فقالت دوريس: «والآن، إنه يفسد الفطيرة. يا أمي! باد يفسد الفطيرة.»
قال باد: «فلتغلقي هذا الفم اللعين!»
فقالت الأم بحدة توحي بالتمرس والهدوء إلى حد ما: «ابتعد عن الفطيرة. وتوقفوا عن السباب. كفوا عن اللغو وتصرفات الصغار!» •••
جلس جيمي بوكس على مائدة مزدحمة لتناول وجبة الغداء، كان يعيش مع والده ووالدته وأختيه البالغتين من العمر أربعة وستة أعوام في منزل جدتهم الذي سكنته أيضا الجدة وأختها ماري وخاله الأعزب. امتلك والده ورشة لإصلاح الدراجات في السقيفة الموجودة خلف المنزل، وعملت والدته في متجر هونيكرز متعدد الأقسام.
وقد كان والده أعرج بسبب إصابته بفيروس شلل الأطفال الذي هاجمه في الثانية والعشرين من عمره، ما جعله يسير منحنيا للأمام ومتكئا على عكاز. لكن ذلك لم يبد واضحا أثناء عمله في الورشة؛ لأن طبيعة العمل تطلبت منه في الغالب الانحناء للأمام؛ بيد أنه عند سيره في الشارع، كان يبدو غريبا للغاية، لكن ما من أحد أهانه أو قلد حركاته متهكما. فقد كان في السابق لاعب هوكي وبيسبول بارزا في البلدة، وحتى الآن ظل محتفظا ببعض من رونق الماضي وبطولاته؛ مما جعل الناس ينظرون إلى حالته الحالية بعقلانية على أنها مجرد مرحلة يمر بها (وإن كانت نهائية). وقد ساعد والد جيمي في تكوين هذه النظرة لدى الناس بإطلاقه النكات دوما ونبرة حديثه التفاؤلية، منكرا الألم الذي بدا واضحا في عينيه الغائرتين وأرق جفنيه في كثير من الليالي. هذا فضلا عن عدم تغييره أسلوبه في الحديث عند عودته إلى المنزل، على عكس والد سيسي فيرنس.
لكن هذا المنزل لم يكن منزله بالطبع؛ فقد تزوجته زوجته بعد إصابته بالعرج، لكنهما كانا مخطوبين قبل ذلك الحين، وبدا من الطبيعي أن ينتقلا بعد الزواج إلى منزل والدتها كي تتمكن الجدة من رعاية الأحفاد أثناء خروج الأم لعملها. وبدا من الطبيعي أيضا لوالدة الزوجة أن ترعى أسرة أخرى، ولأختها ماري أن تنتقل للعيش معهم في نفس المنزل بعد فقدان بصرها، وأن يظل ابنها فريد - الذي اتسم بخجله الشديد - معها في المنزل إلى أن يجد مكانا آخر يستريح فيه أكثر من هذا المنزل. كانت عائلة تتقبل شتى صور الأعباء بأقل قدر ممكن من التذمر. وفي الواقع، ما من أحد في ذلك المنزل تحدث من قبل عن إعاقة والد جيمي أو فقدان أخت الجدة ماري لنظرها كأعباء أو مشكلات تفوق مشكلة خجل فريد مثلا. وما كانت العلل والشدائد بالأمور الملاحظة بينهم، أو البارزة بمقارنتها بنقائضها.
ساد في تلك العائلة اعتقاد بأن جدة جيمي طباخة ماهرة؛ ولعل ذلك كان حقيقيا في وقت من الأوقات، لكن في الآونة الأخيرة كان هناك تراجع في هذه البراعة؛ فحرصت الجدة على الاقتصاد عند إعداد الطعام على نحو لم تعد العائلة بحاجة إليه آنذاك؛ فقد كانت والدة جيمي وخاله يحصلان على رواتب جيدة، وأخت جدته ماري كانت تحصل على معاش، وكان العمل يسير على نحو جيد أيضا في ورشة الدراجات؛ ومع ذلك، كانت الجدة تستخدم بيضة واحدة، بدلا من ثلاث بيضات، وتضيف إلى رغيف اللحم كوب شوفان إضافيا، وتحاول تعويض الأمر بطهي صوص ورسيسترشير جيد أو رش الكثير من جوز الطيب على الكاسترد. لكن ما من أحد تذمر، بل مدحها الجميع. فكاد ذلك المنزل يخلو من أي نوع من الشكوى على الإطلاق. واعتاد الجميع أيضا الاعتذار بعضهم لبعض، حتى الفتاتان الصغيرتان كانتا تعتذران إحداهما للأخرى إذا اصطدمتا خطأ. مرر الجميع الطعام للآخرين، ورضي كل منهم بما قدم له، وتبادلوا عبارات الشكر على المائدة كما لو كان هناك ضيوف معهم كل يوم. هكذا سارت الحياة في ذلك المنزل المكتظ بالسكان الذي تكومت فيه الملابس على كل حامل، وتعلقت المعاطف على درابزين السلم، وأعدت الأسرة النقالة دوما في غرفة الطعام لجيمي وخاله فريد. هذا فضلا عن اختفاء البوفيه تحت أكوام من الملابس في انتظار كيها أو إصلاحها. ولم يكن أحد يحدث ضوضاء بصعوده أو نزوله السلم، أو يغلق الأبواب بقوة، أو يرفع صوت المذياع، أو يتفوه بأي كلمة سيئة.
لكن هل يفسر ذلك عدم إفصاح جيمي عما حدث ذلك اليوم عند تناوله الغداء مع عائلته؟ في الواقع، لم يفصح أي من الصبية الثلاثة عما حدث. ومن اليسير فهم السبب في حالة سيسي؛ فما كان والده ليتقبل أبدا ادعاء جيمي هذا الاكتشاف الخطير، وكان سيتهمه بلا شك بالكذب. ووالدته أيضا - التي كانت تحكم على كل شيء من منظور تأثيره على والده - كانت سترى - وستكون صائبة في ذلك - أنه حتى ذهاب سيسي إلى قسم الشرطة للإبلاغ عن الحادث سيتسبب في مشكلات في المنزل؛ ومن ثم، كانت ستطلب منه عدم الإفصاح عما رآه. لكن الصبيين الآخرين كانا يعيشان في أسرتين تتسمان بالعقلانية إلى حد بعيد، وبوسعهما الإفصاح؛ ففي منزل جيمي، كانت القصة ستسفر عن ذعر وبعض الاستنكار، لكن أسرته كانت ستقر في النهاية أن ما حدث لم يكن لجيمي يد فيه.
أما باد، فكانت أختاه ستتهمانه بالجنون، وربما تحرفان الأمر ليبدو أن اكتشافه لجثة رجل ما أمر يليق به وبعاداته الكريهة؛ بيد أن والده كان عقلانيا وصبورا واعتاد سماع الكثير من الهراء العجيب في عمله بوصفه وكيل شحن في محطة القطار؛ ومن ثم، كان سيسكت أختيه، وبعد التحدث معه بجدية بعض الوقت للتأكد من أنه لا يكذب ولا يبالغ، كان سيتصل بالشرطة.
لكن ما حال دون تحدث الصبية الثلاثة هو أن منازلهم بدت ممتلئة للغاية، وثمة أمور كثيرة تحدث فيها. ولا يستثنى من ذلك منزل سيسي؛ فحتى في ظل غياب والده، يسود المنزل دوما شعور بالتهديد وذكرى وجوده وما يصاحبه من اهتياج. ••• «هل أبلغتهم؟» «هل فعلت أنت؟» «لم أبلغهم أنا أيضا.»
Bilinmeyen sayfa