتب ووردزوورث ولوسي جراي، حيث المروج والبساتين وكل تلك الأمور. وغني عن البيان أنه لم يكن لديه أطفال. إن الحقيقة هي أن الأطفال ليسوا شاعريين بأي شكل من الأشكال، فما هم إلا حيوانات صغيرة متوحشة، باستثناء أنه لا يوجد حيوان يملك ربع أنانيتهم. الأولاد لا يهتمون بالمروج والبساتين وما إلى ذلك، ولا ينظرون قط إلى المناظر الطبيعية، ولا يهتمون بالزهور، ولا يستطيعون التفريق بين أنواع النباتات ما لم تؤثر فيهم بشكل ما، كأن تكون طعاما جيدا بالنسبة لهم. إن قتل الكائنات هو أقرب ما ينزل منزلة الشعر لدى الأولاد. وعلى الرغم من ذلك، فإن لديهم في جميع الأوقات تلك الحيوية الغريبة، تلك القوة التي تجعلهم يرغبون في الأشياء التي تزهد فيها عندما تكبر، والشعور بأن الوقت يتمدد أكثر فأكثر أمام أعينهم، وأن أي شيء يفعلونه يمكن أن يستمروا في فعله للأبد.
كنت صبيا قبيحا بعض الشيء، وكان شعري سمني اللون، وكان يقص دائما قصيرا فيما عدا خصلة في الأمام. لا أحاول القول بأن طفولتي كانت مثالية، وعلى عكس كثير من الأشخاص، ليست لدي أي رغبة في الرجوع إلى أيام الصبا. أغلب الأشياء التي اعتدت الاهتمام بها أشعر تجاهها الآن بلا مبالاة شديدة، فلم يعد يعنيني إن لم أر كرة كريكيت مرة أخرى، ولن أعطيك ثلاثة بنسات للحصول على كم كبير من الحلوى، ولكن ما زال لدي، وكان لدي دائما، ذلك الميل الشديد تجاه صيد السمك. قد تعتقد أنه أمر تافه، بلا شك، لكنني في الواقع أتمنى لو أذهب للصيد الآن، حتى وأنا بهذا الجسم البدين وفي الخامسة والأربعين من عمري ولدي طفلان ومنزل في الضواحي. لماذا؟ لأنني إن جاز القول لدي حنين تجاه طفولتي، ولا أعني تجاه طفولتي بالتحديد، ولكن تجاه الثقافة التي نشأت فيها، والتي هي الآن على ما أعتقد على وشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. وصيد السمك هو مثال حي بشكل أو بآخر على تلك الثقافة، فبمجرد أن تفكر في صيد السمك تفكر في أشياء لا تنتمي إلى العالم الحديث. إن فكرة الجلوس طوال النهار أسفل شجرة صفصاف بجوار بركة هادئة - وفرصة أن تجد بركة هادئة للجلوس بجوارها - في حد ذاتها تنتمي إلى وقت ما قبل الحرب وأجهزة الراديو والطائرات وهتلر. كان ثمة إحساس بالسكينة حتى في أسماء الأسماك الإنجليزية غير المنتمية إلى عائلة السلمون. الروش، والأرد، والداس، والأبيض، والبربيس، والأبراميس، والقوبيون، والكراكي، والشوب، والشبوط، والتنش. إنها أسماء لطيفة، ومن وضعوها لم يسمعوا قط عن البنادق الآلية، ولم يعيشوا في رعب من الطرد من أعمالهم، أو يقضوا وقتهم في تعاطي الأسبرين، أو الذهاب إلى السينما، أو التفكير في كيفية تجنب دخول معسكرات الاعتقال.
ترى هل يذهب أحد لصيد السمك في يومنا هذا؟ في أي مكان على مسافة مائة ميل من لندن لم تعد ثمة أسماك متبقية لصيدها. ولم تصمد إلا بضعة نوادي صيد كئيبة بمحاذاة ضفاف القنوات، بينما يذهب المليونيرات لصيد سمك التروتة في برك خاصة حول فنادق أسكتلندية، في نوع من اللعب الباذخ الذي يقوم على صيد أسماك داجن بذباب اصطناعي. ولكن من لا يزال يصطاد السمك في مجاري الطواحين أو الخنادق المائية حول الحصون أو برك الأبقار؟ وأين هي الأسماك الإنجليزية غير المنتمية إلى عائلة السلمون اليوم؟ عندما كنت طفلا، كانت الأسماك في كل بركة ومجرى مائي، ولكن اليوم جميع البرك جففت؛ وإن وجدت مجرى مائيا غير مسمم بكيماويات المصانع، تجده مليئا بالعلب المعدنية الصدئة وإطارات الدراجات النارية.
أفضل ذكرياتي عن الصيد هي عن الأسماك التي لم أصطدها قط. أعتقد أن هذا أمر شائع بالقدر الكافي.
عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري تقريبا، ساعد أبي بشكل ما العجوز هودجز حارس منزل بينفيلد، ولكنني نسيت ماذا فعل له؛ ربما أعطاه بعض الدواء لعلاج دواجنه من الديدان أو شيئا من هذا القبيل. كان هودجز شيطانا عجوزا سيئ الطبع، ولكنه لم يكن ينسى المعروف. في أحد الأيام بعد ذلك بفترة وجيزة عندما أتى إلى المتجر لشراء ذرة الدجاج، قابلني عند الباب وأوقفني بطريقته الفظة. كان له وجه يشبه شيئا منحوتا من جذر شجرة، بسنتين فقط في فمه، وكانا باللون البني الداكن وشديدي الطول.
وقال لي: «أنت يا ولد! أنت تصطاد السمك، أليس كذلك؟» «بلى.» «كما اعتقدت. حسنا، اسمع: إذا أردت الصيد، يمكنك أن تأتي بصنارتك وتحاول في البركة بالأعلى خلف القصر؛ فهناك الكثير من أسماك الأبراميس والشيم، ولكن لا تخبر أحدا بما قلته لك، ولا تحضر معك أيا من هؤلاء الأوغاد الصغار الآخرين، وإلا فسأسلخ ظهورهم.»
قال ذلك ثم ذهب يعرج حاملا جوال الذرة فوق كتفه، كما لو كان يشعر أنه قد قال الكثير بالفعل. بعد ظهيرة يوم السبت التالي، ذهبت بدراجتي إلى منزل بينفيلد وجيباي مليئان بالديدان والنغف، وبحثت عن العجوز هودجز في كوخه. كان منزل بينفيلد في ذلك الوقت غير مأهول منذ عشر سنوات أو عشرين سنة؛ فالسيد فاريل - المالك - لم يعد يتحمل تكاليف العيش فيه، ولم يستطع أو يرد تركه، فعاش في لندن على دخل إيجار مزارعه وترك المنزل والأراضي خربة. كانت جميع الأسيجة خضراء وبالية، وكانت الحديقة في حالة فوضى ومليئة بنبات القراص، وكان الزرع كالغابة، وحتى الحدائق انحسرت إلى مروج، ولم يتبق سوى بعض شجيرات ورد قديمة كثير العقد شاهدة على حيث كانت الأحواض. لكنه كان منزلا بديع الجمال، ولا سيما إن نظرت إليه من بعد. كان منزلا ضخما أبيض اللون بصف أعمدة في الأمام ونوافذ طويلة، وقد بني على ما أظن في عصر الملكة آن تقريبا على يد شخص سافر إلى إيطاليا. إذا ذهبت إلى هناك الآن، فسأشعر على الأرجح بشعور معين من السعادة لتجولي حول ذلك الخراب العام، والتفكير في الحياة التي كانت في ذلك المكان يوما ما، وفي الناس الذين بنوا مثل تلك الأماكن؛ لأنهم تخيلوا أن الأيام الجميلة ستدوم للأبد. عندما كنت صبيا، لم أكن أفكر في المنزل أو الأراضي، بل كنت أبحث عن العجوز هودجز، الذي كان في ذلك الوقت قد انتهى لتوه من تناول غدائه وكان عابسا بعض الشيء، وطلبت منه أن يريني الطريق إلى البركة، التي كانت على بعد عدة مئات من الياردات خلف المنزل، وكانت مختفية بالكامل وسط غابة أشجار الزان. ولكن حجمها كان جيدا، تكاد تقترب في حجمها من حجم بحيرة؛ إذ كان عرضها يقترب من المائة والخمسين ياردة. كان من المذهل، حتى بالنسبة لي وأنا في مثل هذا العمر، أنه يمكنك الاستمتاع بالعزلة هناك؛ فأنت على بعد اثني عشر ميلا من ريدينج وأقل من خمسين ميلا من لندن. ستشعر في ذلك المكان بعزلة كما لو أنك على ضفاف نهر الأمازون؛ فالبركة كانت محاطة بالكامل بأشجار الزان الضخمة، التي كانت في إحدى البقاع تنزل إلى الحافة، وتنعكس صورتها في الماء. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك رقعة من العشب بها تجويف من أحواض النعناع البري؛ وفي الأعلى عند أحد أطراف البركة كان ثمة مصف قوارب خشبي قديم بال وسط عشب البرك.
كانت البركة تعج بأسماك الأبراميس، الصغيرة منها فقط، التي كانت بطول أربع إلى ست بوصات. وبين الحين والآخر، قد ترى إحداها تستدير على جانبها وتومض بلون بني ضارب إلى الحمرة أسفل الماء. كانت ثمة أسماك كراكي أيضا، ولكن لا بد أنها كانت كبيرة. لم أرها قط، ولكن أحيانا كانت تستدير إحداها بينما تتشمس بين العشب، وتغمر المكان برذاذ الماء كما لو أن طوبة قد ألقيت في الماء. لم يكن ثمة طائل من محاولة اصطيادها، ولكنني بالطبع كنت أحاول دائما في كل مرة أذهب فيها إلى هناك. حاولت اصطيادها باستخدام سمك الداس والمنوة الذي اصطدته في نهر التيمز واحتفظت به حيا في برطمان مربى؛ حتى إنني حاولت اصطياده بطعم دوار مصنوع من بعض الصفيح، ولكن السمك كان يأكل بنهم ولا يعض على الصنارة، وعلى أي حال كان سيكسر أيا من أدوات الصيد التي كانت معي. لم أرجع قط من البركة دون اثنتي عشرة سمكة أبراميس صغيرة على الأقل. وفي بعض الأحيان في إجازات الصيف، كنت أذهب إلى هناك وأقضي اليوم بأكمله، ومعي قصبة الصيد ونسخة من صحيفة «تشامز» أو مجلة «يونيون جاك» أو غيرهما، ورغيف من الخبز والجبن لفته لي أمي. وكنت أقضي عدة ساعات في الصيد، ثم أستلقي في التجويف العشبي وأقرأ مجلة «يونيون جاك»، ثم تثيرني مرة أخرى رائحة معجون الخبز وارتطام الأسماك قافزة في الماء، فأرجع إلى البركة في جولة صيد أخرى، وهكذا طوال اليوم في فصل الصيف. أفضل ما في الأمر أن تكون وحدك، وحدك تماما، على الرغم من أن الطريق لم يكن يبعد أكثر من ربع ميل. لقد كنت كبيرا بما يكفي لمعرفة أنه من الجيد أن يختلي المرء بنفسه بين الحين والآخر. وسط الأشجار في كل مكان حولك، بدت البركة كما لو أنها لك وحدك، ولا شيء يتحرك أبدا سوى السمك الذي يطوف في الماء والحمام المار فوق رأسك. على أي حال، في السنتين تقريبا اللتين كنت أذهب فيهما للصيد هناك، ترى كم مرة ذهبت للصيد؟ لا يزيد ذلك على اثنتي عشرة مرة؛ فقد كانت البركة تبعد مسافة ثلاثة أميال بالدراجة عن المنزل، وكان الأمر يستغرق مني فترة ما بعد الظهيرة كلها على أقل تقدير. وفي بعض الأحيان كانت تطرأ بعض الأمور، وأحيانا أخرى كانت تمطر عندما أنوي الذهاب. تعلم بالتأكيد كيف تسير الأمور.
في أحد الأيام بعد الظهيرة، لم تكن الأسماك تلتقط الطعم، وبدأت أستكشف نهاية البركة الأبعد عن منزل بينفيلد، حيث فاض الماء قليلا وأصبحت الأرض سبخية، وواجهت صعوبة في شق طريقي عبر ما يشبه غابة من شجيرات توت العليق الأسود وفروع الأشجار الميتة التي سقطت من الأشجار. تخطيت كل ذلك في عناء لمسافة ما يقرب من خمسين ياردة، ثم فجأة وجدت أرضا مقطوعة الأشجار وبركة أخرى لم أسمع بوجودها من قبل. كانت بركة صغيرة لا يتعدى عرضها عشرين ياردة، وكانت داكنة اللون بعض الشيء بفعل فروع الأشجار التي كانت تتدلى عليها، لكن الماء كان شديد الصفاء والعمق، وكان بإمكاني أن أرى لمسافة عشر أقدام أو خمس عشرة قدما أسفل السطح. تسكعت هناك قليلا، كما يفعل الأولاد، مستمتعا بالنداوة والرائحة السبخية، ثم رأيت شيئا كاد ينتزع روحي من جسدي.
لقد كانت سمكة ضخمة. ولا أبالغ إذ أقول إنها كانت ضخمة؛ فقد كان طولها من طول ذراعي تقريبا. عامت بسلاسة في البركة، ثم غاصت في أعماق المياه، ثم صارت ظلا واختفت في الماء الأكثر دكانة على الجانب الآخر. شعرت كما لو أن سيفا قد اخترق جسدي، فقد كانت أكبر بكثير من أكبر سمكة رأيتها يوما، حية أو ميتة. ووقفت هناك دون أن أتنفس، ثم بعدها ببرهة انسابت سمكة ضخمة وسميكة أخرى في الماء، ثم سمكة أخرى ثم سمكتان أخريان معا؛ كل منهما بالقرب من الأخرى. أصبحت البركة مليئة بالأسماك، وقد كانت على ما ظن أسماك الشبوط، ولربما كانت أبراميس أو تنش، ولكنها على الأرجح أسماك الشبوط؛ لأن أسماك الأبراميس أو التنش ليست بهذا الحجم الضخم. أعلم ما حدث؛ فقد كانت هذه البركة موصولة في وقت ما بالبركة الأخرى، ثم جف المجرى وأحكمت الأشجار الخناق على البركة الصغيرة فنسيت. إنها من الأمور التي تحدث بين الفينة والأخرى؛ تنسى إحدى البرك على نحو ما، فلا يعود أحد يصطاد فيها لسنوات أو لعقود، فتنمو الأسماك إلى أحجام ضخمة. قد يرجع عمر الكائنات التي كنت أشاهدها إلى مئات السنين، ولم يعلم بأمرها أحد غيري في العالم، فأغلب الظن أن أحدا لم ينظر إلى تلك البركة منذ عشرين سنة، وربما حتى العجوز هودجز ووكيل أملاك السيد فاريل قد نسياها.
حسنا، لك أن تتخيل ما شعرت به. بعد وقت ليس بالطويل، لم أستطع تحمل عذاب المشاهدة. فهرولت إلى البركة الأخرى ولملمت أدوات الصيد؛ فلم تكن ثمة فائدة من محاولة صيد تلك المخلوقات الضخمة بالأدوات التي كانت معي، ولربما التقطوها كما لو كانت شعرة، ولم أعد أستطيع أن أرجع لصيد سمك الأبراميس الصغير. ولكن أشعرتني رؤية سمك الشبوط الكبير بألم في بطني كما لو كنت على وشك أن أمرض. ركبت دراجتي وانطلقت أسفل التل ذاهبا إلى المنزل. كان سرا من الرائع أن يحظى به طفل، تلك البركة المظلمة المخفية في الغابة والسمك الضخم الذي يعوم في أرجائها؛ سمك لم يقترب أحد منه بصنارة، وسيلتهم أول طعم تقدمه إليه. كان الأمر يتطلب خيط صيد قويا للغاية للتمكن من صيده. وقد رتبت لكل شيء بالفعل، فقد خططت أن أشتري الأدوات التي يمكنني بها صيده إن سرقت بعض المال من درج النقود. بطريقة ما، لم أكن أعلم كيف، كان علي الحصول على نصف كراون، وشراء خيط صيد حريري طويل مخصص لسمك السلمون وبعض الأحشاء أو الأسلاك السميكة والخطافات رقم خمسة، والذهاب ببعض الجبن والنغف ومعجون الطحين ودود القمح ودود الأرض والجنادب وكل طعم قد يستهوي سمك الشبوط. ونويت أنني بعد ظهيرة يوم السبت التالي مباشرة سأرجع وأحاول صيد تلك الأسماك.
ولكن ما حدث هو أنني لم أرجع إلى هناك قط، فلا يرجع المرء إلى تلك الأماكن أبدا. لم أسرق قط بعض المال من درج النقود، ولم أشتر خيط صيد السلمون، ولم أحاول صيد سمك الشبوط هذا؛ فقد حدث بعد ذلك مباشرة شيء منعني من ذلك، ولكن إن لم يكن قد منعني ذلك الشيء لكان قد منعني شيء آخر؛ فهكذا هي الحياة.
أعلم، بالطبع، أنك تعتقد أنني أبالغ في وصفي لحجم تلك الأسماك، ولربما تعتقد أنها كانت مجرد أسماك متوسطة الحجم (بطول قدم واحدة مثلا)، وأنها كبرت بالتدريج في ذاكرتي. ولكن لم يكن الأمر كذلك؛ فالناس تكذب عند وصف الأسماك التي اصطادوها، ويكذبون أكثر عند الحديث عن الأسماك التي التقطت الطعم وهربت منهم، ولكنني لم أصطد أيا منها أو أحاول حتى أن أصطادها، وليس لدي دافع للكذب. أقول لك بحق إنها كانت ضخمة.
5
الصيد!
سأعترف هنا بشيء، أو بالأحرى بشيئين؛ الأول هو أنني عندما أسترجع شريط حياتي، لا يمكنني بصراحة أن أقول إن ثمة شيئا فعلته يوما قد أبهجني كالصيد؛ فكل شيء عداه أصبح مملا بالمقارنة به، حتى النساء. لا أحاول أن أقول إنني من هؤلاء الرجال الذين لا يهمهم النساء، فقد قضيت الكثير من الوقت في مطاردتهن، وسأفعل ذلك مجددا الآن إن أتيحت لي الفرصة. ولكنك إن خيرتني بين أي امرأة، أي امرأة مهما كانت، وبين اصطياد سمكة شبوط تزن عشرة أرطال، فسأختار الشبوط دائما. الاعتراف الثاني هو أنني بعدما أتممت عامي السادس عشر لم أصطد مرة أخرى.
لماذا؟ لأن هذه هي الحياة، ولأننا في هذه الحياة التي نعيشها - لا أعني الحياة البشرية على إطلاقها، بل أعني الحياة في هذا العمر بالأخص، وفي هذا البلد بالتحديد - لا نفعل الأشياء التي نريد أن نفعلها. وذلك ليس لأننا نعمل دائما؛ فحتى عامل المزرعة أو الخياط اليهودي لا يعمل دائما، بل لأن ثمة شيطانا داخلنا يدفعنا في كل حين إلى ارتكاب حماقات أبدية. إن لدينا وقتا لكل شيء، عدا الأشياء التي تستحق أن نعطيها من أوقاتنا. فكر في شيء تهتم به بحق، ثم اجمع الساعات، واحسب الجزء من حياتك الذي قضيته بالفعل في فعل هذا الشيء، ثم احسب الوقت الذي قضيته في أشياء كالحلاقة، أو ركوب الحافلات ذهابا وإيابا، أو انتظار القطار، أو الانتظار في ملتقى الطرق، أو في تبادل النكات البذيئة، أو في قراءة الصحف.
بعد أن أتممت عامي السادس عشر، لم أذهب للصيد مرة أخرى، فلم يبد قط أن لدي وقتا له. كنت أعمل، وأطارد الفتيات، وأرتدي أول حذاء بأزرار وأول ياقة عالية (ولكي ترتدي ياقات عام 1909، تحتاج إلى رقبة كرقبة الزرافة)، وأحضر دورات بالمراسلة في فن البيع والمحاسبة و«تحسين المهارات الذهنية». كان السمك الكبير لا يزال يسبح في أرجاء البركة خلف منزل بينفيلد، ولم يعلم أحد سواي عنه شيئا. وكان قابعا في ذاكرتي؛ فلربما في يوم من الأيام، في عطلة رسمية، أذهب وأصطاده. ولكنني لم أرجع إلى هناك قط. كان لدي وقت لكل شيء ما عدا الصيد. من المثير للدهشة أن الوقت الوحيد في تلك الفترة الذي كدت أذهب فيه للصيد كان في أثناء الحرب.
كان ذلك في خريف عام 1916، مباشرة قبل أن أصاب في الحرب. كنا قد خرجنا من الخنادق إلى قرية خلف خط النار؛ وعلى الرغم من أننا كنا في شهر سبتمبر، فقد كان الوحل يغطينا من رأسنا إلى أخمص أقدامنا. كالعادة، لم نكن نعلم بالتحديد المدة التي سنقضيها هناك، أو أين سنذهب بعد ذلك. ولحسن الحظ، كان قائد السرية في حالة سيئة بعض الشيء، فقد أصيب بالتهاب شعبي أو شيء من هذا القبيل، ولذا لم يكن يهتم بإقامة العروض العسكرية المعتادة، وعمليات التفتيش على الأسلحة، ومباريات كرة القدم، وغيرها من الأمور التي كان من المفترض أن تبقي على الروح المعنوية للجنود عندما لا يكونون في ميدان المعركة. قضينا نهار اليوم الأول في الاستلقاء على أكوام القش في الحظائر التي كنا نبيت فيها، وفي كشط الوحل من على جراميقنا، وفي المساء، بدأ بعض الشباب يصطفون أمام منزل عاهرتين قبيحتين بائستين في أطراف القرية. في الصباح، على الرغم من أنه كان مخالفا للقوانين أن نترك القرية، تمكنت من التسلسل والتجول حول الأطلال المروعة التي كانت حقولا في يوم من الأيام. كان صباحا رطبا وغائما، وفي كل مكان حولنا بالطبع كان روث الحيوانات الكريه وركام الحرب، تلك الفوضى فاحشة القذارة التي هي أسوأ في الحقيقة من ميدان المعركة المليء بالجثث. كان هناك أشجار مقطوعة الأغصان، وحفر قذائف مدفعية قديمة ملئت بعض الشيء مرة أخرى، وعبوات معدنية، وروث، ووحل، وعشب، وأكوام من الأسلاك الشائكة الصدئة والعشب نام خلالها. أنت بالطبع تعرف ذلك الإحساس الذي تشعر به عندما تخرج من خط النار؛ إحساس بالتيبس في كل مفاصلك، وبداخلك نوع من الفراغ؛ إحساس بأنك لن تعود تهتم بأي شيء أبدا في حياتك. كان إلى حد ما لدي شعور بالخوف والإنهاك، ولكنه في الأساس شعور بالضجر. في ذلك الوقت، لم يكن أحد يرى أي سبب لعدم استمرار الحرب إلى الأبد؛ فاليوم أو الغد أو بعد غد كنت ستعود إلى المعركة، وربما في الأسبوع القادم ستفجرك قذيفة فتصبح كاللحم المحفوظ، ولكن ذلك لم يكن سيئا بقدر الشعور المروع بالملل في الحرب التي كانت ستستمر للأبد.
كنت أتجول على جانب سياج عندما قابلت شابا من سريتنا لا أتذكر اسم عائلته، ولكنني أتذكر أن كنيته كانت نوبي. كان أسمر البشرة محدبا وبهيئة غجرية، وحتى في زيه العسكري كان يعطي دائما انطباعا كما لو أنه يحمل زوجا من الأرانب المسروقة. بحكم المهنة، عرفت أنه كان بائعا متجولا وأنه ينتمي حقيقة لأبناء الطبقة العاملة، ولكنه من هؤلاء الذين يتكسبون بعض قوتهم بجمع نبات حشيشة الدينار، وصيد الطيور، والصيد غير المشروع، وسرقة الفاكهة في كنت وإسيكس. وكان ذا خبرة كبيرة في الكلاب، وحيوانات ابن مقرض، وطيور الأقفاص، وديوك القتال، ومثل تلك الأشياء. وبمجرد أن رآني أومأ إلي برأسه، وكانت له طريقة خبيثة وشريرة في الكلام؛ إذ قال : «أنت! يا جورج!» (كان الناس لا يزالون يدعونني جورج فحسب في ذلك الوقت، فلم أكن قد صرت بدينا بعد.)
ثم أضاف: «جورج! هل ترى هذه المجموعة من شجيرات الحور على الجانب الآخر من الحقل؟» «أجل.» «حسنا، ثمة بركة على الجانب الآخر منها، وهي مليئة بالسمك الشديد الضخامة.» «سمك؟! أنت تكذب!» «صدقني إنها مليئة بشدة بالسمك. إنها أسماك الفرخ، وهي أسماك من أفضل ما رأت عيني. تعال وشاهدها بنفسك.»
خضنا في الطين معا، وبالطبع كان نوبي على حق؛ فعلى الجانب الآخر من شجيرات الحور، كانت ثمة بركة قبيحة المنظر بضفاف رملية. وكان من الواضح أنها كانت محجرا في يوم من الأيام، وقد امتلأت بالماء بعد ذلك، وكانت تعج بأسماك الفرخ، التي يمكنك رؤية ظهورها المخططة باللون الأزرق الداكن تسبح في كل مكان أسفل سطح الماء، ولا بد أن بعضها كان وزنه يصل إلى الرطل. أظن أنه طوال عامين من الحرب لم يعكر صفوها شيء وكان لديها الوقت للتكاثر. قد لا تتخيل وقع رؤية تلك الأسماك علي. كان الأمر كما لو أنها قد أرجعتني فجأة إلى الحياة. بالطبع كانت ثمة فكرة واحدة في ذهني وذهن صاحبي، وهي كيف نحصل على قصبة وخيط للصيد.
قلت: «يا إلهي! سنحصل على البعض منها.» «بالتأكيد. هيا نرجع إلى القرية ونحضر بعض أدوات الصيد.» «حسنا. لكن يجب أن نحذر؛ فلو عرف الرقيب، فسنعاقب.» «أوه، اللعنة على الرقيب. فليشنقوني ويسلخوني ويقطعوني إربا إن أرادوا، لكنني سأحصل على بعض من هذا السمك اللعين.»
لا يمكنك أن تتخيل كم كنا متحمسين لصيد هذا السمك! أو ربما يمكنك إن كنت قد ذهبت إلى الحرب يوما، إذ كنت ستعرف ذلك الضجر الجنوني الذي تسببه الحرب، وكيف تنتهز أي فرصة لأي نوع من التسلية. رأيت رجلين يتشاجران بضراوة في أحد المخابئ حول نصف مجلة ثمنها ثلاثة بنسات. ولكن الأمر تخطى ذلك. لقد كنا نريد الهروب، ربما ليوم كامل، بعيدا عن أجواء الحرب، والجلوس أسفل أشجار الحور وصيد الفرخ بعيدا عن السرية وعن الضوضاء والجدال وعن الزي العسكري والضباط والتحيات العسكرية وصوت الرقيب! الصيد عكس الحرب، ولكن لم يكن من المؤكد على الإطلاق أننا سنحظى به. كانت هذه هي الفكرة التي حمستنا. إذا اكتشف الرقيب الأمر، فسيوقفنا بالتأكيد، وكذلك أي من الضباط؛ والأدهى من ذلك أنه لم يكن أحد يعلم كم سنقضي في هذه القرية، فقد نظل هناك أسبوعا، وقد نغادرها في غضون ساعتين. وفي الوقت نفسه، لم يكن لدينا أي أدوات للصيد من أي نوع، ولا حتى دبوس أو أي نوع من الخيوط، فكان علينا أن نعد بعضها بأنفسنا، وكانت البركة تعج بالأسماك! أداة الصيد الأساسية كانت القصبة. وقصبة من خشب الصفصاف هي الأفضل، ولكن بالطبع لم تكن ثمة أشجار صفصاف في أي مكان على مرمى البصر. تسلق نوبي شجرة حور، وقطع غصنا صغيرا لم يكن جيدا في الواقع، ولكنه كان أفضل من لا شيء. ثم شذبه بمطواته حتى تشكل شيء كقصبة الصيد، ثم أخفيناها في العشب بالقرب من الضفة، وتمكنا من التسلسل رجوعا إلى القرية دون أن يرانا أحد.
الأداة الثانية كانت الإبرة لنصنع بها خطافا، ولكن لم يكن مع أحد إبرة. كان ثمة رجل معه إبر رفو، ولكنها كانت سميكة للغاية ولها طرف غير حاد. ولم نكن نجرؤ على أن نعلم أحدا بما نريدها لأجله؛ لخوفنا من أن يسمع الرقيب بالأمر. وفي النهاية، فكرنا في العاهرتين في أطراف القرية، فبالتأكيد كان لديهما إبرة. وعندما ذهبنا إليهما - كان عليك أن تلف للباب الخلفي عبر فناء قذر - وجدنا المنزل مغلقا والعاهرتين نائمتين، فقد كانتا بلا شك تستحقان الراحة. نادينا عليهما وطرقنا الباب حتى خرجت لنا بعد عشر دقائق سيدة قبيحة وبدينة ومتدثرة بدثار، وصرخت في وجهنا بالفرنسية. صرخ نوبي في وجهها، قائلا: «إبرة! إبرة! ألديك إبرة؟»
بالطبع لم تكن تفهم ما يقول. حاول نوبي بعد ذلك الحديث بلغة مبسطة، توقع أن تفهمها كما يفهمها الأجانب، وقال: «نريد إبرة! لخياطة الملابس! كهذه!»
أشار بيديه على نحو من المفترض أنه يمثل به عملية الخياطة، ولكن العاهرة لم تفهمه وفتحت الباب أكثر قليلا لندخل. وفي النهاية تمكنا من إفهامها وحصلنا على الإبرة. ولكننا كنا في وقت الغداء.
وبعد الغداء عاد الرقيب إلى الحظيرة التي نبيت فيها بحثا عن رجال للعمل. تمكنا من تفاديه في الوقت المناسب بالاختباء أسفل كومة من القش. وعندما غادر أشعلنا شمعة، ووضعنا الإبرة على لهبها فتمكنا من ثنيها لتصبح أشبه بالخطاف. ولم تكن لدينا أي أدوات أخرى غير مطواتينا، فتسببنا في إصابة أصابعنا بحروق جسيمة. الشيء التالي كان الخيط، ولم يكن مع أي أحد خيوط غير خيوط سميكة، ولكننا في النهاية قابلنا بالصدفة رجلا معه بكرة من خيوط الخياطة. لم يكن يريد أن يعطينا إياها، وكان علينا أن نعطيه علبة كاملة من السجائر ليعطينا الخيط. كان سمك الخيط رفيعا جدا، ولكن نوبي قطعه بالطول إلى ثلاثة خيوط، وربطها بمسمار في الحائط، ثم ضفرها بعناية. في الوقت نفسه وبعد البحث في جميع أرجاء القرية، تمكنت من العثور على سدادة قنينة، وقطعتها إلى نصفين وغرزت فيها عود ثقاب لأصنع فلينة الصيد. كنا في المساء في ذلك الحين، وكانت السماء على وشك الإظلام.
كنا قد حصلنا على الأساسيات، ولكننا كنا بحاجة إلى بعض الأحشاء، ولم يبد أن ثمة أملا كبيرا في الحصول عليها حتى فكرنا في حاجب المستشفى. لم تكن الخيوط الجراحية الطبيعية جزءا من أدواته، ولكن كان من الممكن أن يكون لديه بعض منها. بالتأكيد عندما سألناه وجدنا أن لديه لفافة كاملة منها في حقيبة ظهره، فقد أثارت إعجابه في مستشفى ما وسرقها. أعطيناه علبة أخرى من السجائر مقابل عشر قطع من تلك الخيوط، والتي كانت هشة ومتعفنة، وكان طول القطعة الواحدة يبلغ ست بوصات تقريبا. بعد حلول الظلام، نقعها نوبي حتى أصبحت مرنة، وربطها طرفا بآخر. بذلك، كنا في ذلك الحين قد حصلنا على كل شيء؛ خطاف، وقصبة، وخيط، وفلينة، وأحشاء، ويمكننا أن نحفر الأرض ونحصل على الديدان من أي مكان. وكانت البركة تعج بالأسماك! أسماك الفرخ المخططة الضخمة التي كانت تنادينا لنصطادها ! استلقينا لنرتاح ونحن يملؤنا الحماس لدرجة أننا لم نخلع أحذيتنا. غدا! آه لو يأتي الغد! ويا ليت الحرب تنسانا ولو ليوم واحد! عزمنا أمرنا على أنه بمجرد انتهاء طابور التمام سننطلق ونقضي اليوم كله، حتى إن طبقوا علينا عقوبة الميدان رقم واحد عند رجوعنا.
حسنا، أتوقع أنه يمكنك تخمين باقي ما حدث. كانت الأوامر في طابور التمام هي حمل جميع العدد والتجهز للسير خلال عشرين دقيقة. مشينا مسافة تسعة أميال على الطريق، ثم ركبنا الشاحنات التي نقلتنا إلى نقطة أخرى من خط النار. أما عن البركة أسفل أشجار الحور، فلم أرها أو أسمع عنها مرة أخرى قط، وأتوقع أن تكون قد سممت بغاز الخردل فيما بعد.
منذ ذلك الحين، لم أذهب للصيد قط؛ فلم تواتني الفرصة قط، فقد أكملت الحرب، ثم صارعت كالجميع من أجل الحصول على وظيفة، ثم حصلت على وظيفة أو لنقل هي التي حصلت علي. كنت شابا واعدا في عملي في أحد مكاتب التأمين - كنت أحد رجال الأعمال الشباب المتحمسين والحازمين والطموحين الذين تقرأ عنهم في إعلانات كلية كلارك - ثم أصبحت من هؤلاء المهمشين المعتادين الذين يتقاضون من خمسة إلى عشرة جنيهات في الأسبوع، والذين يسكنون منزلا شبه منفصل في الضواحي الداخلية والخارجية. مثل هؤلاء الناس لا يذهبون للصيد، تماما مثلما لا يذهب سماسرة البورصة لقطف زهور الربيع، فلا يلائمهم هذا الشيء، وإنما لهم وسائل تسلية أخرى.
إنني بالطبع أحصل على إجازتي التي تبلغ أسبوعين في كل صيف. إنك تعلم هذا النوع من الإجازات: مارجيت، يارموث، إيستبورن، هاستينجز، بورنموث، برايتون. يختلف الأمر حسب وضعنا المادي كل عام. وعندما تكون متزوجا من امرأة مثل هيلدا، تصبح السمة المميزة للإجازة هي الحساب الذهني غير المنتهي لمعرفة القدر الذي يحتال عليك فيه صاحب النزل. هذا علاوة على كلمة «لا» التي تقال للطفلين إن أرادا الحصول على دلو رمال جديد. منذ بضع سنوات، ذهبنا إلى بورنموث، وبعد ظهيرة أحد الأيام اللطيفة ذهبنا في نزهة على الرصيف البحري، الذي لا بد أن طوله كان نحو نصف ميل، وكان على امتداده بالكامل رجال يصطادون بصنارات سميكة بها أجراس صغيرة في أطرافها، وكانت خيوطها تمتد مسافة خمسين ياردة في البحر. إنه نوع من الصيد الممل ولم يكونوا يصطادون أي شيء، ولكنهم على أي حال ذهبوا للصيد. سرعان ما شعر الطفلان بالملل وجعجعوا للرجوع إلى الشاطئ، ورأت هيلدا أحد الرجال وهو يغرس دودة رملية في خطافه، فقالت إن ذلك أصابها بالغثيان، ولكنني مكثت أتسكع جيئة وذهابا لأظل هناك وقتا أطول. وفجأة، صدرت صلصلة مهولة من جرس، وكان الرجل يتمايل مع خيطه، فتوقف الجميع ليشاهده. وبالطبع خرج الخيط المبلل والقطعة الرصاصية وفي طرفها سمكة مسطحة ضخمة (كانت من نوع سمك الفلاوندر على ما أعتقد) متدلية تتلوى. وضعها الرجل على لوح الرصيف البحري، وكانت ترفرف لأعلى ولأسفل مبتلة ولامعة بظهرها المتثألل الرمادي وبطنها الأبيض ورائحة الملح المنعشة للبحر المنبعثة منها. وهنا تحرك شيء بداخلي.
قلت عرضيا ونحن مغادرون، فقط لأختبر رد فعل هيلدا: «أفكر في أن أنتهز فرصة وجودنا هنا وأصطاد قليلا.» «ماذا؟! أتريد الذهاب للصيد يا جورج؟ ولكنك لا تعرف كيف تصطاد، أليس كذلك؟» قلت لها: «أوه، لقد كنت صيادا ماهرا.»
عارضت الفكرة على نحو غامض كعادتها، ولكنها لم تجد ما تجادلني به سوى أنني إذا ذهبت للصيد فلن تأتي معي لتشاهدني وأنا أضع تلك الأشياء الزلقة المقرفة في الخطاف. وفجأة أدركت أنني إن ذهبت للصيد، فإن الأدوات التي سأحتاجها من قصبة وخيط وغيرها ستكلفنا ما يقرب من جنيه كامل، حيث إن القصبة وحدها بعشرة شلنات؛ فاستثارت غضبا على الفور. لم تر العجوز هيلدا وهي تتحدث عن إنفاق عشرة شلنات. لذا عنفتني قائلة: «من غير المعقول أن ننفق كل ذلك المال على شيء كهذا! هذا سخف! وكيف يجرءون على بيع الواحدة من قصبات الصيد الوضيعة السخيفة تلك بعشرة شلنات! إنه لشيء مخز. ثم أتذهب للصيد وأنت في عمرك هذا؟! رجل ناضج وبدين مثلك يذهب للصيد! لا تصغر نفسك يا جورج.»
ثم تدخل الطفلان، فمالت لورنا علي وسألتني بطريقتها السخيفة: «هل أنت طفل يا أبي؟» وبيلي الصغير، الذي كان في ذلك الوقت بالكاد تعلم الكلام، صاح مسمعا الجميع: «أبي طفل.» وفجأة، كان الطفلان يرقصان حولي، ويخشخشان بدلوي الرمال خاصتهما ويغنان: «أبي طفل! أبي طفل!»
يا لهما من وغدين صغيرين مجنونين!
6
إلى جانب صيد السمك، كنت أهوى القراءة.
لقد بالغت حين أعطيتك الانطباع بأن الصيد هو الشيء الوحيد الذي كنت أهتم به. بالطبع يأتي الصيد في المقام الأول، ولكن القراءة كانت ثاني أفضل الأشياء لدي. لا بد أنني كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري عندما بدأت في القراءة، وأعني بالقراءة هنا القراءة الطوعية. في تلك السن، كان الأمر أشبه باكتشاف عالم جديد. وما زلت حتى الآن أقرأ كثيرا، ففي واقع الأمر لا تمر أسابيع كثيرة دون أن أقرأ فيها روايتين؛ فأنا ما يمكنك أن تطلق عليه المشترك النموذجي في مكتبة بوتس، ودائما ما أنجذب للكتب التي تحقق أفضل المبيعات في كل حين («الرفقاء الطيبون»، «رماح البنغال»، «قلعة صانع القبعات»؛ لقد أغرمت بكل واحد منها)، وكنت كذلك عضوا في نادي كتاب اليسار لمدة عام أو أكثر. وفي عام 1918، عندما كنت في الخامسة والعشرين، انغمست في القراءة، الأمر الذي غير أفكاري تغييرا كبيرا، ولكن لا شيء يعادل السنوات الأولى هذه التي تكتشف فيها فجأة أنه بإمكانك أن تفتح صحيفة أسبوعية تشتريها ببنس واحد وتنغمس على الفور في خفايا اللصوص وأوكار المخدرات الصينية وجزر بولينيزيا وغابات البرازيل.
منذ أن كنت في الحادية عشرة وحتى أصبحت في السادسة عشرة تقريبا وأنا متعتي الكبرى كانت في القراءة. في البداية، كنت أقرأ الصحف الأسبوعية الموجهة للأولاد التي كنا نشتريها ببنس، وكانت أوراقها صغيرة ورقيقة وطباعتها رديئة، وكانت الرسوم التوضيحية فيها بثلاثة ألوان على صفحة الغلاف؛ وبعد ذلك بقليل أصبحت أقرأ الكتب؛ شيرلوك هولمز، الدكتور نيكولا، القرصان الحديدي، دراكولا، رافلز. كما كنت أقرأ لنات جولد ورنجر جول، ورجل نسيت اسمه كان يكتب قصص الملاكمة بالإيقاع السريع نفسه تقريبا الذي كان نات جولد يكتب به قصص السباقات. أعتقد أن والدي لو كانا قد حصلا على تعليم أفضل قليلا، لكانا جعلاني أقرأ كتبا «جيدة»، ككتب ديكنز وثاكراي ومن على شاكلتهما، وفي الواقع، لقد جعلونا نقرأ رواية «كوينتين دوروارد» في المدرسة، وكان عمي إيزيكيال يحاول في بعض الأحيان حثي على القراءة لراسكين وكارلايل. ولكن لم تكن في الواقع ثمة كتب في منزلنا؛ فلم يقرأ أبي كتابا قط في حياته باستثناء الكتاب المقدس وكتاب «الاعتماد على الذات» للكاتب سمايلز، ولم أقرأ من نفسي كتابا «جيدا» إلا في وقت لاحق على ذلك بكثير. لست آسفا على جريان الأمور على ذلك النحو؛ فلقد قرأت الكتب التي أردت قراءتها، وتعلمت منها أكثر مما تعلمت من الكتب التي كانوا يجعلوننا نقرؤها في المدرسة.
كانت كتب القصص المثيرة القديمة الرخيصة في طريقها إلى الاختفاء بالفعل عندما كنت صغيرا، وبالكاد أتذكرها؛ ولكن كانت ثمة إصدارات أسبوعية من القصص الموجهة للأولاد، التي لا يزال بعض منها موجودا اليوم. اختفت قصص بافالو بيل، على ما أعتقد، ولم يعد أحد على الأرجح يقرأ لنات جولد، ولكن يبدو أن كتب نيك كارتر وسيكستون بليك لا تزال محتفظة بمكانتها. بدأت سلسلتا «ذا جيم» و«ذا ماجنيت»، إن كنت أتذكر جيدا، عام 1905 تقريبا. وكانت مجلة «بي أو بي» لا تزال سيئة الطباعة للغاية في تلك الأيام، ولكن مجلة «تشومز»، التي أعتقد أنها ظهرت في عام 1903، كانت رائعة. ثم كانت لدينا كذلك الموسوعة، التي لا أتذكر اسمها بالتحديد، والتي كانت أعدادها تصدر بثمن زهيد. ولم يبد أنها تستحق الشراء، ولكن أحد الأولاد في المدرسة كان يعطينا أحيانا أعدادا منها. وإن كنت أعلم الآن طول نهر المسيسيبي أو الفرق بين الأخطبوط والحبار أو التكوين الدقيق لمعدن الأجراس، فهذه الموسوعة هي التي تعلمت منها ذلك.
أما جو، فلم يقرأ قط. لقد كان من هؤلاء الأولاد الذين يذهبون إلى المدرسة لعدة سنوات، ولكنهم لا يستطيعون قراءة عشرة أسطر على نحو متتال. كانت رؤية الأحرف المطبوعة تجعله يشعر بالغثيان. رأيته في مرة وهو يأخذ أحد أعداد مجلة «تشومز» الخاصة بي؛ قرأ فقرة أو فقرتين ثم انصرف باشمئزاز بالطريقة نفسها التي يتحرك بها الحصان عندما يشم رائحة التبن الفاسد. وقد حاول أن يبعدني عن القراءة، ولكن أمي وأبي، اللذين كانا قد قررا أنني كنت «الأفلح»، دعماني. وكانا شديدي الفخر بأنني أظهرت اهتماما في «التعلم عن طريق القراءة» كما أطلقا عليه. ولكن كان من المعتاد من كليهما أن يشعرا بالاستياء الغامض من قراءتي لأشياء مثل «تشومز» و«يونيون جاك»؛ واعتقدا أنه ينبغي علي قراءة أشياء «أكثر فائدة»، ولكنهما لم يكونا يعرفان الكثير عن الكتب لمعرفة أي منها «الأكثر فائدة». وأخيرا، حصلت أمي على نسخة مستعملة من «كتاب الشهداء» لفوكس، الذي لم أقرأه، ولكن الرسوم التوضيحية فيه لم تكن سيئة.
طوال شتاء عام 1905، كنت أنفق بنسا كل أسبوع على مجلة «تشومز»، وكنت أتابع قصتها المسلسلة «دونوفان الشجاع». كان دونوفان الشجاع مستكشفا عينه مليونير أمريكي لجلب أشياء مذهلة من بقاع متنوعة من الأرض. في بعض الأحيان كان يجلب ماسات بحجم كرات الجولف من فوهات البراكين في أفريقيا، وأحيانا أخرى كان يجلب العاج من حيوانات الماموث المتحجرة في غابات سيبيريا المتجمدة، وأحيانا أخرى كان يجلب كنوز الإنكا المدفونة في المدن المفقودة في بيرو. كان دونوفان يذهب في رحلة جديدة كل أسبوع، وكان دائما موفقا. مكاني المفضل للقراءة كان في العلية خلف الساحة؛ ففيما عدا الأوقات التي كان أبي يخرج فيها أجولة الحبوب الجديدة، كانت العلية أهدأ مكان في المنزل. كانت ثمة أكوام ضخمة من الأجولة المتراصة، وبعض من رائحة الجص المخلوطة برائحة العنبريس؛ كما كانت هناك أكوام من شبكات العناكب تخيم على جميع الأركان؛ وأعلى المكان الذي كنت أستلقي فيه مباشرة، كان ثمة تجويف في السقف ولوح خشبي بارز من الجص. يمكنني الشعور بالإحساس نفسه الآن؛ إذ أرى نفسي في أحد أيام فصل الشتاء، وقد حصلت على الدفء الكافي لأزال مستلقيا بلا حراك. أراني مستلقيا على بطني فاتحا صفحات مجلة «تشومز» أمامي، وأرى فأرا يجري إلى أعلى بجوار أحد الأجولة كما لو كان لعبة بزنبرك، ثم فجأة يتسمر في مكانه ويشاهدني بعينيه الصغيرتين كخرزتي كهرمان. أنا في الثانية عشرة من عمري ولكني دونوفان الشجاع، الذي ينصب خيمته على بعد ألفي ميل في أعالي الأمازون، ويحتفظ بجذور الأوركيد الغامض الذي يزهر مرة كل مائة عام في الصندوق الصفيح أسفل سريره في الخيمة. وفي الغابات التي تحيط بي من كل جانب هنود الهوبي هوبي، الذين يطلون أسنانهم باللون القرمزي، ويسلخون الرجال البيض أحياء، يقرعون طبول الحرب. كل ذلك وأنا أشاهد الفأر والفأر يشاهدني، ويمكنني أن أشم رائحة الغبار والعنبريس والجص الرطب، وأنا في أعالي الأمازون؛ إنه النعيم، النعيم الخالص.
7
كان هذا هو كل شيء في الواقع.
حاولت أن أخبرك قليلا عن عالم ما قبل الحرب؛ ذلك العالم الذي وجدت عبقه عندما رأيت اسم الملك زوجو في الصحيفة، ولكني لم أخبرك شيئا؛ فإذا كنت تتذكر عهد ما قبل الحرب فأنت إذن لا تحتاج إلى من يخبرك عنه، وإذا كنت لا تتذكره فلا طائل من إخبارك عنه. حتى الآن لم أتحدث إلا عن أشياء حدثت لي قبل أن أتم عامي السادس عشر؛ وحتى ذلك العمر كانت الأمور على خير حال مع عائلتي. قبل عيد ميلادي السادس عشر بقليل، بدأت أفهم بعضا مما يطلق عليه الناس «الواقع»، الذي اكتشفت أن معناه التعاسة.
بعد نحو ثلاثة أيام من رؤيتي لأسماك الشبوط الكبيرة في منزل بينفيلد، أتى أبي وقت الشاي وهو يبدو عليه القلق الشديد حتى إنه بدا أكثر كآبة وشحوبا عن العادة. أكل بطريقته المهيبة وشرب الشاي ولم يتحدث كثيرا. في تلك الأيام، كانت له طريقة في تناول الطعام تنم عن أن ثمة ما يشغل باله كثيرا، وكان شاربه دائم التحرك لأعلى وأسفل في حركة جانبية؛ لأنه لم يكن قد تبقى في فمه الكثير من الأسنان الخلفية. وكنت قد قمت لتوي من أمام الطاولة عندما ناداني قائلا: «انتظر دقيقة يا جورج يا بني. لدي شيء أريد أن أقوله لك. اجلس فقط لدقيقة. سمعت يا حبيبتي ما أريد قوله ليلة أمس.»
كانت أمي خلف إبريق الشاي البني الكبير، طاوية يديها على حجرها وقد بدت عليها التعاسة. استأنف أبي حديثه، وكان يتحدث بجدية بالغة كان يخفف كثيرا من وقعها محاولته إخراج فتات الخبز المستقر في مكان ما فيما تبقى من أسنانه الخلفية، وقال: «جورج يا بني، ثمة شيء أريد أن أخبرك به. كنت أفكر مليا في الموضوع، المتمثل في الوقت الذي ستترك فيه المدرسة. للأسف، ستضطر إلى أن تبدأ في الذهاب إلى العمل الآن وأن تكسب بعض المال لترجع به إلى المنزل لأمك. وقد كتبت للسيد ويكسي ليلة أمس، وأخبرته أنني يجب أن أخرجك من المدرسة.»
بالطبع كان الأمر معدا سابقا تماما، أعني كتابته للسيد ويكسي قبل أن يخبرني؛ فقد كان الآباء في تلك الأيام بطبيعة الحال يرتبون دائما كل شيء يتعلق بأبنائهم دون استشارتهم.
استكمل أبي حديثه بمزيد من التمتمة وتعبيرات القلق؛ فلقد «مرت عليه أوقات عصيبة مؤخرا»، وكانت الأمور «صعبة بعض الشيء»، والمحصلة كانت أنه يجب علي أنا وجو أن نبدأ في كسب قوتنا. في ذلك الوقت، لم أكن أعلم أو أهتم كثيرا بما إذا كان ثمة مشكلة في عمل أبي بالفعل أم لا؛ ولم يكن لدي حتى ما يكفي من النزعة التجارية التي تمكنني من رؤية الأسباب التي تجعل الأمور «صعبة». الحقيقة كانت أن أبي هزم في منافسة؛ إذ كان آل سارازينز، وهم من كبار تجار الحبوب بالتجزئة ولهم فروع في كل أقاليم البلاد، قد حطوا أرجلهم في لوير بينفيلد. لقد استأجروا قبل ستة أشهر متجرا في السوق؛ وبالغوا في تزيينه بالطلاء الأخضر الساطع، والأحرف المطلية بالذهب، مع طلاء أدوات البستنة بالأحمر والأخضر، وعمل إعلانات عملاقة عن البازلاء العطرية بحيث تجذب انتباهك على مسافة مائة ياردة. كان آل سارازينز، بجانب بيعهم لحبوب الزهور، يصفون أنفسهم بأنهم «متعهدو أعلاف دواجن عالميون»، وفضلا عن القمح والشوفان وغيرهما من الحبوب، كانت لديهم خلطات أعلاف دواجن مسجلة باسمهم، وحبوب طيور معبأة بأناقة، وبسكويت كلاب بجميع الأشكال والألوان، وأدوية ، ومراهم، ومساحيق ترطيب؛ كما تفرع نشاطهم لأشياء مثل مصائد الفئران، وسلاسل الكلاب، وحاضنات البيض، والبيض الصحي، وكل ما يخص رعاية الطيور، والمصابيح الكهربائية، ومبيدات الأعشاب الضارة، والمبيدات الحشرية؛ حتى إنهم في بعض فروعهم كان لديهم قسم خاص للأرانب والفراخ الصغيرة في عمر يوم. لم يستطع أبي، بمتجره القديم الذي يملؤه الغبار ورفضه لبيع أغراض جديدة، أن يخوض ذلك النوع من المنافسة، ولم يكن يرغب في خوضها. أما التجار من أصحاب عربات الخيول والمزارعين الذين يتعاملون مع تجار الحبوب بالتجزئة، فقد حاولوا تجنب مواجهة آل سارازينز؛ ولكن في غضون ستة أشهر، تجمعوا حول أبناء الطبقة العليا الصغيرة في الحي، الذين كانوا في تلك الأيام يملكون العربات الكبيرة والصغيرة. هذا يعني خسارة كبيرة لأبي ولتاجر الذرة الآخر، وينكل. لم أع أيا من ذلك في وقته؛ فقد كنت أتصرف كالصبية تجاه كل شيء، ولم يكن لدي أي اهتمام قط بالتجارة، ولم أقف في متجر قط أو بالكاد وقفت؛ وفي الأحيان النادرة التي كان أبي يريد مني فيها أن أؤدي مهمة أو أساعده في شيء ما، كرفع أجولة الحبوب إلى العلية أو إنزالها منها، كنت دائما أتهرب منه كلما أمكنني. لم يكن الأولاد في مدرستي يتصرفون بطفولية كأولاد المدارس العامة؛ فقد كانوا يقدرون قيمة العمل والنقود، لكن بدا من الطبيعي أن يرى الابن أن عمل أبيه أمر ممل. وحتى ذلك الوقت، كانت قصبات الصيد والدراجات وشراب الليمون الفوار وغيرها من الأشياء تبدو لي أكثر واقعية من أي شيء يحدث في عالم الكبار.
كان أبي قد تحدث بالفعل مع العجوز جريميت، البقال، الذي كان يريد فتى ذكيا للعمل معه وكان على استعداد في أن أبدأ عملي في متجره على الفور. في تلك الأثناء، كان أبي سيتخلص من الصبي الذي كان يساعده في المتجر، وكان جو سيبقى في المنزل لمساعدته في المتجر حتى يحصل على عمل. كان جو قد ترك المدرسة قبل ذلك، ولم يكن يفعل شيئا سوى التسكع منذ ذلك الحين. وكان أبي يتحدث أحيانا عن إلحاقه بقسم المحاسبة في مصنع الجعة؛ حتى إنه كان يفكر قبل ذلك في جعله يعمل بائع مزادات. ولكن العملين كانا مستحيلين تماما؛ فقد كان خط يد جو في سن السابعة عشرة سيئا كخط صبي يجر ماشية الحرث، ولم يكن يحفظ جدول الضرب. في ذلك الوقت، كان من المفترض أن يكون قد «تعلم صنعة» في متجر دراجات كبير بضواحي وولتن. إن تصليح الدراجات يناسب جو، الذي كان كمعظم الحمقى يميل بعض الشيء إلى الأعمال الميكانيكية؛ ولكنه كان غير قادر على الإطلاق على العمل بانتظام، وقضى كل وقته في التسكع مرتديا رداء العمل المليء بالشحم، ومدخنا للسجائر، ومنخرطا في المشاجرات، ومنهمكا في شرب الخمر (التي كان قد بدأ في شربها في ذلك الوقت بالفعل)، و«مواعدة» الفتيات الواحدة تلو الأخرى، والإلحاح في طلب النقود من أبي. كان أبي يشعر بالقلق والحيرة والاستياء الغامض. ما زلت أراه والطحين على رأسه الأصلع، والشعر الأشيب القليل حول أذنيه، ونظارته، وشاربه الرمادي. لم يستطع أن يفهم ما كان يحدث له؛ لسنوات ظلت أرباحه تعلو ببطء وبوتيرة منتظمة؛ عشرة جنيهات هذه السنة، وعشرون جنيها في تلك السنة، ثم فجأة هبطت هبوطا مروعا. لم يستطع فهم الأمر؛ فلقد ورث العمل عن أبيه، وتاجر بأمانة، وعمل بجد، وباع بضائع جيدة، ولم يغش أحدا، ولكن أرباحه كانت في هبوط. قال عدة مرات، وهو يمصمص أسنانه ليخرج من بينها فتات الطعام، إن الأوقات كانت عصيبة؛ إذ بدت التجارة شديدة الكساد، ولم يستطع أن يفهم ما حدث للناس، فكما لو أن الخيول لم تعد تأكل. ربما كان السبب هو انتشار السيارات، هكذا قرر في النهاية. علقت أمي قائلة: «تلك الخردة النتنة!» وكانت أقل قلقا، وتعلم أنه كان عليها أن تكون أكثر قلقا. ومرة أو مرتين أثناء حديث أبي، كانت ثمة نظرة غائبة في عينيها، وكنت أرى شفتيها تتحركان. كانت تحاول أن تتخذ قرارا إذا ما كانت ستطهو غدا لحم البقر بالجزر أو ساق ضأن أخرى. وباستثناء الأحيان التي يكون فيها شيء تهتم به يحتاج إلى بعد نظر، كشراء البياضات أو القدور، لم يكن تفكيرها في الواقع يمتد لما هو أبعد من وجبات الغد. لم يكن المتجر يعمل بشكل جيد وكان أبي قلقا؛ هذا تقريبا كل ما كانت تراه في الأمر. ولم يدرك أحد منا أي شيء عما كان يحدث. مرت على أبي سنة سيئة وخسر ماله، ولكن هل كان حقا خائفا من المستقبل؟ لا أظن ذلك. أتذكر أنه كان العام 1909، ولم يكن يعلم ما كان يحدث له؛ فلم يكن قادرا على إدراك أن آل سارازينز سيبيعون بأثمان أرخص منه ويدمرونه ويقضون على تجارته. كيف يمكنه أن يدرك ذلك؟ فلم تكن الأمور تسير بتلك الطريقة في شبابه؛ وجل ما عرفه هو أن الأوقات كانت عصيبة، وأن التجارة شديدة «الكساد» وشديدة «البطء» (كان يكرر هذه العبارات مرارا وتكرارا)، ولكن الأمور ربما «تزدهر عما قريب».
سيكون من الجيد إن كان باستطاعتي أن أقول إنني كنت مصدر عون كبير لأبي في محنته، وإنني وجدت نفسي فجأة أتصرف كالرجال، وأظهرت صفات لم يتوقعها مني أحد، وما إلى هذا، كما يحدث في الروايات الأخلاقية التي كنت تقرؤها منذ ثلاثين سنة. أو أقول بدلا من ذلك إنني أعلنت عن استيائي وألمي الشديد لاضطراري إلى ترك المدرسة، وأن عقلي الشاب الطموح والشغوف بالمعرفة والتهذيب أراد تجنب العمل الميكانيكي عديم الحس الذي كانوا يدفعونني إليه، وما إلى ذلك، كما في الروايات الأخلاقية التي تقرؤها اليوم. ولكن كلا الادعاءين سيكونان هراء صريحا؛ فالحقيقة هي أنني كنت سعيدا ومتحمسا لفكرة الذهاب إلى العمل، خاصة عندما علمت أن العجوز جريميت سيعطيني أجرا حقيقيا، اثنا عشر شلنا في الأسبوع، ويمكنني أن أحتفظ منه بأربعة شلنات لنفسي. أسماك الشبوط الكبيرة في منزل بينفيلد، التي استولت على تفكيري في الأيام الثلاثة الماضية، تلاشت تماما منه، ولم يكن لدي اعتراض على ترك المدرسة بضع فصول دراسية مبكرا. حدث الأمر نفسه مع أولاد آخرين في مدرستنا؛ إذ كنت دائما تجد ذلك الولد الذي «سيذهب» إلى جامعة ريدينج، أو يدرس ليصبح مهندسا، أو «سيذهب للعمل» في لندن، أو سيترك عائلته ليصبح بحارا؛ وفجأة بعد إخطاره المدرسة بيومين يختفي، وبعد ذلك بأسبوعين تقابله وهو على دراجته يوصل الخضراوات. بعد خمس دقائق من إخبار والدي لي أن علي ترك المدرسة، كنت أفكر في البدلة الجديدة التي سأرتديها للذهاب إلى العمل؛ وطلبت على الفور «بدلة كبار» بمعطف على الطراز السائد في ذلك الوقت، أعتقد أنهم كانوا يقولون عنه «معطفا مفتوحا من الأمام». بالطبع صدم كل من أمي وأبي، وقالا إنهما «لم يسمعا قط عن شيء كهذا». لسبب ما لم أسبر أغواره جيدا قط؛ كان الآباء في تلك الأيام يحاولون دائما منع أبنائهم من ارتداء ملابس الكبار قدر الإمكان. وكانت في كل عائلة مشاجرة قبل أن يحصل الصبي على أول ياقة عالية، أو قبل أن تربط الفتاة شعرها لأعلى.
بذلك تغيرت دفة الحوار من مشاكل عمل أبي، وانحدر إلى نوع من الجدال المتذمر الطويل، الذي زاد فيه غضب أبي بالتدريج، وأصبح يكرر مرة تلو الأخرى - بطريقته المنفعلة حيث كان يتحدث بلهجة أبناء الطبقة العاملة عندما يكون غاضبا - «خلاصة القول، لا يمكنك ارتداؤه. فلتخرجه من رأسك، لا يمكنك ارتداؤه.» لهذا لم أحصل على المعطف، ولكنني ذهبت إلى العمل لأول مرة في بدلة سوداء جاهزة الصنع وياقة عريضة، بدوت فيهما أخرق وأكبر من عمري. إن أي سوء شعرت به تجاه أمر العمل برمته كان في الحقيقة نابعا من ذلك. أما جو فقد كان أكثر أنانية مني؛ فقد استشاط غضبا عندما اضطر إلى ترك متجر الدراجات، وفي الفترة القصيرة التي ظل فيها في المنزل، لم يكن يفعل شيئا سوى التسكع، وكان مصدر إزعاج ولم يساعد أبي في أي شيء.
عملت في متجر العجوز جريميت لست سنوات تقريبا. كان جريميت ذا مظهر جيد؛ فقد كان من كبار السن منتصبي القامة ذوي اللحية البيضاء، وهو نسخة أكثر ضخامة بعض الشيء من عمي إيزيكيال، وكان كذلك كعمي إيزيكيال ليبراليا مخلصا. ولكنه كان أقل ثورة وأكثر احتراما لدى أبناء البلدة . كان قد عدل مواقفه أثناء حرب البوير، وكان عدوا لدودا للنقابات العمالية، وقد طرد أحد مساعديه ذات مرة؛ لأنه كان معه صورة لكير هاردي؛ كما كان «منشقا عن كنيسة إنجلترا» - في الواقع كان شخصا مهما، حقا، في الكنيسة المعمدانية، المعروفة محليا باسم تين تاب - بينما كانت عائلتي «تابعة لكنيسة إنجلترا» في حين كان عمي إيزيكيال غير مؤمن. كان العجوز جريميت عضو مجلس محلي، ومسئولا في الحزب الليبرالي المحلي. كانت لحيته البيضاء، وحديثه المتصنع عن حرية الاعتقاد والرجال الكبار العظماء، ورصيده الكبير في البنك، والصلوات المرتجلة التي قد تسمعه أحيانا يطلقها عندما تمر بتين تاب، تجعله بعض الشيء يبدو كبقال منشق أسطوري في القصة، التي أتوقع أن تكون قد سمعت بها من قبل: «جيمس!» «نعم يا سيدي!» «هل وضعت الرمل في السكر؟» «نعم يا سيدي!» «هل خففت دبس السكر بالماء؟» «نعم يا سيدي!» «إذن، فلتأت للصلاة.»
سمعت هذه القصة همسا في المتجر مرات لا تحصى. كنا بالفعل نبدأ اليوم بالصلاة قبل فتح الأبواب. لا يعني ذلك أن العجوز جريميت كان يضع الرمل في السكر؛ إذ كان يعلم أن ذلك لن يفيد، ولكنه كان رجلا صارما في عمله، وكان يورد كل أغراض البقالة عالية الجودة للوير بينفيلد وما حولها؛ وكان يعمل تحت يده ثلاثة مساعدين في المتجر إلى جانب الصبي الذي كان يرسله في مهمات خارج المتجر، وسائق الشاحنة، وابنته (التي كانت أرملة) التي كانت مسئولة عن الأمور المالية. كنت أنا صبي المهمات في أول ستة أشهر من عملي معه؛ ثم غادر أحد المساعدين كي «يرتقي بحاله» في ريدينج، وانتقلت أنا للعمل في المتجر وارتديت أول مئزر أبيض في حياتي. وهناك تعلمت ربط الطرود، وتعبئة أكياس الزبيب، وطحن البن، وتقطيع شرائح اللحم المقدد والمدخن، وسن السكاكين، ومسح الأرضيات، ونفض الغبار عن البيض دون كسره، وبيع السلع الرديئة على أنها جيدة، وتنظيف النوافذ، ووزن رطل من الجبن بمجرد النظر، وفتح صناديق التعبئة، وتقطيع لوح من الزبد إلى أشكال، وتذكر أماكن التخزين، وهو ما كان المهمة الأصعب إلى حد كبير. لا أتذكر كثيرا من التفاصيل عن البقالة كما أتذكر عن الصيد، ولكني أتذكر قدرا لا بأس به عنها؛ فحتى يومنا هذا، لا أزال أتذكر كيف أقطع خيطا بأصابعي، وإذا وضعتني أمام آلة قطع اللحم المقدد، فسأعمل عليها أفضل مما أعمل على الآلة الكاتبة. يمكنني أن أسرد لك بعض النقاط المهمة عن طرق معرفة درجات الشاي الصيني، وطريقة صنع السمن النباتي، ومعرفة متوسط وزن البيضة، وسعر ألف كيس ورقي.
حسنا، لما يزيد على خمس سنوات كنت هكذا؛ صبيا نشيطا بوجه مستدير ووردي وقصير وشعر سمني اللون (الذي لم أعد أقصره، ولكني كنت أدهنه بعناية وأصففه للوراء فيما اعتاد الناس على وصفه بالشعر «المهذب».) وكنت أعمل بجد خلف طاولة البيع في المتجر بمئزري الأبيض والقلم الرصاص خلف أذني، وأربط أكياس القهوة سريعا كالبرق، وألاحق الزبائن قائلا: «حاضر يا سيدتي! بالتأكيد يا سيدتي! هل أحضر لك شيئا آخر يا سيدتي؟» وذلك في صوت به مع بعض معالم من لهجة الطبقة العاملة. كان العجوز جريميت يجعلنا نكدح كثيرا في العمل؛ فقد كان يوم عملنا إحدى عشرة ساعة، فيما عدا يومي الخميس والأحد، أما عن أسبوع الكريسماس فقد كان العمل فيه كابوسا شاقا. على الرغم من ذلك، كانت سنوات جيدة جديرة بتذكرها. لا تظن أنه لم تكن لدي طموحات؛ فقد علمت أنني لن أظل مساعد بقال مدى الحياة؛ كنت فقط «أتعلم المهنة». وفي وقت ما وبطريقة أو بأخرى سيكون معي ما يكفي من المال «لأشق طريقي» بنفسي. كان هذا هو تفكير الناس في ذلك الوقت، ولكن تذكر أن ذلك كان قبل الحرب، وقبل الأزمات والإعانات. كان العالم كبيرا بما يكفي ليسع الجميع؛ وكان بمقدور أي أحد «أن ينشئ تجارته»، فقد كان دائما ثمة مكان لمتجر آخر. مرت السنوات بسرعة؛ 1909، 1910، 1911. ومات الملك إدوارد وصدرت الصحف بإطار الحداد الأسود. وافتتحت دارا سينما في وولتن، وانتشرت السيارات أكثر في الطرق، وبدأت الحافلات تسير في أنحاء البلاد كافة. وطارت طائرة - ذلك الشيء الهش المتهالك الذي يجلس رجل في منتصفه على ما يشبه الكرسي - أعلى لوير بينفيلد، وخرج أبناء البلدة كلهم من منازلهم متدافعين للتلويح لها. وبدأ الناس يقولون على نحو شديد الغموض إن الإمبراطور الألماني كان يبالغ في التعظيم من شأن نفسه، و«إنها» (أي الحرب مع ألمانيا) كانت «آتية في وقت ما». ازداد أجري بالتدريج، حتى وصل أخيرا قبل الحرب مباشرة إلى ثمانية وعشرين شلنا في الأسبوع. كنت أعطي أمي عشرة شلنات في الأسبوع لشراء الطعام، ولكن فيما بعد عندما ساءت الأمور، أصبحت أعطيها خمسة عشر شلنا، وعلى الرغم من ذلك كنت أشعر في ذلك الحين أنني غني أكثر من أي وقت آخر. زاد طول قامتي بمقدار بوصة أخرى، وبدأ شاربي في الظهور، وكنت أرتدي حذاء بأزرار وقميصا بياقة طولها ثلاث بوصات. في أيام الأحد بالكنيسة كنت أرتدي بدلة رمادية داكنة أنيقة، وقبعة مستديرة سوداء، وأضع قفازا أسود من جلد الكلاب على المقعد بجواري؛ وكنت أبدو في كل ذلك رجلا محترما مثاليا؛ لذا، لم يكن فخر أمي بي يسعها. ما بين العمل و«التنزه» في أيام الخميس والتفكير في الملابس والفتيات، كانت تأتيني نوبات من الطموح، وأتخيل نفسي وقد أصبحت رجل أعمال كبيرا مثل ليفر أو وليام وايتلي. وما بين سن السادسة عشرة والثامنة عشرة، قمت بمحاولات جادة من أجل «تحسين مستوى ذكائي» وتطوير أدائي في مجال إدارة الأعمال. وعالجت مشكلة إسقاطي لبعض الحروف أثناء الكلام، وتخلصت من جانب كبير من لهجة أبناء الطبقة العاملة التي كنت أتحدث بها. (كانت اللهجات الريفية في وادي التيمز تتلاشى؛ فباستثناء صبية المزارع، كان تقريبا كل من ولد بعد عام 1890 يتحدث بلهجة الطبقة العاملة.) كما أخذت دورة تدريبية بالمراسلة مع أكاديمية ليتلبرنز للتجارة؛ وتعلمت إمساك الدفاتر والإنجليزية الخاصة بالأعمال، وقرأت بجدية كتابا مليئا بالأحاديث الفارغة الرنانة يسمى «فن البيع»؛ وتطورت مهاراتي الحسابية وحتى خطي في الكتابة. وعندما كنت في السابعة عشرة، كنت أجلس لوقت متأخر من الليل أتدرب وكلي حماس لتحسين خطي على ضوء مصباح غاز صغير على طاولة غرفة النوم. في ذلك الوقت، قرأت كثيرا، وكانت معظم قراءاتي لقصص الجريمة والمغامرة، وفي بعض الأحيان، كنت أقرأ الكتب ذات الغلاف الورقي التي كان يمررها الشباب في المتجر خفية فيما بينهم ويصفونها بأنها «مثيرة». (كانت ترجمات لأعمال موباسان وبول دي كوك.) ولكن عندما كنت في الثامنة عشرة، تحولت فجأة إلى شخص رفيع الثقافة؛ إذ اشتركت في المكتبة المحلية، وبدأت في القراءة بنهم لكتب ماري كوريلي وهول كين وأنتوني هوب. وفي ذلك الوقت تقريبا، انضممت إلى حلقة القراءة الخاصة بلوير بينفيلد، التي كان يرأسها راعي الكنيسة وكانت تعقد أمسياتها مرة كل أسبوع طوال فصل الشتاء تحت اسم «النقاش الأدبي»؛ وبضغط من راعي الكنيسة، قرأت قليلا في كتاب «السمسم والزنابق»، حتى إنني قرأت كذلك لبراونينج.
ومرت السنوات بسرعة؛ 1910، 1911، 1912. وكانت تجارة أبي تسوء، لم يتدهور بها الحال فجأة، ولكنها كانت تنحدر. لم يعد أبي وأمي قط كسابق عهديهما بعد أن ترك جو المنزل. حدث ذلك بعد وقت ليس بالطويل من ذهابي إلى العمل لدى جريميت.
كان جو، في الثامنة عشرة من عمره، قد كبر ليصبح وحشا قبيحا؛ فقد كان شابا ضخم البنية، أكبر بكثير من باقي أفراد العائلة، وكان عريض الكتفين برأس كبير ووجه عابس ومخيف وشارب كبير. وعندما كنت تبحث عنه ولا تجده في حانة جورج، فستجده يتسكع أمام مدخل المتجر، ويداه غائرتان في جيبيه، عابسا في وجوه المارة كما لو كان يريد ضربهم، إلا إذا كانوا من الفتيات. وإذا جاء أحد إلى المتجر، كان يتنحى جانبا فقط بالقدر الذي يسمح للزبون أن يدخل، ودون أن يخرج يديه من جيبيه كان يصيح بغضب: «أبي! المتجر!» كان هذا أقصى قدر قدمه من المساعدة. وقد قال أبي وأمي بيأس إنهما «لا يعرفان ماذا يفعلان معه»، وكان ينفق مبالغ كبيرة على شرب الخمر وتدخينه الشره. وفي وقت متأخر من إحدى الليالي، خرج من المنزل ولم نسمع عنه بعد ذلك قط. كان قد فتح درج النقود بالقوة، وأخذ كل المال الذي كان فيه . لحسن الحظ لم يكن فيه الكثير من المال؛ فقد كانت ثمانية جنيهات تقريبا، ولكنها كانت كافية للحصول على أرخص تذاكر السفر على متن سفينة متجهة إلى أمريكا؛ فلطالما أراد الذهاب إلى أمريكا، وأعتقد أنه فعل ذلك على الأرجح، ولكننا لم نعلم ذلك يقينا. تسبب لنا ذلك في فضيحة نوعا ما في البلدة، وكان التفسير الشائع أن جو قد هرب لأن فتاة قد حملت منه؛ فقد كانت تعيش في الشارع الذي كان يعيش فيه آل سيمونز فتاة تدعى سالي تشيفرز وكانت حاملا، وكان جو على علاقة بها بالتأكيد، ولكن كان كذلك عشرات الفتيان الآخرين على علاقة بها، ولا يعلم أحد من يكون والد الطفل. صدق كل من أمي وأبي هذا التفسير؛ وحتى عندما كانا يجلسان وحدهما، كانا يستخدمانه كذريعة كي يعذرا «ابنهما المسكين» على سرقته للجنيهات الثمانية وهروبه. ولم يكونا قادرين على استيعاب أن جو قد هرب؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يقبل بحياة بسيطة في بلدة ريفية صغيرة، وأنه أراد أن يعيش حياة التسكع والمشاجرات والنساء. لم نسمع عنه مرة أخرى قط. ربما انحرف تماما، وربما مات في الحرب، وربما لم يهتم بالكتابة لنا فحسب. لحسن الحظ ولد الطفل ميتا؛ ومن ثم لم تكن ثمة مشاكل. وفيما يتعلق بسرقة جو للجنيهات الثمانية، تمكن أبي وأمي من إخفاء ذلك السر حتى مماتهما؛ فقد كان في عينيهما فضيحة أكبر من أمر طفل سالي تشيفرز.
أثقلت مشكلة جو عاتق أبي. لم تشكل مغادرة جو فقدانا لشيء لم يكن قد فقده بالفعل، ولكنها جرحته وكبدته العار. ومنذ ذلك الحين، زاد الشيب في شاربه وبدأ يتضاءل في الحجم. ربما ذكرياتي عنه، في هيئة الرجل الأشيب الضئيل الحجم بوجهه القلق المستدير والمليء بالتجاعيد ونظارته التي تعلوها الغبار، ترجع في الواقع إلى ذلك الحين. ببطء، ازداد اهتمامه أكثر فأكثر بالأمور المالية، وقل اهتمامه بالتدريج بالأمور الأخرى؛ فأصبح يتحدث أقل عن السياسة وصحف يوم الأحد، وأكثر عن الأوضاع السيئة للتجارة. بدأت أمي كذلك تتضاءل قليلا في الحجم؛ إذ أتذكر أنها كانت في طفولتي ممتلئة البنية ونشيطة، بشعرها الأصفر ووجهها المتهلل وصدرها الضخم؛ فقد كانت أشبه بمخلوق كبير من هؤلاء الذين توضع تماثيلهم على رءوس البوارج. أما الآن، فقد أصبح جسمها أكثر ضآلة وأصبحت أكثر قلقا، وبدت أكبر من عمرها. كما أصبحت أقل هيبة في المطبخ، وباتت تطبخ أعناق الضأن، وتصاب بالقلق من سعر الفحم، وأصبحت تستخدم السمن النباتي، الشيء الذي لم تكن تسمح بدخوله المنزل قط. بعد أن تركنا جو، احتاج أبي إلى تعيين صبي مهمات آخر؛ ولكن منذ ذلك الحين، كان يعين أولادا في سن صغيرة جدا لمدة عام أو عامين فقط، فلم يكونوا قادرين على حمل الأشياء الثقيلة. كنت أحيانا أساعده عندما أكون في المنزل، ولكنني كنت أنانيا فلم أكن أفعل ذلك بانتظام. ما زلت يمكنني رؤيته وهو يشق طريقه ببطء عبر الساحة، ثم ينحني بشدة ويكاد يكون مخفيا وهو يحمل أحد الأجولة الضخمة، كحلزون قابع أسفل صدفته. أتذكر تلك الأجولة الكبيرة والضخمة، التي تزن مائة وخمسين رطلا على ما أظن، والتي كانت تضغط على عنقه وكتفيه حتى كادت تسقطهما أرضا؛ وأتذكر ذلك الوجه القلق ذا النظارة وهو ينظر إلى أعلى من أسفلها. كانت النتيجة هي أنه أصيب بفتق في عام 1911، وكان عليه أن يقضي عدة أسابيع في المستشفى؛ فعين مديرا مؤقتا للمتجر، ما تسبب في خسارة جزء آخر من رأس ماله. من أكثر الأشياء المرعبة التي قد تشاهدها هي صاحب متجر وهو يتدهور به الحال، ولكن الأمر لا يكون مفاجئا وواضحا مثل أمر العمال الذين يطردون من وظائفهم ويجدون أنفسهم مرة واحدة عاطلين عن العمل. إن صاحب المتجر تتقطع به السبل تدريجيا، مع بعض التأرجح صعودا وهبوطا؛ فيخسر بعض المال تارة، ويكسب بعضه تارة أخرى. وبعض من كنت تتعامل معهم لعدة سنوات يتخلون عنك فجأة ويذهبون إلى آل سارازينز؛ والبعض الآخر يشترون عشرات الدواجن ويطلبون منك الذرة أسبوعيا. وبذلك تكون قادرا على الاستمرار؛ وما زلت «رئيس نفسك»، ولكن دائما مع زيادة بعض الشيء في القلق والضعف، وتقلص في رأس مالك على الدوام. يمكنك الاستمرار على هذا المنوال لسنوات، وربما طوال حياتك إن كنت محظوظا. مات عمي إيزيكيال عام 1911، وترك 120 جنيها لا بد أنها كانت لها أثر كبير في تغيير أوضاع أبي المالية. ولم يضطر أبي إلى رهن وثيقة تأمينه على الحياة حتى عام 1913، وهو الأمر الذي لم أسمع عنه في ذلك الوقت، أو لم أكن أفهم ما يعنيه. يمكنني أن أقول إنني لا أعتقد أنني قد استوعبت أكثر من أن أحوال أبي «لا تسير على ما يرام»، وأن التجارة كانت «كاسدة»، وأنه كان علي الانتظار كثيرا حتى أحصل على مال يمكنني به «بدء تجارتي». وكنت كأبي، أرى المتجر شيئا دائما؛ وكنت أميل بعض الشيء إلى الغضب منه؛ لأنه لم يدر الأمور بشكل أفضل. لم أكن أستطيع أن أرى، وكذلك هو أو أي شخص آخر، أنه كان يحطم ببطء، وأن العمل لن يزدهر مرة أخرى أبدا؛ وأنه حتى إن عاش إلى عمر السبعين، فلا بد أنه سينتهي به الحال في ملجأ للفقراء. مررت أكثر من مرة بمتجر آل سارازينز في السوق، وكنت أفكر ببساطة في مدى إعجابي بنافذتهم الأمامية المصقولة أكثر من نافذة أبي القديمة التي تكسوها الأتربة، واسم «إس بولينج» الذي تصعب قراءته، والكتابة البيضاء المقطعة، وحزم حبوب الطيور الباهتة. لم يكن يخطر ببالي أن آل سارازينز هؤلاء كانوا كالديدان الشريطية التي كانت تأكل في لحم أبي حيا. كنت أحيانا أقتبس في حديثي معه سطورا من التي كنت أقرؤها في كتب الدورات بالمراسلة عن فن البيع والطرق الحديثة، ولكنه لم يعرها انتباها قط؛ فقد ورث تجارة منشأة منذ القدم، ولطالما كان يعمل بجد وأمانة ويبيع السلع الجيدة، ويردد أن الأمور ستزدهر عما قريب. الحقيقة أن قلة قليلة من أصحاب المتاجر في تلك الأيام قد انتهى بهم الحال بالفعل في ملاجئ الفقراء؛ وإن كنت محظوظا، فستموت ولديك بضعة جنيهات. كان سباقا بين الموت والإفلاس، وحمدا لله أن الموت قد فاز في سباق أبي، وأمي أيضا.
أقول لك إن الأعوام 1911، 1912، 1913 كانت أعواما جيدة. في أواخر عام 1912، وعبر حلقة القراءة التي كان يترأسها راعي الكنسية، قابلت إلسي ووترز لأول مرة. حتى ذلك الحين، كحال بقية الأولاد في البلدة، كنت ألاحق الفتيات ونادرا ما تمكنت من التعرف على فتاة و«التنزه» معها لعدة مرات فيما بعد ظهيرة أيام الأحد، ولكن لم تكن لي في الحقيقة حبيبة قط. إنه لأمر غريب، أن تطارد الفتيات وأنت في نحو السادسة عشرة. في أحد الأجزاء المعروفة في البلدة، كان الأولاد يتجولون أزواجا ذهابا وإيابا لمشاهدة الفتيات؛ وكانت الفتيات يتجولن أزواجا ذهابا وإيابا متظاهرات بأنهن لا يلحظن الأولاد، وسرعان ما يحدث التواصل بينهم بشكل أو بآخر، وبدلا من التجول أزواجا، تجد الفتية والفتيات يتجولون في مجموعات من أربعة أفراد، لكنهم لا يتحدثون مطلقا. وكان المعلم الأساسي لتلك النزهات، الذي يكون أسوأ في المرة الثانية عندما تذهب في نزهة مع فتاة بمفردكما، هو الفشل الرهيب في فتح أي نقاش. ولكن إلسي ووترز بدت مختلفة. الحقيقة أنني كنت أنضج.
لا أريد أن أخبرك بقصتي مع إلسي ووترز، حتى إن كان لدي أي قصة لأرويها؛ فلم تكن سوى جزء من المشهد، جزء «من مشهد ما قبل الحرب». قبل الحرب كان الطقس دائما صيفيا، هذا وهم، كما أسلفت وقلت، ولكني هكذا أتذكره. وكانت الطرق البيضاء المليئة بالغبار تمتد بين أشجار الكستناء، وكنت تشم رائحة زهور المنثور، وترى البرك الخضراء أسفل أشجار الصفصاف، وتشعر برذاذ ماء بورفورد وير، هذا ما أراه عندما أغمض عيني وأفكر في وقت «ما قبل الحرب»، الذي قرب نهايته كانت إلسي ووترز جزءا منه.
لا أعلم إذا ما كانت إلسي جميلة الآن، ولكنها كانت كذلك فيما مضى. كانت فتاة طويلة، في مثل طولي تقريبا؛ وكان شعرها ذهبيا فاتحا وكثيفا، وكانت تلفه فيما يشبه الضفيرة حول رأسها، وكان لها وجه ناعم ووديع على نحو غريب. كانت من هؤلاء الفتيات اللاتي يبدون في أفضل طلاتهن عندما يرتدين اللون الأسود، خاصة تلك الفساتين السوداء شديدة البساطة التي كانوا يجعلونهن يرتدينها في متاجر الأقمشة؛ فقد كانت تعمل في محل ليلي وايت للأقمشة، على الرغم من أنها في الأصل من لندن. أظن أنها كانت أكبر مني بعامين.
أنا ممتن لإلسي؛ لأنها كانت أول شخص علمني كيف أهتم بامرأة؛ ولا أعني الاهتمام بالنساء في العموم، بل أعني بامرأة بعينها. قابلتها في حلقة القراءة وبالكاد لاحظتها، ثم في يوم من الأيام ذهبت إلى متجر ليلي وايت في ساعات عملي، وهو الشيء الذي لم أكن عادة أستطيع فعله، ولكن ما حدث هو أننا كان قد نفد منا قماش الموسلين الذي نستخدمه في لف الزبد فأرسلني العجوز جريميت لشراء بعضه. تعلم تلك الأجواء التي تكون في متاجر الأقمشة، إذ تكون أنثوية بامتياز؛ حيث الشعور بالهدوء، والضوء الخافت، ورائحة الملابس المنعشة، والطنين الخفيف لكرات النقود الخشبية التي تدور ذهابا وإيابا. كانت إلسي متكئة على طاولة البيع تقص قطعة من القماش بالمقص الكبير. كان ثمة شيء في فستانها الأسود وانحناء ثدييها على طاولة البيع، لا يمكنني وصفه، ولكني أراه شيئا ناعما وأنثويا على نحو غريب. وبمجرد أن تراها ستعلم أنه بإمكانك ضمها بين ذراعيك، وأن تفعل أي شيء تريده معها. كانت حقا فائقة الأنوثة، وشديدة الرقة، وشديدة الاستكانة؛ ذلك النوع من النساء اللاتي يفعلن دائما ما يقوله الرجال لهن، على الرغم من أنها لم تكن صغيرة أو ضعيفة. ولم تكن كذلك غبية؛ فقط كانت شديدة الهدوء وفي بعض الأحيان مهذبة بشدة. غير أنني نفسي كنت مهذبا في تلك الأيام.
كنا نعيش معا لمدة عام تقريبا. بالطبع في بلدة كلوير بينفيلد، لا يمكنك القول إنك تعيش مع فتاة إلا على سبيل المجاز. كنا رسميا «نتنزه» معا، وهو ما كان تقليدا متعارفا عليه ولكنه لم يكن كما لو أننا مخطوبان. وكان ثمة شارع يتفرع من الطريق المؤدي إلى أبر بينفيلد، ويخرج إلى أسفل حافة التلال. كان له امتداد طويل، قرابة الميل، وكان مستقيما نوعا ما ومحاطا بأشجار الكستناء الهندي الضخمة؛ وعلى العشب على الجانب، كان ثمة ممر للمشاة أسفل الأغصان يعرف باسم زقاق العشاق. اعتدنا على الذهاب هناك في المساء في شهر مايو، عندما تكون أشجار الكستناء مزهرة. ثم كانت تأتي بعد ذلك الليالي القصيرة، وكانت السماء تكون مضاءة لساعات بعد انتهائنا من العمل. أتعرف شعور المساء في شهر يونيو؟! ذلك الشفق الأزرق المستمر، والهواء الذي يداعب وجهك بنعومة كالحرير. أحيانا في أيام الأحد فيما بعد الظهيرة، كنا نصعد تل تشامفورد، ثم ننزل إلى المروج المجاورة للمياه بمحاذاة نهر التيمز. عام 1913! يا إلهي! يا له من عام! الهدوء، والماء الأخضر، واندفاع ماء بورفورد وير! لن تتكرر تلك الأشياء مرة أخرى. لا أعني أن سنة 1913 لن تتكرر ثانية، ولكن أعني ذلك الشعور الذي بداخلك؛ ذلك الشعور بعدم العجلة وعدم الخوف، ذلك الإحساس الذي تشعر به، ولا تحتاج إلى من يخبرك به أو لا تشعر به، ولم تتسن الفرصة قط لتعلمه.
لم نبدأ فيما يمكن أن يطلق عليه العيش معا إلا في أواخر الصيف؛ إذ كنت شديد الخجل والبلاهة فلم أستطع بدء الأمر، وكنت شديد الجهل فلم أكن أدرك وجود رجال قبلي في حياتها. بعد ظهيرة أحد أيام الأحد، ذهبنا إلى غابة أشجار الزان حول أبر بينفيلد؛ حيث يمكنك دائما بالأعلى الاستمتاع بالوحدة. وقد كنت أريدها بشدة، وأعلم جيدا أنها كانت تنتظرني أن أبدأ. شيء، لا أعلم ما هو، جعلني أذهب إلى أراضي منزل بينفيلد؛ حيث العجوز هودجز، الذي كان قد تجاوز السبعين من عمره وأصبح سريع الغضب جدا؛ فقد كان يمكنه أن يطردنا، ولكنه ربما كان ينام فيما بعد ظهيرة يوم الأحد. تسحبنا عبر فتحة في السياج، ونزلنا إلى الممشى بين أشجار الزان حتى وصلنا إلى البركة الكبيرة. كانت قد مرت أربع سنوات أو أكثر منذ مروري بهذا الطريق آخر مرة، ولم أجد أن شيئا قد تغير؛ فما زالت العزلة التامة، والشعور الخفي النابع من عظم الأشجار من حولك، ومصف القوارب القديم البالي بين الأعشاب المائية. استلقينا في التجويف العشبي الصغير بجوار النعناع البري، وكنا وحدنا تماما كما لو أننا في وسط أفريقيا. قبلتها كثيرا، ثم نهضت وأردت المشي مرة أخرى. كانت رغبتي فيها عارمة، وأردت أن أقدم على الأمر، ولكنني كنت خائفا بعض الشيء. ومن المثير للدهشة أنه كانت ثمة فكرة أخرى في رأسي في الوقت نفسه؛ فقد تذكرت فجأة أنني لسنوات كنت قد نويت العودة إلى ذلك المكان، ولكنني لم أعد قط. والآن وقد أصبحت قريبا جدا منه، بدا من المؤسف ألا أنزل إلى البركة الأخرى وألقي نظرة على أسماك الشبوط الكبيرة. شعرت أنني سأندم بعد ذلك إن أضعت الفرصة، وفكرت في الواقع في السبب الذي منعني من الرجوع من قبل. كانت أسماك الشبوط في ذهني دائما، ولم يعلم بأمرها أحد سواي، وكنت سأذهب لاصطيادها في وقت ما؛ فقد كانت في الواقع أسماكي أنا. وبدأت بالفعل أتجول حول الضفة في ذلك الاتجاه؛ ثم بعدما ذهبت لمسافة ما يقرب من عشر ياردات، تراجعت؛ فقد كان الأمر يتطلب أن تشق طريقك عبر ما يشبه الغابة من أشجار العليق والأغصان المقطوعة المتعفنة، وكنت أرتدي أفضل ملابسي التي أرتديها يوم الأحد؛ بدلة رمادية داكنة، وقبعة مستديرة سوداء، وحذاء بأزرار، وياقة تكاد تقطع أذني؛ هكذا كان الناس يرتدون في نزهات ما بعد ظهيرة يوم الأحد في تلك الأيام. إضافة إلى أنني كنت أريد بشدة إلسي؛ فرجعت ونظرت إليها لبرهة. كانت مستلقية على العشب وذراعها على وجهها، ولم تتحرك عندما سمعتني وأنا آت إليها. وكانت تبدو في فستانها الأسود - لا أعلم كيف - ناعمة ومستسلمة، كما لو أن جسدها كان شيئا مرنا يمكنك أن تفعل به ما تشاء. كانت لي وكان بإمكاني أن أنعم بها في تلك اللحظة إن أردت. وفجأة، لم أعد خائفا، ورميت بقبعتي على العشب (أتذكر أنها تأرجحت قليلا)، ثم جثوت وأمسكت بها. يمكنني حتى الآن أن أشم رائحة النعناع البري. كانت تلك مرتي الأولى، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لها؛ ولم نفسد الأمر كما قد تتوقع. وانتهى الأمر على ذلك. تلاشت أسماك الشبوط الكبيرة من ذهني، ولسنوات بعد ذلك في الواقع بالكاد فكرت فيها.
وتوالت السنوات، 1913، ثم 1914، ثم جاء ربيع 1914 حيث أزهرت الأشجار؛ البرقوق الشائك، ثم الزعرور البري، ثم الكستناء. أتذكر أيام الأحد فيما بعد الظهيرة عبر مسار جر القوارب، والرياح ترفرف على أحواض السمار، فتتمايل أغصانه معا في كتل كثيفة ومهيبة تبدو بعض الشيء كشعور النساء حين تداعبها الرياح. وأتذكر كذلك أمسيات شهر يونيو الطويلة، والممشى أسفل أشجار الكستناء، والبومة التي تنعق في مكان ما وجسد إلسي بجانبي. أتذكر كذلك شهر يوليو الذي كان شديد الحرارة في ذلك العام، والعرق الذي كنا نتصببه في المتجر، ورائحة الجبن والقهوة! وأتذكر حينها نسيم المساء العليل بالخارج، ورائحة زهور المنثور وتبغ الغلايين في الممر خلف المزارع، ومواطئ الأقدام حيث الغبار الرطب، وطيور السبد التي تحوم حول الخنافس الكبيرة.
يا إلهي! ما المغزى من أن نقول إن المرء عليه ألا يكون عاطفيا عند التفكير في فترة «ما قبل الحرب»؟ تلك الأيام تجعلني عاطفيا، وكذلك تجعلك إن تذكرتها. صحيح أنك إن أعدت النظر إلى أي فترة زمنية معينة، فستميل إلى تذكر اللحظات السعيدة؛ ينطبق الأمر نفسه حتى على أيام الحرب؛ لكن من الصحيح كذلك أن الناس في تلك الأيام كان لديهم ما ليس لدينا الآن.
أعلم أنك تسأل الآن عما كان لديهم وليس لدينا. إنهم ببساطة لم يكونوا ينظرون في المستقبل باعتباره شيئا يخافون منه. لا يعني ذلك أن الحياة كانت أكثر رغدا مما هي عليه الآن، بل كانت في الواقع أكثر قسوة؛ إذ كان الناس إجمالا يبذلون جهدا أكبر في أعمالهم، ويعيشون في مستويات أقل راحة، ويموتون بآلام أبرح. كانت الأيدي العاملة في المزارع تعمل لساعات طويلة مقابل أربعة عشر شلنا في الأسبوع، وينتهي بهم الحال وقد أصابهم العجز والاهتراء بمعاش تقاعد قدره خمسة شلنات، وقد يتحصلون على شلنين ونصف الشلن في بعض الأحيان من الأبرشية. أما ما كان يعرف بالفقر «المحترم»، فقد كان أسوأ؛ فعندما «أفلس» واتسون القصير - وقد كان تاجر أقمشة صغير في الطرف الآخر من هاي إستريت - بعد سنوات من الصراع، كانت أصوله الشخصية جنيهين وتسعة شلنات وستة بنسات؛ ومات تقريبا فور إصابته بما كانوا يقولون عنه «مشاكل في المعدة»، ولكن الطبيب أعلن أن سبب الوفاة كان الجوع؛ لكنه جاهد حتى النهاية. أما العجوز كريمب، مساعد صانع الساعات الذي كان ماهرا في عمله ومكث فيه سنوات الصبا والرجولة التي استمرت لخمسين سنة، فقد أصيب بإعتام في عدسة العين واضطر إلى الذهاب إلى ملجأ الفقراء. وكان أحفاده يبكون في الشوارع عندما أخذوه، وعملت زوجته خادمة في المنازل، وبعد جهود يائسة تمكنت من أن ترسل إليه شلنا في الأسبوع لمصروف جيبه. كنت ترى أشياء مروعة تحدث في بعض الأحيان. فالأعمال الصغيرة تتدهور أحوالها؛ والتجار المستقرون يتحولون تدريجيا إلى مفلسين محطمين؛ والناس تموت بآلام السرطان وأمراض الكبد المبرحة، والأزواج السكارى يعدون زوجاتهم كل يوم إثنين أنهم سيقلعون عن الشراب، وينقضون عهدهم كل يوم سبت؛ والفتيات يحطمن حياتهن بإنجاب الأطفال غير الشرعيين. كانت المنازل بلا حمامات؛ والجليد يملأ أحواض الغسيل في الشتاء فتضطر كل صباح إلى تكسيره؛ ورائحة الشوارع الخلفية كالقبر في الأيام الحارة؛ وكانت المقابر في وسط البلدة؛ فلا يمر يوم دون أن تتذكر مصيرك. ولكن ما الذي كان لدى الناس في تلك الأيام؟ إنه الشعور بالأمان، حتى عندما لا يكونوا في أمان. بالتحديد، كان شعورا بالاستمرارية؛ فكل منهم كان يعلم أنه سيموت، وأظن أن بعضهم كان يعلم أنه سيفلس، ولكن ما لم يكونوا يعلمونه هو أن وتيرة الأمور يمكن أن تتغير. ومهما قد يحدث لهم، ستستمر الأمور كما عرفوها. لا أعتقد أنه مما أحدث فارقا كبيرا أن ما يطلق عليه الإيمان الديني كان ما زال سائدا في تلك الأيام. صحيح أن الجميع تقريبا كانوا يذهبون إلى الكنيسة، على الأقل في الريف - كنت أنا وإلسي نذهب إلى الكنيسة بطبيعة الحال، حتى عندما كنا نفعل ما يصفه راعي الكنيسة بالخطيئة - وإذا سألت الناس عما إذا كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت، كانوا يجيبون عادة بالإيجاب. ولكنني لم أقابل أحدا قط أعطاني انطباعا بأنه يؤمن حقا بالحياة الآخرة. وأعتقد أن الناس، على الأغلب، لا يتعدى إيمانهم في مثل تلك الأشياء إيمان الأطفال ببابا نويل. لكن في فترات الاستقرار، تلك الفترات التي تبدو فيها الحضارة قائمة على أرجلها الأربع كالأفيال، لا تعني أمور كالحياة الآخرة شيئا لدى الناس. من السهل أن تموت إن كانت الأشياء التي تهتم بها ستبقى؛ فقد عشت حياتك، وأصبحت متعبا، وحان الوقت للذهاب تحت التراب، هكذا اعتاد الناس رؤية الأمر. كانت حياتهم تنتهي على المستوى الشخصي، ولكن أسلوب حياتهم مستمر؛ خيرهم وشرهم سيبقى خيرا وشرا. ولم يشعروا بأن الأرض التي كانوا يقفون عليها تتغير تحت أرجلهم.
كان أبي يفلس، ولكنه لم يعلم ذلك. وكل ما كان يراه هو أن الأوقات عصيبة للغاية، وأن التجارة تتضاءل أكثر فأكثر، وأن فواتيره أصبحت أصعب فأصعب في السداد. حمدا لله أنه لم يعلم قط أنه قد تدمر، ولم يفلس بالفعل قط؛ لأنه مات فجأة (وكان ذلك جراء إصابته بالإنفلونزا التي تطورت إلى التهاب رئوي) في بداية عام 1915. كان يعتقد حتى النهاية أنه بالادخار، والعمل الجاد، والعدل في المعاملات لا يمكن للمرء أن يصاب بشر. ولا بد أن هناك العديد من أصحاب المتاجر الصغيرة الذين كان لديهم مثل ذلك الاعتقاد، الذي أدى بهم ليس فقط إلى الموت مفلسين، ولكن حتى إلى الاضطرار إلى الذهاب إلى ملجأ الفقراء. وحتى لوفجروف السروجي، الذي كان يشاهد السيارات والشاحنات تمر أمام عينيه، لم يدرك أنه قد انتهى به الحال كحيوان وحيد القرن المشرف على الانقراض. وأمي أيضا؛ أمي لم يمهلها القدر لتعرف أن الحياة التي تربت من أجل أن تعيشها - حياة ابنه صاحب المتجر المحترم الذي يخاف الله وزوجة صاحب المتجر المحترم الذي يخشى الله في عصر الملكة الصالحة فيكتوريا - كانت قد انتهت بلا رجعة. الأيام كانت صعبة والتجارة في كساد، وكان أبي قلقا وكل شيء كان «متفاقما»، ولكنك كنت تستمر في طريقك كالعادة. نظام الحياة الإنجليزية القديمة لا يمكن أن يتغير؛ فدائما وأبدا كانت تعد المرأة المحترمة التقية بودينج يوركشاير ومعجنات الدامبلنج بالتفاح في أفران الفحم الضخمة، وترتدي ملابس تحتية من الصوف، وتنام على الريش، وتصنع مربى البرقوق في شهر يوليو والمخللات في أكتوبر، وتقرأ مجلة «هيلداس هوم كومبانيون» في فترة ما بعد الظهيرة، والذباب يطن حولها، في عالم خفي صغير ومريح من نوع ما حيث الشاي المغلي والساقان المتعبتان والنهايات السعيدة. لا أقول إن أيا من أبي أو أمي لم يتغيرا حتى النهاية؛ فقد اعترتهما لحظات من التذبذب وقليل من الإحباط، ولكن على الأقل لم يعيشا ليعلما أن كل شيء كانا يعتقدان فيه قد أكل عليه الدهر وشرب. كانا يعيشان في نهاية عهد، حيث يتبدد كل شيء في نوع من التغيير المريع، ولكنهما لم يعلما عن ذلك شيئا؛ فقد ظنا أن عالمهما خالد. إنك لا تستطيع لومهما؛ فقد كان ذلك ما شعرا به تجاهه.
أتت بعد ذلك أواخر شهر يوليو، وحتى بلدة لوير بينفيلد قد استوعبت حدوث تلك الأمور. ولعدة أيام، كانت ثمة ضجة عارمة وغامضة ومقالات رئيسية لا نهاية لها في الصحف، التي جلبها أبي في الواقع من المتجر لقراءتها بصوت عال على أمي، ثم تفاجأنا بالملصقات في كل مكان:
ألمانيا تنذر. فرنسا تستعد للقتال.
لعدة أيام (أربعة أيام، على ما أتذكر؛ فقد نسيت التواريخ الدقيقة) ساد شعور غريب بالاختناق، نوع من الانتظار الحذر، كاللحظة التي تسبق ضرب العاصفة، كما لو أن إنجلترا كلها كانت صامتة وتستمع. وأتذكر أن الجو كان شديد الحرارة. وكنا كما لو أننا لا يمكننا العمل في المتجر، على الرغم من أن الجميع في الحي ممن يدخرون خمسة جنيهات كانوا يتزاحمون على شراء كميات من المواد المعلبة والطحين والشوفان. كان الوضع كما لو أننا قد أصابتنا حمى شديدة جعلتنا غير قادرين على العمل، فكنا نتصبب العرق ونترقب الأوضاع. في مساء تلك الأيام، كان الناس يذهبون إلى محطة السكة الحديدية ويتصارعون كالشياطين على الصحف المسائية التي كانت تصل في قطار لندن. ثم في فترة ما بعد ظهيرة أحد الأيام، أتى صبي مندفعا إلى هاي إستريت ومعه صحف ملء ذراعيه، وخرج الناس إلى عتبات بيوتهم للصياح في الشارع. كان الجميع يصيح قائلا: «لقد دخلنا الحرب! لقد دخلنا الحرب!» أخذ الصبي قصاصة من الحزمة التي كانت معه ولصقها على واجهة المتجر المقابل:
إنجلترا تعلن الحرب على ألمانيا.
اندفعنا كلنا إلى الرصيف - المساعدون الثلاثة - وهللنا. كان الجميع يهتف مهللا. أجل، كنا نهلل. ولكن العجوز جريميت، على الرغم من أنه استفاد بالفعل من حالة الفزع من الحرب، كان لا يزال يحمل بعضا من مبادئه الليبرالية؛ وأعلن أنه «ضد الحرب» قائلا إنها ستكون صفقة فاسدة.
بعد شهرين، التحقت بالجيش. وبعد ذلك بسبعة أشهر، كنت في فرنسا.
8
لم أصب وأنا في الجيش إلا في أواخر عام 1916.
كنا قد خرجنا لتونا من الخنادق ونسير راجعين في طريق يصل طوله إلى نحو الميل، وكان يفترض أنه آمن؛ ولكن الألمان لا بد أنهم قد اكتشفوه في وقت ما قبلنا. وفجأة، بدءوا في إطلاق بعض القذائف - التي كانت من النوع الثقيل شديد الانفجار - علينا، وكانوا يلقون قذيفة كل دقيقة. كان هناك صوت الدوي المعتاد، ثم الانفجار في مكان ما في الميدان على ناحية اليمين. أعتقد أن القذيفة الثالثة هي التي أصابتني؛ وقد عرفت بمجرد أن سمعت صوتها وهي آتية أن اسمي مكتوب عليها. يقولون إن المرء يشعر باقتراب حلول مصائبه دائما. لكن القذيفة لم تكن تقول ما تقوله القذائف العادية؛ بل قالت: «لقد جئت من أجلك أيها الوغد، أنت، أنت أيها الوغد، أنت!» حدث كل ذلك فيما يقرب من ثلاث ثوان، وآخر ما حدث كان الانفجار.
شعرت كما لو أن يدا هائلة من الهواء قد جرفتني معها؛ فسقطت في الحال وأنا أشعر بشيء من الانكسار والغضب بين العديد من العلب المعدنية القديمة، والشظايا الخشبية، والأسلاك الشائكة الصدئة، والروث، وعبوات الرصاص والمتفجرات الفارغة، وغيرها من القاذورات في الخندق على جانب الطريق. عندما انتشلوني وأزالوا عني بعض الأوساخ، وجدوا أنني لم أصب بإصابات بالغة؛ فلم تكن سوى عدة شظايا قذائف صغيرة غرزت في أحد ردفي وفي الجزء الخلفي من الساقين، ولكن لحسن حظي كانت إحدى ضلوعي قد انكسرت أثناء سقوطي، ما جعل الأمر خطيرا بما يكفي كي أرجع إلى إنجلترا. قضيت ذلك الشتاء في مستشفى ميداني في تلال قرب إيستبورن.
هل تتذكر تلك المستشفيات الميدانية التي كانت في زمن الحرب؟ تلك الصفوف الطويلة من الأكواخ الخشبية التي تشبه عشش الدواجن المتراصة أعلى تلك التلال الثلجية الموحشة - «الساحل الجنوبي»، كما اعتاد أن يطلق عليه الناس، ما جعلني أتساءل عن شكل الساحل الشمالي - حيث يبدو أن الرياح تهب عليك من كل اتجاه في نفس الوقت، ومجموعات الرجال الذين كانوا يرتدون البدلات من قماش الفلانيلة الأزرق الباهت وربطات العنق الحمراء، ويتجولون ذهابا وإيابا باحثين عن مكان بعيد عن الرياح، ولا يجدون قط. في بعض الأحيان، كان الأطفال من مدارس الأولاد عالية الطراز في إيستبورن يرسلون في طوابير لتوزيع السجائر وحلوى النعناع على «الجرحى من التومي»، كما كانوا يطلقون علينا. كان يقترب طفل ذو وجه وردي في سن الثامنة تقريبا من مجموعة من الرجال الجرحى الجالسين على العشب، ويشق علبة من سجائر ماركة وودباين ليفتحها، وبجدية شديدة يعطي كل رجل سيجارة واحدة، تماما كما لو كان يطعم قرودا في حديقة الحيوان. وكان أي أحد يملك ما يكفي من القوة ليتجول مسافة أميال في التلال على أمل أن يقابل أي فتيات؛ ولكن لم يكن ثمة عدد كاف من الفتيات لملاحقتهن. في الوادي أسفل المستشفى، كان ما يشبه الأيكة؛ وقبل الغسق بكثير، كنت ترى رجلا وامرأة ملتصقين أمام كل شجرة؛ وأحيانا، إذا وجدت شجرة سميكة الجذع، تجد رجلا وامرأة على كل جانب منها. أكثر ما أتذكره عن ذلك الوقت هو الجلوس قبالة شجيرة جولق أثناء هبوب الرياح المجمدة، حيث تكون أصابعي شديدة البرودة لدرجة أنني لم أكن أستطيع ثنيها، وطعم حلوى النعناع في فمي. هذه هي ذكريات الجنود المعتادة؛ ولكنني كنت أبتعد عن حياة «التومي» على الرغم من ذلك. أرسل قائد السرية اسمي للحصول على رتبة ضابط قبل إصابتي بفترة وجيزة؛ وفي ذلك الوقت، كانوا في أشد الحاجة إلى الضباط، وأي شخص كان بإمكانه أن يحصل على رتبة ضابط إن أراد، ما لم يكن في الواقع أميا. ذهبت على الفور من المستشفى إلى معسكر لتدريب الضباط بالقرب من كولتشيستر.
غريب للغاية ما فعلته الحرب بالناس؛ فقبل أقل من ثلاثة أعوام منذ كنت بائعا بمتجر نشيطا ورشيقا أقف إلى طاولة البيع في مئزري الأبيض وأقول: «أجل يا سيدتي! بالطبع يا سيدتي! هل أحضر لك شيئا آخر يا سيدتي؟» حيث كانت حياة البقالة أمامي، وكانت فكرة أن أصبح ضابطا في الجيش تعادل حصولي على لقب فارس. وها أنا مختال بقبعتي الرائعة وياقتي الصفراء، وأؤدي واجبي بشكل أو بآخر بين حشد من أفراد الخدمة المؤقتة الآخرين وبعض ممن لم يكونوا مؤقتين كذلك. وهذا هو بيت القصيد: وهو عدم شعوري بالغرابة بأي شكل؛ إذ لم يبد شيئا غريبا في تلك الأيام.
كان الأمر كما لو أن آلة ضخمة تتحكم فيك بالكامل، فلم يكن لديك شعور بالإرادة الحرة، وفي الوقت نفسه لم يكن لديك رغبة في محاولة المقاومة. لو لم يكن لدى الناس بعض من مثل هذا الشعور، فلم يكن لحرب أن تستمر لثلاثة أشهر؛ إذ سيحمل الجنود عتادهم ويرحلون إلى بلادهم. لماذا انضممت للجيش؟ ولماذا انضم إليه ملايين الحمقى الآخرين قبل فرض التجنيد الإجباري؟ انضممنا للمتعة من جهة، ومن جهة أخرى من أجل إنجلترا، إنجلترا وطني والإنجليز وكل تلك الأمور. ولكن إلى متى استمر ذلك؟ معظم الشباب الذين عرفتهم كانوا قد نسوا كل هذا قبل وقت طويل من وصولهم إلى فرنسا. الرجال في الخنادق لم يكونوا وطنيين، ولم يكرهوا القيصر، ولم يهتموا قيد أنملة ببلجيكا الصغيرة النبيلة والألمان الذين كانوا يغتصبون الراهبات على الطاولات (كانوا يغتصبونهن دائما «على الطاولات»، كما لو أن ذلك سيزيد الأمر سوءا) في شوارع بروكسل؛ ولكنهم لم يحاولوا الهرب. لقد كانت الآلة المسيطرة تتحكم فيك، ويمكنها أن تفعل بك ما يحلو لها؛ ترفعك لأعلى وتهبط بك لأسفل بين أماكن وأشياء لم تحلم يوما بها؛ وإن أوقعت بك على سطح القمر، فلن يبدو الأمر غريبا. انتهت حياتي القديمة في اليوم الذي انضممت فيه للجيش؛ فقد كان الأمر كما لو أنها لم تعد تعنيني. هل تصدق أنني منذ ذلك اليوم لم أذهب إلى لوير بينفيلد سوى مرة واحدة، وكان ذلك لأحضر جنازة أمي؟ يبدو الأمر لا يصدق الآن، ولكنه بدا طبيعيا جدا في ذلك الوقت. أعترف أن جزءا من ذلك كان بسبب إلسي، التي توقفت بالطبع عن الكتابة لها بعد شهرين أو ثلاثة. لا شك أنها قد تعرفت على شخص آخر، ولكنني لم أكن أرغب في مقابلتها. وبعيدا عن ذلك، ربما، لو تمكنت من الحصول على إجازة، لكنت قد ذهبت لرؤية أمي، التي أصابتها نوبات المرض عندما انضممت إلى الجيش، وكانت ستكون فخورة بابنها في زيه العسكري.
توفي أبي عام 1915، وكنت في ذلك الوقت في فرنسا. لا أبالغ عندما أقول إن موت أبي يؤلمني الآن أكثر مما آلمني في وقت موته؛ ففي ذلك الوقت، كان الأمر مجرد خبر سيئ تقبلته تقريبا دونما اهتمام، بنوع من تبلد الحس، كما يتقبل المرء كل شيء في الجيش. أتذكر الزحف نحو بوابة المخبأ للحصول على ضوء كاف لقراءة الخطاب، وأتذكر آثار دموع أمي في الخطاب، والإحساس بالألم الذي كنت أشعر به في ركبتي ورائحة الوحل. كانت وثيقة التأمين على الحياة الخاصة بأبي مرهونة بأغلب قيمتها، ولكنه كان لديه قدر ضئيل من المال في البنك، وكان آل سارازينز سيشترون المخزون ويدفعون مبلغا صغيرا؛ تقديرا منهم لسمعة أبي التجارية. على أي حال، كانت أمي تمتلك ما يزيد على مائتي جنيه إلى جانب أثاث المنزل. وذهبت للعيش مؤقتا مع إحدى قريباتها، وهي زوجة أحد صغار الملاك الذي كان حاله جيدا في وقت الحرب، وذلك قرب دوكسلي على بعد بضعة أميال على الجانب الآخر من وولتن. كان ذلك «وضعا مؤقتا» فقط؛ فقد كان ثمة شعور مؤقت تجاه كل شيء. إن كان ذلك قد حدث في الأيام الماضية، التي تكاد لا تتعدى في الواقع عاما واحدا، لكان الأمر سيبدو كارثة مرعبة؛ فمع وفاة الأب وبيع المتجر وعدم امتلاك الأم إلا لمائتي جنيه، كنت سترى أمامك على نحو ما مسرحية تراجيدية ممتدة على مدى خمسة عشر مشهدا، آخرها جنازة الفقير. ولكن الآن الحرب والشعور بأن المرء لا يملك نفسه قد ألقيا بظلالهما على كل شيء؛ فلم يعد الناس يفكرون في أشياء كالإفلاس وملجأ الفقراء. كان هذا هو الوضع حتى مع أمي، التي يعلم الله أنها كانت لديها أفكار شديدة الغموض حول الحرب؛ إضافة إلى أنها كانت في أواخر أيامها بالفعل، على الرغم من أن أحدا منا لم يكن يعلم ذلك.
أتت لرؤيتي في المستشفى بإيستبورن، وكان ذلك بعد ما يزيد على عامين من رؤيتي لها آخر مرة، وقد صدمني شكلها بعض الشيء حين رأيتها؛ فقد بدت شاحبة وتقلص حجمها قليلا. كان ذلك من ناحية لأنني في ذلك الوقت كنت قد كبرت وسافرت، وبدا كل شيء أصغر في عيني، ولكن لا شك أنها أصبحت أنحف، وكذلك أكثر شحوبا. حدثتني بطريقتها الهائمة القديمة عن العمة مارثا (القريبة التي أقامت عندها)، والتغييرات التي حلت بلوير بينفيلد منذ اندلاع الحرب، وجميع الصبية الذين «رحلوا» (أي انضموا للجيش)، وعسر الهضم الذي كان يصيبها والذي كان «متفاقما»، وشاهد مقبرة أبي المسكين وجثمانه الجميل. كان كلامها القديم نفسه، الكلام الذي كنت أسمعه لسنوات، ولكنه أصبح بشكل ما ككلام شبح؛ فلم يعد يهمني كما كان في السابق. لطالما عرفت أمي كائنا طيبا ومراعيا ومذهلا ورائعا، كتمثال من تلك التماثيل التي يضعونها في مقدمة السفن، وكدجاجة حاضنة لأفراخها، وفي نهاية المطاف أصبحت امرأة ضئيلة الحجم في فستان أسود. كل شيء كان يتغير ويزداد شحوبا. وكانت تلك آخر مرة أراها على قيد الحياة. وصلتني برقية تقول إنها كانت مريضة بشدة عندما كنت في مدرسة التدريب في كولتشيستر، وتقدمت على الفور للحصول على إجازة لمدة أسبوع؛ ولكن كان الأوان قد فات، إذ ماتت في الوقت الذي كنت فيه في دوكسلي. ما تخيلته هي وأي شخص آخر أنه كان عسر هضم كان نوعا من الأورام الداخلية، وقد قضت عليها ارتجافة مفاجئة في المعدة. حاول الطبيب التخفيف عني بإخباري أن الورم كان «حميدا»، ما بدا لي تسمية غريبة لمعرفتي أن هذا الورم قد قتلها.
حسنا، دفناها بجوار أبي، وكانت تلك نظرتي الأخيرة على لوير بينفيلد، التي تغيرت كثيرا في ثلاث سنوات فقط؛ حيث أغلقت بعض المتاجر، وتغيرت أسماء بعضها الآخر، وتقريبا كل الرجال الذين عرفتهم في صباي كانوا قد رحلوا، وبعض منهم كانوا قد ماتوا. مات سيد لوفجروف؛ إذ قتل في معركة السوم، ومات جينجر واتسون، صبي المزرعة الذي انضم إلى مجموعة اليد السوداء منذ سنوات، ذلك الصبي الذي كان يصطاد الأرانب حية؛ وكان في مصر حين وفاته. أحد الشباب الذين كانوا يعملون معي في متجر جريميت فقد ساقيه. وأقفل العجوز لوفجروف متجره وكان يعيش في كوخ بجوار وولتن على معاش سنوي صغير. أما العجوز جريميت، فقد كان يستفيد من الحرب، وأصبح وطنيا وعضوا في اللجنة المحلية التي حاكمت معارضي الخدمة العسكرية. وما أسهم أكثر من أي شيء آخر في فراغ البلدة وإعطائها ذلك المظهر المهجور كان في الواقع خلوها من الخيول؛ فقد استولى الجيش على كل حصان في حالة جيدة منذ مدة طويلة. كانت العربات التي تجرها الدواب لا تزال موجودة، لكن الحيوانات التي كانت تجرها لم تكن قادرة على الوقوف لولا أعمدة الجر. لمدة ما يقرب من الساعة التي قضيتها هناك قبل الجنازة، تجولت في البلدة متسائلا عن أحوال الناس ومستعرضا زيي العسكري. لحسن الحظ، لم أقابل إلسي. رأيت كل التغيرات، ولكنني كنت كما لو أنني لم أر شيئا؛ فقد كان عقلي مشغولا بأمور أخرى، على وجه التحديد السعادة التي غمرتني عندما رآني الناس بزي الملازم الثاني، وشارة أعلى الذراع الأسود (شيء يبدو أنيقا للغاية على اللون الكاكي)، وبنطالي المضلع الجديد. أتذكر جليا أنني كنت لا أزال أفكر في ذلك البنطال عندما وقفنا عند الساحة بجوار القبر، ثم رموا ببعض التراب على التابوت؛ فأدركت فجأة معنى أن أمي مستلقية أسفل الأرض على مسافة سبع أقدام، وشعرت برعشة خلف عيني وأنفي، ولكن حتى في تلك اللحظة لم يذهب البنطال عن بالي.
لا تعتقد أنني لم أحزن لموت أمي. لقد حزنت بالفعل؛ فلم أعد أحارب في الخنادق، ويمكنني أن أشعر بالحزن على موت أحد الأشخاص. ولكن ما لم أكن أهتم به أو حتى أعرف أنه كان يحدث قط هو انقضاء الحياة القديمة التي كنت أعرفها. بعد الجنازة، رجعت العمة مارثا - التي كانت فخورة للغاية بأن لها «ضابطا حقيقيا» في عائلتها وكانت ستستغل الجنازة لجذب الانتباه إلي، إن كنت قد سمحت لها - إلى دوكسلي بالحافلة، واستأجرت عربة إلى المحطة كي أستقل القطار إلى لندن ثم إلى كولتشيستر. مررنا في طريقنا بالمتجر، ولم يكن أحد قد أخذه منذ وفاة والدي. كان مغلقا وكان زجاج النافذة أسود وعليه غبار، وقد أحرق لهيب نفخ أحد السمكرية اسم «إس بولينج» على اللافتة. حسنا، كان في ذلك المكان المنزل الذي عشت فيه طفلا وصبيا وشابا؛ حيث كنت أزحف إلى أرضية المطبخ وأشم رائحة العنبريس وأقرأ «دونوفان الشجاع»؛ وحيث كنت أؤدي واجباتي المنزلية لمدرسة القواعد اللغوية، وأخلط معجون الخبز، وأصلح ثقوب الدراجة، وأجرب ارتداء أول ياقة عالية في حياتي. بدا لي ذلك المنزل حينها دائما كالأهرامات، ولكنني إن رجعت لها مرة أخرى الآن فسيكون بمنزلة شيء عارض. أبي، وأمي، وجو، وصبيان المتجر، والكلب نايلير العجوز، والكلب سبوت الذي اقتنته عائلتي بعد نايلير، وطائر الدغناش جاكي، والقطتان، والفئران في العلية؛ كل ذلك قد رحل ولم يتبق شيء سوى الغبار. ولم أعد أكترث بشيء. حزنت على موت أمي، وحزنت كذلك على موت أبي؛ ولكن ذهني كان شاردا في أشياء أخرى طوال الوقت. كنت فخورا بعض الشيء برؤية الناس لي في عربة أجرة، وهو الشيء الذي لم أكن حينها قد اعتدت عليه؛ وكنت أفكر في ارتدائي لبنطالي المضلع الجديد، وفي حذائي العسكري اللامع الجميل الذي يختلف عن الأحذية الخشنة التي يرتديها الجنود والشباب الآخرون في كولتشيستر؛ وكنت أفكر في الجنيهات الستين التي تركتها أمي، وفي كيف سأنفقها. كما كنت كذلك أشكر ربي أنني لم أقابل إلسي.
كان للحرب تأثير استثنائي على الناس. وما كان أكثر استثنائية من أنها تقتل الناس هو طريقتها في بعض الأحيان لإنقاذهم من الموت. كانت كفيضان عظيم يدفعك نحو الموت، وفجأة تقذف بك إلى مكان ما، حيث تجد نفسك تفعل أشياء لا يمكن تصورها، وغير مبررة، وتتقاضى عليها أجرا إضافيا. كانت ثمة كتائب من الجنود العاملين تعمل في رصف طرق في الصحراء التي لا تقود إلى أي مكان؛ وكان ثمة رجال مهجورون على جزر في المحيط لمراقبة السفن الحربية الألمانية التي كانت قد غرقت قبل ذلك بسنوات، وكانت بعض الوزارات المختلفة مزودة بجيش من الجنود الذين مهمتهم القيام بالأعمال المكتبية والكتابة على الآلة الكاتبة، الأمر الذي استمر حتى سنوات بعد انتهاء مهمتهم، في إحدى صور البطالة المقنعة. كان الناس يقحمون في وظائف غير ذات معنى، ثم تنساهم السلطات لسنوات عديدة. هذا ما حدث معي، والذي لولاه ما كنت في الغالب في مكاني اليوم. والتسلسل الكامل للأحداث مشوق للغاية.
بعد فترة وجيزة من إعلان تعييني ضابطا جاء استدعاء لضباط فيلق خدمة الجيش. وبمجرد أن سمع القائد المسئول عن تدريب المعسكر أنني أعلم شيئا عن مجال البقالة (لم أقل إنني عملت خلف طاولة البيع)، أمرني أن أرسل اسمي. جرى الأمر على ما يرام، وكنت للتو على وشك الانتقال إلى مدرسة تدريب أخرى لضباط فيلق خدمة الجيش، التي كانت في مكان ما في ميدلاندز حيث كان هناك حاجة إلى ضابط شاب لديه معرفة بالبقالة للعمل في السكرتارية لدى السير جوزيف تشيم، الذي كان ذا شأن كبير في الفيلق. لا أعلم لماذا اختاروني، ولكنهم على أي حال قد فعلوا؛ فلطالما اعتقدت أنهم ربما اختلط عليهم الأمر بين اسمي واسم شخص آخر. بعد ثلاثة أيام، كنت أؤدي التحية العسكرية في مكتب السير جوزيف. كان رجلا كبير السن نحيفا، ومنتصب القامة وحسن المظهر، أشيب الشعر وذا أنف حاد أخلف في نفسي انطباعا قويا على الفور؛ إذ بدا جنديا محترفا مثاليا ممن استحقوا وسام التميز الخاص بسان مايكل وسان جورج ووسام الخدمة المتميزة، ويشبه تماما الرجل الذي يظهر في إعلانات دي ريشكا كما لو كان شقيقه التوأم؛ ولكنه في حياته المدنية كان مديرا لسلسلة كبيرة لمتاجر البقالة، التي بلغت شهرتها مختلف أنحاء العالم بفضل ما يسمونه نظام تشيم لتخفيض الأجور. توقف عن الكتابة عندما دخلت عليه، ونظر إلي متفحصا، وقال: «هل أنت من الأعيان؟» «لا يا سيدي.» «جيد. إذن لعلك تنجز لنا عملا.»
فيما يقرب من ثلاث دقائق، استطاع بخبرته أن يعلم أنني لم تكن لدي أي خبرة في السكرتارية، ولم أكن أعرف الاختزال، ولم يسبق لي استخدام الآلة الكاتبة، وأنني قد عملت في متجر للبقالة مقابل ثمانية وعشرين شلنا في الأسبوع؛ ولكنه قال إنني سأتعلم كل ذلك، وإنه كان هناك الكثير من أبناء الطبقات العليا في هذا الجيش اللعين، ولكنه كان يريد شخصا يمكنه العد لأكثر من عشرة. أعجبت به وتطلعت إلى العمل معه، ولكن في هذه اللحظة تحديدا فرقت بيننا مرة أخرى القوى الغامضة التي بدت أنها كانت تدير الحرب؛ فقد كان يتشكل كيان يدعى قوات دفاع الساحل الغربي، أو بالأحرى كانوا يتحدثون عنه، ونشأت فكرة غامضة عن إقامة مستودعات للمؤن وغيرها من المخازن في نقاط مختلفة على طول الساحل. وكان من المفترض أن يكون السير جوزيف مسئولا عن المستودعات في جنوب غرب إنجلترا. وفي اليوم الذي انضممت فيه لمكتبه، أرسلني لفحص المؤن في مكان يدعى مستودع الميل اثني عشر على ساحل كورنوول الشمالي؛ أو بالأحرى كانت وظيفتي هي معرفة ما إذا كانت ثمة مؤن هناك بالفعل أو لا. لم يبد أحد متأكدا من الأمر، فذهبت إلى هناك واكتشفت أن المؤن عبارة عن إحدى عشرة صفيحة من لحم البقر المعلب، وذلك عندما وصلتني برقية من وزارة الحربية أخبرتني أن أتولى أمر المؤن في مستودع الميل اثني عشر وأظل هناك حتى إشعار آخر. أرسلت برقية بالرد أقول فيها: «لا توجد مؤن في مستودع الميل اثني عشر.» ولكن سبق السيف العزل؛ ففي اليوم التالي وصلني خطاب رسمي يخبرني أنني أصبحت القائد العام لمستودع الميل اثني عشر. وهذه في الحقيقة هي نهاية القصة؛ فقد ظللت في رتبة القائد العام لمستودع الميل اثني عشر حتى نهاية الحرب.
لم يكن أحد يعلم شيئا عن المغزى من كل ذلك؛ فلا فائدة من أن تسألني عن ماهية كيان قوات دفاع الساحل الغربي، أو عما كان من المفترض أن يفعله. حتى حينها لم يتظاهر أحد بمعرفة شيء، ولكنه على أي حال لم يكن له وجود؛ فلم يكن سوى مشروع خطر على ذهن أحد المسئولين - أظن أنه كان نتيجة إشاعة غامضة عن غزو ألماني قادم عبر إيرلندا - ولم تكن مستودعات الطعام التي كان من المفترض أن توجد على طول الساحل إلا من وحي الخيال. الأمر برمته لم يستمر إلا لثلاثة أيام كالفقاعة، ثم نسيه الجميع ونسوني معه. أما الصفائح الإحدى عشرة للحم البقري المعلب التي رأيتها، فقد كان الضباط الذين كانوا في ذلك المكان في وقت سابق في مهمة غامضة أخرى قد تركوها وراءهم؛ كما تركوا كذلك رجلا عجوزا ضعيف السمع بشدة اسمه الجندي ليدجبرد، ولكني لم أعرف قط ما كان من المفترض أن يفعله ليدجبرد هناك. يا ترى هل ستصدق أنني ظللت أحرس صفائح اللحم البقري المعلب الإحدى عشرة تلك منذ منتصف عام 1917 وحتى بداية عام 1919؟ ربما لن تصدقني ولكنها الحقيقة، وحتى ذلك لم يبد غريبا حينها. وبحلول عام 1918، كنت قد تخلصت من عادة توقع حدوث الأشياء بالطرق المنطقية.
كانوا يرسلون إلي مرة كل شهر نموذجا رسميا طويلا يطالبوني فيه بذكر عدد المعاول وحالتها، وأدوات الحفر، ولفات الأسلاك الشائكة، والبطاطين، وملاءات الأرض المضادة للماء، وعدد الإسعافات الأولية، وألواح الحديد المموج، وصفائح مربى البرقوق والتفاح التي في عهدتي. كنت ببساطة أكتب «صفرا» أمام كل البنود وأرسل النموذج، ولم يحدث شيء قط. وفي لندن، كان ثمة أحد يدخل بيانات النماذج في هدوء؛ ويرسل المزيد من النماذج ويدخل بياناتها، وهكذا . هكذا كانت تسير الأمور. أصحاب المناصب الرفيعة الغامضون الذين كانوا يديرون الحرب كانوا قد نسوا وجودي، ولم أذكرهم بنفسي؛ فقد كنت في مكان منعزل لم يكن يؤدي إلى أي مكان آخر، وبعد عامين في فرنسا لم يكن الشعور بالوطنية يغمرني لدرجة تجعلني أريد الخروج من تلك الحالة.
كنت في جزء منعزل من الساحل حيث لم تكن ترى إنسانا قط سوى بعض الفلاحين الذين بالكاد سمعوا عن اندلاع حرب في البلاد؛ وعلى بعد ربع ميل أسفل تل صغير، كان صوت البحر يدوي ويموج على سهول شاسعة من الرمال. كانت السماء تمطر في تسعة أشهر من السنة، وفي الأشهر الثلاثة الأخرى تهب الرياح الأطلسية العاتية. لم يكن ثمة شيء سوى الجندي ليدجبرد وأنا وكوخان من أكواخ الجيش - أحدهما كان كوخا مقبولا بغرفتين، والذي كنت أقيم فيه - وصفائح اللحم البقري المعلب الإحدى عشرة. وكان ليدجبرد شيطانا عجوزا فظا، ولم أتمكن قط من معرفة الكثير عنه سوى أنه كان يزرع الخضراوات ويبيعها للتجار في الأسواق قبل أن ينضم إلى الجيش. تشوقت أن أعرف كيف رجع سريعا إلى سابق عهده؛ فحتى قبل أن أذهب إلى مستودع الميل اثني عشر، كان قد حفر قطعة أرض صغيرة حول أحد الكوخين وبدأ في زراعة البطاطس، كما حفر قطعة أرض أخرى في الخريف حتى زرع ما يقرب من نصف فدان. وفي بداية عام 1918، شرع في تربية الدجاج، الذي تزايدت أعداده بحلول نهاية الصيف؛ وعلى مشارف نهاية العام، ربى فجأة خنزيرا لا أعلم من أين جلبه. لا أعتقد أنه قد خطر في باله أن يتساءل عما نفعله في ذلك المكان، أو ما هي قوات دفاع الساحل الغربي وما إذا كان لها وجود بالفعل. ولن أستغرب إن سمعت أنه ما زال هناك يربي الخنازير ويزرع البطاطس في البقعة التي كانت يوما مستودع الميل اثني عشر؛ بل أتمنى أن يكون ما زال هناك بالفعل، وأتمنى له حظا سعيدا.
في ذلك الوقت، كنت أفعل شيئا لم تتسن لي الفرصة من قبل أن أفعله عندما كنت أعمل بدوام كامل. كان هذا الشيء هو القراءة.
ترك الضباط الذين كانوا في ذلك المكان قبلي بضعة كتب، أغلبها من الطبعات الرخيصة وكلها تقريبا من ذلك النوع التافه الذي كان يقرؤه الناس في ذلك الوقت: قصص إيان هاي وسابر وكريج كينيدي وأشياء من هذا القبيل. ولكن في وقت ما كان هناك شخص يعرف جيدا الكتب التي تستحق القراءة وتلك التي لا تستحق. أنا نفسي في ذلك الوقت لم تكن لدي مثل تلك المعرفة؛ فالكتب الوحيدة التي قرأتها طواعية كانت القصص البوليسية، وفي بعض الأحيان النادرة كنت أقرأ الكتب الجنسية البذيئة. في الواقع، أنا لم أخطط لأن أكون رفيع الثقافة حتى الآن؛ ولكن إن سألتني حينها عن اسم كتاب «جيد»، لأجبتك برواية «المرأة التي أعطيتها لي»، أو (تخليدا لذكرى راعي الكنيسة) «السمسم والزنابق». على أي حال، كان الكتاب «الجيد» بالنسبة لي هو الكتاب الذي لا يهتم أحد بقراءته. ولكني وجدت نفسي في ذلك المكان، في وظيفة ليس فيها شيء لأفعله، وبجواري البحر يندفع على الشاطئ والأمطار تنهمر على الواجهة الزجاجية للنافذة - وصف كامل من الكتب التي كانت كما لو أنها تحدق في وجهي على الرف المؤقت الذي أعده أحد الضباط السابقين على حائط الكوخ. بطبيعة الحال، بدأت أقرأ فيها من الغلاف إلى الغلاف، وحاولت في البداية جاهدا انتقاء الأفضل، كخنزير ينتقي طعامه من دلو مليء بالقمامة.
ولكنني وجدت بينها ثلاثة أو أربعة كتب كانت مختلفة عن الكتب الأخرى. لا، لا بد أنك قد أسأت الفهم! لا تتسرع وتظن أنني فجأة قد وجدت كتبا لمارسيل بروست أو هنري جيمس أو من شابههما؛ فلم أكن لأقرأها حتى إن كنت قد وجدتها. ولكن تلك الكتب التي أتحدث عنها لم تكن ذات مستوى ثقافي عال على الإطلاق؛ ولكنك من حين لآخر قد تجد كتابا في المستوى الذهني الذي وصلت إليه تماما في تلك اللحظة، لدرجة أنه يبدو كما لو أنه قد كتب خصيصى لأجلك. أحد تلك الكتب كان «تاريخ السيد بولي» لإتش جي ويلز، وكان في طبعة رخيصة للغاية متهالكة الأوراق. هل تتخيل الأثر الذي تركه في نفسي، وكيف لشخص مثلي، بالطريقة التي تربيت بها ابنا لصاحب متجر في بلدة ريفية، أن يقع كتاب كذلك في يده؟ من تلك الكتب أيضا كان «شارع سينستر» لكومبتون ماكنزي، الذي كان فضيحة الموسم قبل عدة سنوات سابقة على ذلك الحين، وكنت قد قرأت بعض الإشاعات الغريبة عنه في لوير بينفيلد. وجدت أيضا رواية «النصر» لكونراد، التي أصابتني أجزاء منها بالملل. ولكن كتب كتلك تجعلك تبدأ في التفكير. كان هناك كذلك عدد قديم من مجلة ذات غلاف أزرق، وكان بها قصة قصيرة ل «دي إتش لورانس»، ولكنني لا أتذكر اسمها. كانت قصة عن مجند إلزامي في الجيش الألماني دفع برئيسه الرقيب الأول من أعلى حافة أحد الحصون، ثم هرب وقبض عليه في غرفة نوم فتاته. حيرتني تلك القصة كثيرا؛ فلم أستطع فهم ما تدور حوله، ولكنها تركت لدي شعورا غريبا بأنني أريد أن أقرأ قصصا أخرى مماثلة لها.
حسنا، كانت لدي لعدة أشهر تعطش إلى قراءة الكتب أشبه بالعطش إلى الماء. وقد كان ذلك أول انخراط حقيقي لي في القراءة حظيت به منذ أيام ديك دونوفان. في البداية، لم تكن لدي أي فكرة عن كيفية الحصول على الكتب، وقد ظننت أن الطريقة الوحيدة لذلك هي عن طريق شرائها، واعتقدت أن ذلك مثير للاهتمام؛ إذ يبين لك الاختلاف الذي تصنعه النشأة، فأنا أعتقد أن أبناء الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التي تتحصل على خمسمائة جنيه في السنة، يعلمون كل شيء عن مكتبة مودي ونادي كتب التايمز منذ نعومة أظفارهم. بعد ذلك الحين بوقت ليس بطويل، علمت بوجود مكتبات الاستعارة، واستخرجت اشتراكا من مكتبة مودي، وآخر من مكتبة في بريستول. لعلك تسأل عما كنت أقرؤه خلال السنة التالية أو نحو ذلك! حسنا، كنت أقرأ لويلز، وكونراد، وكيبلينج، وجالزوورثي، وباري باين، ودبليو دبليو جاكوبس، وبيت ريدج، وأوليفر أونيونز، وكومبتون ماكينزي، وإتش سيتون ميريمان، وموريس بارينج، وستيفن ماكينا، وماي سينكلير، وأرنولد بينيت ، وأنتوني هوب، وإلينور جلين، وأو هنري، وستيفن ليكوك، وحتى سيلاس هوكينج وجان ستراتون بورتر. ترى كم اسما تعرفه في تلك القائمة؟ نصف الكتب التي أخذها الناس على محمل الجد في تلك الأيام أصبحت منسية الآن. ولكنني في البداية التهمتها دفعة واحدة كحوت وقع وسط سرب من أسماك القريدس. وقد وجدت متعة بالغة في قراءتها. أصبحت بالطبع بعدئذ بقليل أكثر ثقافة وبدأت أعرف كيف أفرق بين الكتب التافهة وغير التافهة. حصلت على رواية «أبناء وعشاق» للورانس، واستمتعت بها بعض الشيء، واستمتعت كثيرا بقراءة «دوريان جراي» لأوسكار وايلد، و«ألف ليلة وليلة الجديدة» لستيفنسون. أما الكاتب الذي كان له التأثير الأكبر علي، فقد كان ويلز. قرأت كذلك «إستر ووترز» لجورج مور وأعجبتني، وجربت عدة روايات لهاردي ولكني كنت دائما أعلق في منتصفها. كانت لي تجربة أيضا مع مؤلفات إبسن، التي تركت لدي انطباعا غريبا أن السماء تمطر دائما في النرويج.
كان ذلك غريبا حقا، وحتى في تلك الأيام كان الأمر يبدو لي غريبا. كنت قد أصبحت ملازما ثانيا وتخلصت تقريبا من لهجة أبناء الطبقة العاملة، وكان بإمكاني التمييز بين أرنولد بينيت وإلينور جلين، وكل ذلك في غضون أربع سنوات فقط منذ كنت أقطع الجبن خلف طاولة البيع في المتجر مرتديا مئزري الأبيض وأتطلع إلى اليوم الذي أصبح فيه صاحب متجر للبقالة. قبل أن أزيدك من الشعر بيتا، أعتقد أنني يجب أن أعترف أن الحرب قد جلبت لي الخير والشر على السواء. في كل الأحوال، شكلت تلك السنة التي قرأت فيها الروايات التعليم الحقيقي الوحيد الذي حصلت عليه، من ناحية المعرفة النظرية. لقد كان لها تأثير خاص على عقلي، وعلمتني منهجا للنظر في الأشياء، ذلك المنهج النقدي، الذي على الأرجح لم أكن لأكتسبه لو كنت قد شققت طريقي في الحياة بطريقة عادية مخطط لها. ولكن - أتساءل عما إذا كان بمقدورك فهم هذا - الشيء الذي غيرني حقا، أي الذي كان له أثر علي بالفعل، لم يكن بالأحرى الكتب التي قرأتها بقدر ما كان غياب المعنى من الحياة البغيضة التي كنت أعيشها.
كانت الحياة بالفعل خالية من المعنى على نحو لا يمكن التعبير عنه في ذلك الوقت عام 1918. هكذا كنت هناك، أجلس بجوار الموقد في كوخ تابع للجيش، وأقرأ الروايات؛ وعلى بعد بضع مئات الأميال في فرنسا كانت الأسلحة تدوي وكانت أسراب الأطفال البائسين، الذين كانوا يبللون سراويلهم من الخوف، يقادون إلى الحصون كمن يقذف بقطع الفحم الصغيرة في أتون. كنت من المحظوظين؛ فالقادة الكبار كانوا قد صرفوا النظر عني، وها أنا كنت هناك في جحري الآمن الصغير المحجوب عن الأنظار أتقاضى أجرا من وظيفة لا وجود لها. كنت أدخل في نوبة هلع في بعض الأحيان، وكنت على يقين من أنهم سيتذكرونني ويخرجونني من ذلك المكان؛ ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. النماذج الرسمية، في أوراقها الرمادية الرملية، كانت تأتيني مرة في الشهر؛ وكنت أملؤها وأعيد إرسالها؛ ثم كان يأتي المزيد من النماذج، وأملؤها ثم أعيد إرسالها، وهكذا. لم يكن في الأمر برمته منطق على الإطلاق، كما لو أنه حلم من أحلام رجل مجذوب. وكان تأثير كل ذلك، بالإضافة إلى الكتب التي كنت أقرؤها، هو أن ترك في نفسي شعورا من عدم الإيمان بأي شيء.
لم أكن الوحيد في هذا الشأن؛ ففي وقت الحرب كانت البلاد مليئة بالأطراف السائبة والأركان المنسية، ففي ذلك الوقت كان هناك بالفعل ملايين الأشخاص العالقين في أماكن مهجورة بشكل أو بآخر. هناك جيوش بأكملها كانت تتفكك على جبهات نسي الناس أسماءها. وثمة وزارات ضخمة كان بها حشد من الموظفين والكاتبين على الآلة الكاتبة يتقاضون جميعا جنيهين في الأسبوع وأكثر وهم لا يفعلون شيئا سوى تكويم تلال من الأوراق. علاوة على ذلك، فقد كانوا يعلمون جيدا أن كل ما كانوا يفعلونه هو تكويم تلال من الأوراق. ولم يعد أحد يؤمن بالقصص الوحشية وبما يروج عن شأن بلجيكا المسكينة النبيلة. كان الجنود يعتقدون أن الألمان كانوا أناسا طيبين، وكانوا يكرهون الفرنسيين كراهية السم. وكان كل ضابط صغير يرى الأركان العامة حفنة من المتخلفين عقليا. موجة من عدم الإيمان بأي شيء كانت تجتاح إنجلترا، وقد وصلت حتى إلى مستودع الميل اثني عشر. قد يبدو من المبالغة إن قلت إن الحرب قد حولت الناس إلى مثقفين، ولكنها بالفعل حولتهم إلى عدميين آنذاك. هؤلاء الذين يمضون في حياتهم بطريقة عادية، ولا يتعدى تفكيرهم في أنفسهم من التعقيد تفكيرهم في الحلوى الدسمة، قد تحولوا إلى بلاشفة فقط بفعل الحرب. ترى كيف كان سيكون حالي الآن لو لم تقع الحرب؟ لا أعلم، ولكن بالتأكيد كنت سأكون مختلفا عما أنا عليه الآن. إن لم تقتلك الحرب، فستجعلك تبدأ في التفكير؛ فبعد تلك الفوضى التي تتعدى حماقتها الوصف، لا يمكنك الاستمرار في النظر إلى المجتمع باعتباره أبديا ولا يرقى إلى الشك كالأهرامات؛ لأنك علمت أنه لم يكن سوى خدعة كبيرة.
9
سلبتني الحرب حياتي القديمة التي كنت أعرفها؛ ولكن في الفترة الغريبة التي أتت بعدها، نسيتها تقريبا برمتها.
أعلم أنه على نحو ما لا ينسى المرء أي شيء قط؛ إذ تتذكر تلك القطعة من قشر البرتقال التي رأيتها في قناة تصريف المياه منذ ثلاثين عاما، وذلك الملصق الملون لمدينة توركاي الذي لمحته مرة في غرفة الانتظار بإحدى محطات القطار. ولكنني أتحدث عن نوع مختلف من الذاكرة؛ فعلى نحو ما أتذكر حياتي القديمة في لوير بينفيلد: أتذكر قصبة الصيد خاصتي، ورائحة العنبريس؛ وأتذكر أمي خلف إبريق الشاي البني، وطائر الدغناش جاكي، ومعلف الخيول في السوق. ولكن لم يعد أي من ذلك حيا في ذهني؛ فقد أصبحت كلها أشياء بعيدة، أشياء انتهيت منها. لم يحدث قط أن خطر ببالي أنني أردت العودة يوما إلى تلك الأيام.
لقد كان زمانا غريبا، تلك السنوات التي تلت الحرب مباشرة؛ فهي أكثر غرابة من أيام الحرب نفسها، ولكن الناس لا يتذكرونها بوضوح. على نحو مختلف تماما، كان الشعور بعدم الإيمان بأي شيء أقوى من أي وقت مضى. ملايين الرجال سرحوا فجأة من الجيش ليجدوا أن البلد الذي حاربوا من أجله لا يريدهم، وكان لويد جورج ورفقاؤه يعملون على تعزيز أي أوهام كانت لا تزال موجودة. كانت مجموعات من الرجال الذين كانوا في الخدمة يسيرون جيئة وذهابا في تظاهرات في الشوارع يقعقعون صناديق جمع الأموال، وكانت النساء المقنعات يغنين في الشوارع، وكان رجال بالزي العسكري يعزفون على آلة الأرغن اليدوية. بدا كل شخص في إنجلترا يصارع للحصول على عمل، وفي ذلك أنا. ولكنني كنت محظوظا أكثر من معظمهم، فقد حصلت على تعويض بسيط عن إصابتي؛ وبه ومع القليل من المال الذي ادخرته خلال السنة الأخيرة من الحرب (إذ لم يتسن لي الكثير من الفرص لإنفاقه)، خرجت من الجيش بما لا يقل عن ثلاثمائة وخمسين جنيها. أعتقد أنه من المثير للاهتمام ملاحظة رد فعلي. هكذا كان معي ما يكفي من المال لأفعل ما تدربت على فعله وما حلمت به لسنوات، وهو أن أفتح متجرا؛ فلدي رأس مال كبير. إذا تحليت بالصبر والحذر، يمكنك أن تدير عملا جيدا بثلاثمائة وخمسين جنيها، ولكن صدقني لم تخطر الفكرة على ذهني قط؛ فلم أمتنع فقط عن اتخاذ أي خطوات نحو امتلاك متجر، بل لم يخطر ببالي إلا بعدها بسنوات - تقريبا في 1925 في الواقع - أنه كان علي أن أمتلك واحدا. الحقيقة كانت أنني خرجت لتوي من دائرة أصحاب المتاجر، وذلك كان ما فعله الجيش في؛ إذ يجعلك ترى نفسك كأحد الأعيان، ويعطيك فكرة راسخة عن أن المال دائما سيأتيك من مكان ما. إن كنت قد اقترحت علي حينها، في 1919، أنه ينبغي علي أن أمتلك متجرا - للتبغ أو الحلوى أو ما شابه، أو متجرا عاما في قرية فقيرة - لكنت قد ضحكت على ما تقول؛ فقد كنت قد ارتديت الإشارات الدالة على الرتبة على كتفي، وعلا وضعي الاجتماعي. في الوقت نفسه، لم يكن لدي الوهم، الذي كان شائعا للغاية بين الضباط السابقين، أنني سأقضي ما تبقى من حياتي في احتساء شراب الجن الوردي؛ فقد كنت أعلم أن علي أن أحصل على وظيفة، والوظيفة بالطبع ستكون في مجال «الأعمال»، فقط لم أكن أعرف نوع الوظيفة التي يجب أن أبحث عنها، ولكنها كان يجب أن تكون ذات مكانة عالية وأهمية كبيرة، من نوعية تلك الوظائف التي يمتلك أصحابها سيارة وهاتفا وإن أمكن سكرتيرة بشعر مموج على نحو دائم. خلال العام الأخير أو نحو ذلك من الحرب، كان لدى كثير منا رؤى كتلك؛ فمن كان بائعا متجولا رأى نفسه مندوب مبيعات متجولا، ومن كان مندوب مبيعات متجولا رأى نفسه مديرا عاما. كان ذلك تأثير الحياة العسكرية؛ تأثير ارتداء الإشارات على الأكتاف، وامتلاك دفتر شيكات وتسمية وجبة المساء بالوجبة الرئيسية. في الوقت نفسه أيضا، كانت ثمة فكرة تحوم بالأرجاء - في أذهان الرجال من ذوي المناصب العالية والضباط على حد سواء - أننا عندما نخرج من الجيش ستكون هناك وظائف بانتظارنا وأننا سنتكسب منها على أقل تقدير ما كنا نتكسبه في الجيش. بالطبع إن لم تتداول أفكار كتلك، لم تكن حربا لتخاض قط.
حسنا، لم أحصل على تلك الوظيفة؛ إذ يبدو أنه لم يكن أحد متحمسا لأن يدفع لي ألفي جنيه في السنة مقابل جلوسي على مكتب عصري وإملائي لخطابات على سكرتيرة ذات شعر أصفر فضي. لقد اكتشفت الشيء نفسه الذي اكتشفه ثلاثة أرباع الضباط السابقين، وهو أننا من الناحية المالية كنا أيام الجيش أفضل مما قد نكون عليه في أي وقت قادم؛ فقد تحولنا فجأة من جنود في خدمة جلالة الملك إلى بائسين عاطلين عن العمل، لا يرغب أحد في توظيفهم. وسرعان ما تراجعت طموحاتي من ألفي جنيه في السنة إلى ثلاثة أو أربعة جنيهات في الأسبوع، ولكن حتى الوظائف التي كان يتكسب أصحابها ثلاثة أو أربعة جنيهات في الأسبوع لم يبد أنه كان لها وجود. كل الوظائف الممكنة كانت مشغولة بالفعل، إما من قبل الرجال الذين كانوا قد كبروا ببضع سنوات على القتال، أو بالصبية الذين كانوا أصغر من سن القتال ببضعة أشهر؛ أما هؤلاء اللقطاء المساكين الذين صادف ميلادهم بين عامي 1890 و1900، فقد تركوا في العراء. وعلى الرغم من كل ذلك لم أفكر قط في العمل في مجال البقالة . ربما كان بإمكاني الحصول على وظيفة مساعد بقال؛ العجوز جريميت إن كان لا يزال حيا ويعمل بالتجارة (لم أكن على تواصل مع أحد في لوير بينفيلد ولم أكن أعلم) كان بإمكانه أن يوصي التجار بي؛ ولكني دخلت في دائرة مختلفة. حتى إن لم تكن أفكاري الاجتماعية قد ارتقت، لم أكن لأتخيل بعد ما رأيته وتعلمته أن أرجع إلى مكاني الآمن القديم خلف طاولة البيع؛ فقد كنت أرغب في السفر وكسب الكثير من المال. وعلى وجه التحديد كنت أريد العمل في وظيفة مندوب مبيعات متجول، التي علمت أنها ستناسبني.
ولكن لم أجد وظائف شاغرة لمندوبي مبيعات متجولين، أعني وظيفة بمرتب مغر؛ فكل ما كان أمامي كانت وظائف بالعمولة. بدأ هذا النوع من البيع في الانتشار على نطاق واسع؛ فهي طريقة بسيطة وجيدة لزيادة المبيعات والإعلان عن منتجاتك دون خوض أي مخاطر، ودائما ما تزدهر في الأوقات الصعبة. وكانت تلك الشركات تؤثر عليك بأن توحي لك أنه ربما سيكون لديهم لك وظيفة بأجر ثابت في غضون ثلاثة أشهر، وعندما تسأم منهم فهناك دائما شخص مسكين على استعداد للعمل مكانك. بطبيعة الحال، لم يستغرق الأمر مني وقتا طويلا للعثور على وظيفة من تلك الوظائف بالعمولة؛ وفي الواقع، عملت في العديد منها وتركتها بمعدل سريع. حمدا لله أنني لم أتجول طارقا الأبواب قط لبيع المكانس الكهربائية أو القواميس. ولكنني كنت أتجول لأبيع أدوات المائدة، ومساحيق الصابون، وخط إنتاج نازع سدادات فلينية حاصل على براءة اختراع، وفتاحات العلب المعدنية، وأدوات مماثلة، وأخيرا خط إنتاج للوازم المكتبية: دبابيس الورق، والورق الكربوني، وأشرطة الآلات الكاتبة، وأشياء من هذا القبيل. لم يكن الأمر سيئا؛ فأنا من النوع الذي «يستطيع» بيع الأشياء بالعمولة؛ لأن لدي الصفات المناسبة لتلك الوظيفة والسلوكيات المطلوبة فيها. ولكنني لم أقترب بأي حال من الأحوال من التحصل على مكاسب تكفل لي عيشة جيدة؛ فلا يمكنك ذلك في وظيفة كتلك، وبالطبع أنت لا تخطط لذلك.
عملت في تلك المهنة إجمالا لمدة عام. كان عاما غريبا . الرحلات عبر البلدات، والأماكن البشعة التي تصلها، وضواحي بلدات وسط البلاد التي لن تسمع عنها طوال حياتك العادية، ولو بلغت مائة عام، ونزل المبيت والإفطار حيث رائحة الملاءات الممتزجة دائما بنفحة من بقايا الطعام والبيض المقلي على الإفطار ذي الصفار الأكثر بهتانا من ليمونة حامضة. ومندوبو المبيعات الملاعين المساكين الآخرون الذين تقابلهم دائما، والذين كانوا أرباب أسر في منتصف العمر، وكانوا يرتدون معاطف بالية وقبعات مستديرة، ويؤمنون بصدق أن التجارة ستتخطى أزمتها عاجلا أم آجلا وأن دخلهم سيزيد ليصبح خمسة جنيهات في الأسبوع. والمشي من متجر لآخر، والجدال مع أصحاب المتاجر الذين لا يرغبون في سماعك، والتنحي جانبا والشعور بالمهانة عندما يأتي زبون. لا أعتقد أن شيئا من ذلك قد ضايقني على وجه الخصوص؛ ولكن أسلوب الحياة هذا يعد جحيما لبعض الرجال. هناك بعض الرجال الذين لا يقدرون حتى على الدخول إلى المتاجر وفتح حقيبة العينات خاصتهم دون التعبير عن امتعاضهم. ولكنني لست من ذلك النوع؛ فأنا قوي الشكيمة، ويمكنني إقناع الناس بشراء أشياء لا يحتاجونها؛ وحتى إن أغلقوا الباب في وجهي، فلا يزعجني ذلك. بيع الأشياء بالعمولة هو بالفعل ما أحب عمله، على شرط أن أرى أنه يمكنني من خلاله كسب الكثير من المال. لا أعلم ما إذا كنت قد تعلمت الكثير في تلك السنة، ولكني تخلصت من أمور كثيرة؛ حيث انتزعت مني هراء الجيش، ونشطت في ذهني الأفكار التي خزنتها فيه أثناء سنة الركود التي كنت أقرأ فيها الروايات. لا أعتقد أنني قرأت كتابا واحدا، باستثناء القصص البوليسية، طوال الوقت كنت أتجول فيه في الطرقات بائعا. لم أعد مثقفا، بل نزلت إلى حقائق الحياة الحديثة. ربما تسألني: ما هي حقائق الحياة الحديثة؟ حسنا، أهمها هو الصراع الأبدي المسعور على بيع الأشياء، الذي يصل إلى بيع النفس لدى معظم الناس، المتمثل في الحصول على وظيفة والحفاظ عليها. أعتقد أنه لم يمر شهر واحد منذ الحرب، في أي مجال عمل قد يخطر على بالك، إلا وكان عدد الرجال يفوق عدد الوظائف المتاحة؛ فقد خلف هذا شعورا مروعا غريبا في حياتنا، كما لو كنا في سفينة تغرق، بها تسعة عشر شخصا وأربعة عشر طوق نجاة فقط. وقد تتساءل عما إذا كان في ذلك أي شيء يتعلق بالحداثة، وعن علاقة ذلك بالحرب. حسنا، يبدو أن الأمر كذلك بالفعل؛ فهذا الشعور بأنه عليك دائما وأبدا خوض الصراعات والتكالب على الأمور، وأنك لن تنال أي شيء ما لم تنتزعه من غيرك، وأن ثمة شخصا آخر دائما يسعى لأخذ وظيفتك منك، وأنهم في الشهر التالي أو الشهر الذي يليه سيخفضون عدد الموظفين وأنك ستطرد من منصبك؛ أقسم إن كل ذلك لم يكن موجودا في أيام ما قبل الحرب.
ولكن مع ذلك لم أكن معدما؛ فقد كنت أكسب القليل، وكنت لا أزال أحتفظ بالكثير من الأموال في البنك - ما يقرب من مائتي جنيه - ولم أكن خائفا من المستقبل. كنت أعلم أنني عاجلا أم آجلا سأحصل على وظيفة منتظمة. وبالفعل بعد ما يقرب من عام وبضربة حظ حدث ذلك. أقول بضربة حظ، ولكنني في الواقع كنت دائما أتخطى المصاعب؛ فلست من ذلك النوع الذي يقبل المعاناة، ولكني من المحتمل أن ينتهي بي الحال في ملجأ للفقراء تماما كما هو من المحتمل أن ينتهي بي في مجلس اللوردات؛ فأنا من النوع المتوسط، ذلك النوع الذي يجذبه نوع من القانون الطبيعي نحو مستوى الجنيهات الخمس في الأسبوع. وأينما وجدت أمامي أي وظيفة أيا كانت تحقق ذلك، فسأبذل ما في جهدي للحصول عليها.
حدث ذلك عندما كنت أتجول لبيع دبابيس الورق وأشرطة الآلات الكاتبة؛ حيث تسللت إلى مبنى مكتبي ضخم في شارع فليت استريت، وكان ممنوعا فيه التجول للبيع في الحقيقة؛ ولكني تمكنت من إعطاء عامل المصعد انطباعا بأن حقيبة العينات التي أحملها حقيبة أوراق. مشيت في أحد الممرات بحثا عن مكاتب شركة صغيرة لمعاجين الأسنان، أوصاني أحد الأشخاص بتجربة البيع لها، ولكني رأيت شخصا شديد الأهمية في الجهة الأخرى من الممر. علمت على الفور أنه شخص مهم. تعلم كيف هي سمات رجال الأعمال الكبار هؤلاء؛ إذ يبدو أنهم يشغلون مساحات أكبر ويتحدثون بصوت عال أكثر من أي شخص عادي، وتخرج منهم هالة من المال يمكنك رؤيتها على بعد خمسين ياردة. عندما اقترب مني، أدركت أنه السير جوزيف تشيم. بالطبع كان في ملابس مدنية، ولكني لم أجد صعوبة في التعرف عليه. أظن أنه كان في ذلك المكان لحضور مؤتمر عمل أو ما شابه. وكان يتبعه موظفان، أو سكرتيران أو أيا كانا؛ كانا كأنما يحملان ذيل ثوبه رغم أنه لم يكن يرتدي ثوبا ذا ذيل، ولكن شيئا في المشهد يشعرك بأن الأمر كذلك. بالطبع تنحيت جانبا على الفور، ولكن من المفاجئ أنه عرفني على الرغم من أنه لم يرني منذ عدة سنوات، وما فاجأني أيضا أنه وقف وتحدث معي، قائلا: «مرحبا! لقد رأيتك في مكان ما من قبل. ما اسمك؟ إنه على طرف لساني.» «بولينج يا سيدي. كنت في فيلق خدمة الجيش.» «بالطبع. أنت الشاب الذي قال إنه ليس من الأعيان. ماذا تفعل هنا؟»
كان بإمكاني أن أخبره أنني أبيع أشرطة الآلات الكاتبة، ولكن ربما كان سينهي ذلك كل شيء؛ ولكن أتى لي خاطر مفاجئ كالذي يأتي المرء من حين لآخر، شعور بأنه بإمكاني أن أستفيد من هذا الموقف إذا تعاملت معه بشكل ملائم، فقلت بدلا من ذلك: «حسنا يا سيدي، في الواقع أنا أبحث عن وظيفة.» «وظيفة، حقا؟ ممم. إنه ليس بالأمر السهل هذه الأيام.»
نظر إلي متفحصا لبرهة. كان حاملا الذيل على مسافة قليلة منه؛ ورأيت وجهه العجوز الوسيم، وحاجبيه الرماديين الكثيفين، وأنفه الذي ينم عن الذكاء، وهو يرمقني وأدركت أنه قد قرر مساعدتي. غريبة هي سلطة هؤلاء الرجال الأغنياء؛ فلقد كان عابرا بجواري بقوته ومجده وتابعاه خلفه، ثم في لحظة صفاء عدل من وجهته كإمبراطور يرمي فجأة عملة معدنية لشحاذ، وقال: «إذن أنت تريد وظيفة. ماذا يمكنك أن تفعل؟»
نشط إلهامي مرة أخرى، ولكن بلا فائدة هذه المرة؛ فالمبالغة في ذكر المزايا غير مجد مع رجل كهذا، فقررت قول الحقيقة. قلت: «لا شيء يا سيدي. ولكني أرغب في العمل كمندوب مبيعات متجول.» «مندوب مبيعات! ممم. لست متأكدا من أنه يمكنني أن أجد لك شيئا في الوقت الحالي. سأرى.»
زم شفتيه لأعلى. لوهلة، أو ربما لنصف دقيقة، أخذ يفكر بعمق شديد. كان الأمر مثيرا. حتى في ذلك الوقت كنت أدرك أنه مثير. هذا الرجل الكبير المهم، الذي كان يمتلك على الأقل نصف مليون جنيه، كان بالفعل مهتما بأمري؛ فلقد عارضت طريقه وأضعت على الأقل ثلاث دقائق من وقته، كل ذلك بسبب ملحوظة صادف أني أبديتها منذ سنوات سابقة. لقد علقت في ذاكرته، ومن ثم كان مستعدا للتعامل مع المشكلة الصغيرة المتمثلة في إيجاد وظيفة لي. أستطيع القول إنه في ذلك اليوم قد طرد عشرين موظفا. وأخيرا قال: «ماذا عن العمل في شركة للتأمين؟ إنه شيء مستقر إلى حد ما، كما تعلم؛ فالتأمين أصبح ضرورة، مثله مثل الطعام.»
بالطبع أحببت فكرة العمل في شركة للتأمين، وكان السير جوزيف «متحمسا» لشركة فلاينج سلامندر. الواقع، كان «متحمسا» للعديد من الشركات. وتقدم أحد تابعيه بدفتر للملاحظات، وعلى الفور أخرج قلم الحبر الذهبي من جيب صدريته وكتب توصية من أجلي إلى أحد أصحاب المناصب الرفيعة في فلاينج سلامندر. شكرته ومضى في طريقه، وتسللت أنا في الاتجاه الآخر، ولم ير أي منا الآخر ثانية.
وهكذا، حصلت على الوظيفة؛ وكما قلت من قبل فقد حصلت علي الوظيفة هي الأخرى. إنني أعمل في فلاينج سلامندر منذ ما يقرب من ثمانية عشر عاما؛ وقد بدأت بالعمل في المكتب، ولكني الآن أعمل في وظيفة يطلقون عليها مفتش، أو عندما يكون ثمة داع للإبهار، يطلقون علي ممثلا. أعمل يومين في الأسبوع من المكتب المحلي؛ وبقية الوقت أتجول بين مقابلة العملاء الذين يرسل أسماءهم الوكلاء المحليون، وتقييم المتاجر وغيرها من الممتلكات، ومن حين لآخر إجراء صفقة أو صفقتين لحسابي الخاص؛ وأكسب حوالي سبعة جنيهات بالتقريب في الأسبوع. في الحقيقة تلك هي نهاية قصتي.
عندما أرجع بالذاكرة، أدرك أن حياتي الحقيقية - إن كنت قد عشت حياة بهذا المعنى بالفعل - انتهت في سن السادسة عشرة؛ فكل شيء كان مهما بالفعل بالنسبة لي قد حدث قبل ذلك العمر. ولكن الأمور كانت لا تزال تحدث - الحرب، على سبيل المثال - حتى وقت حصولي على الوظيفة في فلاينج سلامندر؛ ولكن بعد ذلك، حسنا، يقولون إن الأشخاص السعداء ليس لديهم تاريخ، وكذلك من يعملون في مكاتب التأمين؛ منذ ذلك اليوم وما بعده، لم يكن ثمة شيء في حياتي يمكنك أن تصفه بالحدث، عدا ما حدث بعدئذ بعامين ونصف العام في بداية عام 1923 حين تزوجت.
10
كنت أعيش في نزل في إيلينج. كانت السنوات تتعاقب أو بالأحرى تزحف. وكانت لوير بينفيلد قد غاب أثرها تقريبا عن ذاكرتي. كنت نموذجا لموظف المدينة الشاب العادي، الذي ينطلق ليلحق بقطار الساعة الثامنة والربع ويتآمر على زملائه الآخرين في العمل. وكنت أحظى بتقدير كبير في الشركة، وراضيا تماما عن حياتي؛ فقد كان وهم النجاح فيما بعد الحرب يتملكني، بقدر أو بآخر. لا بد أنك تتذكر تلك الكلمات المعسولة: النشاط، والحركة، والثبات، والشجاعة. المضي قدما أو ترك المسار. ثمة مكان للجميع في القمة. لا شيء يعرقل الرجل الجيد عن النجاح. والإعلانات في المجلات عن الشاب الذي ربت رئيسه في العمل على كتفه، والمدير التنفيذي المتسم بالحزم والحماس الذي يكسب الكثير من المال، ويعزو نجاحه إلى دورة تدريبة ما، حصل عليها بالمراسلة. من الطريف أننا صدقنا ذلك جميعا، حتى رجال مثلي من الذين لم يطبقوا الكثير منه؛ وذلك لأنني لست وصوليا أو بائسا، ولأنني بطبيعتي لا يمكنني أن أكون أيا منهما. ولكن هكذا كانت روح العصر. تقدم! انجح! وإن رأيت رجلا قد سقط فشلا، فأجهز عليه قبل أن يستعيد قواه. بالطبع كان ذلك في بداية العشرينيات من القرن العشرين، حيث كانت بعض آثار الحرب قد اختفت ولم تكن الأزمات قد أنهكتنا بعد.
كان لدي عضوية ممتازة في مكتبة بوتس، وحضرت حفلات رقص رخيصة الثمن، وانضممت إلى نادي تنس محلي. تعرف نوادي التنس تلك التي تكون في الضواحي الأنيقة، حيث الأجنحة الخشبية الصغيرة، والسياجات العالية ذات الشبكات الحديدية؛ التي يثب فيها الشباب مرتدين الملابس البيضاء القبيحة جيئة وذهابا، ويصيحون «خمسة عشر، أربعين!» و«تعادل!» بأصوات فيها محاكاة لا بأس بها للطبقة العليا. تعلمت لعب التنس، ولم يكن رقصي شديد السوء، وأبليت بلاء حسنا في التعرف على الفتيات. في سن الثلاثين تقريبا، لم أكن شابا قبيحا، بوجهي الأحمر وشعري السمني اللون؛ وفي تلك الأيام كانت لا تزال ميزة لصالح الشاب أن يكون قد خدم في الحرب. لم أنجح، حينئذ أو في أي وقت آخر، أن أبدو كرجل نبيل؛ ولكن من ناحية أخرى قد لا تعرف أنني ابن صاحب متجر صغير من بلدة ريفية. تمكنت من إثبات نفسي في مجتمع إيلينج شديد التنوع، حيث تتداخل طبقة صغار الضباط مع طبقة المهنيين العاديين. قابلت هيلدا لأول مرة في نادي التنس.
كانت هيلدا في ذلك الوقت في الرابعة والعشرين من عمرها. كانت فتاة خجولة قصيرة ونحيفة، بشعر داكن وحركات جميلة، وكانت تشبه كثيرا الأرانب البرية، ويعزى ذلك إلى عينيها الكبيرتين للغاية. كانت من هؤلاء الأشخاص الذين لا يتحدثون كثيرا، ولكنهم يظلون على الحياد في أي محادثة دائرة، ويعطون انطباعا بأنهم يستمعون. وكانت إن فتحت فمها، فلا تقول عادة إلا «أوه، أجل، أعتقد ذلك أيضا»؛ موافقة على أي شيء يقال في آخر الحديث. أما في التنس، فقد كانت تقفز بكل رشاقة ولم يكن لعبها سيئا، ولكن كانت لها طريقة صبيانية بائسة نوعا ما. كان اسم عائلتها فنسنت.
إذا كنت متزوجا، فقد تتساءل أحيانا في نفسك: «ما الذي جعلني بحق الجحيم أتزوج؟» ولطالما قلت ذلك عن زواجي بهيلدا. مرة أخرى، أرجع بذاكرتي خمسة عشر عاما، لأسأل نفسي: لماذا تزوجت هيلدا؟
لقد تزوجتها، من ناحية، بالطبع، لأنها كانت شابة وجميلة جدا. وفوق كل ذلك، لا يسعني القول إلا أنه كان من الصعب للغاية علي أن أفهم ما تريده بالفعل؛ لأنها جاءت من أصول مختلفة تماما عني. لذا، كان علي أن أتزوجها أولا ثم أتعرف عليها بعد ذلك، بينما إن كنت قد تزوجت إلسي ووترز مثلا، لكنت سأعرف ممن تزوجت. كانت هيلدا تنتمي إلى طبقة لم أكن أعلم عنها شيئا إلا من القيل والقال، طبقة الضباط المعدمين. لأجيال عديدة في الماضي كان في عائلتها الجنود، والبحارة، ورجال الدين، والضباط الإنجليز الهنود، وما إلى ذلك. لم يكن لديهم أي أموال قط، ولكن أيا منهم لم يفعل أي شيء قط يمكنني اعتباره عملا. فلتقل ما شئت، ولكن ثمة شيئا فيهم يجذب من ينتمون مثلي إلى طبقة أصحاب المتاجر الأتقياء، طبقة بسطاء التدين، ومن يتناولون وجبة تتضمن الشاي بعد الظهيرة. لا يؤثر ذلك في الآن، ولكن كان له أثره حينها. لا تسئ فهم ما أقول، فلا أعني أنني تزوجت هيلدا لأنها تنتمي إلى طبقة كنت أخدمها يوما من وراء طاولة البيع، في محاولة لتسلق السلم الاجتماعي، ولكن كل ما في الأمر أنني لم أتمكن من فهمها، ومن ثم خدعني مظهرها. ومن الأشياء الأخرى التي لم أفهمها بالتأكيد هو أن الفتيات في عائلات الطبقة المتوسطة المعدمة تلك كن على استعداد للزواج من أي شيء يرتدي بنطالا، وذلك فقط للهروب من المنزل.
لم يمض وقت طويل قبل أن تأخذني هيلدا لمقابلة عائلتها. ولم أعلم إلا في ذلك الحين أنه كانت ثمة مستعمرة كبيرة من الإنجليز الهنود في إيلينج. اكتشفت عالما جديدا! كان ذلك بمثابة اكتشاف لي.
هل تعرف هذه العائلات من الإنجليز الهنود؟ من المستحيل تقريبا أن تتذكر عندما تكون في منازلهم أن الشوارع خارجها كانت في إنجلترا، وأننا كنا في القرن العشرين؛ فبمجرد أن تطأ قدماك عتبات بيوتهم، تصبح في الهند في ثمانينيات القرن التاسع عشر. لا بد أنك تعلم هذه الأجواء، حيث أثاث المنازل من خشب الساج المنحوت، والصواني من النحاس الأصفر، ورءوس النمور المتربة على الجدران، والسيجار التريشينوبولي، والمخلل الأحمر الحار، والصور الفوتوغرافية الصفراء لرجال مرتدين لخوذات تقيهم من الشمس، والكلمات الهندستانية التي من المفترض أنك تعرف معناها، والحكايات الخالدة عن اصطياد النمور، وما قاله سميث لجونز في بونا عام 1887. إنه عالم صغير خاص بهم خلقوه لأنفسهم، كحويصلة يحتمون بها. بالنسبة لي، كان بالطبع كل شيء جديدا ومثيرا للاهتمام نوعا ما. لم يذهب العجوز فنسنت والد هيلدا إلى الهند فقط، بل إلى مكان أكثر غرابة، بورنيو أو ساراواك، لا أتذكر أيهما. كان النموذج المثالي لهؤلاء، فقد كان أصلع تماما، ويكاد لا يرى وجهه خلف شاربه؛ وكان لديه الكثير من الحكايات عن أفاعي الكوبرا وأوشحة الخصر العريضة، وما قاله حاكم المقاطعة في عام 1893. وكانت والدة هيلدا باهتة كالصور الفوتوغرافية المعلقة على الجدران. وكان لديهما كذلك ابن، اسمه هارولد، يعمل في وظيفة رسمية في سيلان، وكان في المنزل في إجازة في الوقت الذي قابلت فيه هيلدا أول مرة. كان لديهم منزل صغير مظلم في أحد تلك الشوارع الخلفية المخفية في إيلينج. وكانت به دوما رائحة السيجار التريشينوبولي، وكان مليئا عن آخره بالرماح، وقصبات النفخ، والزخارف من النحاس الأصفر، ورءوس الحيوانات البرية؛ لذا، فبالكاد يمكنك الحركة فيه.
تقاعد العجوز فنسنت في عام 1910، ومنذ ذلك الحين أظهر هو وزوجته نشاطا كبيرا، ذهنيا وبدنيا، كزوج من المحار. كنت في ذلك الوقت قد انبهرت بشكل غامض بهم لكونهم عائلة بها رواد وعقداء، بل وحتى أميرال. وكان موقفي من عائلة فنسنت، وموقفهم مني، مثالا جيدا على الحمق الذي قد يغدو عليه الناس عندما يخرجون عن عالمهم. ضعني بين أهل التجارة - سواء أكانوا مديري شركات أو باعة متجولين - وسأكون قادرا على الحكم عليهم جيدا. ولكنني ليست لدي أي خبرة في طبقة الضباط ورجال الدين والذين يعيشون من ريع العقارات، وكنت أميل إلى التقرب من هؤلاء المستبعدين المنقرضين. فقد كنت أنظر إليهم باعتبارهم أعلى مني منزلة اجتماعيا وفكريا، بينما أساءوا فهمي، فظنوا أنني رجل أعمال واعد سيجني الكثير من المال قريبا. لأشخاص مثلهم، كانت «الأعمال»، سواء أكانت التأمين البحري أو بيع الفول السوداني، مجرد لغز خفي. وكل ما كانوا يعرفونه أنها وسيلة مبتذلة لجني الأموال. اعتاد العجوز فنسنت الحديث بانبهار عن عملي «في الأعمال» - أتذكر مرة أنه خانه التعبير وقال: «في التجارة» - ولكن كان من الواضح أنه لم يكن يفهم الفرق بين العمل موظفا والعمل لحسابك الخاص. وكانت لديه فكرة غامضة بأنه بما بأنني كنت «في» شركة فلاينج سلامندر، فإنه لا بد أنني سأرتقي إلى قمتها عاجلا أو آجلا عن طريق الترقية. وأعتقد أنه من المحتمل أن يكون لديه كذلك تصور عني في المستقبل وأنا أقرضه المال. هارولد بالتأكيد كان لديه ذلك التصور، إذ كنت أستطيع رؤيته في عينه. في الواقع، حتى بما هو عليه دخلي الآن، كنت على الأرجح سأقرض هارولد المال في هذه اللحظة إن كان حيا. لحسن الحظ أنه مات بعد بضع سنوات من زواجنا، من مرض معوي أو شيء من هذا القبيل، وكذلك مات العجوزان فنسنت.
حسنا، تزوجت هيلدا، وكان الأمر من بدايته فاشلا. لعلك تسأل لماذا تزوجتها؟ ولكن لماذا تزوجت أنت زوجتك؟ تحدث تلك الأمور لنا. ترى هل ستصدقني إن قلت لك إنني خلال أول عامين أو ثلاثة أعوام من الزواج كنت أفكر جديا في قتل هيلدا؟ بالطبع لا يقدم المرء في الواقع قط على تلك الأمور، وإنما هي نوع من الخيال الذي نستمتع بالتفكير فيه. إلى جانب ذلك، الرجل الذي يقتل زوجته دائما ما يقبض عليه. وعلى الرغم من أنه يمكنك بذكاء ادعاء حجة غياب عن مسرح الجريمة، فالشرطة تعلم جيدا أنه أنت من فعلها، وسوف يثبتونها عليك بطريقة أو بأخرى. عندما تقتل الزوجة، يكون زوجها دائما هو المشتبه فيه الأول، ما يعطيك لمحة جانبية صغيرة عن فكرة الناس الحقيقية عن الزواج.
يعتاد المرء على كل شيء بمرور الوقت. بعد عام أو عامين، لم أعد أريد قتلها وبدأت أتعجب منها. فقط أتعجب. ولساعات في بعض الأحيان في ما بعد الظهيرة يوم الأحد أو في المساء عندما أرجع إلى المنزل من العمل، كنت أستلقي على سريري بكامل ملابسي باستثناء الحذاء، وأتعجب من أمر النساء. لماذا هن هكذا، وكيف أصبحن على ما هن عليه، وهل يفعلن ذلك عن عمد؟ يبدو أنه من أكثر الأمور رعبا السرعة الشديدة التي تذبل بها بعض النساء بعد الزواج؛ فكما لو أنهن قد عشن لغرض واحد فقط، وبمجرد تحقيقه يذبلن مثل الزهرة التي نثرت بذورها. ما يحبطني حقيقة هو الاتجاه الكئيب من الحياة الذي ينطوي عليه الأمر. إذا كان الزواج مجرد خدعة مكشوفة - أوقعت بك المرأة فيها ثم التفتت لك وقالت: «الآن أيها الوغد أمسكت بك، وستعمل من أجلي بينما أستمتع أنا بحياتي!» - فلن أمانع كثيرا. ولكن لا شيء من هذا يحدث، فالنساء لا يردن أن يحظين بأوقات جيدة، بل يردن فقط أن يتهدلن في منتصف العمر بأقصى سرعة ممكنة. وبعد المعركة المروعة من أجل الحصول على رجل والزواج منه، تسترخي المرأة نوعا ما، ويختفي كل شبابها وجمالها وطاقتها وبهجتها في الحياة بين ليلة وضحاها. كان هذا ما حدث مع هيلدا. إنها تلك التي اعتقدت أنها فتاة رقيقة وجميلة - وفي الواقع كانت كذلك بالفعل في بداية معرفتي بها - ذلك الكائن الذي يفوقني رقيا، وخلال ثلاث سنوات فقط أصبحت امرأة في منتصف العمر كئيبة وعديمة الحيوية. لا أنكر أنني كنت جزءا من المشكلة؛ ولكن بصرف النظر عمن كانت ستتزوج، فلم يكن ليختلف الوضع على الإطلاق.
ما تفتقده هيلدا - اكتشفت ذلك بعد أسبوع تقريبا من زواجنا - هو بعض المرح في الحياة، أي قدر من الاهتمام بأشياء؛ لا لشيء إلا لأنها تجدها مشوقة. إن مبدأ فعل شيء لأنك تستمتع به هو أمر يصعب عليها فهمه. لم أكتشف الحال الحقيقي لعائلات الطبقة المتوسطة الفقيرة هذه إلا من خلال هيلدا. الحقيقة الأساسية عنهم هي أنهم قد فقدوا كامل حيويتهم بسبب قلة المال. في مثل تلك العائلات، التي تعيش على المعاشات والمرتبات السنوية الصغيرة - أي على الدخول التي لا تزداد أبدا بل تقل عادة - فإن ثمة شعورا بالفقر ومسح بقايا الطعام بقشور الخبز والتفكير أكثر من مرة قبل صرف أقل المبالغ يزيد على ما تجده لدى أي عائلة من عمال المزارع، ناهيك عن عائلة كعائلتي. كانت هيلدا تقول لي عادة إن الشيء الأول تقريبا الذي يمكنها تذكره هو الشعور المروع بأنه لم يكن لديهم قط ما يكفي من المال لأي شيء. بالطبع في مثل ذلك النوع من العائلات، تكون قلة المال دائما في أسوأ حالاتها عندما يكون الأطفال في عمر المدرسة. وعلى هذا الأساس يكبرون، خاصة الفتيات، بأفكار راسخة بأن المرء دائما يعيش في ضنك، وأنه يجب أن يكون بائسا بسبب ذلك.
عشنا في بداية زواجنا في شقة صغيرة وضيقة، وواجهنا صعوبة في العيش على راتبي. بعد ذلك، عندما نقلت إلى فرع غرب بلتشلي، كانت الأحوال أفضل. ولكن سلوك هيلدا لم يتغير؛ إذ كانت دائما لديها ذلك الشعور الكئيب المروع تجاه نقص الأموال، فاتورة الحليب، فاتورة الفحم، الإيجار، مصاريف المدرسة! عشنا حياتنا كلها معا على نغمة أننا «في الأسبوع التالي سنكون في ملجأ للفقراء». لا أعني أن هيلدا بخيلة، بالمعنى العادي للكلمة، ناهيك عن أنها ليست أنانية؛ فحتى عندما يكون معنا بعض النقود المدخرة التي يمكننا إنفاقها، أجد صعوبة في إقناعها بأن تشتري لنفسها بعض الملابس اللائقة. ولكن لديها هذا الشعور بأنه يجب على المرء أن يعيش في قلق مستمر بسبب نقص المال، أي أن تعيش في أجواء من الكآبة بسبب الإحساس بالمسئولية. ولكنني لست مثلها؛ فلدي موقف ينتمي أكثر إلى الطبقة العاملة تجاه المال؛ إذ إن الحياة خلقت لكي نعيشها، وإن لم نكن سعداء الأسبوع التالي، حسنا، فالأسبوع التالي ما زال بعيدا. ما يصدمها في الواقع هو أنني أرفض أن أشعر بالقلق، وهي دائما تدينني لهذا السبب، فتجدها تقول: «ولكن يا جورج! لا يبدو أنك مدرك للأمر! ليس لدينا مال على الإطلاق! إن الأمر في غاية الخطورة!» وتحب الدخول في نوبة هلع لأن شيئا أو آخر «خطير». ومؤخرا، أصبحت تمارس تلك الخدعة: عندما تكون مكتئبة من شيء، تحدب كتفيها وتطوي ذراعيها أمام صدرها. إذا وضعت قائمة بملاحظات هيلدا خلال اليوم، فستجد أن أهم الملاحظات تتمثل في ثلاث عبارات؛ «لا يمكننا تحمل نفقة ذلك»، و«إنه توفير كبير»، و«لا أعلم من أين سنحصل على المال من أجل ذلك». إنها تفعل كل شيء لأسباب سلبية. عندما تعد كعكة، لا تفكر في الكعك، وإنما في كيفية إنقاذ الزبد والبيض من التلف. وعندما أكون معها في السرير، فكل ما تفكر فيه هو تجنب الحمل. وإن ذهبت إلى السينما، تتلوى سخطا طوال الوقت على ثمن التذكرة. أما طريقتها في تدبير المنزل، مع كل التأكيد على «استهلاك الأشياء» و«إصلاح الأشياء»، فلو كانت أمي قد رأتها لأصابتها بتشنجات. على الجانب الآخر، لم تكن هيلدا متكبرة على الإطلاق، فلم تنظر لي باحتقار قط؛ لأنني لست من النبلاء، بل على العكس، كنت من وجهة نظرها أقرب إلى اللوردات في عاداتي. ونحن لا نذهب إلى أي مطعم إلا ونخوض شجارا هامسا مروعا؛ لأنني أعطي النادلة بقشيشا كبيرا. ومن الغريب أنه في السنوات القليلة الماضية، أصبحت بلا شك من الطبقة المتوسطة الدنيا أكثر مني في رؤاها وحتى في شكلها بوجه عام. بالطبع كل هذا «التوفير» لم يؤد إلى أي شيء، فهو لا يؤدي إلى شيء أبدا؛ إذ نعيش على نحو جيد أو سيئ كما يعيش الآخرون في شارع إلزمير. ولكن القلق المستمر حول فاتورة الغاز وفاتورة الحليب والسعر المرتفع للزبد وأحذية الطفلين ومصاريف المدرسة لا يتوقف. الأمر أشبه بلعبة مع هيلدا.
انتقلنا إلى غرب بلتشلي عام 1929، واشترينا منزلنا في شارع إلزمير في العام التالي قبل مولد بيلي بقليل. وبعدما أصبحت مفتشا، كنت أتغيب عن المنزل كثيرا وكانت لدي فرصة أكبر أن أقابل نساء أخريات. بالطبع كنت خائنا، لا أقول إنني كذلك طوال الوقت، ولكن حيثما تسنح الفرصة. من المثير للدهشة أن هيلدا كانت تشعر بالغيرة؛ فمن ناحية، باعتبار أن مثل تلك الأمور لا تعنيها كثيرا، لم أتوقع أن تهتم بالأمر. ولكن ككل النساء اللاتي يشعرن بالغيرة، فإنها أحيانا ما تمكر مكرا لا يمكنك التفكير في أنها قادرة عليه. في بعض الأحيان، تكاد الطريقة التي تكتشف بها الأمر تجعلني أومن في التخاطر، ناهيك عن درجة الشك نفسها التي تكون لديها حتى عندما لا أكون قد ارتكبت أي ذنب، فأنا دائما موضع شك بشكل أو بآخر، على الرغم من أنني، يعلم الله، في السنوات القليلة الماضية - السنوات الخمس الماضية على أي حال - كنت بريئا تماما؛ فما باليد حيلة إن كنت في مثل بدانتي.
وإجمالا، أعتقد أنني وهيلدا لسنا أسوأ حالا من نصف أزواج شارع إلزمير تقريبا. أحيانا كنت أفكر في الانفصال أو الطلاق، ولكنك في وضعنا لا تقدم على تلك الأشياء؛ لأنك لا يمكنك تحملها. ثم يمر الوقت وتقلع عن المقاومة. عندما تعيش مع امرأة خمس عشرة سنة، يصبح من الصعب أن تتخيل حياتك من دونها، فقد أصبحت جزءا من مسيرة الحياة. ربما تجد أشياء لا تعجبك في الشمس والقمر، ولكن هل تريد تغييرهما بالفعل؟ إلى جانب ذلك، كان لدينا طفلان، والأطفال هم «حلقة الوصل»، كما يقولون، أو «الرباط»، أو بالأحرى فإن علاقتك بهم تصبح كالثقل والقيد.
تعرفت هيدا مؤخرا على صديقتين رائعتين، السيدة ويلر والآنسة مينس. السيدة ويلر أرملة، واستشففت أن لديها أفكارا قاسية تجاه الرجال؛ إذ يمكنني أن أشعر بحركاتها الاستنكارية عندما أدخل عليهن الغرفة. إنها سيدة صغيرة البنية ذابلة، وتعطيك انطباعا غريبا بأنها كانت هكذا طوال عمرها بهيئتها الشاحبة العجوز، ولكنها مليئة بالطاقة. ولديها تأثير سيئ على هيلدا، لأن لديها الحماس نفسه «للتوفير» و«إصلاح الأشياء»، ولكن بطريقة مختلفة بعض الشيء؛ فهو معها يأخذ شكل الاعتقاد بأنه يمكنك أن تقضي وقتا جيدا دون دفع المال؛ فهي دائما تكتشف طرقا غير مكلفة للشراء والتسلية. بالنسبة لأشخاص كهؤلاء، لا يعنيهم ما إذا كانوا يريدون الشيء بالفعل أم لا؛ فكل ما يعنيهم هو ما إذا كان بإمكانهم الحصول عليه بثمن بخس. في أوقات تخفيضات بواقي المتاجر الكبيرة، تكون السيدة ويلر دائما في مقدمة الصفوف؛ وأقصى دواعي فخرها أن تخرج دون أن تشتري أي شيء بعد جولة من الصراع العنيف حول طاولات البيع طوال اليوم. أما الآنسة مينس، فهي مختلفة عن ذلك تماما، فهي بالفعل حالة يرثى لها، مسكينة هي الآنسة مينس. هي امرأة طويلة ونحيفة في الثامنة والثلاثين من عمرها تقريبا، ذات شعر أسود كالجلد اللامع ووجه جميل جدا وباعث على الثقة. وهي تعيش على دخل ثابت وصغير نوعا ما، معاش سنوي أو ما شابه، وأتخيل أنها من بقايا مجتمع غرب بلتشلي القديم منذ كان بلدة قروية صغيرة قبل تعاظم البناء في الضاحية. يبدو جليا أن والدها كان من رجال الدين وأنه قمعها بشدة في حياته. إنها من المنتجات الفرعية الخاصة للطبقات المتوسطة، هؤلاء النساء اللاتي ذبلن قبل حتى أن يتزوجن ليفررن من منازل عائلاتهن. إن الآنسة مينس المسكينة العجوز، على الرغم من كل تجاعيدها، لا تزال تماما كالأطفال؛ فلا يزال عدم الذهاب إلى الكنيسة مغامرة كبيرة بالنسبة لها، ودائما ما تهمهم حول «التقدم الحديث» و«الحركة النسائية»، ولديها تلهف غريب لفعل شيء تسميه «تطوير ذهنها»، فقط هي لا تعلم بالتحديد كيف تبدأ فيه. أعتقد أنها في البداية قد صاحبت هيلدا والسيدة ويلر لشعورها الشديد بالوحدة، ولكنهما الآن تصطحبانها أينما ذهبتا.
يا له من وقت ذلك الذي يقضينه معا هؤلاء الثلاث! أحيانا أكاد أحسدهن. السيدة ويلر هي الروح القائدة؛ فلا يمكنك أن تفكر في أي نوع من أنواع الحماقات، إلا وتجدها قد جذبتهما إليه في وقت أو آخر؛ أي شيء من الثيوصوفية إلى اللعب بالخيوط، طالما يمكنك فعله دون أن تتكلف الكثير من المال. تحمسن كذلك لعدة أشهر لعلوم التغذية، وحصلت السيدة ويلر على نسخة مستعملة من كتاب بعنوان «الطاقة الإشعاعية»، الذي يدعي أنه ينبغي عليك أن تعيش على الخس وغيرها من الأشياء التي لا تكلف المال. بالطبع راق هذا لهيلدا، التي بدأت على الفور في تجويع نفسها، وقد كانت ستجرب الأمر معي ومع الأطفال كذلك، ولكني استخدمت سلطتي لمنع الأمر. بعد ذلك جربن العلاج عن طريق الإيمان، ثم فكرن في تمرين الذاكرة؛ ولكن بعد العديد من المراسلات، اكتشفن أنهن لن يستطعن الحصول على الكتيبات مجانا، الأمر الذي كان فكرة السيدة ويلر. ثم جربن الطبخ في صناديق التبن المعزولة، ثم جربن شيئا كريها يسمى نبيذ النحل، الذي كان من المفترض ألا يكلفهن شيئا على الإطلاق لأنه يصنع من الماء؛ ولكنهن أقلعن عن ذلك عندما قرأن مقالا في الصحيفة يقول إن نبيذ النحل يسبب السرطان. بعد ذلك، انضممن لأحد نوادي السيدات التي تنظم رحلات للمصانع؛ ولكن بعد حسابات كثيرة، قررت السيد ويلر أن الشاي المجاني الذي تعطيه المصانع لهن لا يعادل ثمن العضوية. أيضا تمكنت السيدة ويلر بعد جهد من التعرف على شخص يمنح تذاكر مجانية للمسرحيات التي تنتجها بعض الجمعيات المسرحية. عرفت أن الثلاثة جلسن لساعات للاستماع لمسرحية رفيعة المستوى لم يتظاهرن حتى أنهن فهمن منها شيئا - ولم يستطعن حتى أن يخبرنك باسم المسرحية - ولكنهن شعرن بأنهن كن يحصلن على شيء بلا مقابل. وصل الأمر إلى أنهن جربن استحضار الأرواح؛ إذ تعرفت السيد ويلر على وسيط روحاني فقير كان معدما، لدرجة أنه عقد لهن جلسات بثمانية عشر بنسا حتى يتمكن من الاطلاع على الغيب مقابل ستة بنسات في المرة. رأيته مرة عندما جاء إلى منزلنا لعقد إحدى جلسات استحضار الأرواح، وكان شيطانا عجوزا متوعك الصحة، ومن الواضح أنه كان في رعب قاتل من أثر الهذيان الارتعاشي الذي كان مصابا به. وكان يرتعش بشدة لدرجة أنه عندما كان يخلع معطفه في الردهة، أصيب بنوبة من التشنج وسقطت لفافة من الشاش من رجل بنطاله. تمكنت من إعادة دسها في بنطاله قبل أن تراني السيدات. وقد علمت أنهم يستخدمون الشاش في صنع الإكتوبلازم، وأظن أنه كان ذاهبا إلى جلسة استحضار أخرى بعد ذلك؛ فلا يمكن أن يتجلى لك الأموات بثمانية عشر بنسا. إن أكبر اكتشافات السيدة ويلر في البضع السنوات الأخيرة هو نادي كتاب اليسار. أعتقد أن أخبار نادي كتاب اليسار وصلت غرب بلتشلي عام 1936، وقد انضممت إليه بعدئذ بقليل، وكان تقريبا الوقت الوحيد الذي يمكنني تذكر أنني كنت أنفق المال فيه دونما اعتراض من هيلدا؛ إذ ترى أنه من المعقول بعض الشيء أن تشتري كتابا إن تمكنت من الحصول عليه بثلث ثمنه الأصلي. إنها امرأة غريبة حقا. حاولت الآنسة مينس بالتأكيد قراءة كتاب أو كتابين، ولكن ذلك ما كان ليحدث مع المرأتين الأخريين؛ فلم يكن لهن أي صلة مباشرة مع نادي كتاب اليسار أو أي فكرة عما كان يقدمه. في الواقع، أعتقد أن السيدة ويلر في البداية ظنت أنه شيء له علاقة بالكتب التي تترك في عربات السكة الحديدية ويبيعونها للناس بأثمان قليلة. ولكن ما كن يعلمنه جيدا هو أنه بإمكانهن الحصول على كتب قيمتها سبعة شلنات وستة بنسات بنصف كراون فقط، ولذا يقلن دائما إنها «فكرة جيدة». بين الحين والآخر، يعقد فرع نادي كتاب اليسار اجتماعات ويسمح للناس بالحديث، وتأخذ السيدة ويلر دائما الاثنتين الأخريين معها. إن لديها حماسا للقاءات العامة من أي نوع، شريطة أن تكون دائما في مكان مغلق ومجانية. يجلس الثلاثة كقطع الحلوى؛ فلا يعرفن موضوع الاجتماع ولا يشكل لهن أي اهتمام، ولكنهن يشعرن بشعور غريب، خاصة الآنسة مينس، وهو أنهن يطورن من فكرهن، وأن ذلك لا يكلفهن شيئا.
حسنا، تلك هي هيلدا. ها قد رأيت ما هي عليه. إجمالا، أعتقد أنها ليست أكثر سوءا مني. أحيانا عندما كنت في بداية زواجنا، كنت أشعر أنني أريد أن أخنقها، ولكن بعد ذلك وصلت إلى مرحلة عدم الاهتمام. ثم أصبحت بدينا ومستكينا. لا بد أننا كنا في عام 1930 عندما أصبحت بدينا. حدث الأمر فجأة كما لو أن كرة مدفع قد ضربتني وعلقت بداخلي. تعلم ذلك الشعور؛ حيث تذهب في إحدى الليالي إلى السرير، ولا زلت تشعر أنك شاب بشكل أو بآخر، وتتطلع للفتيات وغيرها من الأمور؛ ولكن في الصباح التالي تستيقظ بوعي تام بأنك مجرد رجل بدين عجوز مسكين، ليس أمامه شيء ليفعله قبل وفاته سوى أن يكد لشراء أحذية لأطفاله.
نحن الآن في عام 1938، وفي كل ترسانة في العالم يثبتون السفن الحربية لحرب أخرى، والاسم الذي صادفت رؤيته في عناوين الصحف قد حرك في الكثير من الذكريات التي من المفترض أن تكون قد ماتت منذ عدة سنين مضت، والتي لا يعلم عددها إلا الله.
الجزء الثالث
1
عندما رجعت إلى المنزل في ذلك المساء، كنت لا أزال لا أعرف فيما سأنفق فيه الجنيهات السبعة عشرة.
قالت هيلدا إنها ذاهبة إلى اجتماع في نادي كتاب اليسار. كان يبدو أن ثمة رجلا قادما من لندن لإلقاء محاضرة، على الرغم من أنه لا داعي لأن أقول إن هيلدا لم تكن تعلم موضوع المحاضرة. وقد قلت لها إنني سأذهب معها. أنا عادة لا أهتم كثيرا بالمحاضرات، ولكن رؤى الحرب التي انتابتني ذلك الصباح، بداية من الطائرة القاذفة للقنابل أعلى القطار، أدخلتني في مزاج تأملي نوعا ما. بعد الجدال المعتاد، وضعنا الطفلين في سريريهما مبكرا، وانصرفنا في الوقت المحدد للمحاضرة، الذي أعلنوا أنه الساعة الثامنة.
كان مساء ضبابيا، وكانت القاعة باردة وفقيرة الإضاءة. إنها قاعة خشبية صغيرة بسقف من الحديد المموج، وهي ملك لطائفة بروتستانتية أو ما شابه، ويمكنك استئجارها مقابل عشرة شلنات. حضر الحشد المعتاد المكون من خمسة عشر أو ستة عشر شخصا. أمام المنصة، كانت ثمة لافتة باللون الأصفر وعليها عنوان المحاضرة: «خطر الفاشية». لم يفاجئني هذا على الإطلاق. قاد السيد ويتشيت، الذي يرأس هذه الاجتماعات ويعمل في أحد مكاتب الهندسة المعمارية، المحاضر وقدمه للجميع باسم السيد فلان الفلاني (نسيت اسمه) «مناهض الفاشية الشهير»، تماما كما لو كنت تقدم شخصا على أنه «عازف البيانو الشهير». كان المحاضر رجلا ضئيل الحجم في الأربعين من عمره تقريبا، وكان يرتدي بذلة داكنة؛ وكان أصلع الرأس، وقد حاول دون جدوى إخفاء صلعته بخصلات من الشعر.
مثل هذه الاجتماعات لا تبدأ أبدا في موعدها المحدد؛ حيث تكون دائما ثمة فترة من الانتظار بزعم أنه ربما يحضر بعض الأشخاص الآخرين. كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة وخمس وعشرين دقيقة عندما خبط ويتشيت على الطاولة وقام بدوره. كان ويتشيت رجلا لطيفا، بوجه وردي أشبه بمؤخرات الأطفال، وكان دائم التبسم. أعتقد أنه سكرتير للحزب الليبرالي المحلي، وأنه أيضا في مجلس الأبرشية، وأنه رئيس مراسم لمحاضرات الفانوس السحري في اتحاد الأمهات. إنه من ذلك النوع الذي تعتقد أنه ولد ليكون رئيس جلسات. وعندما يخبرك بمدى سعادتنا لوجود السيد فلان الفلاني معنا على المنصة الليلة، يمكنك رؤية أنه يؤمن بما يقول بالفعل. لم أنظر إليه إلا ويتبادر إلى ظني احتمال أنه لم يمارس الجنس من قبل. أخرج المحاضر ضئيل الحجم لفافة من الملاحظات، معظمها قصاصات من الصحف، وثبتها على الطاولة بكأس من الماء. ثم بلل شفتيه سريعا وبدأ حديثه.
هل حضرت محاضرات من قبل أو اجتماعات عامة أو شيئا من هذا القبيل؟
عندما أذهب إلى أحد تلك التجمعات، فإن ثمة لحظة دائما خلال الأمسية أجد فيها نفسي أفكر في الأمر نفسه: ما الذي يجعلنا نفعل ذلك؟ لماذا يخرج الناس في إحدى ليالي الشتاء لحضور هذا الشيء؟ نظرت في أرجاء القاعة. وكنت جالسا في الصف الخلفي. لا أتذكر أبدا أني ذهبت إلى أي نوع من الاجتماعات العامة إلا وجلست في الصف الخلفي إن كان الأمر باختياري. أما هيلدا والآخرون، فقد اندفعوا إلى الأمام كالعادة. كانت قاعة صغيرة ومظلمة. تعرف هذا النوع من الأماكن، حيث الجدران من الخشب العزيزي، والسقف من ألواح الحديد المموج، وتيار الهواء الشديد الذي يجعلك لا ترغب في خلع معطفك. كانت الزمرة الصغيرة منا جالسة في الضوء حول المنصة، مع وجود نحو ثلاثين صفا من الكراسي الفارغة خلفنا، وكانت مقاعد كل الكراسي مليئة بالأتربة. وعلى المنصة خلف المحاضر كان ثمة شيء مربع كبير مغطى بخرق، ما بدا كتابوت مغطى بغطاء، ولكنه كان في الحقيقة بيانو.
في البداية، لم أصغ جيدا، وكان المحاضر رجلا ضئيل الحجم ووضيعا، ولكنه كان متحدثا جيدا. وكان وجهه أبيض، وفمه كثير الحركة، وكان صوته شديد الإزعاج نتيجة حديثه المستمر. بالطبع كان يهاجم هتلر والنازيين. لم أكن مهتما بشكل خاص بسماع ما كان يقوله - فأنا أقرأ الموضوعات نفسها في صحيفة «نيوز كرونيكال» كل صباح - ولكن صوته تنامى إلى أذني كهمهمة يتخللها بين الحين والآخر عبارة تفاجئني وتجذب انتباهي.
الفظائع الوحشية ... مظاهر السادية البشعة ... الهراوات المطاطية ... معسكرات الاعتقال ... الاضطهاد الجائر لليهود ... العودة إلى عصور الظلام ... الحضارة الأوروبية ... التصرف قبل فوات الأوان ... سخط كل الشعوب المتحضرة ... تحالف الدول الديمقراطية ... موقف حازم ... الدفاع عن الديمقراطية ... الديمقراطية ... الفاشية ... الديمقراطية ... الفاشية ... الديمقراطية ...
لا بد أنك تعرف هذا الكلام الرنان. يمكن لهؤلاء الرجال أن يستمروا في الحديث لساعات؛ تماما كالفونوغراف، فقط أدر اليد ثم اضغط على الزر، وسيبدأ في العمل. الديمقراطية، الفاشية، الديمقراطية. ولكني بطريقة ما كنت مهتما بمشاهدته. كان رجلا ضئيلا وتافها، بوجه أبيض ورأس أصلع، يقف على المنصة، ويطلق الشعارات. ما الذي يفعله؟ إنه يحض على الكراهية بتعمد شديد وبصراحة شديدة، ويبذل أقصى جهده ليجعلك تكره فئة بعينها من الأجانب تسمى الفاشيين. رأيت أنه أمر غريب أن يعرف بأنه «السيد فلان الفلاني، مناهض الفاشية الشهير». إنها لمهنة غريبة، مناهضة الفاشية تلك. وأظن أن هذا الشخص يتكسب من كتابة كتب ضد هتلر. ولكن ما الذي كان يفعله قبل ظهور هتلر؟ وما الذي سيفعله إن اختفى هتلر ذات يوم؟ السؤال نفسه موجه للأطباء والمحققين وصائدي الفئران وغيرهم بالطبع. لكن كان الصوت المتصدع لا يزال مستمرا، وأدركت شيئا آخر. إنه يعني ما يقول، ولا يتصنع على الإطلاق، إنه يعني كل كلمة يقولها. إنه يحاول إثارة الكراهية لدى الجماهير، ولكن ذلك لا يقارن بمقدار الكراهية التي يشعر بها؛ فكل شعار حقيقة مسلم بها من وجهة نظره، ولو شققت عن صدره فكل ما ستجده هو الديمقراطية، الفاشية، الديمقراطية. من المثير معرفة رجل مثله في الحياة الخاصة. ولكن هل لديه حياة خاصة؟ أم هو فقط يذهب من منصة إلى أخرى مؤججا للكراهية؟ ربما حتى أحلامه شعارات.
بقدر ما استطعت من الصف الخلفي، ألقيت نظرة خاطفة على الحضور. أعتقد أنك إن فكرت في الأمر، فستجد أننا من يخرجون في ليالي الشتاء لنجلس في قاعة تكثر فيها تيارات الهواء لنستمع إلى محاضري نادي كتاب اليسار (وأعتبر أنه من حقي استخدام «أننا» لأنني حضرت في هذه المناسبة) لدينا مقصد ما من ذلك. فنحن متمردو غرب بلتشلي. لا يبدو الأمر مبشرا للوهلة الأولى، ولكني أدركت عندما نظرت إلى الحضور أن فقط ما يقرب من نصف دستة منهم قد فهموا حقا ما كان يتحدث عنه المحاضر، على الرغم من أنه حتى تلك اللحظة كان يهاجم هتلر والنازيين لمدة ما تزيد على نصف الساعة. الأمر دائما هكذا مع مثل هذه الاجتماعات، حيث دائما ما يخرج نصف الحضور وليس لديهم أدنى فكرة عما كان يدور حوله الاجتماع. كان ويتشيت على كرسيه بجانب الطاولة يشاهد المحاضر بابتسامة تنم عن سعادته، وبدا وجه ورديا قليلا كزهرة إبرة الراعي. يمكنك مقدما سماع الحديث الذي سيلقيه بمجرد جلوس المحاضر، فهو الحديث نفسه الذي يلقيه في نهاية محاضرات الفانوس السحري لدعم مجموعة الميلانيزيون العرقية: «نعرب عن شكرنا ... لقد عكس رأي كل منا ... الحديث مثير جدا للاهتمام ... قدم لنا الكثير لنفكر فيه ... كانت الأمسية الأكثر إلهاما!» في الصف الأمامي، كانت تجلس الآنسة مينس شديدة الاستقامة، ورأسها مائل قليلا على أحد جانبيها كالطيور. أخذ المحاضر ورقة من أسفل الكأس وقرأ منها إحصائيات عن معدل انتحار الألمان. يمكنك بالنظر إلى العنق الرفيع الطويل للآنسة مينس أن ترى أنها لم تكن سعيدة، وأنها كانت تتساءل ما إذا كان هذا الاجتماع سيطورها فكريا أم لا، وأنها كانت تتمنى لو كانت تستطيع فهم موضوع الاجتماع. كانت السيدتان الأخريان تجلسان كقطعتي حلوى. وكان بجوارهما امرأة قصيرة بشعر أحمر تحيك كنزة. غرزة مستقيمة، ثم غرزة معكوسة، ثم غرزة ساقطة، ثم تحيك الغرزتين معا. كان المحاضر يصف كيف يقتل النازيون رميا بالرصاص بتهمة الخيانة، وكيف يخطئهم أحيانا الجلاد. كانت ثمة امرأة أخرى بين الحضور؛ فتاة بشعر داكن، وكانت إحدى معلمات المدرسة المحلية. وعلى خلاف الأخريات، كانت تستمع بالفعل، وكانت جالسة في الأمام بعينيها الكبيرتين المستديرتين المثبتتين على المحاضر وفمها المفتوح قليلا، وكانت منصتة ومستمتعة للغاية بالأمر.
وخلفها مباشرة، كان يجلس رجلان عجوزان من حزب العمال المحلي، أحدهما بشعر أشيب بقصة شديدة القصر، والآخر برأس أصلع وشارب متدل، وكان كلاهما مرتديين لمعطفيهما. تعرف هذا النوع من الرجال، الذين هم في حزب العمال منذ قديم الأزل، والذين يبذلون حياتهم من أجل الحركة العمالية. يستبعدهم أصحاب الأعمال طوال عشرين سنة، ويقضون عشر سنوات أخرى يستجدون المجلس المحلي لفعل شيء بخصوص الأحياء الفقيرة. ولكن كل شيء تغير فجأة، فلم تعد موضوعات حزب العمال القديمة تهم أحدا، ووجدوا أنفسهم زجوا على غير رغبتهم في أمور السياسة الخارجية - هتلر، ستالين، القنابل، المدافع الآلية، الهراوات المطاطية، محور روما-برلين، الجبهة الشعبية، حلف مناهضة الكومنترن - وهم لا يمكنهم فهم أي شيء فيها. أمامي مباشرة، كان يجلس أفراد من الفرع المحلي للحزب الشيوعي، وكانوا ثلاثة من الشباب صغيري السن للغاية. أحدهم لديه مال ويشغل منصبا كبيرا في شركة عقارات هيسبيريدز، وأعتقد في الحقيقة أنه قريب العجوز كروم. وكان الآخر موظفا في أحد البنوك، حيث يصرف لي شيكات في بعض الأحيان. إنه فتى لطيف، بوجه مستدير يافع وتظهر عليه أمارات الطموح، وبعينين زرقاوين كالأطفال، وشعر أشقر للغاية حتى إنك قد تظن أنه عالجه بالبروكسيد. وهو يبدو في السابعة عشرة من عمره، ولكني أظنه في العشرين. كان يرتدي بدلة زرقاء رخيصة، ورابطة عنق زرقاء فاتحة تماشت مع شعره. بجوار هؤلاء الثلاثة، كان يجلس شيوعي آخر. ولكنه يبدو أنه من نوع مختلف من الشيوعيين، وأنه ليس من النوع الهادئ؛ لأنه ينتمي إلى من يسمونهم بالتروتسكيين. وكان الآخرون ينتقدونه باستمرار. كان أيضا صغيرا في السن، وشديد النحافة، وشديد السمار، وعصبيا، وكان وجهه ينم عن الذكاء. لا بد أنه يهودي. كانت نظرة هؤلاء الأربعة للمحاضرة مختلفة تماما عن نظرة الآخرين. لقد كنت تعلم أنهم سيقفون طالبين الكلمة في اللحظة التي يبدأ فيها وقت طرح الأسئلة. يمكنك أن تراهم يهتزون في جلستهم استعدادا للأمر بالفعل. وكان الشاب التروتسكي يتململ في جلسته من جانب إلى آخر استعدادا للبدء في طرح الأسئلة قبل الآخرين.
كنت قد توقفت عن الاستماع إلى كلمات المحاضر الفعلية، ولكن ثمة طرق كثيرة للاستماع. أغلقت عيني للحظة، وكان تأثير ذلك رائعا؛ إذ بدا كما لو أنني أرى الرجل بوضوح أكثر عندما أستمع إلى صوته فقط ، ولا أنظر إليه.
كان صوتا بدا كما لو أن بإمكانه الاستمرار لأسبوعين دون توقف. كان الأمر مريعا في الواقع، كما لو أن آلة أرغن يدوية تقذفك بالدعاية طوال الوقت. الأمر نفسه يتكرر مرارا وتكرارا. الكراهية، الكراهية، الكراهية. فلنتحد معا ونطلق حملة جيدة من الكراهية. الأمر يتكرر مرارا وتكرارا. يعطيك ذلك شعورا بأن شيئا يخترق جمجمتك ويدق في دماغك. ولكن للحظة، وبينما كنت مغمضا عيني، تمكنت من تحويل دفة الأمر ضده؛ فقد دخلت إلى جمجمته. كان شعورا غريبا، فقرابة الثانية كنت في داخله، حتى يمكنك القول إنني كنت هو. على أي حال، شعرت بما كان يشعر به.
رأيت الأمور من منظوره، الذي كان مختلفا تماما عن كل شيء قد يخطر على بال أحد. ما كان يقوله هو أن هتلر يسعى للقضاء علينا، وأن علينا جميعا أن نتحد ونشن حملة قوية من الكراهية ضده. قال ذلك دون خوض في التفاصيل وباحترام شديد. ولكن ما كان يراه هو شيء مختلف تماما؛ إذ كان يرى نفسه يحطم وجوه الناس بمفك؛ وجوه الفاشيين بالطبع. أعلم أن هذا هو ما كان يراه، فهو ما رأيته بنفسي في الثانية أو الثانيتين حين كنت بداخله. كان يحطم وجوههم! في منتصفها تماما! والعظام تغرز فيها كقشر البيض، وما كان وجها منذ لحظة أصبح مجرد لطخة مهولة تشبه قطع مربى الفراولة. كان يحطم وجوههم! واحدا تلو الآخر! هذا ما في ذهنه، في نومه وفي يقظته، وكلما فكر في الأمر، أعجبه. ولا بأس في الأمر؛ فكل الوجوه التي يحطمها هي وجوه الفاشيين. يمكنك سماع كل ذلك في نبرة صوته.
ولكن لماذا؟ التفسير الأكثر ترجيحا هو لأنه خائف؛ فكل إنسان عاقل اليوم قد أصبح قاسيا بفعل الخوف. وهذا هو مجرد رجل قد بصر بما يكفي لدرجة تجعله أكثر خوفا قليلا من الآخرين. هتلر يلاحقنا! أسرعوا! لنجلب جميعا مفكات ونتكاتف، وربما لو حطمنا ما يكفي من الوجوه فلن يحطموا وجوهنا. تعاونوا، واختاروا قائدكم. هتلر أسود وستالين أبيض، ولكن لا يزال من الممكن أن يكون العكس؛ لأنه في رأس الشاب الصغير هتلر وستالين واحد، كلاهما يعني مفكات ووجوها محطمة.
إنها الحرب! بدأت أفكر فيها مرة أخرى، فهي سرعان ما ستأتي لا محالة. ولكن من يخاف من الحرب؟ بعبارة أخرى، من يخاف من القنابل والمدافع الآلية؟ لعلك تقول: «أنت.» أجل، أنا، وأي شخص سبق أن رآها؛ ولكن ما يهم ليس الحرب، بل ما بعدها. هذا العالم الذي نغرق فيه؛ عالم الكراهية، والشعارات، والقمصان الملونة، والأسلاك الشائكة، والهراوات المطاطية، والخلايا السرية؛ حيث يضيء الضوء الكهربائي ليلا ونهارا والشرطة التي تراقبك حتى أثناء نومك، والمسيرات، والملصقات بالوجوه الضخمة، والحشود من الملايين الهاتفين للقائد حتى يظنون أنهم يقدسونه بالفعل؛ بينما هم في سريرتهم يكرهونه حد الغثيان. كل ذلك سيحدث، أم أنك تظن غير ذلك؟ أرى في بعض الأيام أن ذلك مستحيل، وأرى في أيام أخرى أنه أمر محتوم. في تلك الليلة، على أي حال، علمت أن الأمر كان على وشك الحدوث؛ إذ كان كل ذلك جليا في نبرة صوت المحاضر ضئيل الحجم.
ربما في نهاية المطاف ثمة أمل في هذا الحشد الضئيل الذي يخرج في ليلة من ليالي الشتاء للاستماع إلى محاضرة كتلك، أو على الأقل في الخمسة أو الستة الذين يمكنهم فهم الأمر. هؤلاء ببساطة هم في المواقع الأمامية لجيش ضخم، فهؤلاء هم بعيدو النظر؛ الفئران الأولى التي تعرف أن السفينة تغرق. أسرعوا، أسرعوا! الفاشيون قادمون! جهزوا المفكات يا فتيان! حطموا الآخرين وإلا فسيحطمونكم. هناك رعب شديد من المستقبل يجعلك تندفع مباشرة إليه كأرنب يغطس في حلق أفعى.
ماذا سيحدث لرجل مثلي عندما تسود الفاشية إنجلترا؟ الحقيقة هي أنه ربما لن يختلف الأمر كثيرا. أما بالنسبة للمحاضر وهؤلاء الشيوعيين الأربعة، فسيحدث ذلك فرقا كبيرا؛ حيث سيحطمون الوجوه، أو ستتحطم وجوههم، حسب من تكون له الغلبة. ولكن أبناء الطبقة المتوسطة العاديين مثلي سيستكملون حياتهم كالمعتاد. ولكن الأمر يرعبني، حقا يرعبني. وبدأت أتساءل عن السبب عندما توقف المحاضر عن الحديث وجلس.
تلا ذلك الصوت الخفيض الأجوف المعتاد للتصفيق الذي تسمعه عندما يكون الحضور خمسة عشر شخصا تقريبا فقط، ثم قال العجوز ويتشيت كلمته؛ وعلى الفور قام الشيوعيون الأربعة على أقدامهم معا، وخاضوا جدالا عنيفا للغاية دام لما يقرب من عشر دقائق، وتضمن العديد من الأمور التي لم يفهمها غيرهم، مثل المادية الجدلية ومصير البروليتاريا وما قاله لينين عام 1918. ثم قام المحاضر، بعدما شرب القليل من الماء، وقدم ملخصا جعل التروتسكي يتلوى على كرسيه، ولكنه أسعد الثلاثة الآخرين؛ واستمر الجدال العنيف بصورة غير رسمية لبعض الوقت. لم يتحدث أي أحد آخر، وانصرفت هيلدا والأخريان في اللحظة التي أنهى فيها المحاضر حديثه؛ فربما كن خائفات من أن يجمع أحد المال لدفع إيجار القاعة! أما المرأة ذات الشعر الأحمر، فقد بقيت جالسة حتى تنتهي من حياكة صف في كنزتها. يمكنك سماعها تعد غرزها همسا بينما يتجادل الآخرون. كان ويتشيت جالسا ويبتسم لمن يتحدث أيا من كان، ويمكنك رؤيته وهو يفكر في الإثارة التي يحدثها الأمر كله ويضع الملاحظات في ذهنه؛ وكانت الفتاة ذات الشعر الأسود تنظر إليهم واحدا تلو الآخر بفم شبه مفتوح؛ أما العجوز المنتمي لحزب العمال، فقد بدا كعجل البحر بشواربه المتدلية ومعطفه الذي كان متدثرا به حتى أذنيه، وكان ينظر إليهم متعجبا مما يدور حوله كل ذلك. وأخيرا، قمت وشرعت في ارتداء معطفي.
تحولت المشاجرة العنيفة إلى مشاجرة خاصة بين التروتسكي والفتى ذي الشعر الأشقر. وكانا يتناقشان حول ما إذا كان عليك الانضمام للجيش إذا اندلعت الحرب. وبينما كنت أتقدم شيئا فشيئا بمحاذاة صفوف الكراسي للخروج، نادى علي الرجل ذو الشعر الأشقر، قائلا: «يا سيد بولينج! اسمع. إذا اندلعت الحرب وكانت لدينا الفرصة لتحطيم الفاشية للأبد، فهل ستقاتل؟ أعني لو كنت شابا.»
أظن أنه يعتقد أنني في الستين من عمري.
قلت: «بالتأكيد لا؛ فقد اكتفيت من المرة السابقة.» «ولكن ماذا عن تحطيم الفاشية؟!» «أوه، فلتذهب الفاشية إلى الجحيم! شهدنا ما يكفي من التحطيم بالفعل، إن كنت تريد رأيي.»
تدخل التروتسكي متحدثا عن الوطنية الاشتراكية وخيانة العمال، ولكن قاطعه الآخرون وقالوا له: «ولكنك تفكر في عام 1914. لقد كانت مجرد حرب إمبريالية عادية، ولكن الوضع الآن مختلف. اسمع. عندما تسمع عما يحدث في ألمانيا، ومعسكرات الاعتقال، وضرب النازيين للناس بالهراوات المطاطية، وجعل اليهود يبصق بعضهم على وجوه بعض، فهل لا يجعل ذلك دمك يفور؟»
إنهم يتحدثون دائما عن فوران الدم. أتذكر أنها العبارة نفسها التي كانت تقال خلال الحرب.
قلت له: «لقد تجاوزت هذه المرحلة عام 1916، كما ستفعل أنت عندما تعرف رائحة خنادق الحرب.»
ثم فجأة بدا لي أنني أراه، وكان الأمر كما لو أنني لم أكن أراه على نحو جيد حتى تلك اللحظة.
كان وجهه مفعما بالحيوية والشباب على غرار وجه تلميذ وسيم، وكانت عيناه زرقاوين وشعره أصفر باهتا، وكان ينظر إلي وللحظة دمعت عيناه بالفعل! وكان كالجميع له رأي في مسألة اليهود الألمان! ولكني في الحقيقة كنت أعلم ما يشعر به. لقد كان شابا ضخم البنية، وربما يلعب الراجبي مع فريق البنك، وهو ذكي أيضا. انظر إليه؛ إنه موظف بنك في ضاحية بائسة، يجلس خلف نافذة يكسوها الجليد، ويدخل الأرقام في دفتره، ويعد أكواما من الأوراق المالية، ويتملق مديره، ويشعر أن حياته تتعفن. وفي الوقت نفسه، عبر أوروبا، يحدث الحدث الكبير؛ حيث تنفجر القذائف فوق الخنادق، وتشحن موجات من المشاة عبر تيار من الدخان، وربما بعض أصدقائه في إسبانيا يقاتلون. بالطبع هو راغب للغاية في خوض الحرب. كيف لك أن تلومه؟ للحظة، كان لدي شعور خاص بأنه ابني، الأمر الذي كاد ليتحقق بالنظر إلى عمري وعمره. تذكرت حينها ذلك اليوم الحار القائظ من شهر أغسطس عندما لصق صبي بيع الصحف قصاصة مكتوبا عليها «إنجلترا تعلن الحرب على ألمانيا»، وتدافعنا جميعا إلى الرصيف بمآزرنا البيضاء وابتهجنا.
قلت له: «اسمع يا بني، إنك تسيء فهم الأمر برمته. في 1914، ظننا أنه سيكون أمرا عظيما، ولكنه لم يكن كذلك، بل كان فوضى لعينة. وإذا حدث مرة أخرى، فلا تزج بنفسك فيه. لماذا تعرض جسمك لأن يملأه الرصاص؟ حافظ عليه من أجل إحدى الفتيات . أنت تعتقد أن الحرب كلها بطولات ونياشين، ولكني أقول لك إنها ليست كذلك. لا يعطونك بنادق بحراب هذه الأيام، وإن أخذتها فلن يكون الوضع كما تتخيل. لن تشعر بأنك بطل، فكل ما ستعلمه هو أنك لن تنام لثلاثة أيام، وأنك ستتعفن كحيوان ابن عرس، وأنك ستبلل سروالك من الخوف، وأن يديك ستتجمد من البرد حتى لا تستطيع حمل بندقيتك. ولكن كل ذلك لا يهم، فما يهم هو ما سيحدث بعد انتهاء الحرب.»
بطبيعة الحال، لم يحدث كلامي أي انطباع؛ فكل ما يأتي في ذهن هؤلاء الشباب هو أنك قد عفا عليك الزمان، فكان الأمر كما لو أنني أقف على باب بيت للدعارة موزعا أوراق الدعاية الدينية.
بدأ الناس في الانصراف، وكان ويتشيت يوصل المحاضر إلى المنزل. وانطلق الشيوعيون الثلاثة والشاب اليهودي إلى الشارع معا، وكانوا يتحدثون مرة أخرى عن التضامن البروليتاري وجدلية الجدل وما قاله تروتسكي في عام 1917. كانوا جميعا سواء في الواقع. وكانت ليلة رطبة وهادئة وشديدة السواد. بدت مصابيح الشارع معلقة في الظلام كالنجوم، ولم تكن تضيء الطريق. وعلى مسافة بعيدة، كان يمكنك سماع صوت القطارات على طول هاي إستريت. أردت أن آخذ مشروبا، ولكن الساعة كانت قد شارفت على العاشرة وكانت أقرب حانة على مسافة نصف ميل. إلى جانب ذلك، أردت أن أتحدث إلى شخص ما، ولكن على النحو الذي لا يمكنك فعله في الحانات. كان من المضحك كيف أن رأسي كان مشغولا طوال اليوم؛ جزء من ذلك يرجع إلى أنني لم أذهب إلى العمل، بالطبع، والجزء الآخر بسبب حصولي على طقم أسناني الجديد، الأمر الذي أنعشني نوعا ما. كنت طوال اليوم منخرطا في التفكير في المستقبل والماضي. كنت أريد الحديث عن الأوقات السيئة التي ستأتي أو لن تأتي، عن الشعارات والقمصان الملونة والحشود المنظمة من أوروبا الشرقية الذين سيدمرون إنجلترا العجوز. وكان من غير المجدي التحدث إلى هيلدا، ولكن فجأة خطر ببالي أن أذهب بحثا عن العجوز بورتيوس، وهو صديق لي يسهر لساعات متأخرة من الليل .
بورتيوس هو مدير سابق بمدرسة عامة، ويعيش في شقة، لحسن الحظ أنها في النصف الأسفل من أحد البيوت، في الجزء القديم للبلدة، بالقرب من الكنيسة. وهو أعزب بالطبع، فلا يمكنك أن تتخيل هذا النوع من الرجال متزوجا؛ فهو يعيش وحده تماما مع كتبه وغليونه، وتأتيه امرأة لخدمته. إنه رجل مثقف، ويتقن اليونانية واللاتينية والشعر وكل تلك الأمور. أعتقد أنه إذا كان فرع نادي كتاب اليسار المحلي يمثل التقدم، فإن العجوز بورتيوس يمثل الثقافة، وليس لأي منهما تأثير في غرب بلتشلي.
كان الضوء متوهجا في الغرفة الصغيرة التي يجلس فيها العجوز بورتيوس للقراءة طوال ساعات الليل. وعندما طرقت الباب الأمامي، أتى ليفتح لي بمشيته الرشيقة المتهادية كما هو حاله دائما، وكان غليونه بين أسنانه وأصابعه في كتاب ليحفظ مكان توقفه عن القراءة. إنه شديد الجاذبية، وفاره الطول، وذو شعر رمادي مجعد، ووجه رفيع حالم وشاحب بعض الشيء؛ ولكنه يشبه على الأرجح وجه صبي، على الرغم من أن عمره لا بد أنه يقترب من الستين. من الغريب كيف يمكن لرجال المدارس العامة والجامعات هؤلاء الاحتفاظ بهيئتهم الشبابية حتى يوم مماتهم. إنه شيء يوجد في حركاتهم. لقد كانت للعجوز بورتيوس طريقة في التحرك ذهابا وإيابا، بوجهه الوسيم وشعره المجعد الأشيب، مع ميله إلى الوراء قليلا ما يجعلك تشعر أنه منسجم مع قصيدة ما، وغير واع لما يحدث حوله. لا يمكنك النظر إليه إلا وترى الطريقة التي عاش بها كما لو أنها مكتوبة على كل جزء فيه. المدرسة العامة، ثم أكسفورد، ثم رجوعه إلى مدرسته القديمة للعمل مدرسا بها. لقد عاش طوال حياته في أجواء من اللاتينية واليونانية والكريكت. وهو شديد الذوق والتأنق. كان يرتدي دائما سترة قديمة من صوف التويد الفاخر، وبنطالا رماديا قديم من قماش الفلانيلة الذي يحب أن تقول عنه إنه «معيب»، ويدخن الغليون ويحتقر السجائر؛ وعلى الرغم من أنه يسهر نصف الليل، أراهن على أنه يأخذ حماما باردا كل صباح. وأعتقد أنني من وجهة نظره شخص يعوزه التهذيب؛ فأنا لم أذهب إلى مدرسة عامة، ولا أعرف اللاتينية، ولا حتى أريد أن أتعلمها. يخبرني أحيانا أنه من المثير للشفقة أنني «عديم الإحساس بالجمال»، ما أعتقد أنها طريقة مهذبة لأن يقول لي إنني لم أتلق أي تعليم. على الرغم من ذلك فأنا أحبه؛ فهو شديد الكرم، وهو جاهز دائما لاستقبالك والحديث معك لساعات، ولديه دائما شيء لتشربه. عندما تعيش في منزل كمنزلنا، تغزوه بشكل أو بآخر النساء والأطفال، فمن الأفضل لك أن تخرج منه أحيانا إلى أجواء العزوبية، حيث الكتب والغلايين والمدفأة، والشعور الأكسفوردي الراقي بأن لا شيء مهما سوى الكتب والشعر والتماثيل اليونانية، وأن لا حدث جديرا بالذكر منذ نهب القوطيين روما، أحيانا يكون ذلك مريحا أيضا.
قادني إلى الكرسي الجلدي القديم ذي المسندين بجوار المدفأة، وسكب لي بعض الويسكي والصودا. لم أر قط غرفة معيشته إلا وهي معتمة بدخان الغليون. السقف أسود تقريبا. إنها غرفة صغيرة بعض الشيء، وباستثناء الباب والنافذة والمساحة أمام المدفأة، كانت الجدران مغطاة بالكتب من الأرضية إلى السقف. وكان على رف المدفأة كل شيء قد يخطر على بالك: صف من الغلايين القديمة المصنوعة من أشجار الورد البري، التي جميعها قذرة، وبعض العملات الفضية اليونانية، وبرطمان من التبغ وشعار كليته عليه، ومصباح خزفي صغير أخبرني أنه استخرجه من جبل في صقلية. وأعلى المدفأة، تجد صورا لتماثيل يونانية، بواحدة كبيرة في المنتصف لامرأة ذات أجنحة ودون رأس، يبدو كما لو أنها كانت تحاول اللحاق بحافلة. أتذكر مدى صدمة العجوز بورتيوس عندما رأيت هذه الصورة لأول مرة، وأنا لا أعرف شيئا، وسألته لماذا لم يضعوا للتمثال رأسا.
حينها، أعاد بورتيوس ملء غليونه بالتبغ من البرطمان الموضوع على رف المدفأة، وقال: «تلك المرأة التي لا تطاق بالأعلى اشترت مذياعا. كنت آمل أن أعيش ما تبقى من عمري بعيدا عن أصوات تلك الأشياء. أعتقد أنه لا يمكنني فعل شيء تجاه ذلك، أليس كذلك؟ هل تعرف شيئا عن الوضع القانوني؟»
أخبرته أنه ليس ثمة شيء يمكنه فعله. أحب طريقة طلاب أكسفورد التي يقول بها «لا تطاق»، وأضحكني أن تجد في عام 1938 شخصا يعترض على وجود مذياع في البيت. كان بورتيوس يتجول ذهابا وإيابا بطريقته الحالمة المعتادة، ويداه في جيبي معطفه، وغليونه بين أسنانه، وعلى الفور تقريبا بدأ الحديث عن قانون ضد استخدام الآلات الموسيقية أصدر في أثينا في زمان بريكليس. الأمر دائما هكذا مع العجوز بورتيوس، فكل حديثه عن أشياء حدثت منذ قرون مضت. وأيا ما كان ما بدأت الحديث به، فهو يحول الدفة دائما إلى التماثيل والشعر واليونانيين والرومان؛ فإذا ذكرت الملكة ماري، فسيخبرك عن السفينة الفينيقية الثلاثية المجاديف. إنه لا يقرأ كتابا حديثا أبدا، ويرفض أن يعرف أسماءها، ولا ينظر أبدا في أي صحيفة إلا صحيفة «ذا تايمز»، ويفخر بأن يقول لك إنه لم يذهب قط إلى السينما. وباستثناء قلة من الشعراء مثل كيتس وووردزوورث، يعتقد أن العالم الحديث - ومن وجهة نظره فإن العالم الحديث هو آخر ألفي عام - لم يكن ينبغي أن يظهر.
أنا جزء من العالم الحديث، ولكني أحب أن أستمع إليه وهو يتحدث. سيتجول حول الأرفف، ويسحب كتابا تلو الآخر، وبين الحين والآخر سيقرأ عليك شيئا يتخلله بعض نفخات الدخان، وعادة ما يترجمه لك من اللاتينية أو لغة أخرى وهو يقرؤه عليك. الأجواء برمتها تتسم بالسلام والهدوء. كان كمدرسي المدارس بعض الشيء، ولكنه يلطف لك الأمر بطريقة أو بأخرى. وعندما تستمع إليه، لا تكون في عالمك حيث القطارات وفواتير الغاز وشركات التأمين، بل يصبح كل ما حولك هو المعابد وشجر الزيتون، والطواويس والأفيال، والرجال في الحلبة بشباكهم ورماحهم الثلاثية، والأسود المجنحة والخدم المخصيين، والقوادس والمجانيق، والقادة العسكريين في دروعهم النحاسية يعدون بفرسانهم عبر دروع الجنود. من الطريف أنه يصاحب رجلا مثلي. ولكنها إحدى مزايا الرجل البدين، حيث يمكنك أن تنخرط في أي مجتمع تقريبا. هذا إضافة إلى أننا نتفق في الرأي عندما يكون الحديث عن القصص البذيئة؛ فهي الشيء الحديث الوحيد الذي يهتم به، على الرغم من أنه دائما ما يذكرني بأنها ليست حديثة. ومع ذلك فهو صعب إرضاؤه عندما يتعلق الأمر بها، ودائما ما يخبرك بإحداها بطريقة شديدة التحفظ، فيختار أحيانا شاعرا لاتينيا ويترجم عنه مقطوعة بذيئة، تاركا الكثير لخيالك، أو يلقي لك بتلميحات عن الحياة الخاصة لأباطرة الرومان، والأشياء التي كانت تحدث في معابد عشتار. يبدو أنهم كانوا قوما فاسقين، هؤلاء اليونان والرومان. وكان لدى العجوز بورتيوس صور للوحات جدارية من مكان ما في إيطاليا يقف شعرك إن رأيتها.
عندما أضيق ذرعا بالعمل والمنزل، يريحني كثيرا أن أذهب وأتحدث إلى بورتيوس، ولكن الأمر لم يبد لي كذلك هذه الليلة؛ فقد كان ذهني لا يزال مشغولا بما كان مشغولا به طوال اليوم. وتماما كما فعلت مع محاضر نادي كتاب اليسار، لم أكن أستمع بانتباه إلى ما يقوله بورتيوس، بل كنت فقط أستمع لصوته. ولكن بينما ضايقني صوت المحاضر، لم يكن الأمر كذلك بالنسبة لصوت العجوز بورتيوس؛ بل كان باعثا على السكينة، ويتسم بالرقي الشديد. وأخيرا، عندما كان في منتصف قوله لشيء ما، قاطعته قائلا: «أخبرني يا بورتيوس، ما رأيك في هتلر؟»
كان العجوز بورتيوس يتكئ بجسمه الطويل الهزيل برشاقة، ومرفقاه على رف المدفأة، وإحدى قدميه على سياج المدفأة. وقد اندهش للغاية حتى إنه أخرج غليونه من فمه، وقال: «أتسألني عن هتلر؟ أتقصد هذا الشخص الألماني؟ يا عزيزي، أنا لا أهتم به.» «ولكن المشكلة أنه سيجعلنا نفكر فيه ذلك اللعين قبل أن يموت.»
خجل العجوز بورتيوس قليلا من كلمة «اللعين»، التي لا يحبها، على الرغم من أنه يبدو لك من هيئته أنه لا يصدمه أي شيء. بدأ يمشي ذهابا وإيابا ثانية نافخا دخانه، ثم قال: «لا أرى أي سبب للاهتمام به؛ فما هو إلا مغامر. وهؤلاء الأشخاص يأتون ويذهبون. إنه مجرد أمر عابر.»
أنا لست متأكدا من معنى كلمة «عابر»، ولكني تمسكت بوجهة نظري، وقلت له: «أعتقد أنك أسأت الفهم؛ فالعجوز هتلر أمر مختلف، وكذلك جو ستالين؛ فهما ليسا مثل هؤلاء الرجال في العصور القديمة الذين كانوا يصلبون الناس ويقطعون رءوسهم وما إلى ذلك من الأمور لمجرد المرح ، بل إنهما يسعيان إلى شيء جديد تماما، شيء لم نسمع عنه من قبل.» «يا صديقي العزيز، لا جديد تحت الشمس.»
بالطبع تلك مقولة مفضلة لدى العجوز بورتيوس؛ فهو لا يسمع عن وجود أي شيء جديد، وبمجرد أن تخبره عن أي شيء يحدث في أيامنا هذه، يقول لك إن الأمر نفسه قد حدث في عهد الملك فلان. وحتى إذا تحدثت معه عن شيء كالطيارات، يقول لك إنها ربما كانت موجودة في كريت أو ميسينا أو أيا كان. حاولت أن أشرح له ما شعرت به أثناء إلقاء الرجل الضئيل الحجم للمحاضرة، ونظرتي للأوقات الصعبة القادمة؛ ولكنه لم يستمع. وكل ما فعله هو أن كرر قوله بأنه لا جديد تحت الشمس. وفي النهاية، سحب كتابا من على الأرفف وقرأ لي فقرة عن أحد الطغاة اليونانيين في عصور ما قبل الميلاد، والذي بالتأكيد يكاد يكون شقيق هتلر التوأم.
استمر نقاشنا لبعض الوقت، وقد كنت طوال اليوم أنتظر التحدث إلى أحد عن هذا الأمر. إنه لأمر طريف. أنا لست أحمق، ولكني لست رفيع الثقافة أيضا، وعادة لا يكون لدي الكثير من الاهتمامات التي تتوقع أن تكون لرجل في منتصف العمر يتحصل على سبعة جنيهات في الأسبوع ولديه طفلان. ولكن لدي من الشعور ما يجعلني أرى أن الحياة القديمة التي اعتدنا عليها تنتزع من جذورها. إنني أشعر بحدوث الأمر؛ إذ أشعر بالحرب آتية وأرى أعقابها، حيث الطوابير على الطعام والشرطة السرية ومكبرات الصوت التي تملي عليك ما يجب أن تعتنقه من آراء. ولست وحدي من يشعر بذلك، فهناك الملايين غيري. الرجال العاديون الذين أقابلهم في كل مكان؛ رجال أراهم في الحانات، وسائقو الحافلات، ومندوبو المبيعات المتجولون لشركات الأدوات المعدنية، كلهم لديهم شعور بأن العالم يسير نحو الهاوية؛ إذ يمكنهم الشعور بالتحطم والانهيار أسفل أقدامهم. وعلى الرغم من ذلك، تجد هذا الرجل المثقف الذي عاش حياته كلها وسط الكتب وغاص في التاريخ حتى يكاد يتعرقه، ولا يمكنه حتى أن يرى أن العالم يتغير. إنه لا يعتقد أن أمر هتلر مهم، ويرفض الاعتقاد بقدوم حرب ثانية. على أي حال، بما أنه لم يحارب في الحرب الأخيرة، فلم يستقر الأمر كثيرا في فكره، إذ يظن أنها كانت عرضا بائسا مقارنة بحصار طروادة. وهو لا يرى ضرورة للقلق من الشعارات ومكبرات الصوت والقمصان الملونة، ويقول دائما إنه ليس ثمة رجل ذكي يعير لمثل تلك الأشياء اهتماما. سيموت هتلر وستالين، ولكن شيئا يطلق عليه العجوز بورتيوس «الحقائق الأبدية» لن يموت. هذه بالطبع طريقة أخرى للقول بأن الأشياء ستستمر دائما تماما كما يعرفها؛ فدائما وأبدا سيتجول رجال أكسفورد المثقفون جيئة وذهابا في غرف مكتب مليئة بالكتب، مقتبسين العبارات اللاتينية، ومدخنين أجود أنواع التبغ الذي يضعونه في برطمان عليه شعار نبالة. في الحقيقة، لم تكن ثمة فائدة من الحديث معه، وكنت قد استفدت أكثر من الحديث مع الشاب ذي الشعر الأصفر الباهت. وتدريجيا، تحول النقاش، كما هو الحال دائما، إلى أمور حدثت قبل الميلاد، ثم تطرق إلى الشعر. وأخيرا، سحب العجوز بورتيوس كتابا آخر من الرفوف، وبدأ يقرأ قصيدة «أغنية إلى عندليب» لكيتس (أو ربما كان طائر القبرة، لا أتذكر).
لا يمكنني القول إن الشعر يهمني كثيرا، ولكن من المفارقات الغريبة أنني أحب الاستماع للعجوز بورتيوس وهو يقرؤه جهرا، فلا شك أنه يلقيه جيدا. وقد اكتسب تلك العادة بالطبع من قراءته على الطلاب في المدرسة. إنه يتكئ إلى شيء بطريقته المسترخية، وغليونه بين أسنانه حيث ينفث قليلا من الدخان، ويخرج صوته مهيبا ويعلو ويهبط مع الأبيات. يمكنك رؤية أن الشعر يؤثر فيه بطريقة ما. لا أعرف ما يمثله الشعر أو ما وظيفته، ولكني أتصور أنه له تأثير على أعصاب بعض الناس كالموسيقى. عندما يقرأ، لا أستمع حقيقة، بمعنى أنني لا أنتبه للكلمات، ولكن أحيانا يشعرني الصوت بنوع من السكينة الذهنية. إجمالا، أحب الأمر، ولكنه لم يفلح معي الليلة نوعا ما؛ إذ كان كما لو أن تيار هواء باردا قد هب في الغرفة، وشعرت أن كل ذلك هراء. الشعر! ما هذا الشيء؟ إنه مجرد صوت، مجرد دوي في الهواء. يا إلهي! ما فائدة ذلك في مقابل المدافع الآلية؟
رأيته يتكئ إلى رف الكتب. يا لطرافة أبناء المدارس العامة! يظلون كطلاب المدارس طوال حياتهم، حيث تدور حياتهم كلها حول مدرستهم القديمة وما يعرفونه من اللاتينية واليونانية والشعر. فجأة، تذكرت أنه في المرة الأولى التي جئت فيها لبورتيوس هنا كان يقرأ علي القصيدة نفسها. وكان يقرؤها بالطريقة نفسها، وقد ارتجف صوته عندما وصل إلى الجزء نفسه، ذلك الجزء عن النافذة السحرية أو شيء من هذا القبيل. وجالت ببالي فكرة غريبة، وهو أنه ميت، وأن ما أراه هو شبح؛ فكل الناس الذين يشبهونه قد ماتوا.
وخطر ببالي أنه ربما كثير من الأشخاص الذين تراهم يمشون حولك هم أموات في الحقيقة. نحن نقول إن شخصا ما قد مات عندما يتوقف قلبه وليس قبل ذلك، ولكن هذا يبدو تعسفيا بعض الشيء؛ ففي نهاية المطاف، لا تتوقف أجزاء من جسمك عن العمل، الشعر على سبيل المثال يظل ينمو لسنوات. ربما يموت المرء بالفعل عندما يتوقف دماغه عن العمل، أي عندما يفقد القدرة على استيعاب فكرة جديدة. العجوز بورتيوس من ذلك النوع؛ فهو متعلم تعليما جيدا، وله ذوق رائع، ولكنه غير قادر على التغيير؛ إذ يقول الأشياء نفسها ويفكر في الأفكار نفسها مرارا وتكرارا. وثمة العديد من الناس مثله، من ذوي العقول الميتة، المتوقفين من الداخل. إنهم فقط يستمرون في السير ذهابا وإيابا في المسار الضيق نفسه، ويصبحون أكثر فقدانا للوعي بمرور الوقت كالأشباح.
أعتقد أن عقل العجوز بورتيوس ربما توقف عن العمل في وقت الحرب الروسية اليابانية. ومن المروع أن تقريبا كل الناس المحترمين - هؤلاء الذين لا يريدون تحطيم الوجوه بالمطارق - من هذا النوع. إنهم أشخاص محترمون، ولكن عقولهم قد توقفت، فلا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ضد ما هو آت إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يروه، حتى عندما يكون تحت أنوفهم. إنهم يعتقدون أن إنجلترا لن تتغير أبدا وأنها العالم بأكمله، ولا يمكنهم أن يفهموا أنها مجرد ركن ضئيل تصادف عدم رؤية الطائرات القاذفة للقنابل له. ولكن ماذا عن النوع الجديد من الرجال من أوروبا الشرقية، هؤلاء الرجال المحتشدون في صفوف منظمة الذين يؤمنون بالشعارات ويتعاملون بالرصاص؟ إنهم على إثرنا، ولن يطول الوقت حتى يلحقوا بنا؛ فليس لدى هؤلاء الصبية قواعد كقواعد مركيز كوينزبري. وكل الرجال المحترمين عاجزون، فهم كالرجال الموتى أو الغوريلات الأحياء، ولا يبدو أنهم أي شيء بين أولئك أو هؤلاء.
خرجت بعد ذلك بنحو نصف ساعة، وقد فشلت تماما في إقناع العجوز بورتيوس أن أمر هتلر مهم. وكنت لا أزال أفكر في الأفكار نفسها وأنا أسير إلى المنزل عبر الشوارع شديدة البرودة. كانت قد توقفت القطارات عن السير. وكان المنزل مظلما بالكامل، وكانت هيلدا نائمة. خلعت طقم أسناني ووضعته في كوب من الماء في الحمام، وارتديت ملابس النوم، ودفعت هيلدا إلى الجانب الآخر من السرير؛ فتدحرجت دون أن تستيقظ، وكانت الحدبة نوعا ما التي بين كتفيها أمامي. غريب هو هذا الإحساس المروع بالكآبة الذي يصيبك ليلا في بعض الأحيان. في تلك اللحظة، بدا مصير أوروبا لي أكثر أهمية من إيجار المنزل وفواتير مدرسة الطفلين والعمل الذي ينتظرني غدا. إن مثل هذه الأفكار هي مجرد حماقة لأي أحد عليه أن يكسب قوته، ولكنها لم تترك ذهني؛ فما زالت صورة القمصان الملونة والمدافع الآلية تزعجني. وآخر ما أتذكر أنه شغل بالي قبل أن أنام هو السؤال التالي: لماذا بحق الجحيم يجب أن يهتم رجل مثلي بكل ذلك؟
2
كانت قد بدأت زهور الربيع تتفتح. أعتقد أن ذلك كان في شهر مارس.
كنت أقود السيارة عبر ويسترهام وكنت في طريقي إلى بودلي. وكنت في مهمة لتقييم متجر أدوات معدنية، ثم لمقابلة صاحبه، فقط إذا استطعت مقابلته، الذي كان مترددا في القيام بالتأمين على الحياة. كان أحد وكلائنا المحليين قد أرسل اسمه، ولكن في اللحظة الأخيرة ارتعب وبدأ يشك فيما إذا كان بإمكانه تحمل النفقات. أنا جيد جدا في التحدث مع الناس، فهذه من صفات البدناء؛ إذ تضع الناس أمامك في مزاج من البهجة، وتجعلهم يشعرون أن إمضاء شيك أمر ممتع. بالطبع كانت هناك طرق مختلفة للتعامل مع مختلف الأشخاص؛ فمع بعض العملاء يكون من الأفضل التركيز على المزايا، ومع آخرين يمكنك استخدام الترويع بطريقة ماكرة بالتلميح لما قد يحدث لزوجاتهم إن ماتوا وهم غير مؤمن عليهم.
انطلقت السيارة القديمة بشكل متعرج طوال طريق التلال الصغيرة المتعرجة. يا إلهي، يا له من يوم! تعلم مثل تلك الأيام التي تكون عادة في شهر مارس، حيث يبدو فجأة أن الشتاء قد توقف عن المقاومة. في الأيام الماضية، كنا في ذلك الطقس الموحش الذي يطلق عليه الناس الطقس «الساطع»، حيث السماء باللون الأزرق البارد والرياح التي تحتك بك كشفرة الحلاقة الكليلة؛ وفجأة، توقفت الرياح وأخذت الشمس فرصتها. تعرف هذا النوع من الأيام، حيث أشعة الشمس الصفراء الباهتة، وأوراق الشجر الساكنة، ونفحة من الضباب على مسافة بعيدة حيث يمكنك أن ترى الخراف المتناثرة على جوانب التلال كقطع الطباشير. وأسفل الوادي، ترى النيران المتقدة، والدخان الذي يتلوى ببطء لأعلى ويذوب في الضباب. كان الطريق لي وحدي، وكان الجو شديد الدفء لدرجة تجعلك تكاد تخلع ملابسك.
وصلت إلى بقعة كان فيها العشب المجاور للطريق مختنقا بسبب أزهار الربيع. ولربما كانت رقعة من التربة الطينية. وبعد ذلك بعشرين ياردة، أبطأت ثم توقفت؛ فقد كان الطقس شديد الجمال ولم أكن أريد أن أفوت الاستمتاع به. شعرت أنه كان علي أن أخرج من السيارة وأشم هواء الربيع، وربما حتى أقطف بعضا من أزهار الربيع إن لم يكن أحد في الطريق. بل قد واتتني فكرة غريبة، وهي أن أجلب باقة منها معي إلى المنزل لهيلدا.
أطفأت المحرك وخرجت من السيارة؛ فلا أحب أبدا أن أترك السيارة القديمة تدور دون سير؛ لأنني دائم الخوف من أن تنخلع الرفارف أو شيء من هذا القبيل. إنها سيارة من طراز عام 1927، وقد قطعت أميالا طويلة نسبيا. عندما ترفع غطاء المحرك وتنظر داخل السيارة، يذكرك ذلك بالإمبراطورية النمساوية القديمة؛ حيث كل شيء مترابط معا بأسلاك، ولكنها بطريقة أو بأخرى تظل تعمل بشكل جيد رغم كل شيء. لن تصدق أن أي آلة يمكنها أن تهتز في عدة اتجاهات في الوقت نفسه كما تفعل هذه السيارة. إن حركتها تشبه حركة الأرض، حيث تهتز باثنتين وعشرين حركة مختلفة، أو هكذا أتذكر أنني قرأت. وإذا نظرت إليها من الخلف ومحركها دائر دون أن تتحرك، فستجدها تشبه تماما فتاة من هاواي تؤدي رقصة الهولا هولا.
كانت ثمة بوابة بخمسة قضبان في جانب الطريق. تمشيت إليها واتكأت عليها. ولم يكن هناك شخص على مرمى البصر. أرجعت قبعتي للوراء قليلا للاستمتاع بذلك الشعور المنعش للهواء وهو يخترق جبهتي. كان العشب أسفل السياج مليئا بأزهار الربيع. وداخل البوابة مباشرة كان متشرد أو ما شابه قد ترك بقايا نيران، وكانت هناك كومة صغيرة من الجمرات البيضاء، وخيط رفيع من الدخان لا يزال يخرج منها. بعيدا عن ذلك، كانت ثمة بركة صغيرة مغطاة بالطحالب. وكان الحقل مزروعا بقمح شتوي، ومنحدرا لأعلى بشدة، ثم تجد جرفا من الطباشير وأيكة زان صغيرة. وكانت الأوراق اليافعة على الأشجار كالضباب. وكان الصمت المطبق في كل مكان. ولم يكن حتى ثمة ما يكفي من الرياح لتحريك رماد النار. وكان ثمة طائر قنبرة يغني في مكان ما، بخلاف ذلك لم تكن تسمع شيئا، ولا حتى صوت طائرة.
بقيت هناك قليلا، متكئا على البوابة. كنت وحدي، وحدي تماما. وكنت أنظر إلى الحقل، وكان الحقل ينظر إلي. شعرت، ترى هل ستفهمني؟!
ما شعرت به كان أمرا غير معتاد في هذه الأيام لدرجة أنه يبدو سخيفا. شعرت بأنني سعيد! شعرت أنه على الرغم من أنني لن أعيش إلى الأبد، فسأكون مستعدا تماما لذلك. إن أردت يمكنك القول إن ذلك لم يكن سوى لأننا كنا في أول أيام الربيع؛ فمواسم العام تؤثر على الغدد الجنسية أو شيء من هذا القبيل. ولكن الأمر كان قد فاق ذلك، فمن الغريب أن الشيء الذي أقنعني فجأة بأن الحياة تستحق أن نعيشها، أكثر من أزهار الربيع أو البراعم الصغيرة على السياج ، كان بقايا النار تلك الموجودة بجوار البوابة. لعلك تعرف شكل نار الخشب في يوم بلا رياح، حيث العصي التي استحالت بأكملها رمادا أبيض ولا تزال محتفظة بشكل العصي، وأسفل الرماد كان اللون الأحمر الزاهي الذي يمكنك أن تتبينه. من الغريب أن تبدو الجمرات الحمراء بهذه الحيوية، ما يعطيك شعورا بالحياة أكثر من أي كائن حي. ثمة شيء فيها، نوع من القوة، اهتزاز - لا يمكنني التفكير في كلمة تعبر عنها بدقة - ولكنها تجعلك تعلم أنك حي أنت الآخر. إنها البقعة في الصورة التي تجعلك تلاحظ كل ما عداها.
انحنيت لألتقط زهرة من زهرات الربيع، ولكن لم أستطع الوصول إليها بسبب بطني الكبير. جثمت على وركي والتقطت مجموعة صغيرة منها. من حسن حظي أنه لم يكن هناك أحد ليراني. كانت الأوراق مجعدة بعض الشيء وتشبه آذان الأرانب. وقفت ووضعت باقة الزهور في عضادة البوابة، ثم أخرجت طقم أسناني باندفاع من فمي ونظرت إليه.
لو كان معي مرآة، لنظرت إلى شكلي كله، رغم أني في الحقيقة أعرف ما أنا عليه بالفعل؛ رجل بدين في الخامسة والأربعين، يرتدي بذلة رمادية بخطوط متعرجة في حالة سيئة بعض الشيء وقبعة مستديرة، ولدي زوجة وطفلان، وأعيش في منزل في الضواحي - كل ذلك يبدو جليا علي - وذو وجه أحمر وعينين زرقاوين مهتاجتين. أعلم كل ذلك، فلا أحتاج أن تقوله لي؛ ولكن ما فاجأني، وأنا أخلع طقم أسناني في اللمحة السريعة التي ألقيتها عليه قبل أن أعيده إلى فمي، هو أن ليس ثمة شيء مهم. حتى طقم الأسنان لا يهم. أنا بدين، أجل. وأبدو كالأخ الفاشل لوكيل المراهنات، أجل. لن تنام معي امرأة مرة أخرى إلا إذا دفعت لها. أعلم كل ذلك. ولكني أقول لك إن كل ذلك لا يهمني. لا أريد امرأة، ولا أريد حتى أن أرجع صغيرا مرة أخرى. كل ما أريده هو أن أعيش. وها أنا عشت في تلك اللحظة عندما وقفت أنظر إلى أزهار الربيع والجمرات الحمراء أسفل السياج. إنه شعور بداخلك، نوع من الشعور بالسكينة، وفي الوقت نفسه هو كاللهيب.
بعيدا عن السياج كانت البركة مغطاة بالطحالب، التي كانت كالسجاد حتى إنك إن لم تكن تعرف الطحالب لاعتقدت أنها أرض صلبة ولوطئت عليها بقدميك. أتساءل لم نحن جميعا حمقى لعناء؟ لم لا يتنزه الناس متأملين الأشياء بدلا من الحماقات التي يقضون فيها أوقاتهم؟ تلك البركة مثلا. وكل الأشياء التي فيها: السمندل، وحلزون الماء، وخنافس الماء، وذبابة القمص، والعلق، وغيرها من الأشياء التي لا حصر لها التي لا يمكنك رؤيتها إلا بالميكروسكوب. وكذلك لغز الحياة فيها، أسفل الماء. يمكنك قضاء حياتك في مشاهدتها، بل يمكنك قضاء عشر حيوات، ولن تصل حتى إلى آخر تلك البركة. وطوال ذلك الوقت ستشعر بالانبهار، وبذلك اللهيب الفريد بداخلك. إنه الشيء الوحيد الذي يستحق أنه تحظى به، ولكننا لا نريده.
ولكنني أريده. اعتقدت ذلك على الأقل في تلك اللحظة. ولا تسئ فهم ما أقول؛ فبادئ ذي بدء، وعلى عكس معظم أبناء الطبقة العاملة، ليست لدي تلك العاطفة الصبيانية تجاه «الريف»؛ فقد نشأت بالقرب الشديد منه وعشت فيه بما يكفي. ولا أريد ألا يعيش الناس في البلدات، أو في الضواحي في الحقيقة، فليعيشوا أينما أرادوا. ولا أقول بأن تقضي البشرية كلها أعمارها جميعا في التنزه والتقاط أزهار الربيع وما إلى ذلك، فأنا أعلم جيدا أنه يجب علينا الذهاب للعمل، وأنه فقط لأن ثمة رجالا يسعلون في المناجم حتى تكاد رئتهم تخرج من صدورهم، وفتيات يعملن على الآلة الكاتبة بهمة؛ فلا يسمح الوقت لأحد بقطف زهرة. إضافة إلى أنك إن لم يكن بطنك ممتلئا ومنزلك دافئا، فلن تريد أن تقطف زهرة. ولكن ذلك ليس المقصد. إنه ذلك الإحساس الداخلي الذي يغمرني، أعترف أنه لا يحدث دائما ولكن بين الحين والآخر. وأعلم أنه إحساس من الجيد أن يشعر به المرء. وما هو أكثر من ذلك، أنه كذلك بالنسبة لجميع الناس، أو الغالبية العظمى. إنه حولنا طوال الوقت، ونعلم جميعا أنه هناك. أوقف ذلك المدفع الرشاش! توقف عن مطاردة ما تطارده! اهدأ، واسترجع أنفاسك ، واجعل بعض السكينة تتسرب إلى داخلك. أعرف أنه لا فائدة من ذلك؛ فنحن لا نفعل ذلك، فقط نستمر في حماقاتنا اللعينة نفسها.
الحرب التالية على الأبواب، يقولون إنها قادمة في عام 1941. ثلاث دورات للأرض حول الشمس، ثم سنجد أنفسنا فيها مباشرة. ستسقط علينا القنابل كالسيجار الأسود، وستتدفق الطلقات بانسيابية من مدافع برن الآلية. ليس هذا ما يقلقني تحديدا؛ فقد كبرت سني كثيرا على القتال. وسنشهد كذلك الغارات الجوية بالطبع، ولكنها لن تضرب الجميع؛ هذا بالإضافة إلى أنه إذا وجد ذلك الخطر، فلن يؤخذ بعين الاعتبار مسبقا. وكما قلت عدة مرات من قبل، فأنا لست خائفا من الحرب، بل مما بعدها. وحتى ذلك ليس من المحتمل أن يؤثر علي بشكل خاص؛ فمن سيهتم برجل مثلي؟ أنا بدين جدا على أن أكون موضع شك سياسي. لا أحد سيسعى لقتلي أو ضربي بهراوة مطاطية، فأنا رجل عادي من الطبقة المتوسطة، ينصرف عندما تأمره الشرطة بذلك. أما هيلدا والطفلان، فربما حتى لن يلاحظوا قط أي فرق. ولكن الأمر يرعبني. الأسلاك الشائكة! الشعارات! الوجوه الضخمة! السراديب المبطنة بالفلين حيث يضربك الجلادون من الخلف! لكل ذلك، ترعب الحرب رجالا آخرين أكثر حماقة مني من الناحية الفكرية. ولكن لماذا؟ لأنها تعني نهاية هذا الشيء الذي أخبرتك به، هذا الإحساس الفريد بداخلك. فلتسمه سلاما إن أردت، ولكن عندما أقول سلاما فلا أقصد عدم الحرب، بل أقصد السكينة، ذلك الإحساس الذي تشعر به في حواشيك. وسيزول للأبد إن أمسك بنا صبيان الهراوات المطاطية.
أخذت باقة زهور الربيع وشممتها. وكنت أفكر في بلدة لوير بينفيلد. كان من الطريف أن تظل تأتي إلى ذاكرتي على فترات خلال الشهرين الماضيين، وبعد عشرين عاما كنت قد نسيتها فيها بالفعل. وفي هذه اللحظة تحديدا، سمعت صوت سيارة آتية على الطريق.
عدت إلى الواقع مصدوما، وأدركت فجأة ما كنت أفعله، أتنزه ملتقطا أزهار الربيع بينما ينبغي علي أن أقوم بتقييم متجر تاجر الأدوات المعدنية هذا الذي في بودلي. إلى جانب هذا، هالني فجأة كيف سيبدو شكلي أمام الناس الذين في السيارة إن رأوني. رجل بدين بقبعة مستديرة يمسك بباقة من أزهار الربيع! لا تبدو صورة جيدة على الإطلاق، فالرجل البدين يجب ألا يمسك بأزهار الربيع، بأي حال من الأحوال في العلن. كان لدي الوقت لرميها عبر السياج قبل أن تظهر السيارة في مرمى البصر. وكان من الجيد أن فعلت ذلك؛ فالسيارة كانت مليئة بالشباب الحمقى في عمر العشرين تقريبا، وكانوا بالتأكيد سيضحكون مني لو كانوا رأوني على تلك الحال. كانوا جميعا ينظرون إلي - تعلم كيف ينظر الناس إليك عندما يكونون في سيارة قادمة نحوك - وخطر ببالي أنه حتى الآن ربما يخمنون ما كنت أفعل. أفضل أن يظنوا أي شيء آخر. فلماذا يخرج رجل من سيارته على جانب طريق ريفي؟ الأمر واضح! عندما مرت السيارة، تظاهرت بأني أغلق أزرار البنطال الأمامية.
أدرت السيارة باستخدام الكرنك (فمبدئ الحركة الذاتي لم يعد يعمل) وركبت. ومن الغريب أنه في اللحظة نفسها التي كنت أغلق فيها أزرار بنطالي، عندما كان ذهني منشغلا ثلاثة أرباعه بالتفكير في أمر هؤلاء الشباب الحمقى في السيارة الأخرى، خطرت ببالي فكرة مدهشة.
سأذهب إلى لوير بينفيلد!
لم لا؟ فكرت في ذلك وأنا أسير بأقصى سرعة بالسيارة. ما المانع؟ ماذا كان يمنعني؟ ولماذا لم أفكر بحق الجحيم في الأمر من قبل؟ إجازة هادئة في لوير بينفيلد، إنه بالضبط ما أحتاج إليه.
لا تتخيل أن لدي أي أفكار عن العودة للعيش في لوير بينفيلد، فلم أكن أخطط لأن أهجر هيلدا والطفلين وأن أبدأ حياتي باسم آخر؛ فهذه الأشياء لا تحدث إلا في الروايات؛ ولكن ما الذي يمنعني من زيارة لوير بينفيلد وقضاء أسبوع فيها وحدي تماما، في السر؟
بدا كأني قد خططت لكل شيء في ذهني بالفعل، وكان الأمر مناسبا ما دامت النقود متوفرة. كان لا يزال معي اثنا عشر جنيها أحتفظ بها سرا، ويمكنك قضاء أسبوع غاية في الراحة بهذا المبلغ. يمكنني الحصول على إجازة من العمل لمدة أسبوعين في السنة، وتكون عادة في أغسطس أو سبتمبر. وإذا تمكنت من اختلاق قصة مناسبة - احتضار قريب من مرض عضال أو ما شابه - لربما تمكنت من إقناع الشركة أن تعطيني إجازتي على فترتين منفصلتين. حينئذ يمكنني أن آخذ أسبوعا كاملا وحدي قبل أن تعرف هيلدا بالأمر. أسبوع في لوير بينفيلد، بعيدا عن هيلدا والطفلين، وفلاينج سلامندر، وشارع إلزمير والشجار حول الإيجار والمشتريات، وضوضاء المرور التي تقودك للجنون، فقط أسبوع من التسكع والاستماع لصوت الهدوء!
ولكن في رأيك لم أريد العودة إلى لوير بينفيلد؟ لماذا لوير بينفيلد بالتحديد؟ ما الذي أنوي فعله عندما أذهب إلى هناك؟
لم أنو فعل أي شيء، وهذا جزء من السبب؛ فقط أريد أن أنعم بالسلام والهدوء. السلام! كان موجودا فيما مضى، في لوير بينفيلد. أخبرتك قليلا عن حياتنا القديمة هناك، قبل الحرب. لا أتظاهر أنها كانت مثالية، بل أستطيع القول إنها كانت فاترة وراكدة ورتيبة؛ إذ يمكنك القول إن أردت إننا كنا كحبات اللفت. ولكن اللفت لا يعيش في رعب من رئيسه في العمل، ولا يظل مستيقظا في الليل مفكرا في الركود الاقتصادي والحرب القادمين. لقد كنا ننعم بالسلام الداخلي. أعلم بالطبع أنه حتى في لوير بينفيلد قد تغيرت الحياة، ولكن المكان نفسه لم يتغير؛ فلا تزال هناك أشجار الزان حول منزل بينفيلد، ومسار جر القوارب المجاور لبورفورد وير، ومعلف الخيول في السوق. أردت العودة إلى هناك، فقط لمدة أسبوع، وجعل الشعور بالسلام يغمرني. كان الأمر أشبه باعتزال أحد الحكماء الشرقيين في الصحراء. وأعتقد أنه بالطريقة التي تسير بها الأمور، سيعتزل الكثير من الأشخاص الجيدين في الصحراء في السنوات القليلة القادمة. سيكون الأمر أشبه بروما القديمة التي كان يخبرني عنها العجوز بورتيوس، حيث كان العديد من النساك حتى إنه كانت ثمة قائمة انتظار للعيش بكل كهف.
ولكني لا أعني أنني أردت أن أعتزل لأمارس بعض أنواع التأمل؛ كالتأمل بالنظر إلى السرة الذي كان يمارسه الإغريق، بل كل ما أردته هو أن أستعيد قوتي قبل أن يأتي الزمان الصعب. هل لا يشك عاقل في أن الأوقات الصعبة قادمة؟ لا نعلم حتى ما الذي ستكون عليه، ولكننا نعلم أنها آتية. ربما تكون حربا أو أزمة اقتصادية - لا أحد يعلم، فقط ستمر علينا أيام سيئة. وأينما كنا ذاهبين، فنحن ذاهبون إلى الهاوية؛ إلى القبر أو إلى المجاري - لا أحد يعلم. ولا يمكنك مواجهة هذا الأمر إلا إذا كنت تتمتع بالإحساس الصحيح بداخلك، وهو شيء فارقنا خلال السنوات العشرين الماضية منذ الحرب. إنه كنوع من العصارة الحيوية التي رششناها حتى لم يتبق منها شيء. كل هذا التدافع هنا وهناك. تدافع أبدي من أجل حفنة من المال. ضجيج أبدي صادر من الحافلات والقنابل وأجهزة المذياع وأجراس الهاتف. تآكلت أعصابنا حتى دمرت، ونخرت عظامنا حتى اختفى نخاعها.
ضغطت بقدمي على دواسة الوقود، وقد أراحتني بالفعل فكرة العودة إلى لوير بينفيلد. تعرف الإحساس الذي كنت أشعر به، إنه هدنة لالتقاط الأنفاس! كسلحفاة البحر الكبيرة عندما تجدف إلى السطح، وتخرج أنفها من الماء لتملأ رئتيها بجرعة كبيرة من الهواء قبل أن تغوص للأسفل مرة أخرى، عائمة بين أعشاب البحر والأخطبوطات. كلنا نختنق في قاع صندوق قمامة، ولكنني وجدت الطريق للأعلى. إنه يتمثل في العودة إلى لوير بينفيلد! أبقيت قدمي على دواسة الوقود حتى وصلت السيارة القديمة إلى أقصى سرعتها بما يقرب من أربعين ميلا في الساعة. كانت تقعقع كصينية معدنية مليئة بالآنية الفخارية، وبدأت أغني وسط ضوضائها.
ولكن بالطبع ما كان يعكر صفو الأمر كان هيلدا. جعلتني تلك الفكرة أتراجع بعض الشيء، وأبطأت السيارة إلى عشرين ميلا في الساعة للتفكير في الأمر.
لا شك أن هيلدا ستكتشف الأمر عاجلا أو آجلا، فلكي أحصل على إجازة لأسبوع واحد في أغسطس، فعلي أن أحسن تجاوز الأمر معها. يمكنني أن أخبرها أن الشركة لم تعطني سوى أسبوع واحد هذا العام. ربما لن تطرح العديد من الأسئلة عن الأمر؛ لأنه سيروق لها أن توفر نفقات الإجازة. والطفلان، على أي حال، دائما ما يقضيان شهرا على الشاطئ. ولكن الصعوبة كانت في أن أجد حجة للتغيب لذلك الأسبوع في شهر مايو؛ فلا يمكنني أن أختفي دون إعلامها. فكرت في أن أفضل شيء هو أن أقول لها مسبقا إنه من المتوقع أن يرسلوني في العمل لمهمة خاصة إلى نوتينجهام أو ديربي أو بريستول، أو إلى أي مكان بعيد. وإذا أخبرتها بذلك قبل الإجازة بشهرين، فسيبدو أنه ليس لدي ما أخفيه.
ولكنها بالطبع ستكتشف الأمر عاجلا أو آجلا. ثق في هيلدا! ستتظاهر في البداية بأنها تصدقني، ثم بطريقتها الهادئة والعنيدة ستكتشف أنني لم أذهب إلى نوتينجهام أو ديربي أو بريستول أو أي ما كان. إنها تفعل ذلك بطريقة مذهلة، يا لها من مثابرة! إنها تظل صامتة حتى تكتشف كل نقاط الضعف في حجتك المزعومة، ثم فجأة عندما تذكر الأمر بالصدفة على إثر ملاحظة عابرة تنقض عليك، وتأتيك فجأة بملف القضية كلها، فتجدها تقول: «أين قضيت ليلة السبت؟ أنت تكذب! لقد كنت بصحبة امرأة. انظر إلى هذا الشعر الذي وجدته عندما كنت أنظف معطفك. انظر إليه! هل هذا لون شعري؟» ثم يبدأ المرح. حدث ذلك كثيرا. في بعض الأحيان تكون محقة في شأن أنني كنت بصحبة امرأة، وأحيانا أخرى تكون مخطئة؛ ولكن رد فعلها دائما واحد، وهو التذمر لأسابيع بلا توقف! ولا نجلس لتناول الطعام دون مشاجرة، والطفلان لا يفهمان ما يجري. ولكن أسوأ ما يمكنني أن أفعله هو أن أخبرها أين سأقضي ذلك الأسبوع بالفعل ولماذا؛ فإذا حاولت أن أشرح لها حتى يوم القيامة، فلن تصدقني.
ولكن، تبا! لم أشغل بالي؟ فما زال أمامي وقت طويل. تعلم كيف تختلف هذه الأمور بعد فعلها عن قبل فعلها. ضغطت بقدمي على دواسة الوقود مرة أخرى، وجالت في ذهني فكرة أخرى، فكرة أكبر حتى من الأولى. لن أذهب في شهر مايو، بل سأذهب في النصف الثاني من شهر يونيو، عندما يبدأ موسم صيد الأسماك غير المنتمية لعائلة السلمون، وسأذهب للصيد!
لم لا؟ فقد أردت السكينة، والصيد يبعث على السكينة. ثم خطرت ببالي الفكرة الأكبر، وكادت أن تنحرف بي عن الطريق.
سأذهب وأصطاد أسماك الشبوط الكبيرة في بركة منزل بينفيلد!
ومجددا، لم لا؟ أليس من الغريب كيف نعيش حياتنا، إذ نعتقد دائما أن الأشياء التي نريد فعلها هي الأشياء التي لا يمكننا فعلها؟ لم لا يجب أن أصطاد أسماك الشبوط تلك؟ ولكن بمجرد أن ذكرت الفكرة، ألم تبد لك شيئا مستحيلا أو شيئا لا يمكن حدوثه؟ لقد بدت لي كذلك، حتى في تلك اللحظة؛ فقد بدت لي كحلم واهم، كتلك الأحلام التي ترى نفسك فيها نائما مع نجمات الأفلام أو فائزا ببطولة الوزن الثقيل. ومع ذلك لم يكن الأمر مستحيلا على الإطلاق، بل لم يكن صعبا؛ إذ يمكنك أن تؤجر مكانا للصيد، فأيا كان المالك الحالي لمنزل بينفيلد، فسيسمح لي بالتأكيد بالصيد في البركة إذا دفعت له ما يكفي. يا إلهي! كم يسعدني أن أدفع خمسة جنيهات لقضاء يوم في الصيد في تلك البركة! ومن المحتمل كذلك أن يكون المنزل ما زال فارغا، ولا يعلم أحد حتى بوجود البركة.
فكرت في ذلك المكان المظلم خلف الأشجار، وهو ينتظرني طوال تلك الأيام، وفي الأسماك السوداء الضخمة التي لا تزال تعوم في الأرجاء. يا إلهي! إذا كانت بذلك الحجم الذي رأيتها عليه منذ ثلاثين عاما، فكيف سيكون حجمها الآن؟
3
كنا في السابع عشر من شهر يونيو، يوم الجمعة، وكان اليوم الثاني هو موعد بدء موسم صيد الأسماك غير المنتمية إلى عائلة السلمون.
لم أجد أي صعوبة في ترتيب أموري مع الشركة. أما مع هيلدا، فقد خدعتها بقصة كانت على أحسن تنظيم ولا تشوبها شائبة؛ فقد رتبت أن تكون حجة غيابي أني ذاهب إلى برمنجهام، حتى إني أخبرتها في اللحظة الأخيرة باسم الفندق الذي كنت سأبيت فيه، وهو فندق روبوتوم العائلي والتجاري، وكنت أعرف عنوانه؛ لأنني قد أقمت فيه قبل ذلك ببضع سنوات. في الوقت نفسه، لم أكن أريدها أن ترسل لي خطابات إلى برمنجهام، الأمر الذي كان من المتوقع أن تفعله إن تغيبت لمدة أسبوع. بعد التفكير مليا، أخبرت الشاب ساوندرز، الذي كان مندوب مبيعات متجولا لدى شركة جليسو لملمعات الأرضيات، بجزء من السر؛ إذ كان قد أخبرني بالصدفة أنه سيمر على برمنجهام في الثامن عشر من يونيو، واتفقت معه على أن يتوقف في الطريق ويرسل خطابا مني إلى هيلدا، وعليه عنوان فندق روبوتوم؛ وذلك لإخبارها أنه قد يطلب مني مغادرة المكان وأنه من الأفضل عدم الكتابة لي. تفهم ساوندرز الأمر، أو هكذا اعتقد؛ فغمز لي وقال إنني مبهر مقارنة بسني. وهكذا تمت تسوية الأمر مع هيلدا، التي لم تطرح أي أسئلة؛ وحتى إن شكت في شيء فيما بعد، فإن حجة كتلك لن يكون من السهل تفكيكها.
قدت السيارة عبر ويسترهام، وكان صباحا رائعا من صباحات شهر يونيو؛ حيث هب نسيم خفيف، وكانت قمم شجر الدردار تتمايل في الشمس، وكانت السحب البيضاء الصغيرة تسبح في السماء كقطيع من الخراف، وكانت الظلال يطارد بعضها بعضا عبر الحقول. خارج ويسترهام، قابلت فتى يعمل في متجر مثلجات وولز، وكانت وجنتاه كالتفاحتين، وكان يعدو مسرعا تجاهي على دراجته، ويصفر حتى كادت صفارته تخترق رأسك. ذكرني ذلك فجأة بالوقت الذي كنت فيه صبي مهمات مثله (على الرغم من أننا في تلك الأيام لم تكن لدينا دراجات بترس حر)؛ وكدت أن أوقفه وآخذ قطعة من المثلجات التي كانت معه. كان القش مقطعا في مكانه بالحقول، ولكنه لم يكن قد خزن بعد؛ إذ كان قد فرش ليجف في الشمس في صفوف لامعة طويلة، وكانت رائحته قد انجرفت عبر الطريق، واختلطت برائحة الوقود.
قدت السيارة ببطء على سرعة خمسة عشر، وكان صباحا هادئا وحالما. كان البط يعوم في البرك كما لو أنه قد شعر بأنه قد شبع تماما، فلم يعد يريد أن يأكل. في نيتلفيلد، القرية بعد ويسترهام، جاء رجل ضئيل الحجم، بمئزر أبيض وشعر أشيب وشارب رمادي ضخم، مندفعا كالسهم عبر الحقول، ثم وقف في وسط الطريق وبدأ يلوح لجذب انتباهي. كانت سيارتي معروفة على طول هذا الطريق بالفعل. توقفت، ولم يكن سوى السيد ويفر صاحب المتجر العام في القرية. لا، لم يكن يريدني أن أؤمن له على حياته ولا على متجره، فقط كانت قد نفدت منه الفكة، ويريد أن يعلم ما إذا كان معي ما يعادل جنيها من «العملات الفضية الكبيرة». ليس لديهم فكة أبدا في نيتلفيلد، حتى في الحانة.
واصلت في طريقي، وكان القمح قد طال حتى يكاد يصل إلى خصرك. كنت أعرج في الطريق لأعلى وأسفل عبر التلال التي كانت تشبه السجادة الخضراء الكبيرة، التي كانت الرياح تميلها قليلا فتبدو كثيفة وحريرية. كانت كالمرأة المستلقية التي تدعوك لحضنها. ثم رأيت أمامي العلامة الإرشادية التي تخبرك بأن الطريق يتفرع يمينا إلى بودلي ويسارا إلى أكسفورد.
كنت لا أزال في حدودي المعتادة، داخل «منطقتي»، كما تسميها الشركة. من الطبيعي، بما أنني كنت متجها إلى الغرب، أن أغادر لندن من طريق أوكسبريدج؛ ولكن حدسي جعلني أتبع طريقي المعتاد. الحقيقة هي أنني كنت أشعر بالذنب حول الأمر برمته، وكنت أريد أن أكون قد قطعت شوطا طويلا قبل أن أصل أكسفوردشير. على الرغم من أنني قد رتبت الأمر جيدا من ناحية هيلدا والشركة، وعلى الرغم من أن معي اثني عشر جنيها في محفظتي وحقيبة سفر في السيارة من الخلف، فكلما كنت أقترب أكثر من تقاطع الطرق كنت أشعر بالفعل بإغراء - أعلم أنني لم أكن لأستسلم له، ولكنه كان إغراء على أي حال - يدفعني للتراجع عن كل شيء. كان لدي ذلك الشعور بأنني طوال سيري في طريقي المعتاد فأنا ما زلت محترما للقانون؛ فلم يفت الأوان، هكذا اعتقدت، وأنه ما زال أمامي الوقت لأن أسلك المسلك القويم. كان بإمكاني الإسراع إلى بودلي، على سبيل المثال، ومقابلة مدير بنك باركلي (وهو وكيلنا في بودلي) وسؤاله عما إذا كان ثمة عمل جديد في الأرجاء. وكان يمكنني كذلك التراجع والعودة إلى هيلدا معترفا بكذبتي.
أبطأت عندما اقتربت من الدوران. هل أتم الأمر أم أتراجع عنه؟ لمدة ثانية تقريبا كان الإغراء يتملكني بالفعل. ولكن لا! أطلقت بوق السيارة وملت بالسيارة غربا في طريق أكسفورد.
حسنا، سأذهب. كنت قد أصبحت في الأرض المحرمة. كان من الممكن، إن أردت، أن أتجه بعد خمسة أميال إلى اليسار مرة أخرى وأرجع إلى ويسترهام؛ ولكني في تلك اللحظة كنت قاصدا الغرب. بالأحرى، كنت في منتصف الطريق. والغريب في الأمر، أنه بمجرد وجودي على طريق أكسفورد شعرت شعورا أكيدا أنهم علموا كل شيء. وبقولي «أنهم» أعني كل الناس الذين لم يكونوا ليوافقوا على رحلة من هذا النوع، والذين كانوا سيمنعونني إن تمكنوا من ذلك، وهم، على ما أعتقد، كل الناس.
علاوة على ذلك، أحسست بأنهم يلاحقونني بالفعل. جميعهم! جميع الناس الذين لم يتمكنوا من فهم السبب وراء اختلاس رجل في منتصف العمر بأسنان اصطناعية لأسبوع هادئ في المكان الذي قضى فيه أيام صباه. وكل الأوغاد من ذوي النفوس الدنيئة الذين تمكنوا من فهم الأمر جيدا، ولكنهم سيقيمون الدنيا ويقعدونها لمنعي. كلهم كانوا في الطريق خلفي. كان الأمر كما لو أن جيشا ضخما يتدفق على الطريق خلفي، وبدا لي أنني أراهم في ذهني. كانت هيلدا في المقدمة، بالطبع، ويلاحقها الطفلان، والسيدة ويلر تحثها بحقد وضراوة، والآنسة مينس تركض في الخلف ونظارتها تنزلق على أنفها، وعلى وجهها نظرة أسى كالدجاجة المتخلفة عن الركب، بينما بقية الدجاج قد حصلوا على قشور اللحم المقدد. وكان خلفي أيضا السير هربرت كروم وأصحاب المناصب العليا في فلاينج سلامندر في سياراتهم الرولز رويس والهيسبانو سويسا. وكل الرجال في المكتب، وكل الموظفين المداسين بالأقدام المساكين من شارع إلزمير ومن كل الشوارع المماثلة، الذين يركب بعضهم في العربات الصغيرة وآلات الحصاد، ومداحل الحدائق الإسمنتية، والبعض الآخر يحدثون ضجة بسيارات أوستين سيفن القديمة التي يقودونها. وكل منقذي الأرواح والمتطفلين، هؤلاء الذين لا تراهم أبدا، ولكنهم يديرون مصيرك على الرغم من ذلك: وزير الداخلية، وشرطة سكوتلاند يارد، وتحالف الاعتدال في شرب الكحوليات، وبنك إنجلترا، واللورد بيفربروك، وهتلر وستالين على دراجة بمقعدين، والأساقفة، وموسوليني، والبابا. جميعهم كانوا ورائي. حتى إنه كان بإمكاني سماعهم وهم يصرخون قائلين: «ثمة رجل يعتقد أنه سيهرب! ثمة رجل يقول إنه لا يريد أن يسير مع القطيع! إنه يرجع إلى لوير بينفيلد! الحقوا به! أوقفوه!»
إنه لأمر غريب! كان تأثير ذلك الإحساس علي عظيما لدرجة أنني ألقيت نظرة خاطفة عبر الزجاج الخلفي للسيارة للتأكد من أن أحدا لا يلاحقني. أعتقد أنه الإحساس بالذنب. ولكن لم يكن ثمة أحد، فما كان سوى طريق أبيض يكسوه الغبار، وصف طويل من أشجار الدردار التي تتضاءل أحجامها خلفي.
ضغطت بقوة على دواسة الوقود، فقعقعت السيارة القديمة ووصلت سرعتها إلى الثلاثينيات. بعد ذلك ببضع دقائق، كنت قد تجاوزت منعطف ويسترهام. وكان ما كان. وما كان هناك مجال للتراجع. هذه كانت الفكرة التي، بشكل غامض، بدأت في التشكل في ذهني في اليوم الذي حصلت فيه على طقم أسناني الجديد.
الجزء الرابع
1
شققت طريقي إلى لوير بينفيلد عبر تل تشامفورد. هناك أربعة طرق تؤدي إلى لوير بينفيلد، وكان من الأسرع أن أذهب عبر وولتن، ولكني أردت المرور على تل تشامفورد، فهو الطريق الذي اعتدنا أن نسلكه بالدراجات رجوعا إلى المنزل من رحلات صيدنا في نهر التيمز. عندما تتجاوز للتو قمة التل، تتباعد الأشجار ويمكنك رؤية لوير بينفيلد في الوادي أسفل قدميك.
إنها لتجربة غريبة أن تعود إلى مكان ما من الريف لم تره منذ عشرين سنة؛ إذ تتذكره بكل تفاصيله، ولكنك تكتشف أن كل ما تتذكره غير صحيح؛ فكل المسافات مختلفة، ويبدو أن المعالم قد تغيرت. تستمر في الشعور - بالطبع هذا التل كان شديد الارتفاع - بأنك بالتأكيد انعطفت في الجانب الخاطئ من الطريق. ومن جهة أخرى، تجد أن لديك ذكريات شديدة الدقة، ولكنها تخص موقفا بعينه. ستتذكر، على سبيل المثال، ركنا من الحقل، في يوم مطير في الشتاء، بعشبه شديد الخضرة حتى يكاد يصبح أزرق اللون، وعضادة بوابة صدئة مغطاة بالأشنة، وبقرة واقفة على العشب تنظر إليك. وسترجع بعد عشرين سنة، وستفاجأ؛ لأن البقرة ليست واقفة في المكان نفسه، ولا تنظر إليك بالتعبير نفسه الذي تتذكره.
عندما صعدت تل تشامفورد بالسيارة، أدركت أن صورته التي كانت في ذهني كانت من وحي خيالي إلى حد كبير. ولكن الحقيقة أن أشياء بعينها قد تغيرت. كان الطريق معبدا، بينما كان في الأيام الخوالي مرصوفا بالحصباء (أتذكر ذلك الشعور الوعر به أسفل دراجتي)، وبدا كما لو أنه أصبح أعرض، وقلت أشجاره بشكل ملحوظ. في الماضي، كانت أشجار الزان الضخمة تنمو في الأسيجة، وكانت أغصانها تتلاقى في بعض الأماكن على الطريق مشكلة ما يشبه القوس. كل ذلك اختفى الآن. كدت أصل إلى قمة التل عندما صادفت شيئا كان بالتأكيد جديدا؛ فعلى يمين الطريق كانت ثمة مجموعة كبيرة من المنازل ذات المظهر الخلاب الزائف، بأفاريز متدلية وعرائش ورد وما إلى ذلك. تعرف ذلك النوع من المنازل التي تكون أعلى في رقيها من أن تصطف على خط واحد؛ ومن ثم تجدها متناثرة فيما يشبه المستعمرة، بطرقها الخاصة التي تقود إليها. وعلى مدخل أحد الطرق الخاصة كانت ثمة لوحة بيضاء كبيرة مكتوب عليها:
مأوى للكلاب
جراء من سلالة سيليهام النقية
مبيت وطعام للكلاب.
بالطبع لم يكن ذلك موجودا في الماضي، أليس كذلك؟
فكرت لوهلة. أجل، تذكرت! في مكان تلك المنازل كانت أشجار البلوط الصغيرة، التي نمت شديدة القرب من بعضها بعضا، فأصبحت شاهقة الطول ورفيعة السمك، وكانت الأرض أسفلها تغطيها بكثافة شقائق النعمان في فصل الربيع. بالطبع لم تكن ثمة منازل قط بهذا البعد عن البلدة.
وصلت أعلى التل، دقيقة واحدة وتصبح لوير بينفيلد على مرمى البصر. لوير بينفيلد! لماذا يجب أن أتظاهر بعدم الحماس؟ فعند مجرد التفكير في رؤيتها مرة أخرى أشعر بإحساس استثنائي يزحف داخلي محدثا أثره على قلبي. خمس دقائق وسأراها. أجل، ها قد وصلت! حررت القابض ثم ضغطت على المكابح، ثم يا إلهي!
أوه، أجل، أعلم أنك تعلم ما كان بانتظاري، ولكني لم أكن أعلم. يمكنك القول إنني كنت في غاية الحماقة ألا أتوقع الأمر، فكذلك كنت بالفعل. ولكنه لم يخطر ببالي قط.
السؤال الأول كان: أين هي لوير بينفيلد؟
لا أعني أنها هدمت، بل فقط ابتلعت؛ فما كنت أنظر إليه بالأسفل كان بلدة صناعية كبيرة بعض الشيء. أتذكر - يا إلهي، وكيف لا أتذكر؟! ولا أعتقد في هذه الحالة أن ذاكرتي تخونني - ما كانت تبدو عليه لوير بينفيلد عند النظر إليها من أعلى تل تشامفورد. أعتقد أن هاي إستريت كان طوله نحو ربع ميل، وباستثناء بعض المنازل النائية، كان شكل البلدة يقترب من شكل الصليب. وكان المعلمان الرئيسان هما برج الكنيسة ومدخنة مصنع الجعة. في هذه اللحظة، لم أتمكن من رؤية أي منهما، وكل ما تمكنت من رؤيته كان نهرا ضخما من المنازل الجديدة تماما، كان يتدفق عبر الوادي في كلا الاتجاهين وإلى منتصف الطريق إلى أعلى التلال على كلا الجانبين. إلى اليمين، كان ما بدا أنه عدة فدادين من الأسقف الحمراء الساطعة، التي كانت كلها متشابهة تماما. بالنظر إليها، عرفت أنها مساكن البلدية.
ولكن أين كانت لوير بينفيلد؟ أين كانت البلدة التي كنت أعرفها؟ لا بد أنها كانت في مكان ما. كل ما أعرفه أنها كانت مخفية في مكان ما وسط ذلك البحر من الطوب. من المداخن الخمس أو الست التي يمكنني رؤيتها، لم أتمكن من أن أخمن حتى أيهما كانت مدخنة مصنع الجعة. ناحية الطرف الشرقي للبلدة، كان ثمة مصنعان ضخمان للزجاج والإسمنت. هذا هو السبب وراء نمو البلدة، على ما أعتقد، عندما بدأت في إدراك الأمر. وخطر ببالي أن سكان هذا المكان (الذين كانوا نحو ألفين في الماضي) لا بد أنهم قد أصبحوا خمسة وعشرين ألفا على الأقل. الشيء الوحيد الذي لم يتغير، على ما يبدو، كان منزل بينفيلد. لم يكن سوى كالنقطة من تلك المسافة، ولكنك يمكنك أن تراه على الجانب المقابل للتل، وأشجار الزان حوله؛ فلم تكن البلدة قد ارتفعت مبانيها لتصل لذلك العلو. وأنا أنظر على البلدة، طار سرب من الطائرات القاذفة للقنابل السوداء أعلى التل، ومر بسرعة فوق البلدة فسمعت الأزيز الذي أحدثته.
دفعت القابض وبدأت أتحرك بالسيارة ببطء نزولا من التل. كانت المنازل قد زحفت صعودا إلى منتصف التل. تعرف تلك المنازل شديدة الصغر والرخص التي تمتد على جوانب التلال في صف واحد لا ينقطع، ولها أسقف تراها مرتفعة الواحد أعلى الآخر؛ كسرب من الخطوات وكلها متشابهة تماما. ولكن قبل أن أصل إلى المنازل بقليل توقفت مرة أخرى. على يسار الطريق، كان ثمة شيء آخر جديد تماما. المقبرة. توقفت أمام المدخل للنظر إليها.
كانت ضخمة، وعلى مساحة عشرين فدانا، على ما أعتقد. تتسم المقابر الجديدة دائما بمظهر محدث جذاب، بمساراتها من الحصى الخشن ومروجها الخضراء الوعرة، وتماثيل الملائكة الرخامية المصنوعة آليا، التي تبدو كما لو كانت منتزعة من كعكات الزفاف. ولكن أكثر ما هالني في تلك اللحظة هو أن هذا المكان لم يكن موجودا في الماضي، ولم يكن ثمة مقابر منفصلة في ذلك الحين، فقط كان لدينا مدفن الكنيسة. تمكنت بشكل غامض من تذكر المزارع الذي كان يمتلك تلك الحقول، بلاكيت، هكذا كان اسمه، وكان مزارعا ومنتجا لمنتجات الألبان. كما ذكرني المظهر البارد للمكان بطريقة ما بمدى تغير الأمور؛ فلم تتسع البلدة كثيرا فحسب، حتى إنهم احتاجوا إلى عشرين فدانا لدفن موتاهم، بل إنهم قد وضعوا المقبرة هنا على أطراف البلدة. هل لاحظت أنهم دائما ما يفعلون ذلك في تلك الأيام؟ كل بلدة جديدة تضع مقبرتها على أطرافها. يدفعونها بعيدا، يبقونها بعيدا عن أنظارهم! إنهم لا يتحملون تذكر الموت. حتى شواهد القبور تخبرك بالقصة نفسها. إنهم لا يقولون أبدا إن الرجل المدفون تحتها قد «مات»، بل «رحل» أو «رقد». لم يكن الأمر كذلك في الماضي؛ حيث كان مدفن كنيستنا قابعا في وسط البلدة، وكنت تمر عليه كل يوم وترى البقعة التي يرقد فيها جدك، وأين سترقد أنت الآخر في يوم من الأيام. لم يكن يزعجنا النظر للأموات. أعترف أننا في الأيام الحارة كنا نشم رائحتهم أيضا؛ لأن قبور بعض العائلات لم تكن مغلقة جيدا.
تركت السيارة تهبط من على التل ببطء. يا له من أمر غريب! لا يمكنك تخيل مدى غرابته! طوال الطريق إلى أسفل التل كنت أرى أشباحا، وخاصة أشباح الأسيجة والأشجار والأبقار. كنت كما لو أنني أنظر إلى عالمين في الوقت نفسه؛ ما يشبه الفقاعة الرقيقة لما كان موجودا في الماضي، مع ما هو موجود بالفعل وساطع من خلالها. هناك كان الحقل حيث كان الثور يطارد جينجر رودجرز! وهناك كان المكان حيث كان ينمو فطر الحصان! ولكن لم يكن هناك أي حقول أو أي ثيران أو أي فطر؛ بل كانت المنازل في كل مكان، منازل حمراء باردة صغيرة بستائر نوافذها الوضيعة، والخردة في الحدائق الخلفية التي لم تكن شيئا سوى رقعة من العشب الرديء أو بعض من نبات العائق الذي يكافح لينمو وسط الأعشاب. وكان الرجال يمشون ذهابا وإيابا، والنساء ينفضن الحصائر، والأطفال بأنوفهم التي يسيل منها المخاط يلعبون على طول الرصيف. كلهم غرباء! فقد جاءوا جميعا وتجمعوا هنا أثناء غيابي. ومع ذلك فهم من كانوا ينظرون إلي باعتباري غريبا، فلم يعلموا أي شيء عن لوير بينفيلد القديمة، ولم يسمعوا قط عن شوتير وويثرال، أو السيد جريميت وعمي إيزيكيال، وبالتأكيد لم يكن يهمهم أن يعرفوا شيئا.
من الأمور الطريفة سرعة الناس على التكيف. أعتقد أنه مرت خمس دقائق منذ أن توقفت عند قمة التل، وأنا متحمس قليلا في الواقع لفكرة رؤية لوير بينفيلد مرة أخرى. وبالفعل اعتدت على فكرة أن لوير بينفيلد قد ابتلعت ودفنت مثلها مثل مدن بيرو الضائعة. عززت شجاعتي وواجهت الوضع. فبعد كل شيء، ماذا تتوقع؟ يجب أن تنمو المدن، إذ يجب أن يعيش الناس في مكان ما. علاوة على ذلك، فلم تبد القرية القديمة؛ فهي لا تزال موجودة في مكان ما، بيد أنها أصبحت محاطة بالمنازل بدلا من الحقول. خلال بضع دقائق سوف أراها مجددا، حيث الكنيسة ومدخنة مصنع الجعة، ونافذة متجر أبي، ومعلف الخيول في السوق. وصلت إلى أسفل التل، وتشعب الطريق. اتجهت يسارا، وبعد دقيقة ضللت الطريق.
لم أستطع تذكر شيء، لم أستطع حتى أن أتذكر ما إذا كانت بداية البلدة من هذه الناحية أم لا. كل ما كنت أعرفه هو أن هذا الشارع لم يكن موجودا في الماضي . ولمئات الياردات، كنت أسير فيه - كان شارعا حقيرا شديد الوضاعة، وكانت المنازل متراصة على جانبيه، ومن حين لآخر كنت ترى متجرا للبقالة أو حانة قذرة صغيرة - وأتساءل إلى أين عساه أن يقودني. وأخيرا، توقفت بجوار امرأة مرتدية مئزرا قذرا، ولا ترتدي قبعة وكانت تسير على الرصيف. أخرجت رأسي من نافذة السيارة، وقلت لها: «عذرا، هل يمكنك أن تدليني على الطريق إلى السوق؟»
ردت بلهجة صعبة الفهم، قائلة: «لا أعلم.» بدا أنها كانت من لانكشير؛ فثمة العديد منهم في جنوب إنجلترا الآن، وقد فروا بأعداد كبيرة من المناطق المدمرة.
ثم رأيت رجلا في رداء عمل سروالي ومعه حقيبة أدوات آتيا نحوي، فحاولت مرة أخرى. جاءتني الإجابة هذه المرة بلهجة الطبقة العاملة، ولكنه كان عليه أن يفكر فيها لدقيقة أولا، ثم قال: «السوق؟ السوق؟ دعنا نرى. أوه، هل تعني السوق القديم؟»
أعتقد أنني كنت أعني بالفعل السوق القديم. «أوه، حسنا، انعطف يمينا ...»
كان طريقا طويلا. بدا لي أنه أميال، على الرغم من أنه في الواقع لم يكن يتعدى ميلا واحدا. المنازل، والمتاجر، ودور السينما، والكنائس الصغيرة، وملاعب كرة القدم، كلها جديدة، كل شيء جديد. مرة أخرى، انتابني هذا الشعور بأن نوعا من غزو الأعداء قد حدث في غيابي. كل هؤلاء الناس تدفقوا من لانكشير وضواحي لندن، وزرعوا أنفسهم هنا محدثين هذه الفوضى الموحشة، وهم لا يهتمون حتى بمعرفة أسماء المعالم الرئيسية للبلدة. ولكنني فهمت الآن السبب في أن ما كنا نطلق عليه قديما السوق أصبح الآن يعرف باسم السوق القديم؛ فقد أقاموا ميدانا كبيرا، على الرغم من أنه لا يمكنك أن تطلق عليه ميدانا بالتحديد؛ لأنه لم يكن له شكل محدد، وكان في منتصف البلدة الجديدة، تملؤه إشارات المرور وبه تمثال ضخم من البرونز لأسد يهاجم نسرا، لقد كان نصبا تذكاريا للحرب على ما أعتقد. إن كل شيء جديد! يا له من مظهر بارد ووضيع! هل تعرف شكل هذه البلدات الجديدة التي تضخمت فجأة كالبالون في السنوات القليلة الماضية: هايز، وسلاو ، وداجنهام ، وغيرها؟ ذلك الطوب الأحمر الساطع البارد في كل مكان، ونوافذ المتاجر ذات الطلاءات المؤقتة المليئة بالتخفيضات على أسعار الشوكولاتة وأجهزة الراديو. هذا ما كان الأمر عليه تماما. ولكني، فجأة، استدرت إلى شارع به منازل قديمة. يا إلهي! إنه هاي إستريت!
رغم كل شيء، لم تخني ذاكرتي. كنت أعرف كل بوصة فيه. بضعة مئات أخرى من الياردات وسأكون في السوق. كان المتجر القديم في الطرف الآخر من هاي إستريت. سأذهب إلى هناك بعد الغداء، وكنت أنوي الإقامة في حانة جورج. لي في كل بوصة ذكريات! أعرف جميع المتاجر، على الرغم من أن كل الأسماء قد تغيرت، والأشياء التي يبيعونها قد تغيرت أيضا في الغالب. ها هو متجر لوفجروف! وها هو متجر تود! وهذا المتجر الداكن اللون الكبير ذو الأعمدة والنوافذ الناتئة من السقف المائل كان متجر ليلي وايت للأقمشة، حيث كانت تعمل إلسي. وها هو متجر جريميت! يبدو أنه لا يزال متجرا للبقالة. والآن، إلى معلف الخيول في السوق. كانت ثمة سيارة أخرى أمامي، ولم أتمكن من رؤيته.
انعطفت جانبا ودخلت إلى السوق؛ ولكن معلف الخيول كان قد اختفى.
كان يوجد مكانه رجل من جمعية السيارات في مهمة مرورية. ألقى نظرة على السيارة، ورأى أنها لا تحمل شارة الجمعية، فقرر عدم إلقاء التحية علي.
استدرت متوجها إلى حانة جورج؛ فقد كان غياب معلف الخيول بمثابة صفعة لي جعلتني أخرج من المكان دون أن أنظر حتى لأعرف ما إذا كانت مدخنة مصنع الجعة ما زالت موجودة أم لا. تغيرت حانة جورج كذلك؛ فكل شيء فيها قد تغير ما عدا اسمها. وقد تزينت وجهتها الأمامية حتى بدت كأحد الفنادق الساحلية، وقد بدلت لافتتها كذلك. كان من الغريب أنه على الرغم من أنني لم أكن أفكر في اللافتة القديمة ولو مرة حتى تلك اللحظة لمدة عشرين عاما، فقد اكتشفت فجأة أنه يمكنني تذكر كل تفصيلة فيها، حيث كانت معلقة في هذا المكان منذ أقدم وقت يمكنني تذكره. كانت لافتة غير متقنة مرسوما عليها القديس جورج يركب حصانا شديد النحافة ويدهس تنينا شديد الضخامة؛ وفي الزاوية، على الرغم من تشقق الطلاء وتغير لونه، يمكنك قراءة توقيع صغير، وهو «ويليام ساندفورد، رسام ونجار». أما اللافتة الجديدة، فقد كانت ذات مظهر فني جذاب؛ إذ يمكنك أن ترى أن راسمها فنان حقيقي، ويبدو فيها القديس جورج شابا عاديا مخنثا. أما الساحة التي كانت مرصوفة بالحصى، حيث كانت توضع أمتعة المزارعين وكان السكارى يتقيئون في ليالي السبت، فقد زاد حجمها بما يعادل ثلاثة أمثال ورصفت بالإسمنت، وأحاطتها بالكامل مواقف السيارات. تركت السيارة في أحد مواقف السيارات هذه وخرجت.
من الأشياء التي لاحظتها عن العقل البشري هو أنه متأرجح؛ فلا عاطفة تدوم لفترة طويلة. في ربع الساعة التي سبقت ذلك الحين، كان لدي ما يمكنك أن تصفه بعض الشيء بالصدمة. شعرت وكأن لكمة شديدة قطعت أحشائي عندما توقفت أعلى تل تشامفورد، وفجأة أدركت أن لوير بينفيلد قد اختفت، وشعرت بطعنة صغيرة أخرى عندما رأيت أن معلف الخيول لم يعد موجودا. همت في الشوارع بسيارتي عابسا، وشعرت كما لو أنه قد زال مجدي. ولكن عندما ترجلت من السيارة ورفعت قبعتي الملساء على رأسي، شعرت فجأة أن الأمر لا يهم في شيء؛ فقد كان يوما صيفيا جميلا، وكان لساحة الفندق مظهر صيفي نوعا ما، بورودها في الأحواض الخضراء وما إلى ذلك. بالإضافة إلى ذلك، فقد كنت جائعا وأرتقب تناول الغداء.
دخلت إلى الفندق بنوع من التباهي، وتبعني عامل الفندق، الذي كان قد انطلق لاستقبالي بالفعل، حاملا حقيبتي. شعرت ببعض الدعة، التي ربما كانت جلية على مظهري؛ فيمكنك القول إنني بدوت كرجل أعمال كبير، على أي حال إن لم تكن قد رأيت سيارتي. كنت سعيدا أنني أتيت ببدلتي الجديدة، التي كانت زرقاء من قماش الفلانيلة وبخطوط بيضاء رفيعة، ما أضفى علي مظهرا ملائما؛ فقد كان لها ما أطلق عليه الخياط «تأثير التخسيس». أعتقد أنني في ذلك اليوم كان بإمكاني أن أبدو كسمسار في البورصة. قل ما شئت، ولكنه شيء لطيف للغاية أنه في يوم من أيام شهر يونيو، عندما تكون الشمس ساطعة على نباتات إبرة الراعي الوردية في الأواني على النوافذ، أن تدخل فندقا ريفيا جميلا وبانتظارك لحم الحمل المشوي بصلصة النعناع. ليس من ميولي الإقامة في الفنادق؛ فأنا أرى الكثير منها، ولكن في تسعة وتسعين في المائة من المرات التي أراها فيها تكون تلك الفنادق «العائلية والاقتصادية»، مثل روبوتوم، حيث كان من المفترض أن أقيم في ذلك الحين، ذلك النوع من الأماكن التي تدفع فيها خمسة شلنات مقابل المبيت والإفطار، وحيث الملاءات الرطبة دائما وصنابير الحمامات التي لا تعمل أبدا. بدا فندق جورج عصريا حتى كدت لا أعرفه؛ إذ كنا في الماضي بالكاد نطلق عليه فندقا، فلم يكن سوى حانة، على الرغم من أنه كان به غرفة أو غرفتان للإيجار وكان يعد الغداء للمزارعين (لحم البقر المشوي وبودينج يوركشاير، والحلوى الدسمة وجبن ستلتون) في أيام السوق. بدا كل شيء مختلفا باستثناء البار العام، الذي ألقيت نظرة عليه وأنا أمر، وقد بدا تماما كما كان دائما. مررت في ممر به سجادة ناعمة، ومعلق على جدرانه صور صيد، وأوعية تدفئة للأسرة مصنوعة من النحاس، وما شابه من أشياء. يمكنني على نحو باهت تذكر الممر القديم، حيث بلاط الأرضيات البالية ورائحة الجص الممزوج برائحة الجعة. كانت ثمة شابة أنيقة، بشعر مجعد وفستان أسود، التي أعتقد أنها كانت موظفة أو ما شابه؛ أخذت اسمي في الاستقبال، قائلة: «هل تريد غرفة يا سيدي؟ بالتأكيد يا سيدي. باسم من يا سيدي؟»
صمت قليلا. على أية حال، هذه لحظتي الكبرى. كنت متأكدا من أنها ستعرف اسمي. إنه ليس بالاسم الشائع، وهناك الكثير من أفراد العائلة المدفونين في مدفن الكنيسة؛ فقد كنا إحدى عائلات لوير بينفيلد القديمة، آل بولينج من بلدة لوير بينفيلد. وعلى الرغم من أنه من المزعج بعض الشيء أن يعرفني أحد، تمنيت لو يحدث ذلك.
فقلت بوضوح شديد: «بولينج، السيد جورج بولينج.» «بولينج يا سيدي. بوا ... أوه! بو؟ أجل يا سيدي. وهل أنت آت من لندن يا سيدي؟»
لا شيء. لا رد فعل. لم تسمع بي قط. لم تسمع قط عن جورج بولينج، نجل صامويل بولينج، صامويل بولينج الذي كان يحتسي كوبا من الجعة في هذه الحانة نفسها كل سبت لأكثر من ثلاثين عاما.
2
تغيرت غرفة الطعام كذلك.
كان بإمكاني تذكر الغرفة القديمة، على الرغم من أنني لم أتناول قط وجبة واحدة بها؛ كانت برف موقد بني اللون وورق حائط أصفر برونزي - لم أعرف قط ما إذا كانت مصممة في الأساس لتكون بذلك اللون، أم أنها أصبحت كذلك بفعل الزمن والدخان - وكان بها لوحة زيتية موقعة كذلك باسم «ويليام ساندفورد، رسام ونجار»، وكانت لمعركة التل الكبير. الآن، ارتقوا بالمكان فيما يشبه نمط القرون الوسطى، حيث مدفأة من الطوب مع مقعدين متقابلين أمامها، وعارضة خشبية كبيرة عبر السقف، وألواح بلوط على الجدران، وكل جزء منها يبدو مصطنعا حتى من مسافة خمسين ياردة. كانت العارضة الخشبية من البلوط الأصلي، الذي ربما جلبوه من سفينة قديمة؛ ولكنها لم تكن تحمل أي شيء، وكنت أشك في الألواح منذ اللحظة التي وقعت عيناي عليها. عندما جلست إلى الطاولة، وأتى إلي النادل الشاب الزلق بالطعام عابثا بمنديل المائدة خاصته، طرقت على الجدار ورائي. أجل! كما اعتقدت! لم يكن حتى من الخشب؛ فقد قلدوه بتركيبة ما، ثم طلوه.
ولكن الغداء لم يكن سيئا. تناولت لحم الحمل مع صلصة النعناع، وزجاجة من نبيذ أبيض ما باسم فرنسي جعلني أتجشأ قليلا، ولكنه جعلني سعيدا. كان ثمة شخص آخر يتناول الغداء هناك؛ امرأة في الثلاثين من عمرها تقريبا ذات شعر أشقر، وبدت كأرملة. كنت أتساءل ما إذا كانت تقيم في الفندق، وفكرت في خطة غير واضحة للتعرف عليها. من الغريب اختلاط المشاعر داخل المرء؛ فقد ظللت أرى الأشباح نصف الوقت. وكان الماضي يتداخل مع الحاضر. رأيت أيام السوق حيث المزارعون الأقوياء المعروفون يلقون بسيقانهم أسفل الطاولات الطويلة، بمسامير نعالهم التي كانت تحك بشدة في الأرضية الحجرية، ويتناولون كميات كبيرة من اللحم البقري والحلوى لا تكاد تصدق أن إنسانا يقدر على تناولها. ثم أرى الطاولات الصغيرة، وعليها المفارش البيضاء اللامعة وكئوس النبيذ والمناديل المطوية، والزينة المقلدة وأجواء الرخاء تخيم على المكان. وفكرت قائلا في نفسي: «معي اثنا عشر جنيها وأرتدي بذلة جديدة. أنا جورج بولينج الصغير، ومن كان يظن أنني سأرجع إلى لوير بينفيلد بسيارتي الخاصة؟» ثم أثر علي النبيذ ببعض الدفء المنبعث من معدتي، ونظرت إلى المرأة ذات الشعر الأشقر، وتخيلت أنني أخلع عنها ملابسها.
الشيء نفسه حدث لي في فترة ما بعد الظهر، عندما جلست في صالة الانتظار - التي كانت مرة أخرى على طراز مصطنع للعصور الوسطى، ولكن كان بها كراسي حديثة بمساند من الجلد وطاولات بأسطح زجاجية - مع بعض البراندي والسيجار. كنت أرى أشباحا، ولكنني كنت إجمالا مستمتعا بالأمر. في الحقيقة، كنت قد أفرطت في الشرب بعض الشيء وكنت آمل أن تأتيني المرأة ذات الشعر الأشقر لأتعرف عليها؛ ولكنها لم تظهر قط. لم أخرج إلا وقت تناول الشاي تقريبا.
تمشيت إلى السوق وانعطفت يسارا. المتجر! كان هذا غريبا! منذ إحدى وعشرين سنة مضت، يوم جنازة والدتي، مررت عليه بعربة أجرة، ورأيته مغلقا تعلوه الأتربة، ولافتته محترقة بفعل لهيب نفخ السمكري، ولم أكن أهتم به قيد أنملة. والآن، عندما كنت بعيدا جدا عنه، وعندما كانت ثمة تفاصيل بالفعل عما بداخل المنزل لم يكن بإمكاني تذكرها، أثرت علي مجرد فكرة رؤيته مرة أخرى في قلبي ومعدتي. مررت بمتجر الحلاق، وكان لا يزال متجرا للحلاقة، ولكن اسمه تغير؛ حيث خرجت من بابه رائحة اللوز والصابون الدافئة، ولكنها لم تكن جيدة كرائحته القديمة حيث عطر ما بعد الحلاقة وتبغ اللاذقية. المتجر - متجرنا - كان يبعد مسافة عشرين ياردة. يا إلهي!
تبدو فوقه لافتة ذات مظهر فني - رسمها الرجل نفسه الذي رسم لافتة فندق جورج، لا عجب في ذلك - تحمل الكلمات التالية:
صالة شاي ويندي
قهوة صباحية
كعك بيتي.
صالة شاي!
أتصور أنه إن كان قد أصبح متجرا للجزارة أو لتجارة الأدوات المعدنية أو أي شيء آخر غير الحبوب، لكان له الأثر نفسه علي. من السخيف أنه لأنه قد صادف وولدت في منزل معين أن تعتقد أن لديك الحق فيه لبقية حياتك، ولكنك تفعل ذلك. حسنا، كان المكان جيدا؛ ستائر زرقاء في النوافذ، وكعكة، أو كعكتان، في مكان ما، مغطاة بالشكولاتة وبجوزة واحدة موضوعة أعلاها. دخلت المتجر، ولم أكن أريد أن أتناول الشاي في الواقع، ولكني أردت أن أراه من الداخل.
كان من الواضح أنهم حولوا كلا من المتجر والردهة القديمة إلى أماكن لتناول الشاي وما شابه. أما عن الساحة الخلفية حيث كان صندوق القمامة ورقعة الأعشاب الصغيرة التي كان يزرعها أبي؛ فقد عبدوها بالكامل وزينوها بالطاولات البسيطة ونباتات الكوبية وغيرها من الأشياء. دخلت إلى الردهة، ورأيت مزيدا من الأشباح! البيانو والنصوص على الجدار، والكرسيين بالمسندين الأحمرين القديمين الكبيرين حيث كان يجلس أبي وأمي متقابلين حول المدفأة يقرآن صحيفتي «صن داي بيبول» و«نيوز أوف ذا وورلد» في يوم الأحد ما بعد الظهيرة! زينوا المكان بطراز أكثر قدما من ذلك الذي زين به فندق جورج، حيث الطاولات القابلة للطي ونجفة من الحديد المطاوع وأطباق البيوتر المعلقة على الجدار وما إلى ذلك. هل لاحظت مدى الإعتام الذي يعدون به دائما صالات الشاي ذات الطابع الفني تلك؟ أفترض أن هذا جزء من أجواء العصور القديمة. وبدلا من النادلة العادية، كانت هناك شابة في رداء منقوش، والتي قابلتني بتعبير بارد. طلبت منها شايا، وأتت به بعد عشر دقائق. تعلم هذا النوع من الشاي، الشاي الصيني، الذي يكون خفيفا للغاية لدرجة أنك قد تعتقد أنه ماء حتى تضع عليه الحليب. كنت جالسا تقريبا في المكان نفسه الذي كان فيه كرسي أبي ذو المسندين. كدت أسمع صوته وهو يقرأ «مقطعا»، كما كان يسميه، من صحيفة «صن داي بيبول» عن الآلات الطائرة الجديدة، أو الرجل الذي ابتلعه حوت أو ما شابه. جعلني ذلك أشعر بإحساس شديد الغرابة بأني مدع كاذب، وأنه بإمكانهم أن يطردونني إن اكتشفوا من أكون، ولكن في الوقت نفسه كنت أتوق لأن أخبر أحدا أنني قد ولدت هنا، وأنني أنتمي إلى هذا المنزل، أو بالأحرى (وهو ما كنت أشعر به بالفعل) أن المنزل ينتمي إلي. لم يكن أحد غيري يحتسي الشاي، وكانت الفتاة ذات الرداء المنقوش واقفة أمام النافذة، ويمكنني أن أقول إنني لو لم أكن هناك لنظفت أسنانها بعود ثقاب أو ما شابه. تناولت إحدى شرائح الكعك التي جلبتها لي. إنه كعك بيتي! بالطبع كان كذلك. كعك بيتي بالسمن النباتي وبدائل البيض. ولكن في النهاية، كان علي أن أتحدث، فقلت: «هل تعيشين في لوير بينفيلد منذ وقت طويل؟»
أجفلت وبدت متفاجئة ولم تجب. فحاولت مرة أخرى قائلا: «لقد كنت أعيش في لوير بينفيلد منذ وقت طويل.»
مرة أخرى لم تجب، أو أجابت بشيء لم أسمعه؛ ورمقتني بنظرة باردة وأعادت النظر عبر النافذة مجددا. رأيت ما كانت عليه؛ إذ كانت تعد نفسها سيدة أرقى من أن تتجاذب أطراف الحديث مع الزبائن. وربما ظنت أنني أحاولت مغازلتها. ما الفائدة من أن أخبرها بأنني قد ولدت في هذا المنزل؟ وحتى إن صدقتني، فلم يكن الأمر ليعنيها في شيء. لم تسمع قط عن صامويل بولينج، تاجر الذرة والحبوب. دفعت الحساب وخرجت.
تجولت إلى الكنيسة. أحد الأشياء التي كنت شبه خائف منها، وأتطلع إليها في الوقت نفسه، أن يتعرف علي أشخاص كنت أعرفهم. ولكن لم يكن ثمة داع للقلق، فلم يكن هناك وجه أعرفه في الشوارع. بدا الأمر كما لو أن البلدة بأكملها جاءها سكان جدد.
عندما وصلت إلى الكنيسة، عرفت لما تحتم عليهم أن ينشئوا مقبرة جديدة؛ فساحة الكنيسة كانت ممتلئة إلى حافتها، ونصف القبور كانت عليها أسماء لا أعرفها. ولكن الأسماء التي أعرفها كان من السهل للغاية أن أجدها. تجولت حول القبور؛ حيث كان القندلفت قد حش العشب للتو، وكانت رائحة الصيف موجودة حتى هناك. كانوا جميعا بمفردهم، جميع الناس الذين كنت أعرفهم. جرافيت الجزار، ووينكل تاجر الحبوب الآخر، وترو الذي كان يدير حانة جورج، والسيدة ويلر من متجر الحلوى، كلهم كانوا يرقدون هناك. وكان شوتير وويثرال يرقد كل منهما أمام الآخر على جانبي الممر، تماما كما لو كانا لا يزالان يغنيان لبعضهما بعضا على جانبي ممر الكنيسة. إذن ويثرال لم يصل عامه المائة بعد كل ذلك؛ فقد ولد عام 1843 و«غادر الحياة» عام 1928، ولكنه تفوق على شوتير، كالمعتاد، الذي توفي عام 1926. يا له من وقت عصيب ذلك الذي لا بد أن يكون العجوز ويثرال قد قضاه في آخر عامين له عندما لم يكن ثمة أحد ليغني أمامه! وكان العجوز جريميت أسفل شيء ضخم من الرخام على شكل يشبه فطيرة لحم العجل والخنزير، مع حاجز حديدي حوله، وفي الركن كان آل سيمونز كلهم أسفل صلبان صغيرة ورخيصة. الكل ذهبوا إلى التراب. العجوز هودجز بأسنانه المصفرة من التبغ، ولوفجروف بلحيته البنية الكبيرة، والسيدة رامبلينج التي كانت لها سائق عربة ونمر، وعمة هاري بارنز التي كان لها عين زجاجية، وبروير من الطاحونة بوجهه العجوز الكريه كشيء منحوت من جوزة، لا شيء بقي من أي منهم عدا لوحا من الحجارة وما أسفله الذي لا يعلمه إلا الله.
وجدت قبر أمي وكان قبر أبي بجواره، وكان كل منهما في حالة جيدة. حافظ القندلفت على العشب مقصوصا. وكان قبر عمي إيزيكيال بعيدا بعض الشيء. سويت بالأرض الكثير من القبور القديمة، وأزيلت كل الشواهد الخشبية القديمة، تلك القطع التي كانت تبدو كطرف هيكل السرير. ما شعورك عندما ترى قبري أبويك بعد عشرين عاما؟ لا أعرف ما المفترض أن تشعر به، ولكني سأخبرك بما شعرت، وهو ما كان لا شيء. لم يغب أبي وأمي عن بالي قط؛ فكما لو أنهما موجودان في مكان ما وإلى الأبد. أمي خلف إبريق الشاي البني، وأبي برأسه الأصلع المغبر بالطحين بعض الشيء، ونظارته وشاربه الأشيب كانا ثابتين طوال الوقت على تلك الهيئة كالأشخاص في الصور، ولكنهما كانا حيين أيضا بشكل ما. صناديق العظام تلك المستلقية تحت الأرض لا يبدو أن لها أي علاقة بهما. فقط، عندما وقفت هنا، بدأت في التساؤل عما تشعر به عندما تكون تحت الأرض، وعما إذا كنت ستكترث كثيرا، وإلى متى سيتوقف اكتراثك؛ ولكن فجأة غمرني بسرعة ظل ثقيل وأرعبني بعض الشيء.
نظرت أعلى كتفي، ولم تكن سوى طائرة قاذفة للقنابل كانت تحول بيني وبين الشمس. تسبب هذا في شعوري بالخوف بعض الشيء.
دخلت الكنيسة. وللمرة الأولى تقريبا منذ عدت إلى لوير بينفيلد لم أشعر بالأشباح، أو شعرت بها ولكن بطريقة مختلفة؛ لأنه لم يتغير شيء. لا شيء، سوى أن الجميع قد رحلوا. حتى وسائد الركوع بدت كما هي. وكانت رائحة الجثث المختلطة برائحة الأتربة نفسها في المكان. ويا إلهي! رأيت الفتحة نفسها في النافذة، ولكن لأننا كنا في المساء وكانت الشمس في الجانب الآخر، فلم تزحف بقعة الضوء أعلى ممر الكنيسة. كان ما زال لديهم مقاعد خشبية، ولم يجلبوا الكراسي بدلا منها. كانت مقعدنا لا يزال موجودا، ورأيت المقعد في الأمام حيث كان ويثرال يصدع بصوته أمام شوتير. سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان! والأحجار البالية في الممر حيث لا يزال بإمكانك قراءة بعض من النقوش على شواهد أضرحة الرجال المستلقين أسفلها. جثمت لأنظر إلى النقوش المقابلة لمقعدنا. ما زلت أحفظ عن ظهر قلب الأجزاء التي يمكن قراءتها منها، وحتى النمط المكتوبة عليه بدا مستقرا في ذاكرتي؛ فكثيرا ما قرأتها أثناء الخطب.
هنا ... ابن هذه الأبرشية ... عدله واستقامته ... ...
له ... أضاف لهباته العديدة إخلاصا ... ... ... زوجته الحبيبة أميليا ... سبع بنات ...
أتذكر كيف كان يحيرني طريقة كتابتهم لأحد الحروف عندما كنت طفلا، وكنت أتساءل عما إذا كانوا قديما ينطقونه كحرف آخر، وإن كان ذلك صحيحا، فلماذا؟
سمعت خطى ورائي ونظرت، فوجدت رجلا في رداء كهنوتي. كان راعي الكنيسة.
ولكني أعني راعي الكنيسة نفسه! كان العجوز بيترتون، الذي كان راعي الكنيسة في الماضي - لا يمكنني أن أقول، في الواقع، إنه كان كذلك طوال الوقت الذي أتذكره، ولكن منذ 1904 أو نحو ذلك. عرفته على الفور، على الرغم من أن شعره أصبح أبيض تماما.
ولكنه لم يعرفني؛ فلم أكن بالنسبة له إلا سائحا بدينا ببدلة زرقاء يشاهد معالم البلدة. حياني وبدأ على الفور في مسار كلامه المعتاد، ما إذا كنت مهتما بالمعمار، وهذا المبنى القديم الجدير بالملاحظة، حيث ترجع أساساته إلى الحقبة السكسونية وما إلى ذلك. وسرعان ما بدأ يمشي هنا وهناك ليريني المعالم، كما كانت، القوس النورماني الذي يقود إلى مجلس الكنيسة، والتمثال النحاسي للسير رودريك بون، الذي قتل في معركة نيوبري. اتبعته على مضض كمعظم رجال الأعمال في منتصف العمر عندما يأخذون جولة في كنيسة أو معرض للوحات. ولكن هل أخبرته بأنني أعلم كل شيء فيها بالفعل؟ هل أخبرته أنني جورج بولينج، ابن صامويل بولينج - لا بد أنه كان سيتذكر أبي حتى، وإن لم يتذكرني - وأنني لم أكن فقط أستمع إلى خطبه لعشر سنوات وأذهب إلى دروس التأكيد التي كان يعقدها، بل إنني انضممت كذلك لحلقة قراءة لوير بينفيلد، وقرأت قليلا في كتاب «السمسم والزنابق» فقط لإرضائه؟ لا، لم أخبره، بل فقط تبعته في أرجاء الكنيسة متمتما كما تفعل عندما يخبرك أحد أن هذا الشيء أو ذاك يرجع تاريخه إلى خمسمائة سنة مضت، ولا يمكنك التفكير فيما تقوله إلا أنه لا يبدو كذلك. منذ اللحظة التي رأته فيها عيناي، قررت أن أتركه يعتقد أنني رجل غريب. وبمجرد أن تمكنت من الإفلات منه باحترام، وضعت ستة بنسات في صندوق نفقات الكنيسة وغادرت.
ولكن لماذا؟ لماذا لم أتواصل معه، الآن وقد وجدت أخيرا شخصا أعرفه؟
لم أفعل ذلك لأن التغيير في مظهره بعد عشرين عاما أرعبني بالفعل. أعتقد أنك تظن أنني أعنى أنه بدا أكبر عمرا، ولكنه لم يكن كذلك! بل بدا أصغر. وقد علمني ذلك فجأة شيئا عن مرور الوقت.
أعتقد أن العجوز بيترتون في الخامسة والستين تقريبا الآن؛ ومن ثم فعندما شاهدته آخر مرة كان في الخامسة وأربعين تقريبا، أي في عمري الآن. عندما رأيته الآن، كان شعره أبيض؛ بينما في اليوم الذي دفن فيه أمي كان مخططا بالشيب بعض الشيء، كفرشاة الحلاقة. ولكن بمجرد أن رأيته، فأول ما خطر ببالي أنه بدا أصغر. كنت أفكر فيه كرجل عجوز، ولكنه لم يكن بذلك الكبر. عندما كنت صبيا، بدا لي أن كل الناس فوق سن الأربعين عجائز قد عفا عليهم الزمن لدرجة أنه لم يكن ثمة فرق بينهم؛ فكان يبدو لي الرجل في الخامسة والأربعين أكبر مما يبدو لي الآن وهو في الخامسة والستين. يا إلهي! أنا في الخامسة والأربعين أيضا! لقد أفزعني الأمر.
كيف أبدو إذن لشاب في العشرين؟ فكرت في ذلك وأنا أشق طريقي بين القبور. لا بد أنه يراني كبدين عجوز مسكين ومنته. كان ذلك مثيرا للفضول. عادة لا يشغلني أمر عمري على الإطلاق؛ فلم علي أن أنشغل به؟ أنا بدين، ولكني قوي وبصحة جيدة. ويمكنني أن أفعل أي شيء أريده، ورائحة الورود تبدو لي كما كانت عندما كنت في العشرين من عمري. أوه، ولكن هل رائحتي لا تزال كما هي بالنسبة للورود؟ وكما لو كانت الإجابة، أتت فتاة لا بد أنها في الثامنة عشرة من عمرها تمشي عبر ممر فناء الكنيسة، وكان عليها أن تمر على مسافة ياردة أو ياردتين بالقرب مني. رأيت النظرة التي رمقتني بها، وكانت مجرد نظرة عابرة وخاطفة. لا، لم تكن خائفة أو عدائية؛ فقط نظرة باردة وبعيدة، كما لو كانت لحيوان بري التقت عيناها بعينيه. لقد ولدت ونشأت في تلك السنوات العشرين التي كنت فيها بعيدا عن لوير بينفيلد؛ فكل ذكرياتي لا بد أنها لا تعني لها شيئا، فقد عاشت في عالم مختلف عن عالمي، كما الحيوانات.
رجعت إلى فندق جورج؛ وأردت أن أحتسي مشروبا، ولكن البار لم يكن ليفتح إلا بعد نصف الساعة. انتظرت قليلا، وأخذت أقرأ عددا من العام الماضي من مجلة «سبورتينج آند دراماتيك»، ثم فجأة أتت السيدة ذات الشعر الأشقر، التي بدت لي أرملة. شعرت فجأة بشوق بائس بأنني أريد أن أقيم علاقة معها. لقد أردت أن أظهر لنفسي أنه ما زال ثمة حياة في كلب عجوز مثلي، حتى وإن اضطر هذا الكلب العجوز إلى ارتداء طقم أسنان. وفي نهاية المطاف، فكرت أنها إذا كانت في الثلاثين وأنا في الخامسة والأربعين فهذا مناسب جدا. كنت واقفا أمام المدفأة الفارغة أتظاهر بتدفئة مؤخرتي، كما تفعل في أيام الصيف. ولم يكن مظهري سيئا في بدلتي الزرقاء. كنت بدينا بعض الشيء بلا شك، ولكني كنت رائعا. كنت رجلا عصريا، ويمكنك أن تعتقد أنني سمسار في البورصة. قلت بأسلوب راق غير رسمي: «يا له من طقس رائع في شهر يونيو!»
كانت ملاحظة لا ضرر منها، أليس كذلك؟ فلم تكن في مستوى «هل قابلتك في مكان ما من قبل؟»
ولكنها لم تكن ناجحة؛ فلم ترد علي، فقط خفضت لما يقرب من نصف ثانية الورقة التي كانت تقرؤها ورمقتني بنظرة من شأنها أن تكسر نافذة. كان ذلك بشعا. كانت عيناها زرقاوين من تلك العيون الزرقاء التي ترشق فيك كالرصاصة. في ذلك الجزء من الثانية، أدركت كيف كونت فكرة خاطئة عنها؛ فلم تكن من تلك النوع من الأرامل من ذوي الشعر المصبوغ اللاتي يردن أن يذهبن مع الرجال إلى صالات الرقص؛ بل كانت من الطبقة المتوسطة العليا، وربما كانت ابنة أميرال، وقد ذهبت إلى إحدى تلك المدارس التي يلعبون فيها الهوكي. وقد أسأت تقدير نفسي أيضا؛ فببدلة جديدة أو دون بدلة جديدة، لا يمكنني أن أرقى لمستوى سمسار في البورصة. فقط كنت أبدو مندوب مبيعات متجولا صادف أن كان معه بعض المال. تسللت إلى البار الخاص لتناول كوب أو كوبين من الجعة قبل العشاء.
اختلفت الجعة عما كانت عليه في الماضي. أتذكر الجعة القديمة، جعة وادي التيمز الجيدة التي كان لها مذاق مميز؛ لأنها كانت مصنوعة من ماء طباشيري. سألت الساقية: «هل ما زال آل بسمر أصحاب مصانع الجعة؟» «آل بسمر؟ أوه، لا يا سيدي. لقد رحلوا منذ سنوات طويلة قبل أن نأتي هنا.»
كانت فتاة لطيفة، من ذلك النوع من الساقيات الذي أسميه نوع الأخت الكبرى، وكانت في الخامسة والثلاثين تقريبا، وبوجه لطيف وذراعين بدينين من جراء التعامل مع مضخة الجعة. أخبرتني باسم اتحاد الشركات الذي استولى على مصنع الجعة . وكان بإمكاني تخمينه من المذاق في الواقع. تغير شكل البارات عما كان عليه في الماضي فقد أصبحت دائرية ومقسمة إلى أقسام. وفي الجهة الأخرى على البار العام، كان ثمة رجلان يلعبان بالأسهم، وفي القسم الخارجي جلس رجل لم يكن بإمكاني رؤيته جيدا، وكان من حين لآخر يعلق بصوت كئيب. أسندت الساقية مرفقيها الكبيرين على البار واقتربت مني وأخذت تتحدث معي. ذكرت أسماء جميع الأشخاص الذين عرفتهم، ولكنها لم تكن قد سمعت بأحد منهم؛ إذ قالت إنها لم تأت إلى لوير بينفيلد إلا منذ خمس سنين. لم تسمع حتى عن العجوز ترو، الذي كان يملك حانة جورج قديما.
قلت لها: «لقد كنت أعيش في لوير بينفيلد، منذ زمن طويل قبل الحرب.» «قبل الحرب! عجبا! لا تبدو عجوزا هكذا.»
قال الرجل في القسم الخارجي: «هل ترى أي تغييرات؟»
قلت: «لقد اتسعت البلدة. أعتقد أن ذلك بسبب المصانع.» «صحيح، بالطبع معظم الناس يعملون في المصانع؛ فهناك مصنع الجرامافون، ومصنع جوارب تروفيت، ولكنهما بالطبع يصنعان القنابل في هذه الأيام.»
لم أكن أفهم على الإطلاق لم كانت تقول «بالطبع»، ولكنها أخبرتني عن شاب كان يعمل في مصنع تروفيت وكان في بعض الأحيان يأتي إلى فندق جورج، وقد أخبرها أنهم كانوا يصنعون القنابل مع الجوارب؛ فالاثنان - لسبب ما لم أفهمه - يسهل الجمع بينهما. ثم أخبرتني عن الميناء الجوي العسكري الكبير بجوار وولتن - ما فسر رؤيتي المستمرة للطائرات القاذفة للقنابل - وفي اللحظة التالية بدأنا نتحدث عن الحرب كالعادة. إنه لأمر طريف؛ فقد كان تحديدا الهروب من التفكير في الحرب التي أتيت هنا من أجلها. ولكن كيف يمكنك الهروب على أي حال؟ إنه في الهواء الذي نتنفسه.
قلت إن الحرب ستحدث في عام 1941، وقال الرجل في القسم الخارجي إنه يرجح أنها عمل قذر. أما الساقية، فقالت إن الأمر يصيبها بالقشعريرة؛ وأضافت: «إن كل ما قيل واتخذ من إجراءات لن يفيد، أليس كذلك؟ وفي بعض الأحيان أستلقي مستيقظة في الليل وأسمع واحدة من تلك الأشياء الكبيرة تسير فوق رأسي ، وأقول لنفسي: «حسنا، ماذا إن قذفت الآن قنبلة فوق رأسي مباشرة؟» ما فائدة كل هذه الإجراءات الاحترازية ضد الغارات الجوية وتوجيهات الآنسة تودجرز مراقبة الغارات الجوية، التي تخبرك أن كل شيء سيكون على ما يرام إذا أبقيت رأسك منخفضا وملأت النوافذ بورق الصحف، وما يقولونه من أنهم سيحفرون ملجأ تحت مبنى البلدية؟ ولكن عندما أنظر للأمر، أتساءل كيف يمكن أن تضع قناع غاز على وجه طفل صغير؟»
قال الرجل في القسم الخارجي إنه قرأ في الصحف أنه سينبغي علينا البقاء داخل حمام ساخن حتى ينتهي كل شيء. سمع الرجلان في البار العام هذا الكلام، وكان ثمة أحاديث جانبية حول عدد الأشخاص الذين يمكنهم مشاركة الحمام الساخن نفسه، وسأل كل منهما الساقية ما إذا كان بإمكانه مشاركتها في حمامها. طلبت منهما ألا يكونا وقحين، ثم ذهبت إلى الطرف الآخر من البار وأعدت لهما كوبين من الجعة القديمة والخفيفة. رشفت بعضا من كوب الجعة خاصتي، وكانت سيئة، مرة، كما يطلقون عليها. وكانت فيها مرارة زائدة عن الحد، وبها مذاق كبريتي. إنها مصنوعة من مواد كيميائية. يقولون إن نباتات حشيشة الدينار الإنجليزية لم تعد تستخدم في صنع الجعة في هذه الأيام، بل أصبحوا يصنعون منها مواد كيميائية، تستخدم بعد ذلك في صنع الجعة. وجدت نفسي أفكر في عمي إيزيكيال، وفيما كان سيقوله عن جعة كهذه، وماذا كان سيقول عن الإجراءات الاحترازية ضد الغارات الجوية ودلاء الرمال التي من المفترض أن تتفادى بها القنابل الثرميتية. عندما أتت الساقية مرة أخرى إلى الجانب الذي كنت أجلس فيه في البار، قلت لها: «بالمناسبة، من يمتلك القصر الآن؟»
كنا دائما نطلق عليه القصر، على الرغم من أن اسمه كان منزل بينفيلد. للحظة لم تبد أنها فهمت.
ثم قالت: «القصر، يا سيدي؟»
قال الرجل في القسم الخارجي: «إنه يعني منزل بينفيلد.» «أوه، منزل بينفيلد! أوه، أعتقد أنك تعني القصر التذكاري. إنه ملك الدكتور ميرال الآن.» «الدكتور ميرال؟» «نعم يا سيدي. يقولون إنه يستقبل أكثر من ستين مريضا هناك .» «مرضى؟ هل حولوه إلى مستشفى أو ما شابه؟» «حسنا، إنه ليس ما يمكنك أن تقول عنه مستشفى عاديا، بل هو أقرب إلى مصحة. إنه للمرضى النفسيين في الواقع. يسمونه مصحة عقلية.»
بيت للمجانين!
ماذا كنت تتوقع بعد كل ذلك؟
3
استيقظت زاحفا من على السرير وفي فمي مذاق سيئ وعظامي تصرصر.
الحقيقة هي أنني، بسبب زجاجة النبيذ على الغداء وأخرى على العشاء، وعدة أكواب من الجعة فيما بين الوجبتين، إضافة إلى كوب أو كوبين من البراندي، كنت قد شربت كثيرا أمس. لعدة دقائق، وقفت في وسط السجادة لا أنظر إلى شيء بالتحديد، وكنت مرهقا لدرجة لم تمكني من اتخاذ أي حركة. تعرف ذلك الإحساس الكريه الذي تشعر به أحيانا في الصباح الباكر؛ إنه إحساس بالأساس في ساقيك، ولكنه يخبرك جليا بما لا تقدر أي كلمات على أن تخبرك به: «لماذا تماديت في الأمر؟ توقف أيها الرجل العجوز! ضع رأسك في فرن الغاز!»
ثم وضعت طقم أسناني في فمي وتوجهت إلى النافذة. كان، مرة أخرى، يوما لطيفا من أيام شهر يونيو؛ وكانت الشمس قد بدأت لتوها في الانحدار على الأسقف، وضربت بأشعتها واجهات المنازل في الجانب الآخر من الشارع. لم تبد نباتات إبرة الراعي الوردية في أواني النوافذ سيئة. وعلى الرغم من أن الساعة لم تكن قد تعدت الثامنة والنصف، ولم يكن هذا الشارع سوى أحد الشوارع الجانبية للسوق، فقد كان هناك حشد من الناس يذهب ويجيء. تدفق الرجال الذين يبدو عليهم أنهم موظفون ببدلاتهم الداكنة وحقائب العمل، وكانوا في عجلة على طول الطريق؛ ساروا جميعا في الاتجاه نفسه، تماما كما لو أن هذه كانت ضاحية في لندن وكانوا ينطلقون ليلحقوا بالمترو؛ وكان أطفال المدارس يسيرون دون انتظام باتجاه السوق في أزواج أو مجموعات من ثلاثة أطفال. شعرت بالإحساس نفسه الذي شعرت به أمس حين رأيت غابة المنازل الحمراء، التي ابتلعت تل تشامفورد. الطفيليون اللعناء! العشرون ألف طفيلي الذين لا يعرفون حتى اسمي. وها هي هذه الحياة الجديدة التي تعج بالناس الذين يتحركون هنا وهناك، وها أنا ذا، رجل عجوز وبدين بأسنان اصطناعية، أشاهدهم من نافذة وأتمتم بأشياء لا يرغب أحد في سماعها عن أمور حدثت منذ ثلاثين وأربعين سنة. يا إلهي! اعتقدت أنني كنت مخطئا عندما ظننت أنني كنت أرى أشباحا؛ فأنا الشبح هنا؛ أنا الميت وهم الأحياء.
ولكن بعد الإفطار - سمك الحدوق، والكلى المشوية، والتوست، والمربى، وإبريق من القهوة - شعرت بتحسن. لم تكن السيدة الباردة تتناول الإفطار في غرفة الطعام، وكان ثمة شعور صيفي لطيف في الأجواء، ولم أتمكن من التخلص من شعوري بأنني كنت أبدو في تلك البدلة الزرقاء من قماش الفلانيلة رائعا بعض الشيء. يا إلهي! فكرت إن كنت شبحا، فسأفعل ما يفعله الأشباح! سأتجول، وسأتردد على الأماكن القديمة، وربما يمكنني ممارسة بعض السحر الأسود على بعض من هؤلاء الأوغاد الذين سرقوا بلدتي مني.
خرجت، ولم أكد أتجاوز السوق، حتى جذبني شيء لم أكن أتوقع أن أراه. موكب من حوالي خمسين طفلا من أطفال المدارس، كانوا يمشون في الشارع - على نحو بدا كمشية عسكرية - في أربعة أرتال ومعهم امرأة متجهمة تمشي بجوارهم كما لو كانت رقيبا أول. كان أول أربعة يحملون راية بإطار أحمر وأبيض وأزرق، مكتوب عليها بخط ضخم «الإنجليز مستعدون.» خرج الحلاق لعتبة متجره الذي يوجد على زاوية الشارع كي يلقي عليهم نظرة. تحدثت معه. كان رجلا ذا شعر أسود لامع، ووجه فاتر بعض الشيء.
سألته: «ما الذي يفعله هؤلاء الأطفال؟»
رد بغموض: «إنهم يتدربون على الغارات الجوية. إن هذا جزء من الإجراءات الاحترازية ضد الغارات الجوية. نوع من التدريب. وها هي الآنسة تودجرز.»
كان لا بد أن أخمن أنها الآنسة تودجرز؛ إذ يمكنك أن ترى ذلك في عينيها. تعرف هذا النوع من الشياطين الصارمين العجائز من ذوي الشعر الأشيب والوجه الأشبه بالسمك المدخن، الذين يضعونهم دائما على رأس فرق كشافة الفتيات، ونزل جمعية الشابات المسيحيات العالمية، وما إلى ذلك. كانت ترتدي معطفا وتنورة فيما بدا نوعا ما كزي رسمي، يعطيك انطباعا قويا بأنها كانت ترتدي حزام سام براون العسكري، على الرغم من أنها في واقع الأمر لم تكن ترتديه. عرفت من أي الأنواع من الناس هي. لقد انضمت لفيلق الجيش النسائي المساعد، ولم تحظ بيوم من المرح بعدها. وهذا التدريب كان بمثابة ترويح عن نفسها. عند مرور الأطفال، سمعتها تصرخ فيهم تماما كما يصرخ الرقيب الأول، قائلة: «مونيكا! ارفعي قدميك!» ورأيت أن الأطفال الأربعة في الصف الأخير كانوا يحملون راية أخرى بإطار أحمر وأبيض وأزرق، مكتوب عليها في المنتصف:
نحن جاهزون. فهل أنتم كذلك؟
قلت للحلاق: «ما الغرض من سيرهم هكذا ذهابا وإيابا؟» «لا أعلم. أعتقد أنه نوع من أنواع الدعاية.»
عرفت ذلك بالطبع. كان هذا من شأنه فتح عقول الأطفال على الحرب، وإعطاؤنا جميعا الشعور بأنه لا مهرب منها؛ فالقنابل آتية بالتأكيد كما أن الكريسماس آت؛ فانزل إلى القبو ولا تجادل. كانت طائرتان سوداوان ضخمتان آتيتان من وولتن تحلقان أعلى الطرف الشرقي للبلدة. يا إلهي! اعتقدت أن الحرب عندما ستبدأ لن نفاجأ بها أكثر مما تفاجئنا الأمطار؛ فنحن ننتظر بالفعل القنبلة الأولى. استأنف الحلاق حديثه ليخبرني أنه بفضل جهود الآنسة تودجرز، قدمت أقنعة الغاز لأطفال المدارس بالفعل.
حسنا، بدأت أستكشف البلدة. لقد أمضيت فيها يومين متجولا حول معالمها القديمة، التي تمكنت من التعرف على بعضها، وفي كل ذلك الوقت لم أقابل أحدا يعرفني. كنت شبحا، وإن لم أكن غير مرئي بالفعل، فقد شعرت بذلك.
كان أمرا غريبا، أغرب من أن أستطيع وصفه. هل قرأت من قبل قصة لإتش جي ويلز عن رجل كان في مكانين في وقت واحد، أي إنه كان بالفعل في بلدته الأصلية، ولكن كانت لديه هلاوس بأنه في قاع البحر؟ لقد كان يتجول في غرفته؛ ولكن بدلا من الطاولات والكراسي، كان يرى أعشاب الماء المتموجة وأسماك الحبار والسرطانات الضخمة تسعى للحصول عليه. حسنا، ذلك ما كان عليه الوضع تماما. لساعات بلا توقف، كنت أتجول في عالم لم يكن موجودا، وكنت أعد خطواتي وأنا أسير على الرصيف وأقول في نفسي: «أجل ، هنا يبدأ حقل كذا وكذا. السياج يمتد مع الشارع ويمر عبر ذلك المنزل. ومضخة الوقود هذه كانت فيما مضى شجرة دردار. وها هي حافة المزارع. وهذا الشارع (الذي كان صفا صغيرا كئيبا من المنازل شبه المنفصلة والذي كان يسمى شارع كمبرليدج، على ما أتذكر) كان الزقاق حيث كنا نذهب مع كيتي سيمونز، وكانت شجيرات البندق تنمو على جانبيه.» لا شك أنني أخطأت في المسافات، ولكن الاتجاهات العامة كانت صحيحة. لا أعتقد أن أحدا ممن لم يولدوا هنا كان ليصدق أن تلك الشوارع كانت حقولا فقط من عشرين سنة مضت. كان الأمر كما لو أن الريف قد دفن بفعل اندفاع بركاني قادم من الضواحي الخارجية؛ فتقريبا كل ما كان في الماضي أرض العجوز بروير ابتلعته عقارات مساكن البلدية. اختفت الطاحونة، وجففت بركة الأبقار التي اصطدت فيها سمكتي الأولى ثم ردمت وبني عليها، حتى إنني لا يمكنني أن أعرف أين كانت بالتحديد. كان المكان كله مليئا بالمنازل؛ مكعبات حمراء صغيرة من المنازل المتشابهة، بأسيجة من الشجيرات ومسارات من الأسفلت تقود إلى الأبواب الأمامية. خلف مبنى البلدية، كانت تضيق البلدة قليلا، ولكن كان بناة المنازل الرخيصة يعملون هناك عن كثب. وكانت ثمة مجموعات قليلة من المنازل المنتشرة هنا وهناك، حيثما استطاع أحد شراء قطعة أرض، وشوارع تبدو مؤقتة تقود إلى المنازل، وأراض خالية عليها لافتات البنائين، وبعض الحقول المهجورة المغطاة بالنباتات الشوكية والعلب المعدنية.
من ناحية أخرى، لم تتغير الأمور كثيرا في وسط البلدة القديمة فيما يتعلق بالمباني. ما زالت العديد من المتاجر تعمل في المجال نفسه، على الرغم من تغير أسمائها. ما زال ليلي وايت متجرا للقماش، ولكنه لم يبد شديد الازدهار. ولكن ما كان متجر جزارة جرافيت أصبح الآن متجرا لبيع أجهزة الراديو. أما النافذة الصغيرة للأم ويلر، فقد أغلقت بالطوب. وكان متجر جريميت لا يزال متجرا للبقالة، ولكن استولت عليه الشركة الدولية. يعطيك ذلك فكرة عن قوة هذه الاتحادات الكبيرة، حيث يمكنها ابتلاع عجوز بخيل وذكي كجريميت. ولكن مما أعرفه عنه - ناهيك عن شاهد قبره الرائع في مدفن الكنيسة - أراهن أنه مات وأحواله جيدة ومعه من عشرة إلى خمسة عشر ألف جنيه. المتجر الوحيد الذي كان لا يزال ملكا لأصحابه كان متجر آل سارازينز، الذين دمروا أبي؛ حيث تطوروا كثيرا، وأصبح لهم فرع ضخم آخر في الجزء الجديد من البلدة، ولكنهم حولوا نشاط متاجرهم لتصبح متاجر عامة، وأصبحوا يبيعون الأثاث والأدوية والأجهزة والأدوات المعدنية، بالإضافة إلى أدوات الحدائق القديمة.
في أغلب الوقت على مدى يومين، لم أفعل شيئا سوى التجول هنا وهناك، ولم أكن أشعر بالألم أو الضيق، ولكني تمنيت ذلك في بعض الأحيان. كما كنت أتناول الخمر بشكل مبالغ فيه؛ فتقريبا بمجرد وصولي إلى لوير بينفيلد، بدأت في الإسراف في الشراب، وبعدها لم يبد لي أن الحانات تفتح مبكرا، حيث كان لساني يتدلى دائما من العطش في النصف الساعة الأخيرة قبل موعد فتحها.
لا تظن أنني كنت في ذلك المزاج طوال الوقت؛ فأحيانا كان يبدو لي أنه لا يهمني على الإطلاق إن كانت معالم لوير بينفيلد قد طمست. وفي النهاية، ألم يكن السبب في أنني أتيت إلى هنا هو الهروب من عائلتي لبعض الوقت؟ لم يكن ثمة سبب يمنعني من القيام بكل الأشياء التي كنت أريد القيام بها، حتى صيد الأسماك إن شعرت أنني أريد ذلك. لذا، بعد ظهيرة يوم السبت ذهبت إلى متجر لأدوات الصيد في هاي إستريت وابتعت قصبة مصنوعة من الخيزران (لطالما أردت هذا النوع عندما كنت صبيا؛ فهي أحب إلي أكثر قليلا من تلك المصنوعة من أشجار الغار) وخطافات وأحشاء وما إلى ذلك. أبهجتني أجواء المتجر؛ وعلى الرغم من تغير كل شيء، فلم تتغير أدوات الصيد، بالطبع لأن السمك لا يتغير كذلك. ولم ير صاحب المتجر شيئا يدعو إلى الضحك في رجل بدين في منتصف العمر يشتري قصبة صيد؛ بل على العكس، فقد تجاذبنا أطراف الحديث قليلا حول الصيد في نهر التيمز وسمكة الشوب الكبيرة التي اصطادها أحد الأشخاص العام قبل الماضي بمعجون مصنوع من الخبز البني والعسل ولحم أرنب مسلوق ومفروم. لقد اشتريت منه أيضا أشياء أخرى - على الرغم من أنني لم أخبره بما أريدها من أجله، وحتى إنني لم أصرح لنفسي بالسبب - لقد اشتريت أقوى خيط لصيد أسماك السلمون لديه، وخطافات رقم خمسة لصيد سمك الروش، وأنا آمل في صيد أسماك الشبوط في منزل بينفيلد في حالة كانت لا تزال موجودة.
قضيت معظم صباح يوم الأحد في التفكير في الأمر، هل علي أن أذهب للصيد أم لا؟ كنت في لحظة أقول في نفسي لماذا لا أذهب، وفي اللحظة التالية كان يبدو الأمر لي كأحد الأشياء التي تحلم بها، ولكنك لا تفعلها أبدا. ولكن بعد الظهيرة أخذت السيارة وذهبت إلى بورفورد وير. اعتقدت أنني سألقي نظرة فقط على النهر، وأنني في اليوم التالي، إن كان الطقس جيدا، ربما سآخذ قصبة الصيد الجديدة، وأرتدي معطفا قديما وبنطالا رماديا من قماش الفلانيلة كنت قد جلبتهما معي في حقيبتي، وأقضي يوما جيدا في الصيد، وربما ثلاثة أو أربعة أيام إن شعرت أنني أريد ذلك.
قدت السيارة عبر تل تشامفورد؛ وبالأسفل، استدار الطريق وسار بمحاذاة مسار جر القوارب، فخرجت من السيارة ومشيت. أوه! هناك مجموعة من بيوت الطابق الواحد الصغيرة الحمراء والبيضاء ظهرت بجوار الطريق. كان يجب أن أتوقع ذلك بالطبع. وبدا أن الكثير من السيارات واقفة في المكان. وكلما اقتربت من النهر، كنت أسمع صوتا، صوت أجهزة الجرامافون.
شعرت بخيبة أمل ووصلت إلى حيث يمكنني رؤية مسار جر القوارب. يا إلهي! صدمة أخرى! كان المكان محتشدا بالناس، وحل محل المروج المائية صالات الشاي والآلات التي تعمل بالعملات المعدنية وأكشاك الحلوى والرجال الذين يبيعون مثلجات وولز. بدا المكان كبلدة مارجيت الساحلية. أتذكر مسار جر القوارب القديم؛ حيث كان بإمكانك السير فيه لأميال، وباستثناء الرجال على بوابات الهويس، وسائق صندل من حين لآخر يتسكع خلف حصانه، لم تكن ترى أحدا. عندما كنا نذهب للصيد، كنا دائما ما نكون في المكان وحدنا. وكنت عادة أجلس هناك طوال وقت ما بعد الظهيرة ، وكان طائر البلشون يقف في الماء الضحل، الذي يبعد مسافة خمسين ياردة من الضفة؛ ولثلاث أو أربع ساعات بلا انقطاع، لم يكن ثمة أحد يمر ليفزعه ويبعده عن مكانه. ولكن من أين جئت بفكرة أن الرجال الناضجين لا يذهبون للصيد؟ أعلى وأسفل الضفة، على طول نظري في كلا الاتجاهين، كانت ثمة سلسلة مستمرة من الرجال يصطادون، واحد في كل خمس ياردات. تعجبت كيف تمكنوا بحق الجحيم جميعا من الوصول هناك، حتى خطر ببالي أنه لا بد من أنهم ينتمون إلى ناد للصيد أو ما شابه. وكان النهر مكتظا بالقوارب، قوارب التجديف، وقوارب الكنو، وقوارب البنط، والقوارب البخارية ذات المحركات، التي كانت مليئة بالشباب الأحمق شبه العراة، الذين جميعهم يصرخون ويصيحون ومعظمهم معهم أجهزة الجرامافون على متن القارب كذلك. أما طوافات الرجال المساكين، الذين كانوا يحاولون الصيد، فكانت تتأرجح لأعلى وأسفل بسبب الأمواج التي تتسبب فيها القوارب ذات المحركات.
تمشيت قليلا. كانت المياه قذرة وأمواجها الصغيرة متلاطمة؛ على الرغم من الطقس الجيد. لم يكن أحد يصطاد شيئا، ولا حتى سمك المنوة. تساءلت إن كانوا يتوقعون أن يصطادوا شيئا؛ فحشد كذلك كفيل بإخافة كل الأسماك في الكون. ولكن بالفعل عندما كنت أشاهد الطوافات تتأرجح لأعلى وأسفل بين علب المثلجات والأكياس الورقية، انتابني شك فيما إذا كانت هناك أي أسماك لاصطيادها. هل لا يزال ثمة سمك في نهر التيمز؟ أعتقد أنه لا بد أن السمك لا يزال في النهر، ولكني أقسم إن مياه النهر لم تعد كما كانت بالماضي؛ فلونها قد تغير كثيرا. بالطبع تعتقد أن هذا من نسج خيالي فحسب، ولكني يمكنني أن أقول لك إنه ليس كذلك. أعلم أن الماء قد تغير؛ إذ أتذكر كيف كانت مياه نهر التيمز خضراء شفافة، حتى إنه كان يمكنك رؤية ما في أعماقها، كما كان يمكنك رؤية أسراب سمك الداس وهي تحوم حول قصبات العشب. أما الآن، فلا يمكنك الرؤية لثلاث بوصات أسفل المياه؛ فقد أصبحت بالكامل بنية ومتسخة، مع طبقة من الزيت عليها من القوارب ذات المحركات، ناهيك عن أعقاب السجائر والأكياس الورقية.
بعد قليل، بدأت أعود أدراجي إلى السيارة؛ فلم أستطع تحمل ضوضاء أجهزة الجرامافون. فكرت أن الوضع كان كذلك لأننا كنا في يوم الأحد، وربما لا يكون بهذا السوء في أيام العمل. ولكن على كل حال، عرفت أنني لن أرجع إلى هناك أبدا. لعنهم الله، فليحتفظوا بنهرهم اللعين. واعتقدت أنني أينما ذهبت للصيد، فلن يكون في نهر التيمز.
مرت الحشود علي. حشود من الأغراب، وكلهم تقريبا من الشباب. فتية وفتيات يتنزهون معا في أزواج. مرت علي كذلك مجموعة من الفتيات، يرتدين سراويل تتسع تدريجيا من تحت الركبة حتى الأسفل وقبعات بيضاء كالتي يرتدونها في البحرية الأمريكية، وكان عليها شعارات مطبوعة. كانت إحداهن، لا بد أنها كانت في السابعة عشرة من عمرها، ترتدي قبعة مكتوبا عليها «قبلني إذا سمحت». لم أكن لأمانع. قررت فجأة أن أنحرف عن الطريق وأذهب لأزن نفسي على إحدى الآلات التي تعمل بالعملات المعدنية. كان في مكان ما داخلها صوت نقر - تعرف تلك الآلات التي تخبرك بطالعك ووزنك في الوقت نفسه - وخرجت بطاقة مكتوبة على الآلة الكاتبة منزلقة منها، وكان فيها: «أنت تمتلك ملكات استثنائية، ولكن بسبب تواضعك المفرط لم تحصل قط على مكانتك اللائقة. الناس من حولك يقللون من شأن قدراتك. أنت مولع للغاية بالتنحي جانبا والسماح للآخرين بنيل التقدير على ما فعلته بنفسك. أنت حساس، وودود، ودائم الإخلاص لأصدقائك. وأنت جذاب للغاية للجنس الآخر. عيبك الأكبر هو كرمك. ثابر، لأنه سيرتفع شأنك!
الوزن: ثلاثة وتسعون كيلوجراما، وتسعمائة جرام.»
لاحظت أن وزني قد زاد كيلوجرامين في الأيام الثلاثة الماضية. لا بد أن ذلك بسبب الإسراف في الشرب.
4
قدت سيارتي رجوعا إلى فندق جورج، ووضعت السيارة في موقف السيارات، وتناولت كوبا من الشاي. ولأننا كنا في يوم الأحد، فلن يفتح البار قبل ساعة أو ساعتين. وفي برودة المساء، خرجت وتنزهت في اتجاه الكنيسة.
بينما كنت أمر على السوق، لاحظت امرأة تسير أمامي على بعد أمتار قليلة. وبمجرد أن لمحتها عيناي، شعرت بإحساس شديد الغرابة بأنني قد رأيتها في مكان ما من قبل. أنت تعرف ذلك الإحساس. لم أتمكن من رؤية وجهها، بالطبع، ولم أتعرف على شخصيتها من الخلف، ولكنني يمكنني أن أقسم إنني كنت أعرفها.
ذهبت إلى هاي إستريت، ودخلت أحد الشوارع الجانبية على اليمين، حيث كان متجر عمي إيزيكيال. تبعتها، ولم أكن أعلم لماذا بالتحديد، جزء من ذلك كان بسبب الفضول، ربما، وجزء آخر كنوع من الاحتياط. أول شيء فكرت فيه هو أنني قد وجدت أخيرا شخصا أعرفه من أيامي الخوالي في لوير بينفيلد، ولكن في اللحظة نفسها خطر ببالي أنها من الممكن أن تكون من غرب بلتشلي؛ وإن كان الأمر كذلك، فعلي أن أتوخى الحذر؛ لأنها إن اكتشفت أنني هنا فلربما أخبرت هيلدا. لذلك تبعتها بحذر شديد، مع الحفاظ على مسافة آمنة وتفحصها من الخلف قدر ما استطعت. لم يكن ثمة شيء لافت للنظر فيها. كانت طويلة بعض الشيء، وبدينة بعض الشيء، وربما كانت في الأربعين أو الخمسين من عمرها، وكانت ترتدي فستانا أسود رثا للغاية. ولم تكن ترتدي قبعة، كما لو كانت قد خرجت من منزلها لوقت قصير فقط، والطريقة التي كانت تسير بها تعطيك انطباعا بأن كعب حذائها بال. إجمالا، كان منظرها قذرا ومبتذلا بعض الشيء. ولكن لم يكن ثمة شيء مميز فيها يمكنني منه التعرف عليها، فقط ذلك الشيء الغريب الذي عرفت أنني قد رأيته من قبل. ربما كان شيء في حركاتها. وصلت أخيرا إلى متجر صغير للحلوى والورق، ذلك النوع من المتاجر الصغيرة التي تظل مفتوحة دائما يوم الأحد. وكانت المرأة صاحبة المتجر واقفة على عتبة الباب تفعل شيئا حيال حامل البطاقات البريدية. وقفت المرأة التي أتبعها لتخوض معها محادثة قصيرة.
وقفت أنا أيضا بمجرد أن وجدت نافذة أحد المتاجر التي يمكنني التظاهر بأنني أنظر إليها. كانت نافذة متجر سباك ومزخرف، وكانت مليئة بنماذج من ورق الحائط ولوازم تجهيزات الحمامات وما إلى ذلك من الأشياء. في ذلك الوقت، لم أكن إلا على بعد خمس عشرة ياردة من المرأتين. وقد تمكنت من سماع صوتهما وهما تتحدثان في واحدة من تلك المحادثات غير ذات المعنى التي تخوضها النساء عندما يتجاذبن أطراف الحديث. «أجل، هذه دعابة. تلك دعابة بالتأكيد. قلت له: «عجبا، ماذا كنت تتوقع غير ذلك؟» لا يبدو الأمر جيدا، أليس كذلك؟ ولكن ما الفائدة، فكما لو أنك تتحدثين إلى حجر. يا للعار!» وما إلى ذلك. كان الجو يزداد دفئا. من الواضح أن المرأة التي كنت أتبعها كانت زوجة صاحب متجر صغير، كالمرأة الأخرى. كنت أتساءل عما إذا كانت من الناس الذين كنت أعرفهم في لوير بينفيلد، عندما استدارت تقريبا نحوي ورأيت ثلاثة أرباع وجهها. يا إلهي! إنها إلسي.
أجل، كانت إلسي. لا سبيل للخطأ. إلسي! تلك الشمطاء البدينة!
صدمت بشدة - ليس لرؤية إلسي، ولكن لرؤيتي لها على تلك الحالة التي أصبحت عليها عندما كبرت - لدرجة أنه للحظة تجمعت أمام عيني الأشياء؛ الصنابير النحاسية والصمامات الكروية وأحواض البورسلين وغيرها، والتي أخذت تخفت وتبعد، حتى أصبحت أراها ولا أراها. وللحظة كذلك، كنت في ذعر مميت من أن تتعرف علي؛ ولكنها نظرت جيدا إلى وجهي ولم يبد عليها أي شيء. بعد لحظة أخرى، استدارت ومشت. تبعتها مرة أخرى. كان الأمر خطيرا، فقد تعرف أنني أتبعها، وقد يثير ذلك تساؤلها عمن أكون، ولكنني كنت أريد فقط أن ألقي نظرة أخرى عليها. الحقيقة كانت أنها كان لها وقع مروع علي. ويمكنني القول إنني كنت أشاهدها قبل ذلك، ولكنني أشاهدها بعينين مختلفتين تماما الآن.
كان الأمر مروعا، ولكنني توصلت إلى استنتاجات عملية كثيرة من تفحصها من الخلف. إنه لمن المرعب ما قد تفعله أربع وعشرون سنة في أي امرأة. فقط أربع وعشرون سنة والفتاة التي كنت أعرفها، ببشرتها التي كانت في بياض الحليب وفمها الأحمر وشعرها الذهبي الفاتح، تصبح عجوزا شمطاء بكتفين عريضتين مستديرتين، تمشي متثاقلة بكعبين ملتويين. جعلني ذلك أشعر بسعادة تامة أنني رجل، فلا يتحطم رجل بالكامل أبدا ليصبح هكذا. أعلم أنني بدين، وأن شكلي سيئ، إن أردت القول؛ ولكن على الأقل لي شكل. أما إلسي، فلم تكن حتى بدينة، بل كانت فقط بلا شكل. لقد حدثت تغيرات مروعة في وركيها. أما خصرها، فقد اختفى. لقد تحولت إلى ما يشبه أسطوانة متكتلة طرية، ككيس من الطحين.
تبعتها لمسافة طويلة؛ إلى خارج البلدة القديمة وعبر العديد من الشوارع الوضيعة الصغيرة التي لم أكن أعلمها. وأخيرا، وصلت إلى عتبة متجر آخر. ومن الطريقة التي دخلت بها المتجر، كان من الواضح أنه متجرها. توقفت للحظة خارج النافذة. كان مكتوب على اللافتة: «جيه كوكسون، حلواني ودخاخني» إذن، كانت إلسي السيدة كوكسون. كان متجرا صغيرا ورثا، ويشبه إلى حد كبير المتجر الذي توقفت عنده من قبل، ولكنه كان أصغر وأكثر تلوثا بكثير. لم يبد أنه يبيع أي شيء سوى التبغ وأرخص أنواع الحلوى. فكرت فيما يمكنني أن أشتريه وأستغرق في شرائه دقيقة أو دقيقتين، ثم رأيت رفا من الغلايين الرخيصة في النافذة، ثم دخلت. كان علي أن أستجمع شجاعتي قليلا قبل أن أدخل؛ لأنني كنت سأحتاج إلى افتعال بعض الأكاذيب إن تعرفت علي بالصدفة.
اختفت في الغرفة الخلفية للمتجر، ولكنها رجعت عندما نقرت على طاولة البيع. إذن، قد أصبحنا الآن وجها لوجه. يا إلهي! لم تبد أي إشارة على أنها تعرفني. لم تتعرف علي. فقط نظرت إلي بالطريقة نفسها التي ينظر بها هؤلاء - تعرف الطريقة التي ينظر بها أصحاب المتاجر الصغيرة لزبائنهم - نظرة تنم عن فقدان اهتمام تام.
كانت المرة الأولى التي أرى فيها وجهها بالكامل، وعلى الرغم من أنني كنت أتوقع بعض الشيء ما رأيته، فقد صدمني ذلك تقريبا بالقدر الكبير نفسه الذي صدمت به في اللحظة الأولى التي تعرفت فيها عليها. أظن أنك عندما تنظر إلى وجه شخص صغير في السن، حتى لو كان طفلا، فلا بد أنك تستطيع توقع شكله عندما يكبر؛ فالأمر كله يعتمد على شكل عظام الوجه. ولكن إن كان قد حدث لي قط، عندما كنت في العشرين وكانت هي في الثانية والعشرين، أن فكرت في شكل إلسي في السابعة والأربعين، فلم يكن ليخطر في بالي قط أنها قد تبدو بذلك الشكل أبدا. إن وجهها كله قد تدلى، كما لو أن أحدا سحبه بطريقة ما لأسفل. هل تعرف هذا النوع من النساء في منتصف العمر اللاتي لديهن وجوه تشبه تماما وجوه كلاب البولدوج؟ الفك البارز الضخم، والفم المتهدل لأسفل، والعينان الغائرتان، بجيبين أسفلهما. تماما ككلب البولدوج. ولكنه ما زال الوجه نفسه، ويمكنني أن أميزه من بين ملايين الوجوه. أما شعرها، فلم يغطه الشيب بالكامل، بل كان بلون باهت، وقد فقدت منه الكثير. لم تعرفني عندما رأتني؛ فلم أكن بالنسبة لها سوى زبون وغريب ورجل بدين غير مثير للاهتمام. من الغريب ما قد تفعله بوصة أو بوصتان من الدهون في شكل المرء. تساءلت إن كنت قد تغيرت أكثر مما تغيرت، أم أن الأمر وما فيه أنها لم تكن تتوقع أن تراني، أم - وهو ما كان الأرجح - أنها ببساطة قد نسيت أمر وجودي تماما.
قالت بتلك الطريقة الكسولة لأصحاب المتاجر: «مساء الخير.»
قلت بفتور: «أريد غليونا من خشب أشجار الورد البري.» «غليون. حسنا، دعني أرى. أعلم أن لدينا بعض الغلايين في مكان ما. حسنا، أين؟ آه! ها هي.»
أخذت صندوقا من الورق المقوى مملوءا بالغلايين من مكان ما أسفل طاولة البيع. يا للسوء الذي أصبحت عليه لهجتها! أم هل تراني أتخيل فقط ذلك؛ لأن معاييري قد تغيرت؟ ولكن لا، فقد كانت شديدة «الرقي»؛ فكل الفتيات في ليلي وايت كن شديدات «الرقي»، وكانت عضوة في حلقة قراءة راعي الكنيسة. أقسم إنها لم تكن تسقط قط بعض الحروف في كلامها. من الغريب كيف يتدهور الحال بهؤلاء النساء بمجرد زواجهن. عبثت في الغلايين قليلا وتظاهرت بالنظر فيها، ثم في النهاية قلت إنني أريد غليونا بمبسم كهرماني. «كهرماني؟ لا أعرف إن كان لدينا أي ...» ثم استدارت في اتجاه الجزء الخلفي من المتجر، وقالت: «جورج!»
إذن، كان اسم الرجل الآخر الواقف في المتجر جورج أيضا. ثم سمعت ضوضاء آتية من الجزء الخلفي من المتجر . «جورج ! أين وضعت صندوق الغلايين الآخر؟»
أتى جورج، وكان رجلا بدينا وقصيرا، يرتدي قميصا دون أي شيء فوقه، وكان ذا رأس أصلع وشارب كبير بلون الزنجبيل يغطي كثيرا من شفته العلوية. وكان فكه يتحرك ويمضغ شيئا؛ فكان من الواضح أنها قد قاطعته في وسط تناوله للشاي. بدأ الاثنان في البحث في أرجاء المتجر عن صندوق الغلايين الآخر. وقد مرت خمس دقائق تقريبا قبل أن يجداه خلف بعض زجاجات الحلوى. من المدهش كمية الركام التي يكدسونها في هذه المتاجر الصغيرة القذرة، بينما لا تتعدى قيمة مخزونهم كله ما يقرب من خمسة جنيهات.
شاهدت العجوز إلسي وهي تندس بين الركام وتتمتم مع نفسها. هل تعرف تلك الحركات المتثاقلة للأكتاف المستديرة التي تصدر عن النساء العجائز عندما يفقدن شيئا؟ لا فائدة من أن أشرح لك ما كنت أشعر به؛ فقد كان شعورا باردا وشديد الكآبة. لا يمكنك فهمه إلا إذا جربته. كل ما يمكنني قوله هو إن كانت هناك فتاة كنت تهتم بأمرها من نحو خمس وعشرين سنة، فلتذهب وتلقي نظرة عليها الآن، فلربما حينها ستعلم ما أشعر به.
ولكن، في الحقيقة، الفكرة الأساسية التي كانت في ذهني كانت مدى اختلاف الأشياء عما تتوقع أن تكون عليه. يا له من وقت ذلك الذي أمضيته مع إلسي! ويا لها من ليال في شهر يوليو تلك التي قضيتها معها أسفل أشجار الكستناء! ألا تعتقد أن ذلك يخلف بعض الأثر وراءه؟ من كان يفكر أن وقتا سيأتي وليس بيننا أي شعور من أي نوع؟ ها أنا هنا وها هي كذلك، جسمانا قد لا يبعدان سوى ياردة واحدة عن بعضهما البعض، ولكننا كنا مجرد غريبين كما لو أننا لم نلتق قط. أما هي، فلم تتعرف حتى علي. وإن كنت قد أخبرتها بمن أكون، فمن المحتمل جدا ألا تتذكرني. وإن كانت قد تذكرتني، فبم كانت ستشعر؟ لا شيء. ربما لم تكن حتى لتغضب لأنني عاملتها بطريقة سيئة. كان الأمر برمته كأن لم يحدث قط.
ومن جهة أخرى، من كان يتوقع يوما أن إلسي ستصبح بهذا الحال؟ لقد بدت من ذلك النوع من الفتيات المقدر لهن أن ينتهين نهاية سيئة. أعلم أنها عرفت رجلا على الأقل قبل أن أقابلها، ومن المؤكد أنها عرفت رجالا آخرين بين معرفتي ومعرفة جورج الآخر. ولن أتعجب إن علمت أنها كانت تعرف العديد منهم في وقت واحد. لقد عاملتها معاملة سيئة، لا شك في ذلك، وفي كثير من الأحيان كان ذلك يؤرقني؛ إذ كنت أتخيل أنه سينتهي بها الحال في الشوارع، أو أنها ستنتحر بوضع رأسها في فرن الغاز. وفي بعض الأحيان، كنت أشعر أنني كنت وغدا بعض الشيء، ولكن في أحيان أخرى كنت أعتقد (وهو ما كان صحيحا للغاية) أنني إن لم أكن قد تركتها لكان أحد غيري فعل ذلك. ولكنك ترى المنوال الذي تسير عليه الأمور، ذلك المنوال غير ذي المعنى الكليل؛ فكم من امرأة قد انتهى بها الحال بالفعل في الشوارع؟ العديد منهن قد انتهى بهن الحال مشوهات. لم يسؤ بإلسي الحال، ولم يكن جيدا كذلك؛ فقط انتهى بها الحال كالجميع، امرأة عجوز بدينة تدير متجرا قذرا وصغيرا، مع زوج ذي شارب بلون الزنجبيل يدعى جورج. وربما كان لديها الكثير من الأطفال كذلك. السيدة جورج كوكسون التي عاشت محترمة وستموت مأسوفا عليها، وقد تموت قبل حكم المحكمة بالإفلاس، إن كانت محظوظة.
كانا قد وجدا صندوق الغلايين. وبالطبع لم يكن أي منها بمبسم كهرماني. «لا أعتقد أن لدينا أي قطع كهرمانية في الوقت الحالي يا سيدي. ولكن لدينا بعض القطع من المطاط الصلد.»
قلت: «أريد مبسما كهرمانيا.»
قالت: «لدينا غلايين جيدة هنا.» ثم أخرجت غليونا من الصندوق وقالت: «ذلك غليون جيد، وثمنه نصف كروان.»
أخذته، وتلامست أصابعنا؛ ولكن بلا إحساس أو ردة فعل، فجسمانا لا يتذكر كل منهما الآخر. أظن أنك تعتقد أنني سأشتري الغليون، فقط من أجل الأيام الخوالي، كي أعطي إلسي نصف كراون، ولكن لا شيء من هذا قد حدث، فأنا لم أكن أريده، فأنا لا أدخن الغليون، ولم أرد سوى ذريعة أدخل بها المتجر. لذا، قلبته بين أصابعي ثم وضعته على طاولة البيع، وقلت: «لا يهم، أنا لا أريده. أعطني علبة سجائر صغيرة من ماركة بلايرز.»
كان علي أن أشتري شيئا بعد كل تلك الجلبة. سحب جورج الثاني، أو ربما الثالث أو الرابع، علبة سجائر بلايرز، وكان لا يزال يمضغ شيئا أسفل شاربه. كان بإمكاني أن أرى أنه كان عابسا؛ لأنني اضطررته إلى ترك شايه لا لأجل شيء يذكر. ولكنه بدا من السخيف للغاية أن أضيع نصف كراون. خرجت، وكانت هذه آخر مرة على الإطلاق أرى فيها إلسي.
رجعت إلى فندق جورج وتناولت العشاء. بعد ذلك، تفتق ذهني عن فكرة غريبة وهي أن أذهب إلى إحدى دور السينما، إن كانت مفتوحة، ولكني انتهى بي المطاف بدلا من ذلك في إحدى الحانات الصاخبة الكبيرة في الجزء الجديد من البلدة. قابلت هناك رجلين من ستافوردشير، كانا مندوبي مبيعات متجولين وكانا يبيعان الأدوات المعدنية، وتحدثنا عن حالة التجارة، ولعبنا بالأسهم، وتناولنا جعة الجينيس. وعندما حان وقت إغلاق الحانة، كان الاثنان قد أسرفا في الشرب لدرجة أنني اضطررت إلى مرافقتهما للمنزل في سيارة أجرة، ولم أكن على ما يرام بعض الشيء أنا الآخر؛ وفي الصباح، استيقظت ورأسي أثقل من أي وقت مضى.
5
ولكن كان علي أن أرى البركة في منزل بينفيلد.
شعرت بأنني في حالة شديدة السوء في ذلك الصباح. الحقيقة كانت أنني منذ أن وصلت إلى لوير بينفيلد وأنا أشرب باستمرار تقريبا منذ موعد فتح الحانات وحتى موعد إغلاقها كل يوم. السبب، الذي لم أكتشفه إلا في هذه اللحظة، هو أنه لم يكن ثمة شيء آخر يمكن أن أفعله في الواقع. هذا ما كانت عليه رحلتي حتى ذلك الحين، ثلاثة أيام من الإسراف في الشرب.
وكما فعلت تماما في الصباح الفائت، استيقظت زاحفا من على السرير، واتجهت إلى النافذة حيث شاهدت الرجال في القبعات المستديرة، والأطفال في قبعات المدارس يمشون على عجل هنا وهناك. أعدائي، هكذا رأيتهم. ذلك الجيش الغازي الذي نهب البلدة وغطى أنقاضها بأعقاب السجائر والأكياس الورقية. تعجبت من اهتمامي بالأمر. لعلك تعتقد أنني إن كنت قد صدمت من اكتشافي أن لوير بينفيلد قد ابتلعت وغدت ما يشبه ضاحية داجنهام؛ فإن ذلك فقط لأنني لم أرد أن أرى الأرض تمتلئ بالناس والريف يتحول إلى حضر. ولكن الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ فلا أمانع نمو البلدات، ما دامت تتطور وليس فقط تتوسع كمرق اللحم على غطاء مائدة. أعلم أن الناس لا بد لهم من أماكن ليعيشوا فيها، وأنه إن لم يكن أحد المصانع في مكان ما فسيكون في مكان آخر. أما عن الأشياء الريفية الزائفة، من ألواح البلوط والصحون من البيوتر وأوعية تدفئة الأسرة النحاسية وما إلى ذلك، فإنها لا تشعرني إلا بالغثيان في الواقع. أيا ما كنا في الماضي، فلم يكن لدينا كل هذا؛ فلم تكن أمي ترى قط أي معنى في امتلاك التحف التي ملأ بها ويندي منزلنا. ولم تكن تحب الطاولات القابلة للطي، كانت تقول إنها «تطبق على السيقان». أما عن صحون البيوتر، فما كان لها أن تقتني أيا منها في منزلها، وكان تقول عنها إنها «أشياء ملساء كريهة». ولكن، ولتقل ما شئت، كان لدينا شيء في تلك الأيام ولم يعد موجودا الآن، شيء ربما لا يمكنك الحصول عليه في حانة عصرية للوجبات السريعة من منتجات الألبان حيث تستمع للراديو. وقد عدت للبحث عنه، ولكني لم أجده. وما زلت بشكل ما أعتقد في ذلك الشيء حتى الآن، وأنا لم أضع طقم أسناني بعد وكان بطني يتوجع في احتياج إلى قرص أسبرين وكوب من الشاي.
جعلني ذلك أفكر ثانية في بركة منزل بينفيلد. بعد أن رأيت ما فعلوه في البلدة، انتابني شعور لا يمكنك وصفه إلا بالخوف من الذهاب ورؤية ما إذا كانت البركة ما زالت موجودة. ولربما كانت موجودة، لم أكن أعلم. كانت البلدة ترزح أسفل الطوب الأحمر، وكان منزلنا مليئا بالخردة التي جلبتها ويندي، وكان نهر التيمز مسمما بزيت المحركات والأكياس الورقية. ولكن ربما كانت البركة لا تزال هناك، وربما كان لا يزال يعوم في أرجائها ذلك السمك الأسود الكبير. ربما كذلك كانت لا تزال مختبئة في الغابة ولم يكتشفها أحد منذ ذلك اليوم وحتى الآن. كان ذلك ممكنا جدا؛ إذ كانت الغابة التي أخفتها كثيفة للغاية، وكانت مليئة بشجيرات العليق والأيكات المتعفنة (تراجعت أشجار الزان مفسحة الطريق لأشجار البلوط، ما جعل الشجيرات النامية تحت الأشجار أكثر سمكا)، ولا يهتم معظم الناس بمكان كهذا. ولكن حدثت أشياء أكثر غرابة.
لم أبدأ الرحلة إلى هناك إلا في وقت متأخر من بعد الظهيرة؛ فلا بد أن الساعة كانت الرابعة والنصف تقريبا عندما أخذت السيارة وقدتها إلى طريق أبر بينفيلد. وفي منتصف الطريق صعودا إلى التل، أخذت المنازل تتضاءل ثم اختفت، وبدأت أشجار الزان في الظهور. هناك تشعب الطريق، وأخذت الجهة اليمنى قاصدا الانعطاف والرجوع إلى منزل بينفيلد على الطريق. ولكني توقفت بعد لحظة لألقي نظرة على الأجمة التي كنت أقود سيارتي عبرها. لقد بدت أشجار الزان كما كانت من قبل تماما. يا إلهي، كيف تكون كما كانت في الماضي؟! تركت السيارة في مساحة بها قليل من العشب بجوار الطريق، أسفل ركام من الطباشير، وخرجت منها وتمشيت. كان المكان كما كان تماما، بنفس الهدوء، وبنفس الطبقات الكبيرة من أوراق الشجر التي تصدر حفيفا، التي يبدو أنها تزيد من سنة لأخرى دون أن تتعفن. والمكان ليس فيها كائن سوى الطيور الصغيرة على أعالي الأشجار التي لا يمكنك رؤيتها. لم يكن من السهل التصديق أن الضوضاء الصاخبة للبلدة كانت على بعد ثلاثة أميال فقط من هنا. بدأت أشق طريقي عبر الأجمة الصغيرة، في اتجاه منزل بينفيلد؛ وتمكنت على نحو غامض من تذكر المسارات هناك. يا إلهي! أجل! ها هو التجويف الطباشيري نفسه؛ حيث كانت تذهب مجموعة اليد السوداء ويلعبون بمراجمهم، وحيث أخبرنا سيد لوفجروف كيف تولد الأطفال، وحيث كان اليوم الذي اصطدت فيه سمكتي الأولى قبل ما يقرب من أربعين سنة مضت!
عندما قلت الأشجار مرة أخرى، كان بإمكانك أن ترى الطريق الآخر وسور منزل بينفيلد. كان السور الخشبي القديم المتعفن قد أزيل، بالطبع، وقد بنوا سورا عاليا من الطوب بنتوءات معدنية أعلاه، كما قد تتوقع أن ترى حول مستشفى للأمراض العقلية. احترت لبعض الوقت في كيفية الدخول إلى منزل بينفيلد، حتى خطر ببالي في النهاية أن أقول لهم إن زوجتي كانت مجنونة وإنني كنت أبحث عن مكان لأضعها فيه. بعد ذلك، سيكونون مستعدين تماما لأخذي في جولة في المكان. وربما كنت في بدلتي الجديدة أبدو ثريا بما يكفي لأن تكون لدي زوجة في إحدى المصحات العقلية الخاصة. لم يخطر في بالي أن أفكر فيما إذا كانت البركة لا تزال في مكانها حتى وصلت بالفعل إلى البوابة.
كانت الأراضي القديمة لمنزل بينفيلد على مساحة خمسين فدانا، على ما أعتقد، بينما كانت أراضي مستشفى الأمراض العقلية لا تتعدى خمسة أو عشرة فدادين. ولم يكونوا في حاجة إلى بركة كبيرة من الماء كي يغرق فيها المرضى النفسيون أنفسهم. أما الكوخ الذي كان يسكن فيه العجوز هودجز، فكان كما هو، ولكن الجدار الأصفر من الطوب والبوابات الحديدية الضخمة كانت جديدة. لم أعرف المكان بالنظر إليه عبر البوابات؛ فقد رأيت مسارات مغطاة بالحصى، وأحواض زهور، ومروجا، وبعض الأشخاص الذين يتجولون بلا هدف، المرضى النفسيين، على ما أعتقد. أخذت الطريق إلى اليمين. كانت البركة - البركة الكبيرة، التي كنت أصطاد فيها - على بعد بضعة مئات الياردات خلف المنزل؛ فلا بد أنني قد مشيت مائة ياردة قبل أن أصل إلى جانب السور، ومن ثم فالبركة خارج أراضي المستشفى. بدأ سمك الأشجار يقل، وكان بإمكاني سماع أصوات أطفال. يا إلهي! لقد كانت البركة موجودة.
وقفت للحظة، متسائلا عما حدث لها. ثم عرفت ما حدث؛ فكل الأشجار لم تعد موجودة حول حافتها، وبدا كل شيء عاريا ومختلفا، في الحقيقة بدت على نحو مدهش كالبركة المستديرة في حدائق كينزينجتون. كان الأطفال يلعبون في كل مكان حول حافة البركة، وكانوا يركبون قوارب شراعية وقوارب تجديف، وكان هناك أيضا بعض الأطفال الأكبر سنا يندفعون في قوارب الكنو الصغيرة التي تقودها بتدوير المقبض. على اليسار، حيث كان قديما مصف القوارب المتعفن القديم، كان ثمة ما يشبه السرادق وكشك للحلوى، ولافتة بيضاء كبيرة مكتوب عليها «نادي أبر بينفيلد النموذجي لليخوت».
نظرت إلى اليمين، فكان المكان كله منازل. لا بد أنني كنت في الضواحي الخارجية؛ فكل الأشجار التي كانت تنمو وراء البركة، والتي نمت على نحو شديدة الكثافة حتى بدت كغابة استوائية، قد اقتلعت وأصبحت الأرض مستوية. ولم يتبق سوى مجموعات صغيرة من الأشجار حول المنازل. كانت منازل ذات مظهر فني، وكانت واحدة من تلك المستعمرات التي تقلد الطراز التيودوري كالتي رأيتها في اليوم الأول لي عند قمة تل تشامفورد، فقط كانت تبدو كذلك على نحو أكبر. كم كنت أحمق حين تخيلت أن هذه الأشجار ستظل كما هي! رأيت ما كانت عليه؛ فلم يكن هناك سوى أجمة واحدة صغيرة، ربما على مساحة ستة فدادين، هي فقط التي لم تقطع، وكان من الصدفة البحتة أنني مشيت عبرها في طريقي إلى هنا. أبر بينفيلد، الذي كان مجرد اسم في الماضي، تطور ليصبح بلدة كبيرة. في الحقيقة، لم يكن سوى أرض على أطراف لوير بينفيلد.
مشيت إلى حافة البركة، حيث كان الأطفال يتحركون في المياه ناثرين بعض الرذاذ حولهم، ويحدثون ضوضاء لعينة. وبدا أن هناك أعدادا كبيرة منهم في المكان. أما المياه، فقد بدت ميتة؛ فلم يعد فيها أسماك. وكان ثمة رجل واقف يشاهد الأطفال. كان رجلا عجوزا بعض الشيء، برأس أصلع وبضع خصلات من الشعر الأبيض، ونظارة أنفية، ووجه تظهر عليه بشدة آثار حروق الشمس. كان ثمة شيء غريب على نحو شديد الغموض حول مظهر ذلك الرجل؛ فقد لاحظت أنه كان يرتدي بنطالا قصيرا وصندلا وقميصا من الحرير الصناعي مفتوح الصدر، ولكن ما لفت انتباهي في الواقع كانت النظرة في عينيه، فقد كانت له عينان شديدتا الزرقة، من ذلك النوع الذي تراه متلألئا من وراء نظارته. لاحظت أنه من هؤلاء الرجال الكبار في السن الذين لا تظهر قط عليهم آثار العجز؛ فهم دائما يحافظون على تناول الأطعمة الصحية، أو يعملون مع فتيان الكشافة، في كلتا الحالتين هم يستمتعون بالطبيعة والحياة في الهواء الطلق. كان ينظر إلي كما لو كان يريد التحدث معي.
قلت: «اتسعت أبر بينفيلد كثيرا.»
نظر إلي بعينيه الوامضتين، وقال: «اتسعت! يا عزيزي، نحن لا نسمح أبدا باتساع أبر بينفيلد؛ فنحن نفخر بكوننا أشخاصا استثنائيين في هذا المكان المرتفع هنا، كما تعلم، فنحن مستعمرة صغيرة منفردة، بلا متطفلين، ها ها.»
قلت: «أعني مقارنة بما كان قبل الحرب؛ فقد كنت أعيش هنا في صباي.» «آه. بلا شك. كان هذا قبل مجيئي إلى هنا بالطبع؛ ولكن عقارات أبر بينفيلد تعد شيئا مميزا في عالم البناء كما تعلم، حيث شكلت عالما صغيرا خاصا بها؛ فكل التصميمات هي تصميمات المعماري الشاب إدوارد واتكين. بالطبع سمعت عنه. نحن نعيش وسط الطبيعة بالأعلى هنا، بلا ارتباط بالبلدة هناك بالأسفل - ولوح بيده في اتجاه لوير بينفيلد - حيث المصانع القذرة المظلمة، ها ها!»
كانت لديه ضحكة خافتة عجوز وطيبة، وطريقة لتجعيد وجهه كالأرنب. على الفور، كما لو كنت قد سألته، شرع في إخباري بكل شيء عن عقارات أبر بينفيلد والشاب المعماري إدوارد واتكين، الذي كان يحب الطراز التيودوري، وقد كان رجلا رائعا لأنه استطاع العثور، على العوارض الخشبية الأصلية التي ترجع إلى العصر الإليزابيثي في منازل المزارع القديمة، وشراءها بأثمان قليلة. وقد كان هذا الشاب المثير للاهتمام روح حفلات التعري. وقد كرر الرجل العجوز عدة مرات أنهم كانوا أشخاصا استثنائيين للغاية في أبر بينفيلد، ومختلفين تماما عن الناس في لوير بينفيلد؛ فقد عزموا على إثراء الريف بدلا من تشويهه (أنا أستخدم كلماته)، وأن عقاراتهم لم يكن فيها أي منازل عامة. «يتحدث الناس عن مدن الحدائق، ولكننا نسمي أبر بينفيلد مدينة الغابة، ها ها! الطبيعة!» أشار بيده إلى ما تبقى من الأشجار، واستأنف قائلا: «الغابة البكر تحتضننا، وينمو صغارنا وسط جمال الطبيعة؛ وتقريبا جميعنا من المتنورين بالطبع. هل تصدق أن ثلاثة أرباعنا هنا من النباتيين؟ لا يحبنا الجزارون المحليون على الإطلاق، ها ها! وبعض الشخصيات البارزة تعيش هنا. الآنسة هيلينا ثورلو، الروائية - لقد سمعت عنها بالطبع - والبروفيسور وود، الباحث في المجال النفسي، يا له من شخصية شاعرية! إذ يذهب متجولا وسط الغابة، ولا تتمكن عائلته من إيجاده في أوقات الوجبات. ويقول إنه يتجول وسط الجنيات. هل تؤمن بوجود الجنيات؟ أعترف - ها ها! - أنني أشك قليلا في الأمر، ولكن صوره الفوتوغرافية شديدة الإقناع.»
بدأت أسأل نفسي عما إذا كان أحد الهاربين من منزل بينفيلد؛ ولكن لا، فقد كان عاقلا إلى حد كبير. أعلم هذا النوع، حيث النظام الغذائي النباتي، والحياة البسيطة، والشعر، وتقديس الطبيعة، والاستمتاع بالندى قبل الإفطار؛ فقد قابلت بعضا منهم قبل بضع سنوات في إيلينج. ثم أخذني في جولة في المكان، حيث لم يكن شيء متبقيا من الأشجار، فقد كان المكان كله مليئا بالمنازل، ويا لها من منازل! هل تعرف هذه المنازل المقلدة على الطراز التيودوري، ذات الأسقف المجعدة والدعامات التي لا تدعم أي شيء، والحدائق الصخرية التي يضعون فيها أحواض شرب الطيور الإسمنتية، وتماثيل الأقزام الخرافية الحمراء الصغيرة المصنوعة من الجص التي يمكنك شراؤها من محلات الزهور؟ يمكنك أن تتخيل المجموعات البشعة التي تعيش هنا من خبراء التغذية وصائدي الأشباح ومهاويس الحياة البسيطة الذين يحصلون على ألف جنيه في السنة. حتى الأرصفة كانت مختلة. لم أتركه يأخذني بعيدا؛ فقد جعلتني بعض المنازل أتمنى لو كان معي قنبلة يدوية في جيبي. حاولت تثبيطه بسؤاله عما إذا كان الناس لم يعترضوا على العيش بجوار مصحة للأمراض العقلية، ولكن ذلك لم يكن له الأثر الكبير عليه. وأخيرا، توقفت وقلت: «كانت ثمة بركة أخرى هنا، بجوار البركة الكبيرة. ولا بد أنها ليست بعيدة عن هنا.» «بركة أخرى؟ أوه، بالتأكيد لا. لا أعتقد أنه كان ثمة أي بركة أخرى هنا.»
قلت: «ربما جففوها. لقد كانت بركة شديدة العمق. ولا بد أنها ستترك حفرة كبيرة مكانها.»
للوهلة الأولى، بدا قلقا بعض الشيء، ثم فرك أنفه وقال: «آه. بالطبع، لا بد أنك قد فهمت أن حياتنا بالأعلى هنا هي حياة بدائية نوعا ما، حياة بسيطة، كما تعلم. ونحن نفضلها كذلك؛ ولكن البعد الشديد عن البلدة قد يكون له أضرار بالطبع؛ فبعض من إجراءاتنا الصحية ليست مرضية تماما. أعتقد أن عربة القمامة لا تأتينا إلا مرة واحدة في الشهر.» «أتعني أنهم حولوا البركة إلى مكب للنفايات؟» «حسنا، ثمة شيء في طبيعة ... وقد خجل من كلمة مكب النفايات. علينا أن نتخلص من العلب المعدنية وما إلى ذلك بالطبع هناك خلف الكتلة الشجرية تلك.»
ذهبنا إلى هناك. وكانوا قد تركوا بعض الأشجار لتغطي على الأمر؛ ولكن أجل، ها هي، لقد كانت بركتي هنا. لقد جففوا ماءها، فأحدث ذلك حفرة مستديرة كبيرة كبئر ضخم بعمق عشرين أو ثلاثين قدما. وكانت بالفعل ممتلئة إلى نصفها بالعلب المعدنية.
وقفت أنظر إلى العلب المعدنية.
قلت: «من المؤسف أنهم جففوها؛ فقد كانت ثمة بعض الأسماك الكبيرة في تلك البركة.» «أسماك؟ أوه، لم أسمع عن شيء كذلك قط. بالطبع يصعب وجود بركة من المياه هنا وسط المنازل؛ تعلم أن ذلك يتسبب في وجود البعوض، ولكن لا بد أنها كانت هنا قبل مجيئي.»
قلت: «أعتقد أن هذه المنازل قد بنيت منذ وقت طويل.» «أوه، أعتقد منذ عشر أو خمس عشرة سنة.»
قلت: «لقد كنت أعرف هذا المكان قبل الحرب. لقد كان مليئا بالكامل بالأشجار، ولم تكن ثمة منازل سوى منزل بينفيلد؛ ولكن الأجمة الصغيرة هناك لم تتغير، فقد مشيت خلالها في طريقي إلى هنا.» «آه، تلك! إنها مقدسة؛ فقد قررنا ألا نبني مكانها أبدا. إنها مقدسة لدى الشباب. الطبيعة، كما تعلم.» نظر إلي بعينيه الوامضتين، بنظرة خبيثة بعض الشيء، كما لو كان سيطلعني على سر صغير، وقال: «نسميها وادي الجنيات.»
وادي الجنيات! تملصت منه، ورجعت إلى السيارة وقدتها نزولا إلى لوير بينفيلد. وادي الجنيات! وقد ملئوا بركتي بالعلب المعدنية! لعنهم الله ودمرهم! فلتقل ما تريد - قل إنه شيء سخيف أو طفولي أو أي شيء - ولكن ألا تشعر بالغثيان في بعض الأحيان عندما ترى ما يفعلونه بإنجلترا؛ من وضعهم لأحواض شرب الطيور وتماثيل الأقزام الخرافية المصنوعة من الجص والجنيات والعلب المعدنية خاصتهم في مكان أشجار الزان؟
أتقول عني عاطفي؟ أم كاره للمجتمع؟ أم أنني لا ينبغي أن أفضل الأشجار على الرجال؟ أقول إن الأمر يعتمد على طبيعة الأشجار وطبيعة الرجال. ليس ثمة شيء يمكنني فعله سوى أن أتمنى أن يصيبهم الجدري في أمعائهم.
لم أفكر إلا في شيء واحد منذ هبطت من أعلى التل، وهو أنني قد أعرضت عن فكرة الرجوع إلى الماضي؛ فما الفائدة من محاولة إعادة زيارة معالم صباك عندما لم يعد لها وجود؟ ما فائدة محاولة التقاط الأنفاس وليس هناك أي هواء؟! فصندوق القمامة الذي نعيش فيه قد وصل إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي. مع ذلك، أنا لم أعد أهتم بالأمر بوجه خاص. على كل حال، اعتقدت أنه لا يزال أمامي ثلاثة أيام متبقية يمكنني فيها أن أنعم بالسكينة والهدوء، وأن أتوقف عن التذمر حول ما فعلوه في لوير بينفيلد. أما عن فكرة الذهاب للصيد، فقد ألغيتها بالطبع. صيد الأسماك! كيف ذلك؟! في سني! بالفعل كانت هيلدا محقة.
وضعت السيارة في موقف سيارات فندق جورج ودخلت إلى الردهة. كانت الساعة السادسة، وكان أحد الأشخاص قد فتح المذياع وكانت نشرة الأخبار تبدأ. وقد دخلت من الباب تماما في الوقت الذي كانت فيه الكلمات القليلة الأخيرة من نداء استغاثة. أعترف أن ذلك قد صدمني بعض الشيء؛ فقد كانت الكلمات التي سمعتها: «... حيث إن زوجته، هيلدا بولينج، مريضة بشدة.»
وجاء النبأ التالي العاجل بالصوت الفخم نفسه قائلا: «إليكم نداء استغاثة آخر. ويل بيرسيفال شوت الذي شوهد آخر مرة ...» ولكنني لم أنتظر حتى أسمع المزيد، ومشيت على الفور. ما جعلني أشعر بالفخر الشديد، عندما فكرت في الأمر فيما بعد، أنني عندما سمعت تلك الكلمات قادمة من مكبر الصوت لم يرمش لي جفن، ولم أتوقف ولو قليلا لأعلم أي أحد أنني كنت جورج بولينج، الذي كانت زوجته هيلدا بولينج مريضة للغاية. كانت زوجة المالك في الردهة، وكانت تعرف أن اسمي بولينج، فعلى الأقل رأته في سجل النزلاء. بخلاف ذلك، لم يكن هناك أحد باستثناء رجلين، كانا يقيمان في الفندق، ولم يكونا يعرفاني. ولكني بقيت هادئا، ولم أبد أي إشارة لأي أحد؛ فقط ذهبت إلى البار الخاص، الذي كان قد فتح للتو، وطلبت كوب الجعة المعتاد.
كان علي أن أفكر في الأمر. وفي الوقت الذي كنت قد شربت فيه ما يقرب من نصف الكوب، بدأت أدرك ما علي فعله. في المقام الأول، هيلدا لم تكن مريضة، لا للغاية ولا غيره. كنت أعلم ذلك، فقد كانت في صحة ممتازة عندما غادرت، ولم نكن في ذلك الوقت من العام الذي يصاب فيه الناس بالإنفلونزا أو أي شيء من هذا القبيل. لقد كانت تتصنع. لماذا؟
بالطبع كانت هذه إحدى حيلها، وقد رأيت ما كان عليه الأمر. لقد أدركت بشكل أو بآخر - ثق في هيلدا! - أنني لم أكن في الواقع في برمنجهام، وكانت هذه هي ببساطة طريقتها في جلبي للمنزل؛ فلم تعد تحتمل أن تفكر في أنني مع امرأة أخرى، لأنها بالطبع كانت متأكدة من أنني مع امرأة ما، فلا يمكنها أن تتخيل أي دوافع أخرى. وبالطبع افترضت أنني سأذهب مسرعا إلى المنزل في أقرب وقت ممكن عندما أسمع أنها كانت مريضة.
ولكن هنا يكمن خطأ توقعك، قلت ذلك لنفسي عندما أنهيت كوب الجعة؛ فأنا أذكى من أن أخدع بتلك الطريقة. لقد تذكرت الحيل التي افتعلتها من قبل، والمصاعب غير العادية التي ستتكبدها للإيقاع بي. أنا أعرفها جيدا، فعندما أكون في إحدى الرحلات التي تشك فيها، فإنها تتحقق بالكامل من جدول مواعيد القطارات وخريطة الطريق؛ فقط لترى ما إذا كنت أقول الحقيقة حول تحركاتي. وفي مرة تبعتني طوال الطريق إلى كولتشيستر، ثم دخلت علي الغرفة فجأة في فندق تيمبرانس. وفي ذلك الوقت، لسوء الحظ، تصادف أنها كانت محقة، في الواقع لم تكن كذلك، ولكن ثمة ظروف جعلت الأمر يبدو كما لو كانت على حق. لم يكن لدي أدنى تصديق لمسألة مرضها. في الواقع، كنت أعلم أنها ليست مريضة، على الرغم من أنني لم يكن يمكنني أن أبرهن لك على تأكدي.
تناولت كوبا آخر، وبدت الأمور أفضل حالا. بالطبع كان سيقع بيننا شجار عندما أرجع إلى المنزل، ولكنه كان سيقع على أي حال. اعتقدت أنه كان متبقيا لي ثلاثة أيام يمكنني أن أستمتع بها. الغريب أنه على الرغم من أن الأشياء التي جئت باحثا عنها لم تعد موجودة، فقد راقت لي فكرة الاستمتاع بالإجازة أكثر؛ فالابتعاد عن المنزل كان هو الشيء الرائع، حيث السلام والسكينة التامة مع بعد الأحباء، كما تقول الترنيمة. وفجأة، قررت أن أرافق امرأة إن راق لي الأمر؛ فالفضل يرجع لهيلدا في هذا التفكير المنحرف، بالإضافة إلى ذلك، فأين الشعور بأن أحدا يشك فيك إن لم تكن موضع شك بالفعل؟
ولكن عندما أثر الكوب الثاني علي، بدأت أستمتع بالأمر. لم أغرم بالفكرة، ولكنها كانت بارعة للغاية؛ فكيف لها أن فكرت في إرسال نداء استغاثة؟! أنا عن نفسي لا أعرف إجراءات إرساله؛ هل على المرء إحضار شهادة من طبيب، أم أن كل ما عليك فعله هو أن ترسل اسمك؟ كنت متأكدا تماما من أن السيدة ويلر هي صاحبة الفكرة؛ إذ بدا لي أن الأمر به لمسة ويلر.
ولكن يا لمكرها! عجبا للنساء، يذهبن إلى أقصى الحدود! أحيانا لا يمكنك تجنب الشعور بإعجاب ما لهن.
6
بعد الإفطار، تجولت بالخارج ثم ذهبت إلى السوق. كان صباحا لطيفا، به بعض البرودة والهدوء، مع ضوء أصفر خافت كنبيذ أبيض يغطي على كل شيء. وكانت رائحة الصباح المنعشة مختلطة برائحة سيجاري. ولكن كانت ثمة ضوضاء نابعة من تحليق الطائرات خلف المنازل، وفجأة كان أسطول من قاذفات القنابل السوداء الكبيرة يقترب بأزيزه. نظرت إليها بالأعلى، فبدا أنها ستلقي بقنابلها فوق رءوسنا.
وفي اللحظة التالية، سمعت صوتا. وفي الوقت نفسه، إن صادف وكنت هناك، لكنت قد رأيت مثالا مثيرا للاهتمام لما أعتقد أنه يسمى بالانعكاس الشرطي؛ لأن ما سمعته - وما لم يحتمل مجالا للخطأ - كان صوت صفير إحدى القنابل. لم أكن قد سمعت شيئا كهذا منذ عشرين سنة، ولكنني لست بحاجة إلى من يخبرني بما هو. ودون أن أستغرق وقتا في التفكير، فعلت ما يجب فعله؛ فقد انبطحت على وجهي.
ولكني سعيد أنك لم ترني؛ فلا أظن أن شكلي كان محترما، حيث تمددت على الرصيف كالجرذ عندما ينضغط مارا أسفل أحد الأبواب. لم يتخذ أي أحد آخر رد فعل بهذه السرعة؛ بينما تصرفت بسرعة شديدة حتى إنني في شطر من الثانية، عندما كانت القنبلة تهبط بصوت صفيرها، كان لدي الوقت للخوف من أن الأمر برمته قد يكون خطأ وأنني قد وضعت نفسي في هذا الموقف بلا داع.
ولكن في اللحظة التالية، آه!
بوووووم!
حدث ضجيج كما لو كنا في يوم القيامة، ثم سمعنا ضوضاء تشبه ضوضاء سقوط طن من الفحم على لوح من الصفيح. كان ذلك صوت قوالب الطوب وهي تتهاوى. بدوت كما لو أنني قد ذبت في الرصيف، وقلت لنفسي: «لقد بدأت. أنا أعرفها! العجوز هتلر لم ينتظر؛ فقد أرسل قاذفات القنابل علينا دونما إنذار.»
لكن كان هناك شيء غريب في الأمر؛ فحتى وسط صدى هذا التحطم المروع الذي يصم الآذان، الذي بدا أنه جمدني من رأسي إلى أخمص قدمي، كان لدي الوقت للتفكير في أن ثمة شيئا مهيبا في أمر انفجار قذيفة كبيرة. كيف يبدو؟ من الصعب القول؛ لأن ما تسمعه يختلط بما تخاف منه. إنه يتمثل على نحو أساسي في رؤية انفجار المعادن، فيبدو أنك ترى ألواحا كبيرة من الحديد تنفتح من الانفجار. ولكن الشيء الغريب حقا هو الإحساس الذي يشعر به المرء عندما يواجه الواقع بشكل مفاجئ؛ فهو مثل الاستيقاظ بصب دلو من المياه فوق رأسك؛ فأنت تنتزع فجأة من أحلامك بفعل رنين المعادن المنفجرة، وهو شيء مروع، وحقيقي.
كانت ثمة أصوات صراخ وصياح، وتوقف مفاجئ لمكابح السيارات. أما القنبلة الثانية التي كنت أنتظرها، فلم تسقط؛ فرفعت رأسي قليلا، ورأيت الناس في كل الجوانب يتدافعون ويصرخون. وكانت ثمة سيارة تنزلق مائلة عبر الشارع، وكان يمكنني سماع صوت امرأة تصرخ قائلة: «الألمان! الألمان!» على اليمين، رأيت تعبيرا غريبا على وجه رجل مستدير وأبيض، إذ كان مثل كيس ورقي مجعد، وكان ينظر إلي، وكان يرتجف بعض الشيء، وسألني: «ما هذا؟ ماذا يحدث؟ ماذا يفعلون؟»
قلت: «لقد بدأت. كانت تلك قنبلة. انبطح على الأرض.»
ولكن ما زالت القنبلة الثانية لم تسقط. بعد ربع دقيقة أو ما يقرب من ذلك، رفعت رأسي مرة أخرى، وكان بعض الناس لا يزالون يتدافعون هنا وهناك، وكان آخرون واقفين كما لو أنهم قد لصقوا بغراء في الأرض. ومن مكان ما خلف المنازل، ارتفع ضباب كثيف من الغبار، وظهرت عبره سحابة من الدخان التي كانت تتدفق لأعلى. ثم رأيت منظرا استثنائيا؛ ففي الطرف الآخر من السوق، ارتفع هاي إستريت بعض الشيء، وأسفل هذا التل الصغير كان قطيع من الخنازير يعدو كما لو كان فيضانا ضخما من وجوه الخنازير. في اللحظة التالية، بالطبع، عرفت ما يحدث؛ فلم تكن خنازير على الإطلاق، بل كانوا أطفال المدارس في أقنعة الغاز. أعتقد أنهم كانوا يندفعون إلى قبو ما، قيل لهم أن يستتروا فيه في حالة القصف الجوي. خلفهم، لاحظت ما يشبه الخنزير الطويل، الذي كان على الأرجح الآنسة تودجرز. ولكني أقول لك إنهم لوهلة بدوا تماما كقطيع من الخنازير.
لملمت شتات نفسي، ومشيت عبر السوق. كان الناس يهدئون من روعهم بالفعل، وبدأت مجموعة صغيرة في الاتجاه نحو المكان الذي وقعت فيه القنبلة.
أوه، أجل، معك حق، بالطبع؛ فلم تكن طائرة ألمانية، ولم تبدأ الحرب بعد، بل كانت فقط حادثة؛ إذ كانت الطائرات تطير للتدرب على قذف القنابل - وبطبيعة الحال كانت تحمل قنابل - ووضع أحد الطيارين يده على ذراع القذف وحركه بالخطأ. أتوقع أنه سيتلقى توبيخا جسيما على ذلك. في الوقت الذي اتصل فيه مدير مكتب البريد هاتفيا بلندن للسؤال عما إذا كانت الحرب قد بدأت وأخبروه أنها لم تبدأ، كان الجميع قد أدركوا أنها كانت حادثة. لكن كانت ثمة مساحة من الوقت، بين دقيقة وخمس دقائق، كان فيها عدة آلاف من الأشخاص يعتقدون فيها أن الحرب قد اندلعت. من الجيد أن ذلك لم يدم طويلا؛ إذ إننا، بعد ربع ساعة أخرى، كنا سنعدم جاسوسنا الأول دون محاكمة.
تبعت الحشد. كانت القنبلة قد سقطت في شارع جانبي صغير متفرع من هاي إستريت، حيث كان متجر عمي إيزيكيال؛ ولم تكن تبعد خمسين ياردة عن مكان المتجر القديم. وعندما اقتربت بشدة من المكان، كان بإمكاني سماع أصوات همهمة هلع، كما لو كان الناس خائفين ولكنهم في الوقت نفسه مفتونون بما رأوا. لحسن الحظ، وصلت إلى هناك قبل بضع دقائق من وصول الإسعاف وعربة الإطفاء، وعلى الرغم من الأشخاص الخمسين أو نحو ذلك الذين كانوا قد تجمعوا في المكان، رأيت كل شيء.
للوهلة الأولى، بدا الأمر كما لو أن السماء قد أمطرت طوبا وخضراوات؛ فقد كانت أوراق الكرنب في كل مكان، حيث فجرت القنبلة متجر خضري وسوته بالأرض. وقد تفجر جزء من سقف المنزل المجاور له، وكانت النيران ممسكة في الألواح الخشبية للسقف، وكانت جميع المنازل المحيطة قد أصابها ضرر بشكل أو بآخر، وكسرت نوافذها. ولكن ما كان الجميع ينظر إليه هو المنزل على اليسار؛ فقد دمر جداره، المشترك مع جدار متجر الخضري، على نحو مرتب كما لو أن أحدا قد فعل ذلك بسكين. وما كان غريبا، أن شيئا لم يمس في الغرف العلوية. كان الأمر تماما كما لو أنك تنظر إلى منزل دمية؛ خزانة أدراج، وكراسي غرفة نوم، وورق حائط باهت اللون، وسرير غير مرتب، ومبولة أسفل السرير، كل ذلك كان تماما كما تركه أصحابه، باستثناء الجدار الوحيد الذي تحطم. أما الغرف في الطابق الأسفل، فقد نالها الانفجار، حيث كان ثمة فوضى من الأشياء المحطمة المروعة من طوب وجص وأرجل كراسي وبعض من أجزاء منضدة زينة ملمعة وخرق من غطاء مائدة وأكوام من الأطباق المحطمة وقطع مكسورة من حوض غسل الأطباق. وكان برطمان من المربى متدحرجا على الأرض، تاركا خلفه خطا طويلا من المربى، وكان بمحاذاته شريط من الدماء. ولكن وسط الآنية الفخارية المحطمة، كانت ثمة ساق ملقاة؛ فقط ساق، ولا تزال بأحد زوجي البنطال وأحد زوجي الحذاء الأسود ذي الكعب المطاطي ماركة وود ميلين اللتين كانتا يرتديهما صاحبها. هذا ما كان يصيح عليه الناس.
نظرت جيدا إليها وفهمت الأمر. وكانت الدماء قد بدأت تختلط مع المربى. وعندما وصلت عربة الإطفاء، انصرفت وذهبت إلى فندق جورج كي أجمع أغراضي.
كانت هذه نهايتي مع لوير بينفيلد، على ما اعتقدت؛ فأنا ذاهب للمنزل. ولكني في الواقع، لم أزل الغبار من على حذائي وأترك المكان على الفور؛ إذ لا يتسنى للمرء أن يفعل ذلك أبدا، فعندما يحدث شيء كذلك، يقف الناس دائما ويتناقشون حوله لساعات. لم يكن ثمة الكثير من العمل الذي أنجز في لوير بينفيلد في ذلك اليوم؛ فقد كان الجميع مشغولين بشدة بالحديث عن القنبلة، وعن نوعية صوتها، وعما ظنوا عندما سمعوا صوتها. قالت الساقية في فندق جورج إن ما حدث أصابها برعب شديد، وإنها لن تستطيع النوم جيدا في سريرها بعد الآن؛ وماذا كنت تتوقع؟ فقد تبين لنا وجود قنابل لم نعرف عنها شيئا من قبل. وكانت امرأة قد عضت جزءا من لسانها بسبب القفزة التي جعلها الانفجار تقوم بها. تبين أنه بينما كان الجميع في هذا الطرف من البلدة يتصورون أنها كانت غارة جوية ألمانية، فإن الجميع في الطرف الآخر كانوا موقنين أنه كان ثمة انفجار في مصنع الجوارب. بعد ذلك (وقد عرفت الأمر من الصحف) أرسلت وزارة الطيران رجلا لتقصي الأضرار، وأصدروا تقريرا يقولون فيه إن آثار القنبلة كانت «مخيبة للآمال». في الحقيقة، لم تقتل سوى ثلاثة أشخاص: الخضري، وكان اسمه بيروت، وزوجا وزوجة مسنين كانا يعيشان بجوار الخضري. لم يتحطم وجه المرأة كثيرا، وتمكنوا من التعرف على الرجل من حذائه؛ ولكنهم لم يجدوا قط أثرا لبيروت، ولا حتى زرا من أزرار بنطاله ليصلوا عليه.
بعد الظهيرة، دفعت فاتورتي وخرجت. لم يكن معي أكثر من ثلاثة جنيهات متبقية بعد أن دفعت الفاتورة؛ فهؤلاء المنمقون الذين يعملون في تلك الفنادق الريفية يعلمون كيف يحصلون منك على المال، كما أنني كنت أنفق المال بسخاء على المشروبات والنثريات الأخرى. تركت صنارتي الجديدة وبقية أدوات الصيد في غرفة النوم بالفندق. دعهم يأخذونها فلا منفعة منها، ولم أضع فيها سوى جنيه واحد كي أعلم نفسي درسا، وقد تعلمت الدرس جيدا؛ فالرجال البدناء البالغون من العمر خمسة وأربعين عاما لا يمكنهم الذهاب للصيد، ولن يحدث ذلك الأمر مجددا، فلم يكن سوى حلم، ولن أذهب للصيد مرة أخرى في هذه الحياة.
من الطريف كيف تتغلغل الأشياء فيك بالتدريج. ماذا شعرت بالتحديد عندما انفجرت القنبلة؟ في اللحظة نفسها، بالطبع، أفزعتني بشدة؛ وعندما رأيت المنزل المحطم وساق الرجل العجوز، شعرت بهذه الهزة الخفيفة التي تشعر بها عندما تشاهد حادث طريق. إنه لأمر كريه بالفعل. كريه بما يكفي ليجعلني أسأم من هذه الإجازة المزعومة؛ ولكنه لم يكن له تأثير كبير في الواقع.
ولكن بينما كنت أقود سيارتي على حدود لوير بينفيلد واتجهت شرقا، تذكرت كل شيء. تعلم كيف يكون الأمر عندما تكون في سيارة وحدك؛ هناك شيء، إما في الأسيجة التي تمر عليها سريعا أو في خفقان المحرك، يجعل أفكارك تأخذ إيقاعا معينا. ينتابك الشعور نفسه في بعض الأحيان عندما تكون في القطار. إنه شعور بالقدرة على رؤية الأشياء من منظور أفضل من المعتاد؛ إذ أصبحت متأكدا من جميع الأشياء التي كنت أشك فيها. في البداية، أتيت إلى لوير بينفيلد وفي رأسي تساؤل: ما الذي ينتظرنا؟ هل أعلن القرار بالفعل؟ هل بإمكاننا العودة إلى الحياة التي اعتدنا أن نعيشها، أم أنها انتهت للأبد؟ حسنا، حصلت على إجابتي. الحياة القديمة قد انتهت، وبالرجوع إلى لوير بينفيلد، لا يمكنك إرجاع يونان إلى بطن الحوت. لقد تيقنت من ذلك، على الرغم من أنني لا أتوقع أن تجاريني في أفكاري. وكان من الغريب أني أتيت إلى هنا. كل تلك السنوات ولوير بينفيلد مختفية في مكان ما في ذهني، كركن هادئ يمكنني الرجوع إليه عندما أشعر بأنني أريد ذلك ، وأخيرا رجعت إليه ووجدت أنه لم يكن موجودا؛ فقد دمرت بقنبلة أحلامي، وكي لا يكون ثمة خطأ في الإصابة تبعتها القوات الجوية الملكية بخمسمائة رطل من مادة التي إن تي.
الحرب آتية. قالوا إنها في 1941. وسيكون ثمة الكثير من الآنية الفخارية المتكسرة، والبيوت الصغيرة المتفسخة كصناديق الشحن، وستلتصق أحشاء موظف الحسابات المعتمد بالبيانو الذي اشتراه على أقساط لا نهاية لها. ولكن ما أهمية ذلك على كل حال؟ سأخبرك بما علمته لي إقامتي في لوير بينفيلد، وهو ما يلي: «كل ذلك سيحدث». كل ما وضعته في مكان ما في ذهنك من الأشياء التي ترعبك، والأشياء التي تقول لنفسك إنها مجرد كوابيس أو إنها لا تحدث إلا في البلاد الأخرى. القنابل، والطوابير على الطعام، والهراوات المطاطية، والأسلاك الشائكة، والقمصان الملونة، والشعارات، والوجوه الضخمة، والمدافع الآلية التي تنثر رصاصها من نوافذ غرف النوم. كل ذلك سيحدث، أعلم ذلك، على أي حال كنت أعلم في ذلك الحين. لا مفر من هذا. فلتناهضها إن أردت، أو لتصرف نظرك وتتظاهر أنك لا تلاحظها، أو لتجلب مفكك وتندفع لتحطيم بعض الوجوه مع الآخرين. ولكن لا مفر، فهو شيء محتم.
ضغطت على دواسة الوقود، وتأرجحت السيارة القديمة صعودا وهبوطا على التلال الصغيرة، ومرت على الأبقار وأشجار الدردار وحقول القمح حتى كاد يحترق المحرك من الحرارة. شعرت أنني في المزاج نفسه الذي كنت فيه في ذلك اليوم من شهر يناير، عندما مررت بشارع إستراند، ذلك اليوم الذي حصلت فيه على طقم أسناني الجديد؛ إذ كنت كما لو أن قوة النبوءة قد منحت لي، وبدا لي أنه بإمكاني رؤية إنجلترا كلها، وكل الناس فيها، وكل الأشياء التي ستحدث لهم جميعا. أحيانا، بالطبع، حتى في ذلك الحين، كنت أشك في أمر أو أمرين. العالم حقا كبير للغاية، وهو ما تلاحظه عندما تقود سيارتك، ونوعا ما يطمئنك ذلك. فكر في الأراضي الضخمة التي تمر عليها عندما تعبر ركنا من أركان إحدى المقاطعات الإنجليزية. الأمر يشبه سيبيريا. وفكر في الحقول وأيكات الزان ومنازل المزارعين والكنائس، والقرى بمتاجر البقالة الصغيرة وقاعة الأبريشية والبط الذي يتمشى عبر العشب. بالطبع، كل ذلك أكبر من أن يتغير، أليس كذلك؟ ويبدو أنه سيظل كما هو بشكل أو بآخر. في ذلك الوقت، كنت قد وصلت إلى ضواحي لندن، وأخذت طريق أوكسبريدج إلى ساوثهول؛ حيث أميال وأميال من المنازل القبيحة، بأشخاص يعيشون حياة راقية مملة داخلها. بعد ذلك، تمتد لندن بلا توقف؛ حيث الشوارع، والميادين، والأزقة الخلفية، والمباني المشتملة على عدة شقق، ومجموعات الشقق السكنية، والحانات، ومتاجر السمك المقلي، ودور السينما؛ يستمر ذلك مسافة عشرين ميلا، وجميع الثمانية الملايين نسمة بحياتهم الخاصة الصغيرة التي لا يرغبون في تغييرها. يبدو أنه لا توجد قنابل كافية للقضاء على ذلك بالكامل. والفوضى الناتجة عنها! وخصوصية حياة جميع هؤلاء! يقطع جون سميث قسائم كرة القدم، ويتبادل بيل ويليامز القصص في متجر الحلاق، وتعود السيدة جونز إلى المنزل ومعها جعة العشاء. ثمانية ملايين شخص! بالطبع سيتدبرون حالهم بطريقة ما، سواء قذفت القنابل أو لم تقذف، كي يستمروا في الحياة التي اعتادوا عليها، أليس كذلك؟
وهم! هراء! لا يهم عددهم؛ فكلهم في قارب واحد. الأيام الصعبة قادمة، والجيوش قادمة كذلك. لا أعرف ماذا سيحدث بعد ذلك، ولست مهتما أن أعرف. كل ما أعرفه هو أنه إذا كان ثمة شيء تهتم لأمره، فمن الأفضل أن تودعه الآن؛ لأن كل شيء تعرفه سيتهاوى وسيسقط في الوحل، مع المدافع الآلية التي تصلصل طوال الوقت.
ولكن عندما رجعت إلى الضاحية، تغير مزاجي فجأة.
خطر ببالي فجأة - ولم يكن قد خطر ببالي حتى تلك اللحظة - أن هيلدا قد تكون مريضة بالفعل رغم كل شيء.
ذلك تأثير البيئة التي نعيش فيها. في لوير بينفيلد، كنت متأكدا تماما أنها لم تكن مريضة، وأن الأمر لم يكن سوى خدعة كي أرجع إلى المنزل. بدا الأمر طبيعيا في ذلك الوقت، ولا أعلم لماذا. ولكن عندما وصلت إلى غرب بلتشلي وأغلقت علي عقارات هيسبيريدز فيما يشبه سجنا من الطوب الأحمر، وهو كذلك بالفعل، رجعت لي عادات التفكير المعتادة. شعرت بهذا الإحساس الذي أشعر به في صباح يوم الإثنين عندما يبدو كل شيء كئيبا ومعقولا. رأيت كم كان سخيفا ما ضيعت فيه الأيام الخمس الماضية؛ حيث ذهبت هاربا إلى لوير بينفيلد في محاولة لاستعادة الماضي، ثم، في السيارة أثناء رجوعي إلى المنزل، فكرت كثيرا في نبوءتي التي لا معنى لها عن المستقبل. المستقبل! ما شأن المستقبل برجل مثلي ومثلك؟ أن نحافظ على وظائفنا، ذلك هو مستقبلنا. أما بالنسبة لهيلدا، فحتى عندما تسقط القنابل، فستظل تفكر في سعر الزبد.
وفجأة، أدركت حماقتي حين فكرت أنها فعلت شيئا كذلك؛ فبالطبع نداء الاستغاثة لم يكن مزيفا! فشيء كهذا بعيد عن مخيلتها! لقد كانت الحقيقة القبيحة والباردة. لم تكن تخدعني على الإطلاق، بل كانت مريضة فعلا. يا إلهي! وقد تكون في تلك اللحظة مستلقية في مكان ما وتعاني من ألم مبرح، أو قد تكون قد ماتت. تسببت لي هذه الفكرة في أكثر الآلام رعبا، إذ شعرت بنوع من الإحساس البارد المميت في داخلي. نزلت إلى شارع إلزمير بسرعة ما يقرب من أربعين ميلا في الساعة، وبدلا من أن آخذ السيارة إلى موقف السيارات الآمن كالمعتاد، توقفت خارج المنزل وأسرعت بالدخول.
لعلك تقول إنني إذن مغرم بهيلدا رغم كل شيء! لا أعلم تحديدا ما تعنيه بالغرام. هل أنت مغرم بوجهك؟ ربما لا، ولكنك لا يمكنك تخيل نفسك من دونه، فهو جزء منك. حسنا، هذا ما شعرت به تجاه هيلدا. عندما تسير الأمور على ما يرام، لا يمكنني تحمل رؤيتها؛ ولكن فكرة أنها قد تكون ميتة أو حتى تتألم جعلتني أرتجف.
فتحت الباب بالمفتاح بعصبية، وشممت الرائحة المألوفة لمعاطف المطر القديمة.
ناديت: «هيلدا. هيلدا!»
ولكن لم يجب أحد. لبعض الوقت أخذت أصيح: «هيلدا! هيلدا!» وسط صمت تام، وشعرت ببعض العرق البارد على عمودي الفقري. ربما نقلوها إلى المستشفى، وربما ثمة جثة مستلقية بالأعلى في المنزل الخاوي.
اندفعت إلى الدرج، ولكن في اللحظة نفسها رأيت الطفلين في ملابس النوم يخرجان من غرفتيهما من كلا جانبي بسطة الدرج. كانت الساعة الثامنة أو التاسعة، على ما أظن، على أي حال كان الضوء في بداية خفوته. تعلقت لورنا بالدرابزين، وصاحت: «أوه، أبي! أوه، إنه أبي! لم رجعت اليوم؟ قالت أمي إنك لن تأتي قبل يوم الجمعة.»
قلت لها: «أين أمكما؟» «أمي بالخارج. لقد خرجت مع السيدة ويلر. لماذا رجعت اليوم يا أبي؟» «إذن لم تكن أمكما مريضة، أليس كذلك؟» «بلى. من قال إنها كانت مريضة يا أبي؟ هل كنت في برمنجهام؟» «نعم. ارجعا إلى سريريكما الآن. ستصابان بالبرد.» «ولكن أين هدايانا يا أبي؟» «أي هدايا؟» «الهدايا التي جلبتها من برمنجهام.»
قلت: «ستريانها في الصباح.» «أوه، أبي! ألا يمكننا رؤيتها الليلة؟» «لا. اذهبا إلى سريريكما وإلا فسأضربكما.»
إذن، لم تكن مريضة، وكانت تخدعني. لم أعرف حقيقة هل أفرح أم أحزن. رجعت إلى الباب الأمامي، الذي كنت قد تركته مفتوحا، وهناك، ويا للمفاجأة، كانت هيلدا آتية عبر ممشى الحديقة.
نظرت إليها وهي آتية نحوي في آخر ضوء في المساء. كان من الغريب حين تذكرت أنني قبل ما يقل عن ثلاث دقائق كنت مرعوبا، وكان العرق البارد يتصبب على عمودي الفقري بالفعل حين كنت أعتقد أنها ربما قد ماتت. حسنا، إنها لم تمت، بل كانت كعادتها. هيلدا العجوز بكتفيها النحيفتين ووجهها القلق، وفاتورة الغاز ومصاريف المدرسة، ورائحة معطف المطر والمكتب في يوم الإثنين، كل الحقائق الراسخة التي ترجع لها دون تغيير، الحقائق الأبدية كما يطلق عليها العجوز بورتيوس. لاحظت أن هيلدا لم تكن في مزاج جيد؛ وقد رشقتني بنظرة خاطفة سريعة، كما تفعل أحيانا عندما يدور شيء ما في ذهنها، كانت نظرة تشبه تلك النظرة التي قد ينظر إليك بها حيوان نحيف وصغير كابن عرس أو نحوه. مع ذلك، لم تبد أنها فوجئت برجوعي.
وقالت: «أوه، أوقد عدت؟»
بدا من الجلي أنني قد عدت، لذا، لم أجب. لم تتحرك لتقبيلي.
واستأنفت حديثها على الفور قائلة: «لا يوجد شيء لتأكله.» تلك هي هيلدا؛ فدائما ما تنجح في أن تقول شيئا محبطا في اللحظة التي تطأ فيها قدماك المنزل. وأردفت: «لم أكن أتوقع مجيئك، فليس أمامك سوى الخبز والجبن، ولكني لا أعتقد أن لدينا أي جبن.»
تبعتها إلى الداخل، حيث رائحة معاطف المطر. ودخلنا إلى غرفة الجلوس، ثم أغلقت الباب وأنرت الأنوار. كنت أنوي التحدث أولا؛ لأنني كنت أعلم أن الأمور ستكون أفضل إذا اتخذت موقفا حازما من البداية.
قلت: «حسنا، ما الذي عنيته بلعب تلك اللعبة السخيفة علي؟»
كانت قد وضعت لتلوها حقيبتها أعلى الراديو، وبدت متفاجئة حقا لوهلة.
ثم قالت: «أي لعبة؟ ماذا تعني؟» «أن ترسلي لي نداء الاستغاثة ذلك!» «أي نداء استغاثة؟ ما الذي تتحدث عنه يا جورج؟» «أتحاولين أن تقولي لي إنك لم ترسلي نداء استغاثة تقولين فيه إنك كنت مريضة جدا؟» «بالطبع، لا! كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ لم أكن مريضة. لم أفعل شيئا كذلك؟»
شرعت في شرح الأمر لها، ولكن قبل أن أبدأ مباشرة فهمت ما حدث؛ فقد كان الأمر برمته خطأ، حيث سمعت آخر بضع كلمات من نداء الاستغاثة، ومن الواضح أنها كانت هيلدا بولينج أخرى. أعتقد أنك ستجد سجلا كاملا ممن اسمهن هيلدا بولينج إذا بحثت في الدليل؛ فما كان الأمر سوى خطأ من تلك الأخطاء الغبية التي طالما تحدث. لم يبد على هيلدا أي من التخيل الذي ظننت أنها قادرة عليه. كان الاهتمام الأوحد في الأمر كله في الدقائق الخمس أو نحو ذلك التي ظننت فيها أنها قد ماتت، حيث وجدت أنني أهتم بها رغم كل شيء، ولكن ذلك قد ولى وانتهينا منه. وأثناء شرحي لما حدث، كانت تشاهدني؛ ولاحظت في عينيها أن ثمة مشكلة ما في انتظاري. ثم بدأت تسألني بما أسميه صوت انتزاع الاعتراف، والذي لم يكن - كما قد تتوقع - غاضبا ومتذمرا، بل هو صوت هادئ ويقظ.
قالت: «إذن، لقد سمعت نداء الاستغاثة هذا في الفندق ببرمنجهام، أليس كذلك؟» «نعم، ليلة أمس، على الإذاعة الوطنية.» «ومتى تركت برمنجهام إذن؟» «هذا الصباح، بالطبع.» (حسبت الرحلة في ذهني، تحسبا إن احتجت أن أكذب كي أخرج نفسي من المشكلة. خرجت في العاشرة، وتناولت الغداء في كوفنتري، والشاي في بيدفورد، خططت لكل شيء.) «إذن، كنت تعتقد ليلة أمس أنني مريضة جدا، ولم ترحل إلا في الصباح؟» «ولكني أقول لك إنني لم أكن أعتقد أنك مريضة، ألم أشرح لك؟ لقد اعتقدت أنها إحدى خدعك، فقد بدا الأمر على الأرجح أقرب إلى ذلك.»
قالت بكثير من المرارة في صوتها، ما جعلني أعلم أن المزيد قادم: «إذن، من المفاجئ أنك غادرت من الأساس!» ولكنها استأنفت حديثها بصوت أهدأ، قائلة: «إذن، غادرت هذا الصباح، أليس كذلك؟» «بلى، غادرت في نحو الساعة العاشرة. وتناولت الغداء في كوفنتري ...»
صرخت في فجأة: «إذن، كيف تفسر هذا؟» وفي اللحظة نفسها فتحت حقيبتها بعنف، وأخرجت قطعة من الورق، وأمسكت بها كما لو كانت شيكا مزورا أو ما شابه.
شعرت وكأن أحدا قد لكمني في معدتي. كان يجب أن أتخيل ذلك! لقد اكتشفت أمري في نهاية المطاف؛ وكان معها الدليل، مستند القضية. لم أكن أعلم حتى ما هو، باستثناء أنه كان شيئا يثبت أنني كنت في إجازة مع امرأة. فقدت رباطة جأشي بالكامل؛ فقد كنت منذ لحظة أتنمر عليها بعض الشيء، وأتظاهر بالغضب لأنها جعلتني أهرع من برمنجهام دون سبب، ولكنها الآن قلبت الدفة ضدي. لست بحاجة إلى أن تخبرني بالشكل الذي بدوت عليه في تلك اللحظة؛ فأنا أعلم، وكان الذنب مكتوبا بخط عريض على كامل جسدي. ولكنني لم أكن مذنبا! غير أنها أصبحت عادة؛ فقد اعتدت أن أكون المخطئ. ولو أعطيتني مائة جنيه، لم يكن بإمكاني التخلص من نبرة الذنب في صوتي، فأجبتها: «ماذا تعنين؟ ما هذا الشيء الذي لديك هنا؟» «اقرأه وستعلم ما هو.»
أخذته، وقد كان خطابا مما بدا أنه شركة للمحاماة، وكان عليه العنوان نفسه لشارع فندق روبوتوم، كما لاحظت.
قرأته: «سيدتي العزيزة، ردا على خطابك بتاريخ الثامن عشر من الشهر الجاري، نعتقد أنه لا بد أن ثمة خطأ في الأمر. إن فندق روبوتوم أغلق منذ عامين، وقد تحول إلى مبنى لمكاتب الأعمال. ولم نر أحدا بأوصاف زوجك هنا. ربما ...»
لم أقرأ المزيد، وبالطبع رأيت على الفور ما حدث أمامي؛ فقد تذاكيت أكثر من اللازم وورطت نفسي. ولم يكن أمامي سوى شعاع أمل خافت، وهو أن يكون الشاب ساوندرز قد نسي أن يرسل الخطاب الذي زعمت أنني أرسلته من روبوتوم؛ ففي تلك الحالة يمكنني أن أنكر مزعمها. ولكن هيلدا سرعان ما كشفت عن الحقيقة.
قالت: «حسنا يا جورج، أرأيت ماذا يقول الخطاب؟ في اليوم الذي غادرت من هنا، كتبت إلى فندق روبوتوم، فقط لأسالهم عما إذا كنت قد وصلت، وها قد رأيت الإجابة التي وصلتني! فلم يكن ثمة مكان يدعى فندق روبوتوم حتى. وفي اليوم نفسه، وفي البريد نفسه، تلقيت خطابك الذي تقول فيه إنك كنت في الفندق. أعتقد أنك جعلت أحدا يرسله لك. أهذا كان عملك الذي في برمنجهام؟!» «ولكن اسمعي يا هيلدا! لقد أسأت فهم الأمر؛ فهو ليس كما تعتقدين. أنت لا تفهمين.» «لا يا جورج، أنا أفهم. وأفهم جيدا.» «ولكن اسمعي يا هيلدا ...»
لم يكن ثمة فائدة في الأمر بالطبع؛ فقد كانت في ذلك الموقف كالشرطي العادل، ولم أكن حتى أستطيع أن أنظر في عينيها. استدرت وحاولت التوجه إلى الباب.
وقلت: «يجب أن أضع السيارة في موقف السيارات.» «أوه، لا يا جورج! لن تهرب بهذه البساطة. ستظل هنا وتستمع لما سأقوله إذا سمحت.» «ولكن اللعنة! يجب أن أضيء الأنوار، أليس كذلك؟ لقد تجاوزنا الوقت الذي يجب فيه إضاءة أنوار السيارة. أتريدينا أن نحصل على غرامة؟!»
عندئذ تركتني أذهب، وخرجت وأضأت أنوار السيارة؛ ولكن عندما رجعت، كانت لا تزال واقفة هناك كرمز للهلاك ومعها الخطابان، خطابي وخطاب المحامي، أمامها على الطاولة. تمالكت نفسي بعض الشيء، وحاولت مرة أخرى، قائلا: «اسمعي يا هيلدا، إنك لم تفهمي الموقف جيدا؛ ويمكنني أن أشرح لك الأمر كله.» «أنا متأكدة أنك تستطيع أن تشرح وتبرر أي شيء يا جورج. ولكن السؤال هو: هل سأصدقك؟» «ولكنك تسرعت في الحكم! ما الذي جعلك تكتبين للفندق على كل حال؟» «لقد كانت فكرة السيدة ويلر. وكانت فكرة جيدة للغاية أيضا، كما اتضح بعد ذلك.» «أوه، السيدة ويلر، هل كانت هي صاحبة الفكرة؟ إذن أنت لا تمانعين في إطلاع تلك المرأة اللعينة على شئوننا الخاصة؟» «لم تحتج إلى من يطلعها على شيء؛ فهي من حذرتني مما تنوي فعله هذا الأسبوع. قالت إنه بدا أن شيئا أوحى لها بذلك. وقد كانت محقة، كما ترى. إنها تعلم كل شيء عنك يا جورج؛ فقد كان لها زوج مثلك تماما.» «ولكن يا هيلدا ...»
نظرت إليها، وكان وجهها قد شحب لونه بعض الشيء؛ فقد كانت هكذا تبدو عندما تظن أنني كنت مع امرأة أخرى. امرأة أخرى! يا ليت ذلك كان صحيحا!
يا إلهي! ما الذي كان ينتظرني؟! تعلم ما سيبدو عليه الأمر. أسابيع من التذمر المروع والعبوس المستمر، والملاحظات الخبيثة التي تأتيك بعدما تظن أن الهدوء قد عاد؛ وتتأخر الوجبات دائما، ويريد الطفلان أن يعرفا سبب كل ما يحدث. ولكن أكثر ما أحبطني كان البؤس العقلي، تلك الأجواء الجنونية التي جعلت السبب الحقيقي لذهابي إلى لوير بينفيلد لم يكن حتى مقنعا. كان ذلك ما خطر ببالي في الأساس في تلك اللحظة، فلو قضيت أسابيع أشرح فيها لهيلدا سبب ذهابي إلى لوير بينفيلد، فلن تفهم أبدا. ومن بإمكانه أن يفهم ممن يعيشون هنا في شارع إلزمير؟ يا إلهي! هل أنا نفسي أفهم السبب؟ بدا كل شيء يتبخر من ذهني. لماذا ذهبت إلى لوير بينفيلد؟ وهل ذهبت إلى هناك بالفعل؟ بدا الأمر في تلك الأجواء بلا معنى؛ فلم يكن شيئا حقيقيا في شارع إلزمير سوى فواتير الغاز، ومصاريف المدرسة، والكرنب المسلوق، والعمل يوم الإثنين.
في محاولة أخيرة، قلت لهيلدا: «ولكن اسمعي يا هيلدا! أعلم ما تظنين، ولكنك مخطئة تماما. أقسم لك إنك مخطئة.» «أوه، لا يا جورج! إن كنت مخطئة، فلماذا كان عليك إخباري بكل تلك الأكاذيب؟»
لا مفر من ذلك، بالطبع.
سرت خطوة أو خطوتين جيئة وذهابا. كانت رائحة معاطف المطر القديمة قوية للغاية. لم أهرب هكذا؟ ولم أهتم بالمستقبل والماضي، وأنا أرى أن المستقبل والماضي لا يهمان؟ أيا كانت دوافعي، فأنا بالكاد أتذكرها الآن. الحياة القديمة في لوير بينفيلد، والحرب وما بعد الحرب، وهتلر، وستالين، والقنابل، والمدافع الآلية، والطوابير على الطعام، والهراوات المطاطية، كل ذلك كان يتلاشى. ولم يتبق شيء سوى شجار وضيع وسوقي في ظل رائحة معاطف المطر القديمة.
وفي محاولة أخيرة، قلت: «هيلدا! فقط استمعي لي دقيقة. اسمعي، إنك لا تعلمين أين كنت طوال هذا الأسبوع، أليس كذلك؟» «لا أريد أن أعلم أين كنت؛ فأنا أعلم ماذا كنت تفعل، وهذا يكفيني.» «لكن اللعنة ...»
لا فائدة، بالطبع؛ فقد قررت أنني مذنب، والآن ستخبرني بما تظنه في، وقد يستغرق ذلك ساعتين. وبعد ذلك ستلوح مشكلة أخرى في الأفق، لأنها عما قريب ستتساءل عن مصدر النقود التي أنفقتها في الرحلة، ثم ستكتشف أنني كنت أخبئ عنها أمر الجنيهات السبعة عشر. بالطبع لا يوجد ما يمنع أن يستمر هذا الشجار حتى الثالثة فجرا، ولا فائدة من لعب دور البريء الضحية. كل ما كنت أريده هو أقل قدر من المقاومة. وراجعت في ذهني الاحتمالات الثلاثة، والتي كانت:
أولا:
أن أخبرها بما كنت أفعله بالفعل، وأجعلها تصدقني بطريقة أو بأخرى.
ثانيا:
أن ألجأ للحجة القديمة المتمثلة في عدم القدرة على التذكر.
ثالثا:
أن أتركها تظن أنني كنت مع امرأة أخرى، وأتقبل الموقف دون أن أعترض.
ولكن اللعنة! كنت أعرف أيها سأختار.
Bilinmeyen sayfa