الإهداء
كلمة
كلمة نقد
كلمة المؤلف في الطبعة الأولى
من النفس إلى النفس
مقدمة الطبعة الثالثة
المحاضرة الأولى
المحاضرة الثانية
المحاضرة الثالثة
أخبار الملاح
تأثير ابن أبي ربيعة في شعراء اللغة العربية
الملح والفكاهات
الإهداء
كلمة
كلمة نقد
كلمة المؤلف في الطبعة الأولى
من النفس إلى النفس
مقدمة الطبعة الثالثة
المحاضرة الأولى
المحاضرة الثانية
المحاضرة الثالثة
أخبار الملاح
تأثير ابن أبي ربيعة في شعراء اللغة العربية
الملح والفكاهات
حب ابن أبي ربيعة وشعره
حب ابن أبي ربيعة وشعره
تأليف
زكي مبارك
يا ابني أخي! لقد كنت موكلا بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه.
عمر بن أبي ربيعة المخزومي
الإهداء
إلى الوالد الكريم الشيخ عبد السلام مبارك
ما زلت أمرح في نعمى وعافية
من نيلك الجزل أو من رأيك الحسن
وأسهر الليل في علم وفي أدب
أبغي رضاءك عن قصدي وعن سنني
وأستقل لأجل الفضل ما سمحت
به الليالي لأهل الفضل من محن
حتى بلغت بجدي بعض ما طمحت
إليه نفسي كما يرجوه لي وطني
فاليوم أهديك ما أبدعت من أثر
أبقى على الزمن الباقي من الزمن
ولدكم زكي مبارك
27 فبراير سنة 1919
كلمة
من كان بطبعه ميالا إلى الحرية في الفكر، والاستقلال في الرأي، وكان مع ذلك محبا للإنصاف، راغبا في الاعتدال فليقرأ هذا الكتاب، فإنه ينمي فكرته، ويقوي شخصيته، ويزيده بصرا بالنقد، وعلما بالشعر، ويهديه السبيل إلى فهم الأدب، والحكم على الشعراء.
وجدير بمن نظر فيه أن يكمل علمه، ويكبر عقله، لما عرف به الأستاذ زكي مبارك من سلامة الذوق، وأصالة الرأي، وما امتاز به من بعد النظر، ودقة الملاحظة، مع ما له من رشاقة الأسلوب، ومتانة التركيب، إلى غير ذلك من الميزات التي تجعلنا نأمل كثيرا أن يكون هذا الابن البار إماما من أئمة الأدب، وعظيما من عظماء الأمة.
جعله الله قدوة لشبابنا العاملين، وأبنائنا الناهضين، والسلام.
مصطفى القاياتي
1
25 فبراير سنة 1919
هوامش
كلمة نقد
لحضرة الباحث الكبير الدكتور طه حسين
أقول هذا كله بعد أن فرغت من قراءة رسالة صغيرة، ولكنها قيمة ممتعة، للدكتور زكي مبارك خريج الجامعة المصرية، تناول فيها شعر عمر بن أبي ربيعة، فدرسه من بعض نواحيه درسا حسنا يسرني أن أهنئه به، ويسرني أيضا أن أنتهز هذه الفرصة لتسجيل ما للجامعة المصرية من فضل على عقول الشباب. ولكن الدكتور زكي مبارك وهو شاب حاد الشباب عنيفه، أسرف في نقد مصعب بن عبد الله إسرافا جعله إلى الظلم أقرب منه إلى الإنصاف، وليس مصدر هذا الإسراف إلا أنه لم يقدر كما ينبغي اختلاف المثل الأدبية باختلاف العصور والأجيال، وما أحسب إلا أنه عائد إلى هذا النقد، فملطف ما فيه من حدة ومزيل ما فيه من جور.
حديث الأربعاء ج2 ص142
كلمة المؤلف في الطبعة الأولى
هذه المحاضرات ألقيت في فبراير سنة 1919 في الجامعة المصرية على أنها دروس تمرين، وكنت لقيت من إعجاب الأستاذ الدكتور أحمد ضيف والأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار، والأستاذ الشيخ مصطفى القاياتي ما حبب إلي ظهورها في كتاب يتناوله عشاق الآداب، ثم لم أكد أشرع في طبعها حتى كانت النهضة المصرية، فكتب الله لنا أن نمت بسبب إلى الذائدين عن مصر والسودان، ثم اعتقلت مدة غير قليلة أنكرت فيها كل ما يوحي به الشباب! ثم عدت من المعتقل، ونظرت ثانية في تلك الصحائف المطوية، فرأيت فيها أثرا من آثار الثقة بالنفس، وعز علي أن لا يجد نسيم الشباب فضاء يملؤه بالعزيمة والثبات.
وإني لموقن أن في الناس من لا يطرب لهذا النحو من البيان، ولكني لم أكتبه إلا لمن قدر له أن يدرك أسرار الجمال، وهدى الله من يحسب أن التأليف لا يصلح إلا في الأبحاث التي تشبه بعض الأذهان في الجمود! ولعلي أجد من الشجاعة الأدبية ما أعيد به طبع هذا الكتاب مع ما سيقال فيه من مدح وهجاء! وإني لأرحب بكل كلمة فيها نفحة من النقد المبني على فهم وإدراك، فمن شاء أن ينشر له شيء من ذلك في الطبعة الثانية، فليبعث به إلي لأعرض على الناس طائفة من العقول! وكل امرء بما كسب رهين! •••
وإني أقدم الشكر الخالص من شوائب العقوق لأساتذتي في اللغة والأدب: الشيخ سيد المرصفي، ومحمد بك المهدي، والشيخ علي عبد الرازق، والشيخ مصطفى القاياتي، والدكتور أحمد ضيف.
1
هوامش
من النفس إلى النفس
«في كتاب «البدائع» كلمة للمؤلف في نقد هذا الكتاب، رأينا إثباتها هنا ليرى القارئ كيف تعز سيئات الكاتب عليه فلا يمحوها، وإنما يعتذر عنها برفق ليسوغ لها البقاء.»
في فبراير سنة 1919 ألقيت ثلاث محاضرات في الجامعة المصرية عن حب ابن أبي ربيعة وشعره، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد ضيف، وقد طبعت هذه المحاضرات بعد إلقائها بقليل، ويرى الناظر في تقدمة الكتاب هذه الكلمة الجريئة:
وإني لموقن أن في الناس من لا يطرب لهذا النحو من البيان، ولكني لم أكتبه إلا لمن قدر له أن يدرك أسرار الجمال! وهدى الله من يحسب أن التأليف لا يصح إلا في الأبحاث التي تشبه بعض الأذهان في الجمود!
وقد نفذت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وستظهر الطبعة الثانية عما قريب، من أجل هذا أسبق النقاد إلى بعض المآخذ التي أراني مضطرا إلى إبقائها، إجلالا للثقة بالنفس، وإكبارا لنزق الشباب! انظر قول ابن أبي ربيعة:
أبرزوها مثل المهاة تهادى
بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا
عدد الرمل والحصا والتراب
أتدري كيف علقت على هذه الأبيات الحسان؟ اقرأ الكلمة الآتية:
ووجه الحسن في تحيير ماء الشباب أنك تنظر إلى الخدود الموردة، فتراها كالشفق تتنقل من تحته الشمس، أو كالمشكاة يتموج في قلبها المصباح.
في سبيل الحب تلك النظرة! يوم رأيته وقد أبل من حمى أضرعته، فرأيت ماء الشباب يدب في تلك الخدود وهي صفراء كالورس، فيعيدها حمراء كالورد، وإذا الأنس يتمشى في فؤادي لشفائه، تمشي البرء في أعضائه.
وهذا استطراد لا يشك القارئ في أنه غير محمود، ولكني أستغفر الله!
وفي موطن آخر يجد القارئ هذه الكلمة:
لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيب أخذ في البكاء عليه، والحنين إليه، تلك سبيل الشعراء المفجعين، الذين كانت قلوبهم أعوانا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصاما لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلا ظليلا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ما له من وارف الظلال، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف، والعقود في النحور، وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينا في شعره، وما كان مسكينا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما ألمت نفسه، ولا دمعت عينه؟ بعدا للذلة حتى في الحب؟ وتبا للمسكنة حتى في الغرام!
وهذه صورة نفسية قد لا يقتضيها موضوع الحديث، ولكن هذا الذي كان! ويرى القارئ في هامش الصفحة الثانية عن ترجمة الشيخ حسين الحكيم ما نصه:
وكان - رحمه الله - آية الآيات في حسن الخلق، وصباحة الوجه، وأصالة الرأي، وحلاوة الحديث، وكان لا يعدله عندي غير شقيقي «سيد مبارك» الذي فقدته معه في أسبوع واحد، وكان موتهما معا بالحمى الإسبانية، لا رد الله لها غربة، ولا قدر لها رجعة، وكان أخي سيد من أقوى الفتيان بأسا وأمضاهم عزيمة، ولو عاش لضربت بشجاعته الأمثال.
وقد سألني بعضهم عما يعني القارئ من هذا التفصيل؟ فأجبته: إنه يعني مؤلف الكتاب!
ويرى القارئ هذه الكلمة عن عواطف أهل الحضر:
وقلما يصدق للحضريين حب، أو تبقى لهم صبابة، إذ يرون من متمات الظرف، ومكملات الأدب، أن يحيا الرجل بعين باكية، وقلب خفاق، فلا يزالون يتلمسون الهوى ويتحسسون الصبابة، حتى تتاح لهم أسبابها، وتساق إليهم همومها.
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل
وهذه مسألة فيها نظر كما يقولون! •••
ولا أستطيع أن أعد ما في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» من الهفوات، ولكني أحمد الله على أني وفقت إلى تصوير ابن أبي ربيعة وتمثيل حياته، حتى كأنك تراه.
مقدمة الطبعة الثالثة
صار جدا ما مزحت به
رب جد جره اللعب
إي والله! فقد كنت ألهو وألعب يوم كتبت ما كتبت عن ابن أبي ربيعة منذ تسع سنين، وأنا طالب بالجامعة المصرية، وليس معنى هذا أنني كنت أتخذ الحب والجمال سبيلا إلى العبث والمجون، كلا! فقد كان الجمال كما فهمته في ذلك الحين محرابا تخشع في مصلاه القلوب، ولكن معناه أنني كنت أقبل على الحب والحسن إقبال الغافل، الذي لا يدري ما تكن خمائل الأزهار من عاديات الأفاعي وقاتلات الصلال.
ولقد أذكر - والنفس تأكلها الحسرة على سذاجة تلك الأيام الخالية - أنني قلت في أول محاضرة ألقيتها عن ابن أبي ربيعة: «إن الحب نفحة من نفحات النبوة»، ثم أخذت أقيم على ذلك الأدلة والبراهين، فعارضني جماعة من المستمعين على رأسهم صديقي الأستاذ الشيخ عبد الجواد رمضان، فلما كانت المحاضرة الثانية كنت قد أخذت الأهبة للدفاع عن تلك النظرية، وكان صديقي قد استقدم طائفة من زملائه علماء الأزهر لمعاونته إذا جد الجد واحتدم النضال، فما هي إلا أن قلت: «أيها السادة! لقد أسلفنا في المحاضرة الماضية أن الحب نفحة من نفحات النبوة»، حتى انفجر الأشياخ دفعة واحدة مطالبين بوقف هذا الهراء، فتدخل الأستاذ الدكتور أحمد ضيف، وأبان لهم في رفق ودعابة أن الحب «كلام فارغ»، وأنني على خطأ فيما أقول مبين، وأشار إلي بتخطي هذه الفكرة، وطي كل حديث فيه نبوة وأنبياء، حتى لا يثور القوم من جديد!
وكذلك عرفت لأول مرة بفضل تلك المعارضة العنيفة، أن الحب مهما سمت أغراضه لا يجد من القوة ما يدفع به عدوان الجامدين الذين يحسبون الفضل كل الفضل أن يحيا الرجل بقلب مغلق متبلد، لا يفقه معنى الحب، ولا يدرك أسرار الجمال، فعدت إلى ما كتبته عن الحب والنبوة، فمحوته كما يمحى الضوء من تجاليد الليل، وأقبلت على نفسي أعدها للجد الصراح الذي يكبح غمزات اللازمين، ويردع لمزات اللائمين.
ولكن كيف وقد صار الحب في نفسي أخطر أنواع الجد، وعدت أرى الجمال الإنساني أروع ما في الوجود، واستطعت أن أقول في مقدمة «مدامع العشاق»، وأنا أقيم الدليل على أن الإنسان لباب الطبيعة وسرها المكنون:
وما قيمة الليل إن لم تظلني في الحب ظلماؤه؟ وما قيمة البدر إن لم يذكرني بالثغر لألاؤه؟ وما جمال الأغصان إن لم تهزني إلى ضم القدود؟ وما حسن الأزهار إن لم تشقني إلى لثم الخدود؟ وكيف أميل إلى الظباء لو لم تشبه بعيونها وأجيادها ما للحسان من أعناق وعيون؟ وكيف أصبو إلى غنة الغزال لولا ذكرى تلك النبرات العذاب التي يسمونها: السحر الحلال؟
وما أنس لا أنس أن كتاب «مدامع العشاق» أثار علي رجلا، هو منذ سنين على رأس الحياة العقلية في مصر والشرق، وأن أستاذي الدكتور طه حسين كتب عنه فصلا في جريدة السياسة فنالني بملام عنيف، وكنت جديرا بالانصراف عن هذا النحو من البحث؛ ترضية لتلك النفوس النبيلة، التي تشفق علي من ظلمات الإفك وحنادس البهتان.
ولكن كيف وقد صار الحب مرضا عضالا لا يرجى له برء ولا شفاء، وأصبحت وأصدق ما أحدث به عن نفسي كلمتي إلى صديقي الأستاذ أنيس ميخائيل حين أقول:
أرجو أن تعلم أن إدماني على الاغتباق بما أودع الله الليل من سحر يتمثل في بدره المشرق، أو ظلامه المسدول، والاصطباح بمطالعة ذلك الكتاب الخالد كتاب الوجود، ودرس ما فيه من غرائب الملاحة وبدائع الجمال، أحب أن تعلم أن هذه الحياة الوجدانية، التي يحياها رجال الأدب طائعين أو كارهين، توقد الحس وتلهب الخيال، حتى ليصبح القلب في سعير من الظمأ، وهو يسبح في كوثر من النعيم، ومن هنا تجد من لا يزال يشكو ويعتب وهو في ظل من النعمة ظليل. وكذلك أحسب أن الطبيعة مدينة لإعجابي وإحساسي بما فيها من زهرة تتفتح أو غصن يميد، وأراني صاحب الفضل على كل عين ترنو وكل قد يميس، وقد يلح الإسراف ويلج الطغيان، فأنكر أن يكون غذائي في هذه الدنيا من الخبز والماء، وتمتد عيناي إلى انتهاب ما عز واستعصم من أسالة الخدود، ورشاقة القدود، وتسمو نفسي إلى اقتناص ما ند من شوارد المنى وأوابد الآمال، ويتمرد قلبي كلما أحس سانحة تتمنع، أو قناة لا تلين. ولو شاء الحسن لبطش بمن لا يؤمنون بأن له وحده العزة والجلال، وصعق من لا يسبحون له في الغدو والآصال، ولكن حاشاه أن ينفرني من رياضة وأنا شاعره ومجنون ليلاه، أو يذودني عن حياضه، وأنا حارسه والساهر على حماه.
إذن لا مفر من العودة إلى ابن أبي ربيعة، أوصف الشعراء لربات الحجال! ولكن كيف نعود إليه؟
الأمر يسير! ألم تنفذ الطبعة الثانية من كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره»؟ فلنطبعه من جديد، وفي هذا كفاية لمصافحة شاعر الحب والجمال؛ ولننتهز هذه الفرصة لنتكلم جادين أو مازحين عن العشق والصبابة والحسن والصباحة، ولنقلب هذه الكلمات على جميع وجوهها، ولنطل فيما تتصل به من جد القول وهزله، وحلوه ومره، ولنجل صدأ النفس بتصريف هذه البضاعة التي سمعت غير مرة أنها نوع من اللغو، وضرب من الهراء، وأنها شغل من لا شغل له من كل فارغ الرأس دقيق الإحساس! حسن! فلنكتب على بركة الله، أو على وجه الحب مقدمة للطبعة الثالثة!
ولكن ماذا نقول؟ لا بد من جديد، فإن قراء اليوم لهم نيات أشد تعقيدا من ضمائر الوشاة، ولهم أبصار أحد من عين الرقيب!
وبينا أنا أعد نفسي لكتابة هذه المقدمة مرت بي حوادث خطيرة، زادتني ثقة بأن بني آدم كأنما خلقوا؛ ليبغي بعضهم على بعض، وليكون أشرارهم حربا لأخيارهم، ولتكون كرائم الخلال من المودة والوفاء والإخلاص براقع يلبسونها؛ ليخفوا ما فطر عليه لئامهم من الغل والحقد، وما درجوا عليه من الإثم والبغي والعدوان.
وكذلك أمضيت ثلاثة أسابيع أفكر في أناس سقيتهم الشهد فسقوني العلقم، وأصفيتهم الود فأصلوني نار الجحود! والآن أستطيع أن أتقدم إليك أيها القارئ بشيء جديد! أتدري ما هو؟
أستطيع أن أقول لك: إن هذه الحياة أغلى وأثمن من أن تضيع في معاشرة حاسد لئيم العم والخال، أو محاورة غبي قد رأسه من الظلمة، وصيغ عقله من الهباء، أو مصافحة صديق يتجنى عليك وهو يعلم أنك في طهر الملائكة، ونبل الأنبياء. وستقول: أهذا جديد؟ ألم يقل به فريق من الفلاسفة قبل اليوم ؟
وأجيبك بأن ابن أبي ربيعة نفسه جهر بما يشبه هذه الدعوة، والمتنبي زاد عليها حين قال في السخر من ملاحة الملاح:
مما أضر بأهل العشق أنهم
هووا وما عرفوا الدنيا ولا فطنوا
تفنى عيونهم دمعا وأنفسهم
في إثر كل قبيح وجهه حسن
تحملوا حملتكم كل ناجية
فكل بين علي اليوم مؤتمن
ما في هوادجكم من مهجتي عوض
إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن
فليكن هذا جديدا علي وحدي أيها القارئ، ولأكتف بالابتهال إلى الله أن يهبك من البصر بالطبائع والخلائق ما يحول بينك وبين السكون إلى ورد يحلو يوما ليمر أعواما، والإخلاد إلى نفوس تصفو لحظة لتكدر دهرا، والرضا عن حظوظ هي في رأي العين مطامع وأهواء، وفي نظر العقل مصائب وأرزاء!
إذن، لم يكن إدماني على كأس الحب شرا كله، ولا إسرافي في رعاية الحسن إثما كله، بل أستطيع بعد اليوم أن أعد غوايتي هدى، وأن أحمد الله على أن جعل لي في ظلال الحسن مقيلا أنسى فيه لفحات الأسى، ولذعات الأشجان.
ولكن أين مواسم ابن أبي ربيعة؟ أين مناسك الحج حيث تعرض نفائس الجمال، وروائع الحسن، وغرائب الملاحة من الحجاز والشام والعراق؟ الله كريم، كما يقول الأتراك!
فإنه حين خلق الطرف الجامح، والقلب الخافق، أنشأ بجانبهما في كل بقعة وفي كل زمان، ملاعب للغيد ومراتع للظباء!
هو إذن رأي أدين به، وأذهب إليه، فلست والله سيئ القصد، ولا أسود الغرض، ولا أنا ممن يعيثون في الأرض ويهتكون الحرمات، فليطمئن أساتي المشفقون علي من تقول المفترين، وتزيد المعتدين، فقد صممت منذ زمان على أن أساير الفطرة، وأجاري الطبيعة، وأن أقف حيث يقفني وحي الواجب، وصوت الضمير، وإن الموت لأحب إلي من أكون رجلا يقال له: كن فيكون!
فإن عشت صافحت الثريا وإن أمت
فإن كريما من تضم الصفائح
وبعد فقد رأيت أن أضيف إلى هذه الطبعة فصولا عن حب ابن أبي ربيعة وشعره، أفصل بها بعض ما أجملت في تلك المحاضرات الثلاث، فأثبت رائيته التي أعجب بها ابن عباس مصحوبة بالشرح والتفسير، وأترجم مصعب بن عبد الله الذي انفرد بين القدماء بتقديم مزايا شعره إلى الجمهور، وأتحدث عن معشوقاته اللائي أضرمن في قلبه نار الحب، وهدينه إلى سواء النسيب، وأذكر بعض الفكاهات التي اتصلت به وجرت مجرى الأمثال.
غير أني أحب أن أنتهز هذه الفرصة لأعرض لك رأيي في إيثار الأدب المكشوف، إذ كنت واثقا من أنك سترى في جملة هذا الكتاب ما أخشى أن تتحرج منه، أو تتنكر له، مع أن الأدب كالفن يجب أن يسمو عن الأوضاع والتقاليد، حتى لا يفتر ويضوى بوضعه تحت رحمة المتزمتين من رجال الدين، ورعاية المتحرجين من دعاة الأخلاق.
ألا ترى أنك لو عمدت إلى امرأة جميلة فصورتها وهي في لباس المصرية، أو الفارسية، أو التركية، أو الإنجليزية، أو الألمانية لكان لذلك اللباس أثر سيئ في وضع تلك الصورة في حدود ضيقة، تحبسها حيث يليق ذلك الزي ويقبل ذلك الهندام؟ ولكنك لو صورتها عريانة حيث صاغها الحسن، ورسمها الدلال لبقيت «إنسانة» تروق الإنسانية في جميع البقاع.
ولأمر ما وضع الأقدمون «فينوس» عارية الجسم، غانية عن الحلي واللباس! إنهم وضعوها كذلك لتبقى منية الأفئدة، ونهبة العيون، في جميع الممالك، وعلى اختلاف الأجيال.
وكذلك الأدب يسمو بقدر ما يتحرر من قيود الزمان والمكان، فالقصيدة أو الرسالة التي تعبر عن معنى من المعاني الإنسانية أبقى على الدهر من التي تعبر عن نزعة مصرية أو إنجليزية، فإن النزعات الموضعية عرضة للتغير والزوال، ولكن الميول الإنسانية جديرة بالخلود، والأدب المستور إنما يغشى بالحجب المحلية التي لا ندري أتبقى سائغة مقبولة، أم يعدو عليها البدع المستطرف فيلقي بها في مهاوي الخمول؟
ولقد ظن الناس، حين شاهدوا المناظرة التي قامت بين الأستاذ سلامة موسى والأستاذ توفيق دياب، أن هذه أول مرة يختلف فيها أدباء اللغة العربية في المفاضلة بين الأدب المستور والأدب المكشوف، ولكن الواقع أن هذه المسألة بعينها كانت مثار الجدل عند المتقدمين تحت اسم آخر هو الخصومة بين من يوجبون أن يكون الكلام جدا كله، وبين من يؤثرون أن يمزج حيث يقتضي الحال بشيء من الدعابة والمجون.
ولو عدنا إلى رجال الأدب في تلك العصور التي نهضت فيها اللغة العربية، ولفتت أنظار العالم في الشرق والغرب إلى ما فيها من عناصر القوة وأصول الحياة، لوجدنا أكثرهم من أنصار الأدب المكشوف، فهذا أبو الفرج الأصبهاني يودع كتاب «الأغاني» كل ما عرض له من أخبار الخلفاء والشعراء والكتاب بعبارة حرة صريحة مكشوفة، لا يثقلها قيد ولا يحجبها قناع، وهذا النويري يكتب نهاية الأرب بحرية خالصة لا يشوبها تحرج، ولا يحدها تنسك، وهذا الجاحظ يأبى أن يحرم القارئ من ثمار اطلاعه التي جمعت ما تفرق من شهوات العقول، وهذا الثعالبي يفرط في تصيد ما شرد من روائع الملح والفكاهات، ونوادر الساسة والملوك، ولا ننس ابن منظور الذي أشعر الناس بأنه جبار أهل الجد حين وضع لسان العرب، ثم رجع فراعهم بدعابته حين وضع أخبار أبي نواس.
على أنه من الخير أن نقدم للقارئ بعض ما يقوله هؤلاء الأفذاذ في إيثار الأدب المكشوف، ولنكتف بقول ابن قتيبية في مقدمة «عيون الأخبار»:
وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة، وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه، أو تضحك له، فاعرف المذهب فيه وما أردنا به.
واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك، فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وأن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل عليه معك.
وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو فاحشة، فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب، وأكل لحوم الناس بالغيب، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم «من تعزى بعزاء أهل الجاهلية، فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا.» وقال أبوبكر الصديق رضي الله عنه لبديل بن ورقاء حين قال للنبي
صلى الله عليه وسلم
إن هؤلاء لو قد مسهم حز السلاح لأسلموك: «اعضض ببظر اللات، أنحن نسلمه؟» وقال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: «من يطل أير أبيه ينتطق به.» وقال الشاعر في هذا المعنى بعينه:
فلو شاء ربي كان أير أبيكم
طويلا كأير الحارث بن سدوس
قال الأصمعي: كان للحارث بن سدوس أحد وعشرون ذكرا. وقيل للشعبي: إن هذا لا يجيء في القياس، فقال: أير في القياس، الولد ذكر.
وليس هذا من شكل ما تراه في شعر جرير والفرزدق؛ لأن ذلك تعيير وابتهار في الأخوات والأمهات، وقذف للمحصنات الغافلات، فتفهم الأمرين وافرق بين الجنسين، ولم أترخص لك في إرسال اللسان بالرفث على أن تجعله هجيراك على كل حال، وديدنك في كل مقال، بل الترخص مني فيه عند حكاية تحكيها أو رواية ترويها، تنقصها الكناية ويذهب بحلاوتها التعريض، وأحببت أن تجري في القليل من هذا على عادة السلف الصالح في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسه الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت، وثلموا أديانهم وتورعت.
ومن هذه الكلمة نرى ابن قتيبة يقيد الأدب المكشوف بقيد واحد؛ هو أن لا يكون «تعييرا وابتهارا في الأخوات والأمهات، وقذفا للمحصنات الغافلات.» ونراه ينهى عن أن يكون ذلك النوع ديدن الكاتب وهجيراه، ويحصره في المواطن التي تنقصها الكناية، ويذهب بحلاوتها التعريض، وكذلك يرى اليوم أنصار الأدب المكشوف، فهم لا يريدون أن يفرغوا للهزل والعبث، وإنما يريدون أن يعطوا كل مقام حقه من الحلاوة والمرارة، أو الشدة واللين. •••
أشرت إلى أن من رجال الأدب من عمل وهو كاره على إيثار الأدب المكشوف، ذلك بأن الجد المطلق ينافي طبيعة الحياة، فلا يحسب أنصار الأدب المستور أنهم يستطيعون المضي إلى النهاية في ذلك الطريق، فقد أراد صاحب «زهر الآداب» أن يصون كتابه عن ذكر طائفة من الشعر الصريح، ولكنه غلب على أمره في مواطن كثيرة، فأباح ما لم يكن يبيح من فنون اللهو والمجون.
خطر له مرة أن يتكلم عن التضمين، فضرب المثل بمن قلب قول النابغة: «كالأقحوان غداة غب سمائه»، فقال في الهجاء:
1
يا سائلي عن جعفر عهدي به
رطب العجان وكفه كالجلمد
كالأقحوان غداة غب سمائه
جفت أعاليه وأسفله ندى
ومع أننا لا نسيغ هذا الضرب من الكلام، فقد وصفه بأنه «جاء مليحا في الطبع، مقبولا في السمع.»
وأراد مرة أخرى أن يتكلم عن محاسن الجواري السود، فساق قصيدة ابن الرومي في جارية عبد الملك بن صالح، وفيها هذه الأبيات في وصف محاسنها الباطنة:
2
لها حر يستعير وقدته
من قلب صب وصدر ذي حنق
كأنما حره لخابره
ما ألهبت في حشاه من حرق
يزداد ضيقا على المراس كما
تزداد ضيقا أنشوطة الوهق
3
وفي موطن آخر ذكر قول ابن الرومي يصف هن امرأة:
4
يسع السبعة الأقاليم طرا
وهو في إصبعين من إقليم
كضمير الفؤاد يلتهم الدن
يا وتحويه دفتا حيزوم
وساقه الكلام عن تأصل الشاعرية في صدور العرب إلى الفكاهة الآتية:
5 «قال أعرابي لشاعر من بني الفرس: الشعر للعرب، فكل من يقول الشعر منكم فإنما نزا على أمه رجل منا، فقال الفارسي: وكذلك من لا يقول الشعر منكم فإنما نزا على أمه رجل منا!»
وأراد أن يذكر ألفاظ أهل عصره في محاسن النساء، فرأى من تتمة البحث أن يورد أيضا ألفاظهم في محاسن الغلمان، وأتى في هذا الباب بطائفة من التعابير المختارة التي تهيج الحواس، وتوقظ ما خمد من نزوات الرءوس،
6
وقد أخذ يبدئ ويعيد في هذه المعاني كلما سنحت له الفرصة وساقه الحديث، حتى لنعد من أعف ما رواه قول أبي نواس:
ومنتظر رجع الحديث بطرفه
إذا ما انثنى من لينه فضح الغصنا
إذا جعل اللحظ الخفي كلامه
جعلت له عيني لتفهمه أذنا
وإنما قدمت للقارئ هذه الشواهد من زهر الآداب؛ ليرى كيف فعل أحد المؤلفين المتحرجين الذين يفرقون بين ما يباح وما لا يباح، وها نحن أولاء نرى ذلك المؤلف لا يستطيع الصبر على تقييد الأدب بما تتأثر به الأذواق من الأوضاع والتقاليد، ولقد ذكرني ذلك باللوحات التي يراها الناظرون في حديقة لكسمبور وغابة بولونيا في باريس، ففي كل ركن لوحة فيها إنذار بالطرد لكل من يخرج على حدود الأدب والاحتشام، وفي كل مكان من تلك الملاعب قد يضم، وثغر يرشف، وحمى يباح! •••
وقد جاء في خطبة الأستاذ توفيق دياب أن الأدب لا يراد لذاته، وإنما هو وسيلة إلى الأخلاق، وأذكر أنه قال في شيء من الانفعال: فليسقط الأدب إن أضر بالأخلاق، ويغلب على ظني أن الأستاذ دياب لم يقل العبارة الأخيرة إلا مبالغة في الدفاع عن رأيه والدعوة إليه؛ لذلك أرجو أن يرى معنا أنه لا غنى للأمم الحية عن الآداب والفنون، بغض النظر عن قربها أو بعدها من الأخلاق، فلننظر معا برفق وبإخلاص إلى تأثير الدين والأخلاق في إخماد الآداب والفنون:
لا ينكر أحد، ولو أسرف في التكلف، أن تحريم الإسلام للتصوير جنى على الشعوب الإسلامية جناية عظيمة، وعطل مواهبها الفنية، وحشرها في زمرة المتخلفين عن فهم أسرار الجمال، ولا ينكر أحد، ولو أمعن في التعصب، أن تحطيم العرب للأنصاب والتماثيل التي كانت تفصح وتبين عن أساطير الأولين، إنما كان أثرا للتحرج الذي دعاهم إليه الدين، ولولا بقية من سلامة الذوق وصبابة من صدق الحس لما رأينا في الشعوب الإسلامية ميلا إلى روعة الفن، ولا كلفا بآثار المبدعين.
وسيسأل القارئ: وما الذي خسرناه بانصراف المسلمين عن النحت والتصوير؟ ونجيبه بأننا حرمنا بذلك من الوقوف على ميولهم وغرائزهم وسجاياهم، فلو تركهم الدين أحرارا في شرح ألوان حياتهم لرأينا كيف كانوا يلعبون وكيف كانوا يجدون، وكيف كانت تجيش بصدورهم هواجس المنى ونوازع الآمال، ولكنه قيدهم فلم يتركوا لنا إلا آثارا ضئيلة لا تكفي في كشف ما كانوا يضمرون.
ولقد أبيح لهم في سبيل الترغيب والترهيب أن «يتكلموا» عن نعيم الجنة وعذاب السعير، فتركوا لنا طائفة من الأماني والمخاوف تمثل ما كانوا يرجون ويرهبون، فعرفنا مثلا أنهم بحكم مركزهم الجغرافي الأول، قبل أن يخرجوا من جزيرة العرب كانوا من آلام الظمأ والجوع في كرب عظيم، ألا ترى كيف يذكرون أن أول ما ينعم به أهل الجنة هو الكوثر، والكوثر نهر عذب ينهل منه الوارد نهلة، فلا يظمأ بعدها أبدا، وعبارة «لا يظمأ بعدها أبدا» تمثل أقصى ما يتمناه البدوي في الصحراء، وقد لفحته السموم وصهرته الرمضاء، ولك أن تقول مثل ذلك فيما تحدثوا به عن عذاب القبر؛ إذ تراهم يتصورون المذنب، وقد أحدقت به الحيات والثعابين، وإنه لدليل على ما كانوا يقاسون في البادية من عنت الأفاعي والصلال.
افهم هذا أيها القارئ واستغفر الله لي ولك، فإن مناهج البحث الحديث لا تسمح بالوقوف عند معاني الحروف كما كان يفعل المتقدمون!
ولو عدنا إلى الشعر لرأينا أثر المتزمتين في إخماده كان غاية في الشناعة والقبح، فقد عرض النبي بالشعر وهاجم الشعراء متأثرا بعداوة من عاداه من شعراء قريش وشعراء اليهود، فكان من ذلك أن أسرف جمهور المسلمين في بغض الشعر والنيل من الشعراء، وقد سئل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أتقول الشعر في فقهك وورعك؟ فأجاب: لا بد للمصدور أن ينفث! وهذا الفقيه هو صاحب هذه الأبيات الرائعة:
شققت القلب ثم ذررت فيه
هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي
فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
ولا حزن ولم يبلغ سرور
وقد زعموا أن الإمام الشافعي قال:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد
وكذلك زعموا - قاتلهم الله - أن النبي لم يكن يقرأ بيتا من الشعر إلا كسره، وذلك غاية الإفك والبهتان، ولا يزال شيوخ الأزهر مختلفين في بدء الشعر بالبسملة؛ لأنه فيما يرون ليس من الأمور ذوات البال!
وهذا الاتجاه الذي تورط فيه الجمهور الإسلامي ضد الشعر أتاح لنا طائفة من الفكاهات، فقد قيل لابن سيرين: إن قوما يزعمون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، فأنشد:
لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا
ولو رضيت رشح استه لاستقرت
وقام يصلي! وقيل : بل أنشد :
أنبئت أن عجوزا جئت أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
وسئل ابن عباس: هل الشعر من رفث القول؟ فأنشد:
وهن يمشين بنا هميسا
إن تصدق الطير ننك لميسا
وقال: إنما الرفس عند النساء، ثم أحرم للصلاة! وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدا لا يشتهي النسيب؟ فقال: أما ممن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا!
ولولا خوف الإطالة لأريت القارئ كيف أثر التحرج في قتل سائر الفنون، فلأكتف بما أسلفت، ولأشر فقط إلى أن جناية التحرج لم تقف عند الأدب والفن، بل طغت على العلم أيضا، فقد كان الغزالي يكره التشريح؛ لأنه يذهب بفريق من العلماء إلى أن النفس تموت!
ولو أن الدين والخلق وقفا عند حدود العقل لخف الأمر وهان، ولكنهما صارا سنادا لكل ضعيف الحجة سقيم البرهان، فلنعلن حرية الآداب والفنون، وليرض من شاء بالجهالة يحرسها الدين وتحوطها الأخلاق!
زكي مبارك
مصر الجديدة 3 رمضان سنة 1346
24 فبراير سنة 1928
هوامش
المحاضرة الأولى
أيها السادة: في ضواحي سنتريس، حيث يحلو السمر، في ليالي القمر، وعلى شاطئ النيل هناك، حيث النجم والشجر، والماء والزهر في تلك البقعة المشتبهة الأزاهر، المشتبكة الجداول، حيث السواقي الشاديات، والطيور الصادحات، وتحت تلك الشجرة المعطفة الغصون، المهدلة الشعور، حيث أجلس في الضحى والظهيرة، مع الصحب والعشيرة، بجانب ذلك الطريق الجميل حيث تعدو السيارات الفاخرة، من القاهرة إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة، وحيث يمشي فضلاء سنتريس في الأصائل والعشيات، جماعات جماعات، يتناشدون الأشعار، ويتناقلون الأخبار.
هناك حيث أستظرف الجلوس مع أولئك الأمجاد، شجعان البلاد، أولئك الذين لم تخالط نفوسهم أوضار الحضارة، ولا سموم المدنية، ولم تفارق طباعهم أخلاق البداوة، ولا رسوم العصبية، أولئك الذين أجلس إليهم فيعود إلي ضلالي القديم، وعدواني الموروث فأتمدح بأجدادي الشجعان، وآبائي الأبطال، وأذكر ما شنوا من الغارات، في العصور الخاليات.
هناك حيث أقضي شطرا من الصيف، وجزءا من الخريف، بين خطاب أكتبه، أو جواب أقرؤه، وحبيب أساهره، أو أنيس أسامره، وعهد أحن إليه، أو عيش أبكي عليه.
ليالي النيل واللذات ذاهبة
وجدي عليكن أشجاني فأضناني
لو يرجع الدهر لي منكن واحدة
في سنتريس ويدني بعض خلاني
إذن تبين دهري كيف يرحمني
من ظلم همي ومن عدوان أحزاني
1
هناك، هناك جلست في بعض الأصائل مع الصديق الحميم: الشيخ حسين الحكيم
2
يحدثني وأحدثه عن الشاعر الغزل: عمر بن أبي ربيعة المخزومي.
وكذلك يميل الشباب إلى شعر الشباب، كما يرغب الكهول في أدب الكهول، فإن للشبيبة شعرا، وللكهولة شعرا، ولأدب الصبا في استطرافه أشياع وأتباع، كما لحكمة الشيخوخة في رزانتها أنصار وأعوان.
فلما قضينا بعض مآرب الشباب، من الجري في ميدان الخيال الساحر، وشرحنا بعض أهوائنا وميولنا في شخص ابن أبي ربيعة، وكانت الشمس قد جنحت إلى الغروب، ونسمات الأصيل قد مالت إلى الهدوء، وبدت لنا سنتريس وكأنها بسمة في فم الكون يضمرها إذا جن الظلام، فما نتبين منها غير المصابيح الزاهرة، في المغاني الساهرة، والأندية السامرة، لم نجد بدا من العودة إليها ومساهرة السامرين فيها.
ولأمر ما أراد صديقي الشيخ حسين أن يذهب إلى منزله في شمال البلدة، وأردت العودة إلى منزلي في جنوبها الشرقي، بيد أنا لم نكد نبتعد كثيرا حتى سمعته يقول: إذا عدت غدا فأحضر معك ديوان ابن أبي ربيعة، فقلت له مازحا: ومن ابن أبي ربيعة؟ فأجاب مسرعا: فتى قريش وشاعرها.
فأعجبت بجوابه، وسررت من بداهته، إذ علمت أن ابن أبي ربيعة مهما درسنا شعره، وحللنا شخصيته، فلن نجده إلا فتى قريش وشاعرها، وكذلك أريد أن أحدثكم عنه من هذه الناحية: فأشرح لكم فتوته وشعره، أو حبه ونسيبه. •••
أيها السادة: إن الغرض من هذه المحاضرات إنما هو البحث العلمي قبل كل شيء، والوصول إلى الحقيقة من أي سبيل، وهنا ألفت نظركم إلى أن العلم لا يكون دائما جافا، بل قد يكون أحلى من المنى، وأشهى من ثغور الحسان، فإنك إذا احتجت إلى شيء من الزهادة في العيش، والرغبة عن الحياة؛ لتفهم الجزء الثالث من كتاب «الإحياء» للغزالي، وإلى قسط من الارتياب؛ لتفهم حديث الملحد تيموكليس مع الراهب بافنيس، للفيلسوف أناتول فرانس ، فإنك أيضا في حاجة إلى شيء من الخلاعة، ونصيب من المجون؛ لتفهم الشاعر الفتى عمر بن أبي ربيعة.
وكذلك أدعوكم إلى استقدام هواكم: قديمه وحديثه، واستنهاض صبابتكم: طريفها وتليدها، حتى تفهموا هذا الشاعر الغزل، وتدركوا غرض هذا الماجن الخليع.
ولن تكونوا إذا فعلتم ذلك إلا باحثين عن الحقيقة، سائرين إليها عن طريق العلم، فإن أنواع العلوم تتطلب ألوانا من النفوس، بل الفن الواحد يتطلب أرواحا مختلفة، لفهم أدواره المختلفة، فليس الذي يفهم نسيب الأمراء ويطرب له؛ لأنه يساكن من يهوى، ويختلف إلى من يحب، بقادر على أن يفهم نسيب المشردين في الآفاق ممن أهدرت دماؤهم، وصودرت ميولهم. وليس الذي يعجب بقول كثير:
يكلفها الغيران شتمي وما بها
هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي
بعزة كانت غمرة فتجلت
3
بمستطيع أن يعجب بقول الآخر:
صفا ود ليلى ما صفا ثم لم نطع
عدوا ولم نسمع به قيل صاحب
فلما تولى ود ليلى لجانب
وقوم تولينا لقوم وجانب
وكل خليل بعد ليلى يخافني
من الغدر أو يرضى بود مقارب
فإذا رأيتموني أكثر من الأمثلة، وأعنى بإنشاد الشعر، فليس ذلك لإمتاع أفئدتكم، وإشباع أسماعكم فحسب؛ بل لأثبت في أذهانكم، وأمكن في قلوبكم صورة ذلك الشاعر الشاب، الذي قضت أيامه بأن لا تمتد إليه أيدي الرسامين والمصورين، فلم يبق لنا من معالم جماله، ومعاهد شبابه، إلا ما تركه في شعره، وخلاه في نسيبه، والشعر صورة الشعراء. •••
وبعد فهل كان ابن أبي ربيعة محبا صادق الحب، متين الصبابة؟ أم كان فتى مغرورا بشبابه، مفتونا بجماله، لا يأبه بالحب، ولا يخضع للغرام؟ وإذا لم يكن عاشقا ولا محبا، فكيف أجاد النسيب، وأبدع في التشبيب؟ وما هي ميزة شعره، التي بذ بها إخوانه، وفاق بها أقرانه؟
فأمامنا إذن مسألتان: الأولى حقيقة حبه، والثانية حقيقة شعره، وسنوفي الكلام عن أولاهما في هذه المحاضرة، ونرجئ الكلام عن أخراهما إلى المحاضرتين القادمتين، إن شاء الله.
أما حبه: فأنا أتهمه فيه، وأنكره عليه، وذلك لأمور:
أولا:
لأنه حضري لا بدوي، وقلما يصدق للحضريين حب أو تبقى لهم صبابة؛ إذ يرون من متممات الظرف، ومكملات الأدب، أن يحيا الرجل بعين باكية، وقلب خفاق، فلا يزالون يتلمسون الهوى ويتحسسون الصبابة، حتى تتاح لهم أسبابها، وتساق إليهم همومها.
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل؟!
وإذا رهب البدوي الحب، فقال: يتخوف عواقبه، ويتهيب جانبه:
فيا رب خذ لي رحمة من فؤادها
وحل بين عينيها وبين فؤادي
رأيت الحضري شرها طماعا، يود لو حشر الله إليه أهل الجمال أجمع فنال من الصبابة أقصاها، ومن المحبة أسماها، وينشد قول ابن الأحنف:
إن الهوى لو كان ين
فذ فيه حكمي أو قضائي
لطلبته وجمعته
من كل أرض أو سماء
فقسمته بيني وبي
ن حبيب نفسي بالسواء
فنعيش ما عشنا على
محض المودة والصفاء
حتى إذا متنا جمي
عا والأمور إلى فناء
مات الهوى من بعدنا
أو عاش في أهل الوفاء
كأن حتما على البدوي أن يخلد إلى القناعة في كل شيء، وعلى الحضري أن يعرف بالجشع في كل شيء.
ومن هنا تعرف كيف غلبت العفة على أولائك، وتطرق الفسق إلى هؤلاء، فإذا قلت للبدوي أنشدني شيئا من الشعر، فقلما يروقه غير جحدر وقد زج في السجن:
أليس الليل يجمع أم عمرو
وإيانا؟ فذاك لنا تدان
نعم وأرى الهلال كما تراه
ويعلوها النهار كما علاني
وإذ استنشدت الحضري شيئا من مختاره في النسيب، فقلما ينشدك غير قول ابن الفارض:
وإذا اكتفى غيري بطيف خياله
فأنا الذي بوصاله لا أكتفي
وذلك لما يختلف الفريقان في فهم معنى السعادة في الحب، فهي عند الأعراب لا تعدو مسامرة الأماني، ومسايرة الأحبة، وعند أهل الحضر: كل ما أمتع العين وال ... إلى غير ذلك مما يشتهون.
وإذا كان المال - وهو من معبودات الحضريين - يطلب بعضه للادخار وبعضه للإنفاق، فإن الجمال عندهم كذلك - إلا من عصم الله - فهم يعجبون بالعيون الكحيلة، والشعور المرسلة؛ ليمتعوا عيونهم بالنظر إليها وأفئدتهم بالتفكير فيها ، ثم لا تسأل بعد ذلك عن رأيهم في بقية المحاسن، فعهدي بهم يرجون الخد للتقبيل، والريق للارتشاف، وهكذا حتى يصل بهم الطمع إلى ما ترغب النفس عن ذكره، والتأمل في جدواه.
الحسن عند الحضريين أشبه شيء بجنة وردها جني، وزهرها ندي، يدخلها الزائر فلا يعجب منها بزهرة ذات بهجة، أو وردة ذات نضرة، إلا دعته أخرى أنضر منها وأصبح.
فإذا ذهب إليها يجتلي حسنها، ويتأمل شكلها، لفتت نظره ثالثة ورابعة، حتى يتصفح الحديقة بأكملها، ويقتلها نظرا وشما، والمرء يكلف بالحسن، ويغرم بالجمال.
فإذا عاد إلى قلبه، ورجع إلى نفسه؛ ليعرف أيها أعلق بخاطره، وأملك لوجدانه، حسبها هذه بل تلك، ثم يختلط عليه الأمر، فلا يدري أيها أحق بالرعاية، وأولى بالاحتفاظ، فينصرف وقلبه مسرور من البستان في جملته، غير مغرم بزهرة معينة من زهوره الحسان.
وكذلك يمشي الحضري في متنزهات الحواضر، فيرى من شتى الألوان في الحسن، ومختلف الأشكال في الملاحة، ما يملأ عينه، ويبهر قلبه، ثم يأوي إلى بيته خليا من الهوى بريئا من الصبابة، كأن لم يسمع وسواس الحلي، ولم ير لألاء الجبين.
وهب أن بين أولئك الفاتنات، من غلبت على قلبه، واستولت على لبه، أتراه يسلم في أيامه البواقي، من غادة أملح شكلا، وأحلى دلا، فتملك من بعدها قلبه، وتنفرد من دونها بهواه، وهو للحسن تبوع؟
ألا إن الحضري في حبه كمدمن الخمر، يصرع كل يوم مرة، فينسى بكأسه الأخرى كأسه الأولى.
والمرء ما دام ذا عين يقلبها
في أعين الغيد موقوف على الخطر
ولقد ذكروا أن كثيرا مشت أمامه امرأة ظريفة المشية، فتبعتها عينه، فالتفتت إليه، فعرض عليها حبه، فقالت: كيف ذلك وقد ضاع شعرك في عزة؟ فقال: يا سيدتي! قد كان ذلك تصنعا ورياء، ولئن أبحتني حبك، ومنحتني حسنك، لأسيرن في ذكرك الشعر، ولأضربن بحسنك الأمثال، فكشفت عن وجهها فإذا هي عزة، ثم قالت له: حسبك يا غادر! فبهت كثير وانصرف وهو خزيان نادم!
وكذلك كان ابن أبي ربيعة، فما قصر نفسه على امرأة ، ولا وقف حبه على فتاة، وإنما كان يتلمس الجمال بين مناسك الحج، ويتلقط الحسن في مسارح الظباء، فيغشى الرياض الزاهرة، عله يظفر بزهرة لا كالزهور، ويقصد الأندية السامرة، عساه يسمع حديثا عن بعض الآنسات الحور، بل ربما صد عمن تجزيه بالحب حبا، ورام من تجزيه بالقرب الصدود.
ولقد مر به فتيان وهو بالحجر يصلي، بعد أن صوح زهره، وتأود غصنه، وبعد أن سئم الغواية والفساد، وجنح إلى الهداية والرشاد، وبعد أن خلى الغرام جانبا، وأقبل على نفسه يحاسبها، وعلى ربه يستغفره، فلم يكد يقضي صلاته حتى هرع إليهما يتعرف خبرهما ويعرف أهلهما، فلما عرفهما وكانا أخوين، قال: يا ابني أخي: لقد كنت موكلا بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه. وليس بعجيب أيها السادة أن لا يصدق في حبه من يقول:
سلام عليها ما أحبت سلامنا
فإن كرهته فالسلام على الأخرى
ولا نريد بهذه الكلمة الغض من عواطف الحضريين ولا الطعن في كرامتهم، فقد يكون من بينهم من هو أصدق حبا، وأنقى عرضا، ولكنا نرى الشره في الحب، والطمع في الصبابة، من علائم التلون، ودلائل التقلب.
4
ليس في القلب موضع لحبيبي
ن ولا أحدث الأمور اثنان
فكما العقل واحد ليس يدري
خالقا غير واحد رحمن
فكذا القلب واحد ليس يهوى
غير فرد مباعد أو مدان
وكذا الدين واحد مستقيم
وكفور من عنده دينان
هو في شرعة المودة ذو شر
ك بعيد عن صحة الإيمان
وكذلك كان الحضريون مكذبين في عشقهم، متهمين في حبهم.
ثانيا:
كثر غروره بشبابه، وفتونه بجماله، وتحدثه بحب النساء له، وإقبالهن عليه، وقلما يكون المعشوق عاشقا، والمحبوب محبا، وقد رأيت في شعره عزة المعشوق، لا ذلة العاشق، وتيه المحبوب، لا خضوع المحب.
فتارة يذكر أنه أمنية محبوبته، وأمل معشوقته، كقوله:
ألمم بزينب إن الركب قد أفدا
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
5
قد حلفت ليلة الصورين جاهدة
وما على المرء إلا الحلف مجتهدا
6
لأختها ولأخرى من مناصفها:
لقد وجدت به فوق الذي وجدا
7
لو جمع الناس ثم اختير صفوتهم
شخصا من الناس لم أعدل به أحدا
وقوله:
وإنها حلفت بالله جاهدة
وما أهل له الحجاج واعتمروا
ما وافق النفس من شيء تسر به
وأعجب العين إلا فوقه عمر
وأخرى يتمدح بعتبها عليه، وتوددها إليه، كقوله:
فما أنس من ود تقادم عهده
فلست بناس، ما هدت قدمي نعلي
عشية قالت والدموع بعينها:
هنيئا لقلب عنك لم يسله مسل
لقد كان في إقراضك الود غيرنا
وفعلك ناه لي لو ان معي عقلي
فهذا الذي في غير ذنب علمته
صنيعك بي حتى كأنك ذو ذحل
8
هل الصرم إلا مسلمي إن صرمتني
إلى سقم ما عشت أو بالغ قتلي
9
وحينا يفخر بدموعها المرفضة لبعده، المنهلة لهجره، كقوله:
تقول وعينها تذري دموعا
لها نسق على الخدين تجري
ألست أقر من يمشي لعيني
وأنت الهم في الدنيا وذكري؟
أمن سخط علي صددت عني
حملت جنازتي وشهدت قبري؟
وآخر يصف نفسه بالجمال اليوسفي، فيقول:
قلن: هذا الذي نلومك فيه
لا تحجي من قولنا بفتيل
فصليه فلن تلامي عليه
فهو أهل الصفاء والتنويل
وإنه ليغرب أحيانا في الصلف، ويمعن في التيه؛ فيقول مثلا:
قالت على رقبة يوما لجارتها:
ما تأمرين؟ فإن القلب قد تبلا
10
وهل لي اليوم من أخت مواسية
منكن أشكو إليها بعض ما عملا؟
فراجعتها حصان غير فاحشة
برجع قول ولب لم يكن خطلا
11
لا تذكري حبه حتى أراجعه
إني سأكفيكه إن لم أمت عجلا
فاقني حياءك في ستر وفي كرم
فلست أول أنثى علقت رجلا
12
صدت بعادا وقالت للتي معها:
بالله لوميه في بعض الذي فعلا
وحدثيه بما حدثت واستمعي
ماذا يقول ولا تعيي به جدلا
حتى يرى أن ما قال الوشاة له
فينا لديه إلينا كله نقلا
وعرفيه به كالهزل واحتفظي
في غير معتبة أن تغضبي الرجلا
فإن عهدي به والله يحفظه
وإن أتى الذنب ممن يكره العذلا
لو عندنا اغتيب أو نيلت نقيصته
ما آب مغتابه من عندنا جذلا
ويقول أيضا في الحديث عن بعض الواجدات به:
لقد حليتك العين أول نظرة
وأعطيت مني يابن عم قبولا
فأصبحت هما للفؤاد ومنية
وظلا من النعمى علي ظليلا
فهذا كله دليل على أن ابن أبي ربيعة كان معشوقا لا عاشقا، ومطلوبا لا طالبا، وأن النساء كانت تقع عليه كما يقع النحل على الزهر، والطير على الشجر.
ثالثا:
كثرت دعوى ابن أبي ربيعة توحيد حبه، وإفراد غرامه، فيقول في ليلى:
لقد أرسلت في السر ليلى تلومني
وتزعمني ذا ملة طرفا جلدا
13
تقول: لقد أخلفتنا ما وعدتنا
ووالله ما أخلفتها طائعا وعدا
فقلت مروعا للرسول الذي أتى:
تراه - لك الويلات - من أمرها جدا
إذا جئتها فاقر السلام وقل لها:
ذري الجور ليلى واسلكي منهجا قصدا
تعدين ذنبا أنت ليلى جنيته
علي! ولا أحصي ذنوبكم عدا
أفي غيبتي عنكم ليال مرضتها
تزيدينني ليلى على مرضي جهدا؟!
فلا تحسبي أني تمكثت عنكم
ونفسي ترى من مكثها عنكم بدا
ألا فاعلمي أني أشد صبابة
وأصدق عند البين من غيرنا عهدا
غدا يكثر الباكون منا ومنكم
وتزداد داري من دياركم بعدا
فإن تصرميني لا أرى الدهر قرة
لعيني ولا ألقى سرورا ولا سعدا
فإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
14
ويقول في الرباب:
أرسلت تعتب الرباب وقالت:
قد أتانا ما قلت في الإنشاد
قلت: لا تغضبي فداؤك نفسي
ثم أهلي وطارفي وتلادي
إن تعودي تكن تهامة داري
وبنجد إذا حللت معادي
أنت أهوى إلي من سائر النا
س ذريني من كثرة التعداد
ويقول في عبدة:
أعبدة ما ينسى مودتك القلب
ولا هو يسليه رخاء ولا كرب
ولا قول واش كاشح ذي عداوة
ولا بعد دار إن نأيت ولا قرب
وما ذاك من نعمى لديك أصابها
ولكن حبا ما يقاربه حب
فإن تقبلي يا عبد توبة تائب
يتب ثم لا يوجد له أبدا ذنب
أذل لكم يا عبد فيما هويتم
وإني إذا ما رامني غيركم صعب
وأعذل نفسي في الهوى فتعقني
ويأصرني قلب بكم كلف صب
وفي الصبر عمن لا يواتيك راحة
ولكنه لا صبر عندي ولا لب
وعبدة بيضاء المحاجر طفلة
منعمة تصبي الحليم ولا تصبو
ولست بناس يوم قالت لأربع
نواعم غر كلهن لها ترب:
ألا ليت شعري فيم كان صدوده
أعلق أخرى أم علي به عتب؟
ويقول في زينب:
15
أحدث نفسي والأحاديث جمة
وأكبر همي والأحاديث زينب
إذا طلعت شمس النهار ذكرتها
وأحدث ذكراها إذا الشمس تغرب
ويقول في أسماء:
لم يحبب القلب شيئا مثل حبكم
ولم تر العين شيئا بعدكم حسنا
ما إن نبالي إذا ما الله قربكم
من كان شط من الأحباب أو قطنا
16
فإن نأيتم أصاب القلب نأيكم
وإن دنت داركم كنتم لنا سكنا
إن تبخلي لا يسلي القلب بخلكم
وإن تجودي فقد عنيتني زمنا
ويقول في هند:
ولقد قلت إذ تطاول هجري:
رب لا صبر لي على هجر هند
رب قد شفني وأوهن عظمي
وبراني وزادني فوق جهدي
ليس حبي لها ببدعة أمر
قد أحب الرجال قبلي وبعدي
جعل الله من أحب سواكم
من جميع الأنام نفسك يفدي
ويقول في النوار:
لا أبالي، إذا النوى قربتكم
فدنوتم، من حل أو من سارا
والليالي إذا نأيت طوال
وأراها إذا دنوت قصارا
ويقول في عمرة:
إحدى بني أود كلفت بها
حملت بلا ترة لنا وترا
والله ما أحببت حبكم
لا ثيبا خلقت ولا بكرا
وأظهر من كل ما تقدم قوله في عثمة:
ما خنت عهدك يا عثيم ولا هفا
قلبي إلى وصل لغيرك فاعلمي
ولا يمكن أيها السادة أن تكون كل هذه الدعاوى صحيحة، فإن كذب بعضها كان دليلا على كذب البواقي، فهو إذن محتال ماهر يقسم لكل غانية يمينا، والغواني سريعة التصديق.
17
رابعا:
قد جاء في شعره ما يدل على أن النساء عرفن فيه التلون، وعهدن منه التقلب، فمن ذلك قوله:
عجبا ما عجبت مما لو أبصر
ت خليلي ما دونه لعجبتا
لمقال الصفي: فيم التجني
ولما قد جفوتني وهجرتا؟
في بكاء، فقلت: ما الذي أب
كاك؟ قالت فتاتها: ما فعلتا
ولوت رأسها ضرارا وقالت
إذ رأتني: اخترت ذلك أنتا
حين آثرت بالمودة غيري
وتناسيت وصلنا ومللتا
قلت لي قول مازح تستبيني
بلسان مصدق إذ حلفتا
عاشري فاخبري فمن شؤم جدي
وشقائي عوشرت ثم خبرتا
فوجدناك إذ خبرنا ملولا
طرفا لم تكن كما كنت قلتا
وتجلدت لي لتصرم حبلى
بعدما كنت رثه قد وصلتا
فاذكر العهد بالمحصب والود
الذي كان بيننا ثم خنتا
18
ولعمري ما ذا بأول ما عا
هدتني يابن عم ثم غدرتا
فحرام علي أن لا تنال الد
هر مني غير الذي كنت نلتا
19
قلت: مهلا عفوا جميلا، فقالت:
لا وعيشي ولو رأيتك متا
ويقول في الحديث عن بعض معشوقاته:
قالت وقد جد رحيل بها
والعين إن تطرف بها تسجم:
إن ينسنا الموت ويؤذن لنا
نلقك إن عمرت بالموسم
إنك والله لذو ملة
يصرفك الأدنى عن الأقدم
ويقول أيضا في الحديث عن بعضهن:
قالت لآنسة رداح عندها
كالرئم في عقد الكثيب الأيهم:
هذا الذي منح الحسان فؤاده
وشركنه في مخه والأعظم
علمي به والله يغفر ذنبه
فيما بدا لي ذو هوى متقسم
طرف ينازعه إلى الأدنى الهوى
ويبت خلة ذي الوصال الأقدم
وقد كثر شعره في هذا المعنى، حتى لقد يذكر شتمهن له، وعتبهن عليه، كقوله:
وقالت: حلت عن عهدي وودي
جديد ما حييت لكم يسير
وطاوعت الوشاة وزرت من لم
يزرك وقد تبين لي الختور
ولم ترع الوداد كما رعينا
وبانت منك لي عمدا أمور
ولم تجز القروض ولم تثبها
وأنت لكل صالحة كفور
وقد أقر نفسه بالتلون، وصرح بالتقلب، في قوله:
لعمري لقد كان الفؤاد مسلما
صحيحا فأمسى لا يطيق لها هجرا
فجازى ودودا كان قبلك في الهوى
دءولا فقد أورثته السقم والضرا
أفي الحق أن حكمتم فحكمتم
صوابا فما أخطأتم الظلم والكفرا
وأين هذا أيها السادة من قول مضرس بن قرط المزني:
ولو تعلمين العلم أيقنت أنني
ورب الهدايا المشعرات صدوق
أذود سوام الطرف عنك وماله
إلى أحد إلا عليك طريق
فإن كنت لما تخبريني فاسألي
وبعض الرجال للرجال رموق
سلي هل قلاني من خليل صحبته
وهل ذم رحلي في الرحال رفيق؟
وهل يجتوي القوم الكرام صحابتي
إذا اغبر مخشي الفجاج عميق
فيا ليت شعري - وقد بينت لكم كذبه في الحب - ما هي الميزة التي سما بها شعره، وسار بها ذكره؟ وما هو السر في أن سحر شعره النساء، وآمن به الشعراء؟
هوامش
المحاضرة الثانية
أيها السادة: بينا في المحاضرة السالفة أن ابن أبي ربيعة لم يكن صادق الحب، ولا متين الصبابة، وأنه كان هتاكا للحرائر، فتاكا بالأوانس، ساعده على ذلك شبابه الرائع، وجماله الفاتن، وثروة طائلة كان من شأنها أن يتسع وقته لمداعبة الغيد، وملاعبة الحور.
وما كان بنا أن نطيل القول في ذلك، لولا ما نعرفه ونؤمن به من أنه لا يصح الحكم على شعر شاعر، أو نثر ناثر، إلا بعد الوقوف على دقات قلبه، وخطرات فؤاده، وقد علمنا مما سلف مبلغ ابن أبي ربيعة من الحب، ونصيبه من الصبابة، ولم يبق إلا أن نذكر ما يجب أن يكون لشعره من ميزة، ولأسلوبه من طابع؛ وفقا لحالته النفسية، وميوله الشخصية، وأن نبين أثر تلونه في حبه، وتلاعبه في عشقه، وكيف كان ذلك داعيا إلى أن يكون لشعره صفة تميزه عن غيره، وتفضله عما عداه.
غير أني لم أشأ أن أكشف الغطاء عن ذلك، وأميط اللثام عنه، إلا بعد أن أبين لكم كيف فهمه الناس من قبلنا، وكيف كان حكمهم على شعره وتقديرهم لأدبه؟ فإني إذا فعلت ذلك فبينت بعدهم من الصواب، وانحرافهم عن الجادة، كنت جديرا بأن أقول: إني عملت عملا جديدا، وأحدثت أثرا جميلا، وابتدعت بدعة حسنة، وسلكت في فهم ابن أبي ربيعة سبيلا لم يسلكه الناس من قبل. نعم، وكنت جديرا بأن أخطئ من يقول: لا جديد تحت الشمس، وأن أكون نصيرا للداعين إلى الجديد تتميما للقديم.
أعمل ذلك وأسعى إليه، وأنا أحترم أدب الأسلاف وفكرهم، مع اعتقادي أن كل شيء في الكون قابل للتهذيب، مفتقر إلى التكميل، وأن السبعين صحيفة التي كتبها صاحب «الأغاني » عن ابن أبي ربيعة لم تكن لتفهمنا حقيقته، وتعرفنا شخصه؛ إذ كانت موضوعة على غير نظام مبنية على غير أساس، وأن بنوتنا لأسلافنا وتبعيتنا لهم لا يحولان بيننا وبين تكميل ما لم يكملوه، وتهذيب ما لم يهذبوه، فإن للولد - وإن يكن سر أبيه - قلبا يفقه به، وعينا يبصر بها، غير قلب أبيه وعينه، وليس للوالد مهما عظم أمره، وجل قدره، أن يضطر ابنه إلى الحكم على الأشياء كما يحكم هو عليها. كما لا ينبغي للولد مهما أخلص في بنوته، وصدق في بره، أن يعق الطبيعة فيما أهدته من نظر ومنحته من تدبير. •••
أيها السادة: قد علمت أن ابن عباس سمع شعر ابن أبي ربيعة واستحسنه، وأن قائلا قال له: الله الله يا بن عباس! فإنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الدين فتعرض؛ ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفها فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفها! فعلمت من ذلك أن ابن أبي ربيعة شاعر مستجاد الشعر، غير أن الشعراء كثير، فمن هو من بينهم؟ وما سبيله التي سلكها؟ وما هو الإبداع الذي عرف به؟
وبلغني أن الفرزدق سمع شيئا من تشبيب ابن أبي ربيعة، فقال: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه. فلم أفهم من هذا شيئا، ولم أدر ما الذي يدل عليه اسم الإشارة في قوله: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته؟
وبلغني أيضا أنه كان بالكوفة رجل من الفقهاء يجتمع الناس إليه فيتذاكرون العلم، وأنه ذكر يوما شعر ابن أبي ربيعة في مجلسه فهجنه، فقالوا له: بمن ترضى حكما؟ ومر بهم حماد الراوية، فقال: قد رضيت هذا، فقالوا لحماد: ما تقول فيمن يزعم أن عمر بن أبي ربيعة لم يحسن شيئا؟ فقال: أين هذا؟ اذهبوا بنا إليه، قالوا: نصنع به ماذا؟ فقال: ننزو على أمه لعلها تأتي بمن هو أمثل من عمر! فعلمت أن ابن أبي ربيعة شاعر اختلف الناس في تقديره، وأن بعض أعدائه اعتمدوا في النيل منه على الفحش والسباب .
وسمعت أيضا أن العرب كانت تقر لقريش بالتقدم عليها في كل شيء إلا الشعر؛ فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها شيئا، فلم أفهم من هذا أيضا إلا أنه شاعر مجيد، رفع من شأن قومه، وأكمل مجد آبائه.
وربما سمعت من طريق آخر أنه محب، فأقول: ومن هو في المحبين، فإن الحب درجات؟ أو ناسب متغزل، فأقول: ومن هو في المشببين، فإن للنسيب مذاهب؟ •••
وكذلك ما زلت أسمع من أخبار ابن أبي ربيعة، وأقرأ من وصف الناس له، ما يبعدني عن فهمه، والحكم على شعره، حتى رأيت حديثا مسهبا لبعض العلماء المتقدمين فيما ابتكره ابن أبي ربيعة من نادر المعاني، وابتدعه من جديد الأغراض، حديث علمي، أراد به كاتبه - عفا الله عنه - أن يعلم الناس كيف يعتسفون في فهم الأدب، ويضلون في تقدير الشعراء: حديث طويل بيد أنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، حديث خادع، ظن صاحب «الأغاني» أنه يكرم الأدب بذكره، ويمتع الأدباء بنقله، فلم يغفل منه كلمة، ولم يغادر منه حرفا.
وقد رأيت أن أنقل لكم ذلك الحديث وأناقشه؛ حتى تعلموا أي ضرر يعود على قارئ تلك الكتب، إن لم يكن من أهل الحكم، وممن يميز الخبيث من الطيب، وحتى تعرفوا خطأ أولئك الذين يدرسون الأدب في بيوتهم، وبعد الفراغ من أعمالهم، ظنا منهم أنه علم كمالي بسيط، يكفي في فهمه ودركه أن يكون للمرء مكتبة يرجع إليها، ويروض الفكر فيها، ثم يبيحون لأنفسهم بعد ذلك أن يؤلفوا في الأدب، وأن ينقدوا الكتاب والشعراء!
نعم، وحتى يعلم الناس جميعا أن لا حياة للأدب، ولا بقاء للغة، إن لم ننظر في حياة غيرنا الأدبية، فنعرف الفرق بين أدبنا وأدبهم، وكيف نبهوا بعد خمولهم، ونشطوا بعد فتورهم، وما هي السبل التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه، حتى نصل نحن كذلك، فإنا لا نريد أن نفخر بأجدادنا ونحن دونهم، ولا أن نعيش في ظلهم كما عاش آباؤنا في ظلهم، بل نريد أن تكون لنا ثروة أدبية، وتراث فكري، وأن نحيا في أنفسنا، وبأنفسنا، حياة طيبة خالدة، يتغنى بها الأبناء والأحفاد.
نقل صاحب «الأغاني» - وهو يترجم ابن أبي ربيعة - عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب أنه قال:
راق عمر بن أبي ربيعة الناس وفاق نظراءه وبرعهم بسهولة الشعر، وشدة الأسر،
1
وحسن الوصف، ودقة المعنى وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب، وحسن العزاء، ومخاطبة النساء، وعفة المقال، وقلة الانتقال، وإثبات الحجة، وترجيح الشك في موضع اليقين، وطلاوة الاعتذار، وفتح الغزل، ونهج العلل، وعطف المساءة على العذال، وأحسن التفجع، وبخل المنازل، واختصر الخبر، وصدق الصفاء، إن قدح أورى، وإن اعتذر أبرا، وإن تشكى أشجى، وأقدم عن خبرة، ولم يعتذر بغرة، وأسر النوم، وغم الطير، وأغذ السير، وحير ماء الشباب، وسهل وقول، وقاس الهوى فأربى، وعصى وأخلى، وحالف بسمعه وطرفه وأبرم نعت الرسل، وحذر، وأعلن الحب وأسره، وبطن به وأظهره، وألح وأسف، وأنتج النوم، وجنى الحديث وضرب ظهره لبطنه، وأذل صعبه، وقنع بالرجاء من الوفاء، وأعلن قاتله، واستبكى عاذله، ونفض النوم، وأغلق رهن منى وأهدر قتلاه، وكان بعد هذا كله فصيحا.
فهل رأيتم أغمض من هذا الكلام، وأقل وضوحا منه؟ وهل يحسن أن يجيب المرء بمثل هذا إذا سئل عن شعر ابن أبي ربيعة؟
اللهم إنك تعلم أني لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وأني لقيت عنتا في فهم هذا الحديث المبهم الغامض، وأني أخشى أن يتورط فيه من يشق عليه فهمه، ويصعب عليه دركه، فإن المؤلف نفسه قد شعر بغموضه، وأحس بإبهامه: فأطال في شرحه بالمثال.
ولنفرض أن هذا كلام واضح بين، فمن ذا الذي يستطيع أن يحمل ذاكرته ستا وأربعين صفة لشاعر واحد؟ وما كانت تكون الطامة لو ألفنا هذا النحو من الفهم في تقدير كتابنا وشعرائنا وحكمائنا؟ أكانت تتسع اللغة لهذه الألقاب العديدة، والمصطلحات الكثيرة؟ أم كان يتسع وقتنا لدراسة الفنون على هذا النحو في اختلاف أنواعها، وتباين أشكالها ؟ هيهات! ولشد ما تورط الكاتب في الخطأ، وأمعن في الضلال! •••
ولكن فلنترك تأنيبه جانبا، ولنعد إلى النظر في تلك الكلمة، ولنفهمها فهما يخول لنا الحكم عليها، حكما صارما لا يرد.
أليس معنى كلامه قبل كل شيء أن ابن أبي ربيعة انفرد بتلك الصفات كلها لم يشاركه فيها مشارك، ولم يزاحمه عليها مزاحم؟ وإلا فكيف بهر بها الناس، وفاق من أجلها النظراء؟ لا بد أن يكون غرضه ذلك وإلا كان خاطئا في حكمه، واهما في فهمه. نعم، يجب ألا يريد من تلك الصفات إلا أنها من خواص ابن أبي ربيعة، فإن ذلك هو موضوع الحديث، وما سل من أجله القلم، وإذن فلننظر أصدق أم كان من الكاذبين؟
وإني ألاحظ أولا أيها السادة: أن ذلكم المؤلف لم يدرس شعر ابن أبي ربيعة دراسة تمكنه من الحكم الصحيح، وتجعله قادرا على وضع الكلم في مواضعه، وأن يكون الشاهد وفقا لما يزعمه، وطبقا لما يدعيه؛ فقد رأيناه يمثل لدقة معناه وصواب مصدره بقوله:
عوجا نحي الطلل المحولا
والربع من أسماء والمنزلا
2
بجانب البوباة لم يعده
تقادم العهد بأن يؤهلا
3
وليس هذا بالكلام الرائع ذي المعنى الدقيق؛ وإنما هو شعر كان من أمره في التعقيد أن اختلف الناس في فهمه وتأويله؛ فقال إسحق بن إبراهيم: يعني أنه لم يؤهل فيعدوه تقادم العهد، وهو فهم سقيم، فإن المنزل الذي لم يؤهل حتى لا يخشى عليه تقادم العهد، ليس أهلا للتحية، ولا لتذراف الدموع، وقال بعض المدنيين: يحييه بأن يؤهل؛ أي يدعو له بذلك، وهو أنسب، وكان أولى لو مثل الكاتب لدقة المعنى وصواب المصدر بقوله:
أشارت بمدراها وقالت لأختها:
أهذا المغيري الذي كان يذكر
4
لئن كان إياه لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
قال أبو الحارث جميز: امرأته طالق إن كانت أشارت إليه بمدراها إلا لتفقأ بها عينه، هلا أشارت إليه بنقانق مطرف بالخردل، أو سنبوسجة
5
مغموسة في الخل، أو لوزينجة
6
شرقة بالدهن، فإن ذلك أنفع له، وأطيب لنفسه، وأدل على مودة صاحبته!
ونحن بالرغم من نقد هذا الأكول الشره، نرى ابن أبي ربيعة أبصر بمواقع الكلم؛ فإنه هنا لا يتحدث عن فتوته وشبابه، حتى يصف هدايا النساء له، وإقبالهن عليه، وإنما يذكر ما نالت من حسنه الأيام، وهدت من قواه الليالي، ألا ترونه يقول بعد ذلك:
فقالت: نعم لا شك غير لونه
سرى الليل يحيي نصه والتهجر
7
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
قليلا على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
وهذا ولا شك أدق معنى وأصوب مصدرا مما ذكره صاحبنا من قبل في بيان رأيه، وتأييد مذهبه. ثم مثل لصدقه الصفاء بقوله:
كل وصل أمسى لديك لأنثى
غيرها وصلها إليها أداء
كل أنثى وإن دنت لوصال
أو نأت فهي للرباب الفداء
وعندي أن هذا الشعر يدل على الكذب أكثر مما ينم على الصدق، وما قيمة الصدق في حبه، والحب في قلبه، وهو يعرف غيرها ويصل سواها؟ ولو أنه نظر نظرة عميقة في شعر ابن أبي ربيعة لاهتدى إلى المثال الواضح، والشاهد البين في الدلالة على صدقه في الحب، وثباته في الغرام، وإليكم أحسن ما قال ابن أبي ربيعة في هذا المعنى، وقد وقف في بعض المناسك فأقبل النساء جماعات جماعات كأسراب الحمائم، وكن بالحج عابثات، وفي النسك لاعبات:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فأخذ الرجال يرشقونهن بالنظرات، ويصلونهن بالأماني: فيطيعون الهوى ويعصون الله، ويجيبون داعي الحسن ويعقون داعي النسك، كل ذلك وابن أبي ربيعة عفيف الطرف والقلب، لا خشية من الله، أو إجلالا للمنسك، ولكن طاعة للهوى، ونزولا عند حكم الصبابة، احتفاظا بود من يهوى، ورعيا لعهد من يحب، وفي ذلك يقول:
يقولون أني لست أصدقك الهوى
وأني لا أرعاك حين أغيب
فما بال طرفي عف عما تساقطت
له أعين من معشر وقلوب
عشية لا يستنكف القوم أن يروا
سفاه امرئ ممن يقال: لبيب
ولا فتنة من ناسك أومضت له
بعين الصبا كسلى القيام لعوب
8
تروح يرجو أن تحط ذنوبه
فآب وقد زيدت عليه ذنوب
وما النسك أسلاني ولكن للهوى
على العين مني والفؤاد رقيب
9
ومثل لحسن عزائه بقوله:
أألحق إن دار الرباب تباعدت
أو انبت حبل أن قلبك طائر؟
أفق فقد أفاق العاشقون وفارقوا ال
هوى واستمرت بالرجال المرائر
10
زع النفس واستبق الحياء، فإنما
تباعد أو تدني الرباب المقادر
11
أمت حبها واجعل قديم وصالها
وعشرتها كمثل من لا تعاشر
وهبها كشيء لم يكن أو كنازح
به الدار أو من غيبته المقابر
وكالناس علقت الرباب فلا تكن
أحاديث من يبدو ومن هو حاضر
12
وليس في هذا الشعر شيء من حسن العزاء، إنما هو تناس لمن يهوى، وتغاض عمن يحب، فكيف يحسب من الحسنات أو يعد من المبتدعات؟ ولعل خيرا منه في معناه، وأدل منه على الصبابة، قول شبيب بن البرصاء:
ألم تر أن الحي فرق بينهم
نوى يوم صحراء الغميم لجوج
13
نوى شطنتهم عن نوانا وهيجت
لنا حزنا إن الخطوب تهيج
14
فلم تذرف العينان حتى تحملت
مع الصبح أحفاض لهم وحدوج
15
وحتى رأيت الحي تذري عراصهم
يمانية تذري الرغام دروج
16
فأصبح مسرور ببينك معجب
وباك له عند الديار نشيج
17
فإن تك هند جنة حيل دونها
فقد يعرف اليأس الفتى فيعيج
18
وألاحظ أيضا أيها السادة أنه كرر بعض الصفات، فإنه قال: إن أعتذر أبرا، وأنشد في ذلك قوله:
فالتقينا فرحبت حين سلم
ت وكفت دمعا من العين ثارا
ثم قالت عند العتاب: رأينا
منك عنا تجلدا وازورارا
قلت: كلا لاه ابن عمك بل خف
نا أمورا كنا بها أغمارا
فجعلنا الصدود لما خشينا
قالة الناس للهوى أستارا
ثم قال: وطلاوة الاعتذار، وأنشد فيها قوله:
أرسلت إذ رأت بعادي ألا
يقبلن بي محرشا إن أتاه
دون أن يسمع المقالة منا
وليطعني فإن عندي رضاه
لا تطع بي فدتك نفسي عدوا
لحديث على هواه افتراه
لا تطع بي من لو رآني وإيا
ك أسيري ضرورة ما عناه
ولا فرق بين هذين الشعرين إلا أنه في أولهما يحدث عن نفسه، وفي ثانيهما عن حبيبته.
وكذلك ألاحظ أن قوله: «وقلة الانتقال، وإثبات الحجة، إن قدح أورى، وإن اعتذر أبرا، وإن تشكى أشجى.» كل هذه الصفات تؤدي إلى غرض واحد: هو استيفاء الموضوع، وإقناع المخاطب؛ فإنك تنظر إلى ما أنشده في قلة الانتقال، فلا تجد غير ما أنشده في إثبات الحجة: فكلاهما في محاورة اللائم ومراجعة العاذل.
على أن إسباغ الكلام، وتتميم الموضوع، يعدان من الميزات الأولية في الشعر العربي، فقد يتكلم الشاعر عن عدة أشياء في قصيدة واحدة، وهو مع ذلك يوفي كل موضوع حقه، ويعطي كل وصف قسطه. وهذا سويد بن أبي كاهل اليشكري، جعل قصيدته العينية صحيفة لتاريخه، وشرحا لأغراضه، حتى ليحسب القارئ أن ليس في استطاعة شاعر غيره، أن يبسط القول في مسألة واحدة بسطه فيها، ولا أن يبلغ غرضه من شيء ما بلغ منه، فلو أن شاعرا شاء أن يصف عدوا حسن الظاهر سيئ الباطن، لما زاد على قوله:
رب من أنضجت غيظا قلبه
قد تمنى لي شرا لم يطع
ويراني كالشجا في حلقه
عسرا مخرجه ما ينتزع
مزبد يخطر ما لم يرني
فإذا أسمعته صوتي انقمع
19
قد كفاني الله ما في نفسه
ومتى ما يكف شيئا لا يضع
بئسما يجمع أن يغتابني
مطعم وخم وداء يدرع
20
لم يضرني غير أن يحسدني
فهو يزقو مثلما يزقو الضوع
21
مستسر الشنء لو يفقدني
لبدا منه ذباب فنبع
22
صاحب المئرة لا يسأمها
يوقد النار إذا الشر سطع
23
ذرع الداء ولم يدرك به
ترة فاتت ولا وهيا رقع
24
وهذا من النعت الشامل، والوصف السابغ، وهو جزء من قصيدة كثرت أغراضها، وتشعبت فنونها، ولو كان بي أيها السادة أن أشرح لكم طريقة العرب في الوصف وسبيلهم في البيان، لكان لي مضطرب واسع، وميدان فسيح، ولكني أريد الآن أن أفهمكم فقط أن ابن أبي ربيعة ليس أول شاعر بسط القول، وهلهل الشعر، فليست أبياته التي يقول فيها:
خليلي بعض اللوم لا ترحلا به
رفيقكما حتى تقولا على علم
25
خليلي من يكلف بآخر كالذي
كلفت به يدمل فؤادا على سقم
26
خليلي ما كانت تصاب مقاتلي
ولا غرني حتى وقعت على نعم
27
خليلي حتى لف حبلي بخادع
موقى إذا يرمى صيود إذا يرمي
28
خليلي لو يرقى خليل من الهوى
رقيت بما يدني النوار من العصم
29
خليلي إن باعدت لانت وإن ألن
تباعد فلم أنبل بحرب ولا سلم
30
ليست هذه الأبيات - وهي التي أنشدها ذلكم المؤلف في إثبات الحجة - بشيء من جانب ما قالته جليلة بنت مرة، وقد اعتدى أخوها جساس على زوجها كليب فقتله، فمنعتها أخت كليب من الدخول في مأتمه. فأخذت تبين لها بشائق القول، وساحر البيان، مصيبتها في زوجها، وهمها على أخيها، وأنها أولى منها بالحزن، وأجدر بالشجي، وذلك قولها:
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت التي
عندها اللوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امرئ ليمت على
شفق منها عليه فافعلي
فعل جساس على وجدي به
قاصم ظهري ومدن أجلي
لو بعين غير عيني انفقأت
عيني اليمنى إذن لم أحفل
جل عندي فعل جساس فيا
حسرتي عما انجلت أو تنجلي
يا قتيلا خرب الدهر به
سقف بيتي جميعا من عل
هدم البيت الذي استحدثته
وبدا في هدم بيتي الأول
ورماني قتله من كثب
رمية المصمى به المستأصل
31
يا نسائي دونكن اليوم قد
خصني الدهر بأمر معضل
خصني قتل كليب بلظى
من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليوميه كمن
إنما يبكي ليوم بجل
32
درك الثائر شافيه وفي
درك الثائر قتل مثكلي
إنني قاتلة مقتولة
ولعل الله أن يرتاح لي
33
وذلك نفسه هو القصد للحاجة الذي جعلوه من مبتدعات ابن أبي ربيعة، ممثلين بقوله:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يمان
وألاحظ أيضا أيها السادة أن أكثر تلك الصفات من الأمور العامة التي لا تحدد معنى ولا ترسم طريقة، فما الذي أراده بسهولة الشعر، وشدة الأسر؟ وما الذي قصده من حسن الوصف؟ وما الذي عناه بفتح الغزل؟ ولقد تأملت الأمثلة التي ذكرها لتلك الصفات، فإذا هي أكثر منها غموضا؛ فقد مثل لحسن الوصف بقوله:
لها من الريم عيناه ولفتته
وغرة السابق المختال إذ صهلا
فما وجه الحسن هنا؟ إن كان في إحراز الصفات المختلفة للموصوفات المختلفة، فليس بالشيء الجديد، فلقد قال امرؤ القيس في وصف حصانه:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
34
وإن كان لروعته وبهائه، فما هو أيضا بالمبتدع، وخير منه قول الشنفرى:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
فلو جن إنسان من الحسن جنت
35
ومثل لفتح الغزل بقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وهو معنى مشهور، لا يصح أن يجعل دليلا على نبوغ شاعر، على أنه ينسب للأحوص، وكذلك رأينا فيما ذكره من تسهيله وتقويله، واختصاره الخبر، ودقة معناه وصواب مصدره، إلى غير ذلك من الأوصاف العامة والنعوت التي لم تحدد، فلم يبق إلا أن ننظر في الصفات التي يظن أنه ابتدع ما أفصحت عنه، وابتكر ما دلت عليه. •••
وإني قبل ذلك ألفت نظركم إلى أن تلك الصفات يرجع بعضها إلى المعنى، وبعضها إلى اللفظ، وشيء منها إلى الأسلوب. وأريد بالمعنى هنا الفكرة الأساسية، التي يعد الشاعر مبدعا لها إذا سبق بها، كما يقولون: أول من طرد الخيال طرفة بن العبد في قوله:
فقل لخيال الحنظلية ينقلب
إليها فإني واصل حبل من وصل
وأريد باللفظ الكلمة المستعملة أول مرة في التعبير عن معنى معروف، كما يقولون: أول من قيد الأوابد امرؤ القيس في قوله:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
36
يريدون أنه أول من عبر عن السرعة بهذا التعبير. فأما الأسلوب - وهو الطريقة المثلى في الأداء - فإني لا أريد مناقشة المؤلف فيما يتعلق به، فقد كان للعرب قبل ابن أبي ربيعة بأجيال أسلوب سام بديع، ما زال الناس يقتفون فيه أثرهم، ويترسمون خطاهم، على أن أكثر ما يتعلق بذلك من تلك الصفات منتقد مزيف، وقد أشرنا إلى شيء منه في الملاحظات السالفة، فليتأمله الراغب في الفهم، والجانح للبيان. فمن الصفات المعنوية عفة المقال، التي مثل لها بقوله:
طال ليلي واعتادني اليوم سقم
وأصابت مقاتل القلب نعم
حرة الوجه والشمائل والجو
هر تكليمها لمن نال غنم
وحديث بمثله تنزل العص
م رخيم يشوب ذلك حلم
هكذا وصف ما بدا لي منها
ليس لي بالذي تغيب علم
إن تجودي أو تبخلي فبحمد
لست يا نعم فيهما من يذم
وكان ذلك من خير ما يوصف به الشعر في الحب، وتنعت به أحاديث الصبابة؛ لولا أننا لا نعده حسنة للشاعر ولا منقبة للمحب، ما لم يكن من خواصه، ومما لا يعدل عنه، فكيف وابن أبي ربيعة متهتك في شعره، متطرف في نسيبه؟
على أن هذا الشعر وإن دل على عفة المحب، فإنه لا يدل على إغراب المحبوب في الصيانة، وإمعانه في التمنع، وخير منه قول الشنفرى في ظبية تسكن إلى أمها، وتنفر من محبها:
لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها
إذا ما مشت ولا بذات تلفت
تحل بمنجاة من اللوم بيتها
إذا ما بيوت بالملامة حلت
كأن لها في الأرض نسيا تقصه
على أمها وإن تكلمك تبلت
37
وما زال العرب يفتخرون بالعفة، ويتمدحون بالصيانة، فكيف يكون ابن أبي ربيعة مبتدعا للعفة في المقال، وقد عرفت من قبله في الفعال؟ ومما ابتدعه أيضا في زعمهم عطف المساءة على العذال في قوله:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي
إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني وأنت زينتها لي
أنت مثل الشيطان للإنسان
وهو خطأ في الفهم، فإن هذا معنى أوجدته حادثة خاصة، وليس كل عاذل بقواد، حتى يكون المعنى شاملا لكل لائم وعاذرا لكل ملوم، وقد وجد في كتاب الله من قبل، فلاسبيل لعده من المبتكرات، ولا لجعل صاحبه من المبدعين. •••
ثم قال: ومن إقدامه عن خبرة ولم يعتذر بغرة قوله:
صرمت وواصلت حتى عرف
ت أين المصادر والمورد
وجربت من ذاك حتى عرف
ت ما أتوقى وما أعمد
على أن وصل الغانيات ، والحظوة لديهن، قد لا يحتاج إلى قسط أوفر من الدهاء، ونصيب أكبر من السياسة، حتى يفخر الشاعر بالفوز فيه والظفر به، إنما يكبر المرء في عين النساء بفحولته، وبشبابه النضير، وغصنه الرطيب، وما منحته الطبيعة من ديباجة مشرقة ومحيا وسيم، فأما اللوام والعذال والوشاة، فهم أهون الناس عليه، وأصغرهم لديه، إن نال من حبه الكرامة، وحل في قلبه الشفيق.
ولهل البهاء زهير قلده في هذا المعنى: إذ جعل القواد المخنثين أشباها لسفراء الدول حين يقول:
فيا رسولي إلى من لا أبوح به
إن المهمات فيها يعرف الرجل
والمعنى أصله للنابغة في مدح بني غسان، وقد وضعه في موضعه وأقره في نصابه، وذلك قوله:
38
ولا يحسبون الخير لا شر بعده
ولا يحسبون الشر ضربة لازب
إذ كانوا لا يغفلون عن حراسة الخير، ولا يفترون في مدافعة الشر.
ثم قال: ومن تحذيره قوله:
لقد أرسلت جاريتي
وقلت لها: خذي حذرك
وقولي في ملاطفة
لزينب: نولي عمرك
فإن داويت ذا سقم
فأخزى الله من كفرك
فهزت رأسها عجبا
وقالت: من بذا أمرك
أهذا سحرك النسوا
ن قد خبرنني خبرك
وقلن: إذا قضى وطرا
وأدرك حاجة هجرك
ولست أرى في هذا الشعر ما ينبئ عن ابتداع، أو يدل على اختراع، فإن تحذير الرسول من الأمور الفطرية التي تخطر ببال أحدث الناس عهدا بالحب، وأقلهم علما بما يجني الوشاة.
على أن ذلك قد يكون من عيوب تلك القوادة التي كان ينبغي أن لا تحتاج إلى تحذير، فما يصح أن تكون جارية ابن أبي ربيعة غرة بلهاء، يدرك الناس ما تسعى له، فيعرفون من تمشي إليه، أو تخطئ فهم ما أرسلت به، فتخفق فيما سعت له.
فأين كانت - لا عفا الله عنها - تلك العجوز الشمطاء، والداهية الشعواء، التي كان يرسلها ابن أبي ربيعة إلى الظباء النوافر، والحسان الغرائر، فتسمعهن من حلو الحديث ومره، وصعب الكلام وسهله، ما يجعلهن إلى الفسق أميل، ومن الفحش أقرب، فيصبحن خليعات فاجرات، بعد أن كن عفيفات طاهرات؟!
أين كانت - لا كانت - تلك التي يقول فيها:
وأتتها طبة عالمة
تمزج الجد مرارا باللعب
39
تغلظ القول إذا لانت لها
وتراخي عند سورات الغضب
لم تزل تصرفها عن رأيها
وتأناها برفق وأدب
40
تلك التي ود الناس لو أتاحت لهم الأقدار خليفة في عقلها، أو أميرا في رأيها، والتي طلب الوليد من حماد أن يسعفه بمثلها، ويدركه بشبهها، حتى تعطف سلمى عليه، وتردها إليه.
ذلك ما أجاد ابن أبي ربيعة في وصف الرسل، فأما «التحذير» الذي عناه المؤلف، فهو ضرب من الخطأ، أو نوع من الفضول. •••
ثم قال: ومن قناعته بالرجاء من الوفاء قوله:
فعدي نائلا وإن لم تنيلي
إنه ينفع المحب الرجاء
وقد علمت مما أسلفناه أن ابن أبي ربيعة لم يكن ممن يرضى في حبه باليسير من الوصل، والقليل من القرب، حتى تعد من ميزاته القناعة، ومن خصائصه العفاف. وأين هذا البيت في حسنه من قول جميل:
وإني لراض من بثينة بالذي
لو ابصره الواشي لقرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
ولا تحسبوا أيها السادة أن هناك فرقا بين الشعرين في المعنى حتى تستبعدوا المقارنة، فإن المؤلف - فيما أظن - لم يشأ إلا التنويه بقناعة الشاعر، والتغني بعفافه، بدليل قوله بعد ذلك: هذا أحسن من قول كثير:
ولست براض من خليل بنائل
قليل ولا أرضى له بقليل
وقد شاء أن يخطئ في الآخرة والأولى؛ فإن ابن أبي ربيعة يتكلم عن محبوبه، وكثير يتكلم عن خليله، وقد يرضى المرء بظلم حبيبه ولا يرضى بجور صديقه، فقد يصدف الحبيب دلالا، ويعرض الصديق ملالا، والصب عن حبه صفوح، وربما نوقش الصديق.
فأما ما أسدل ابن أبي ربيعة من الحلل الجديدة الفاخرة، على المعاني القديمة الباهرة، وما تندر به من التراكيب الطريفة المخترعة، والتعابير الحديثة المبتدعة، فإنا نرحم الأدب من أن يعجب بها كاتب فيزين بها نثره، أو يخدع بها شاعر فيجمل بها شعره، إذ كانت في جملتها من الاستعارات الفاسدة، والمجازات المردودة، مما ينبو عنه الطبع، ويمجه الذوق السليم، فما حسن إنكاح النوم في قوله:
حتى إذا ما الليل جن ظلامه
ونظرت غفلة كاشح أن يعقلا
واستنكح النوم الذين نخافهم
وسقى الكرى بوابهم فاستثقلا
خرجت تأطر في الثياب كأنها
أيم يسيب على كثيب أهيلا
41
وعلى أي وجه تجري هذه الاستعارة، ومن أي سبيل يجوز هذا المجاز؟ إن هذا إلا اختلاق.
ولست أدري لم لم يفتن الكاتب أيضا بما أبدع ابن أبي ربيعة من تشبيه الحسناء وهي تتثنى، بالحية وهي تتلوى؟! فهو أيضا تعبير مخترع، وتشبيه مبتدع، لا يقل عن إنكاح النوم في السماجة، ولا ينقص في الفضول؟ وإنهم ليعجبون أيضا بقوله:
في خلاء من الأنيس وأمن
فشفينا غليلنا واشتفينا
وضربنا الحديث ظهرا لبطن
وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
فمكثنا بذاك عشر ليال
فقضينا ديوننا واقتضينا
وذلك أنهم يزعمون أنه أول من ضرب الحديث ظهرا لبطن، من غير أن يبينوا ما يراد بذلك البدع الجديد!
ويستجيدون أيضا قوله:
حبكم يا آل ليلى قاتلي
ظهر الحب بجسمي وبطن
ليس حب فوق ما أحببتكم
غير أن أقتل نفسي أو أجن
وهو من الخطأ في التعبير، فإن الحب حين تبدو علائمه من الأرق والسهاد، والنحول والذبول، لا يقال عنه: بطن وظهر، وإنما يقال: ظهر منه ما كان خفيا، وبدا ما كان مستورا، وقد يستبعدون أن يكون الأسى الظاهر، تمثالا للجوى الباطن، كأن ما يبدو بالجسم من شحوب وبالوجه من لغوب، إنما هو شرر تطاير من لهيب القلب، وسعير الفؤاد. وإن تعجب فعجب قوله:
ليس حب فوق ما أحببتكم
غير أن أقتل نفسي أو أجن
كأن لم يقتل الحب من أحد، ولم يصرع به إنسان! •••
وإني أيها السادة - على ما أغربت في نقد ذلكم المؤلف - أرى من الإنصاف أن أعزز رأيه في كلمة اختارها في طلاوة الاعتذار، وأخرى في تحيير ماء الشباب، وثالثة في صدق الصفاء. فأما الأولى فهي قوله:
عاود القلب بعض ما قد شجاه
من حبيب أمسى هوانا هواه
أرسلت إذ رأت بعادي ألا
يقبلن بي محرشا إن أتاه
42
دون أن يسمع المقالة منا
وليطعني فإن عندي رضاه
لا تطع بي - فدتك نفسي - عدوا
لحديث على هواه افتراه
لا تطع بي من لو رآني وإيا
ك أسيري ضرورة ما عناه
ما ضراري نفسي بهجران من لي
س مسيئا ولا بعيدا ثراه
43
واجتنابي بيت الحبيب وما الخ
لد بأشهى إلي من أن آراه
والحق أقول: إن إعجابي بهذه الأبيات، ليس لما فيها من طلاوة الاعتذار - كما ذكر ذلك المؤلف - بل لما فيها من الجرأة في الخروج على الوشاة، ومن ذا الذي يقرأ قوله:
لا تطع بي من لو رآني وإيا
ك أسيري ضرورة ما عناه
ثم لا يعطي العدو أذنا غير واعية، وفؤادا غير أواب؟ أم من ذا الذي يسمع قوله:
ما ضراري نفسي بهجران من لي
س مسيئا ولا بعيدا ثراه
واجتنابي بيت الحبيب وما الخ
لد بأشهى إلي من أن أراه
ثم لا يطير إلى حبيبه؛ لينعم بجماله، ويظفر بوصاله؟ وأما الكلمة الثانية فهي قوله:
أبرزوها مثل المهاة تهادى
بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا
عدد الرمل والحصا والتراب
ووجه الحسن في تحيير ماء الشباب، أنك تنظر إلى الخدود الموردة فتراها كالشفق تتنقل من تحته الشمس، أو كالمشكاة يتموج في قلبها المصباح.
في سبيل الحب تلك النظرة! يوم رأيته وقد أبل من حمى أضرعته، فرأيت ماء الشباب يدب في تلك الخدود وهي صفراء كالورس، فيعيدها حمراء كالورد، وإذا بالأنس يتمشى في فؤادي لشفائه، تمشي البرء في أعضائه.
44
وأما الثالثة فهي قوله:
أحب لحبك من لم يكن
صفيا لنفسي ولا صاحبا
وأبذل مالي لمرضاتكم
وأعتب من جاءكم عاتبا
وأرغب من ود من لم أكن
إلى وده قبلكم راغبا
ولو سلك الناس في جانب
من الأرض واعتزلت جانبا
ليممت طيتها إنني
أرى قربها العجب العاجبا
45
وجملة القول: أن ما نسب إلى ابن أبي ربيعة من المعاني المبتكرة والألفاظ المبتدعة، على ما فيه من وهن، وما به من دخل، لا يفصح عن منهج في الشعر غير مألوف، أو سبيل غير معروف. فما طريقه الجديد، أو منهجه الحديث؟
هوامش
المحاضرة الثالثة
أيها السادة: إن الشعر أثر من آثار النفس، ولون من ألوان الفؤاد، وكما تختلف النفوس في نزعاتها، والقلوب في خطراتها، يختلف الشعر في أغراضه، ويتنوع في مناحيه.
نعم تتنوع مناحي الشعر، وتتعدد مذاهبه، بيد أنه لا يكفي أن يقال: إن شعر اليأس غير شعر الرجاء، وشعر الحزن غير شعر الفرح، فإن ذلك وإن فرق بين عاطفة وعاطفة، وحالة وأخرى، فإنه لا يرضي الأديب الفيلسوف، الذي يعرف لعاطفة الحب ألوانا مختلفة، ولثائرة الحزن أشكالا متباينة، فيرى الحزن على الحبيب الراحل، غير الحزن على الحبيب المفقود، ويرى الشعر في بكاء الأبناء، غير الشعر في رثاء الآباء، حتى ليؤمن بالفرق بين الشاعرين يدعوان إلى نحلة واحدة، بلهجة واحدة، إذ كانت خطوات السائرين في سبيل واحد إلى غرض واحد تختلف قوة وضعفا، ونشاطا وفتورا، باختلاف فهمهم للغاية التي يقصدونها، والغرض الذي يرمون إليه.
وكذلك يختلف الشعراء والكتاب؛ فلن يكون ابن الرومي في بؤسه وذله، بالشاعر الذي ينحو منحى ابن المعتز في عزه وغناه، ولن تكون أفكار جان جاك روسو الذي كان يفترش الأرض ويلتحف السماء، بسالكة سبيل أفكار ميشيل مونتين الذي كان يعبده أبوه فلا يوقظه من نومه إلا بأنغام الموسيقى، وألحان الغناء.
1 •••
إذن، فمن ابن أبي ربيعة من بين المحبين؟ وما شعره من بين أنواع النسيب؟
ابن أبي ربيعة! أليس هو ذلك الرجل الذي ألحظه في أعطاف الماضي، وأنظره في ثنايا الزمن، فأرى فيه التيه والدل، والفخر والأبهة؟ أليس هو الذي يبدو على قدم العهد وكأنه الزهرة الناضرة، أو الابتسامة الحائرة؟ ما لي أراه هكذا مفتونا بشبابه، مغرورا بجماله؟ وما بال النساء يشرقن من حوله، ويطلعن عليه، فما يملكن قلبه، ولا يأسرن فؤاده؟
بلى إنه رجل خليع، وفاتن المنظر أخاذ؛ فلا بد أن يكون شعره كذلك فاتنا أخاذا. وضاحك الثغر بسام؛ فيجب أن يكون شعره كذلك ضاحكا بساما، فإنما الشعر صورة النفس، وتمثال الفؤاد.
ألا فليخل شعره من التوجع، وليسلم نسيبه من الجزع، وليترك الهم لقوم سواه، فما كان بالمحزون ولا المهموم!
علام يصف الليل فيشكو كواكبه البطيئة، ونجومه المشكولة، وفجره المفقود؟ وما كان الرجل في التفاف النساء حوله، وإقبالهن عليه، بالذي يضج منه السرير لبعد الأنيس، أو تسأم منه الحجرات لفقد السمير؛ فلقد كانت تعده المرأة بالزيارة في جنح الليل، فلا تكاد تصل إلى منزله، تحتى تجد غيرها قد سبقتها إليه، فتعود آسفة حزينة.
علام يشكو البين، وما روعه نذير بالفراق إلا بشره بشير بالتلاق؟ أم كيف يبكيه الوداع، وهو الذي ما شيع حبيبا، إلا استقبل حبيبا، ولا غابت عنه شمس، إلا أشرقت عليه شمس؟
ألا فليذكر الليل الطويل جميل، وليحزن من البين المشت كثير، ثم ليتركوا ابن أبي ربيعة بين الشموس السواطع، والبدور الطوالع، وإنه من بينهم لسعيد.
لم يكن ابن أبي ربيعة ممن إذا غاب عنه حبيب، أخذ في الحنين إليه والبكاء عليه، تلك سبيل الشعراء المفجعين الذين كانت قلوبهم أعوانا للدهر عليهم، وكانت نفوسهم أخصاما لهم، أولئك هم المعوزون في عالم المحبة، والمحرومون في دولة الصبابة، أولئك الذين يرون الجمال ظلا ظليلا، ثم لا يستطيعون أن يتفيئوا ما له من وارف الظلال، أولئك الذين يحسدون الغلائل على الأعطاف، والعقود في النحور. وكيف يكون ابن أبي ربيعة مثلهم مسكينا في شعره، وما كان مسكينا في حبه؟ أم كيف يصف البكاء والمدامع، وما ألمت نفسه، ولا دمعت عينه؟ بعدا للذلة حتى في الحب! وتبا للمسكنة حتى في الغرام!
ولكن عذرناكم جماعة المؤلفين الذين يوجبون الذل في النسيب؛ عذرناكم لأن المحبين جميعا أذلاء؛ ولأن أمثال ابن أبي ربيعة في الحب قليل، عذرناكم لأنا لا نجد مفرا من هذه الذلة، ولا محيصا عن هذه المسكنة؛ ولأن الله في رحمته لم يشأ أن يجعلها ذلة خالصة، بل شابها بنوع من الحرية، وقسط من الاختيار، يتمثل في إقبالنا على الحسن، إقبال الساري على القمر، والصادي على النهر.
نعم عذرنا المؤلفين في تلك القيود التي وضعوها في النسيب؛ لأنهم ظنوا أن الناس جميعا يعرفون منه ما يعرفون، ويفهمونه كما يفهمون. ولكن، فلنرحم أنفسنا من اتباعهم والسير في آثارهم، ولنجر على سنن الكون وطبائع الحياة، فيما نصدر من الأحكام، وما نبدي من الآراء.
ألسنا نخطئ من يزعم أن الورد في عام من الأعوام، ضعفت شجراته، وقلت زهراته؛ لأن آفة ألمت بحديقة من حدائقه، وطافت بجنة من جناته؟ بلى إنا نخطئه في زعمه؛ لأن ذلك قد يلم بالشجرتين في مغرس واحد، فتنجو إحداهما وتعطب الأخرى، فكيف نقبل إذن أن نحكم على الشعر قبل أن يوجد الشعراء، وعلى التشبيب قبل أن يخلق المشببون؟ ألا إن الحكم الأدبي لا يغني فيه غير الاستقراء، وهيهات أن ينفع الاستقراء حيث يكثر الشذوذ، وما دام الأدب من آثار النفوس، وما دامت النفوس قلما تتشاكل، فلن يصح إلحاق الأواخر بالأوائل، ولا الحكم على الأحفاد باتباع الأجداد.
ولقد كان يصعب التمييز بين شعراء العرب لو اتبعوا نقادهم فيما يأمرون به من توحيد المعاني، وتحدي القدماء، ولكن يظهر أن النفوس العربية الوثابة، التي ألفت الحرية، واعتادت الخروج حتى على الملوك والأمراء، لم تشأ أن تخضع في جوانح الشعراء لتلك النظم المشوشة التي وضعها العلماء، وكذلك نهض الأدب مع ارتباك النقد، فكان الشعراء في واد، والنقاد في واد.
إذن فلنترك تلك السبل، ولنحكم على الشاعر بما يصح أن يكون من ناحية ما اختص به، من لون نفسه، ووجهة خاطره، غير ناظرين إلى تلك الأنواع العامة، التي اتبعها صاحب «الأغاني» وغيره، تلك التي لا تميز شاعرا عن شاعر، ولا كاتبا عن كاتب، ولنجرب ذلك في الحكم على ابن أبي ربيعة المخزومي، ثم لننزل عند حكم الطبع، ولنتبع رائد التفكير. •••
علمتم أيها السادة أن ابن أبي ربيعة كان شابا محسود الشباب، وأنه كان الأمل الحلو الذي تتغنى به كل حسناء أوت إلى فراشها، أو هبت من منامها، والأمنية العذبة التي تترقرق في قلوب العذارى صاعدة هابطة بين اليأس والأمل، والرجاء والقنوط، والحديث المعسول تفضي به البنت إلى أمها، والأخت إلى أختها، بل كان زهرة النرجس، تلك الزهرة المقدسة، التي كان يرى العرب أن لا بد لمن يرغب في الحياة أن يشمها مرة كل شهر، أو مرة كل سنة، فإن لم يستطع ففي العمر مرة. وكان ابن أبي ربيعة يعلم ذلك، ويعلم أنه حديث الفتيان في الأندية السامرة، والفتيات في المغاني الزاهرة، نعم كان يعلم من ذلك ما أورثه العزة في نفسه، والتيه في حبه، فرغب عن قرب الملوك، وترك زيارة الأمراء؛ علما منه بأن له ملكا أعظم من ملكهم، وعزا أروع من عزهم، إذ كان أمير الحسن في عصره، ومليك الحب في دهره، فطالما قدمت إليه الحلل الفاخرة، والطيب النادر العرف؛ حبا في شعره الذي تنبه به الغواني، وتنفق به الأوانس، إذ كان من دلائل الحسن الذي يعتز به النساء، ويتيه به الكواعب أن يسير بيت لابن أبي ربيعة في وصف امرأة والتشبيب بفتاة.
علم ذلك ابن أبي ربيعة، وعلم أنه البدر الطالع في سماء الحسن، والزهرة الشائقة في جنة المحبة، فرأى من الحكمة أن يعمل على ما يزيد حبه رسوخا، وشعره نباهة، فاحتال لذلك بحيل ثلاث. •••
الحيلة الأولى: إبداعه في وصف النساء؛ ذلك الوصف الذي ما سمعته امرأة إلا ودت أن تكون الغرض منه، والسبب فيه، والذي ما ذكر فيه اسم امرأة إلا كانت أمل الآمل وأمنية المتمني، والذي طالما تسابق النساء إليه، وتباغضن من جرائه، فكم كان يحسد المرأة جاراتها، ويغبطها أترابها، إذا نوه بها ابن أبي ربيعة في شعره، أو خصها بالنسيب.
ويرى الدكتور ضيف أن ابن أبي ربيعة لم يعرف إلا بالقصص، فلم يكن من الوصافين للنساء، والناعتين للمحاسن. أما أنا فقد رأيت من حوادث النساء ما يدل على أنه كان لوصفه منزلة عندهن، وحديث بينهن، فقد ذكروا أن عائشة بنت طلحة سهرت ليلة لهم ألم بها، فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
ولقد أشار إلى ذلك بقوله:
ولقد قالت لجارات لها
ذات يوم وتعرت تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
عمركن الله أم لا يقتصد؟
فتضاحكن وقد قلن لها
حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
ورأيت من نظرائه من نوه بذلك؛ فقد قال نصيب: ابن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال. إلا أنه ينبغي أن نلاحظ أنه لم يكن يصف النساء إلا بما يزيدهن غرورا بشبابهن، وفتونا بجمالهن، وبما يشتهين أن يعرفن به من ثقل الأرداف، ورقة الأطراف، وبياض الترائب وسواد الذوائب، إلى غير ذلك مما لو خلا النساء إلى شياطينهن، وسكن إلى أمثالهن، ما خضن في غيره، ولا تحدثن في سواه. إن المرأة تود كثيرا أن تكون كما قال:
نعم شعار الفتى إذا برد اللي
ل سحيرا وقفقف الصرد
2
كما يود الرجل - لو تغنى الودادة - أن يتناوم في أحضان امرأة فضفاضة الصدر، رجراجة الردف:
تشفي الضجيع ببارد ذي رونق
لو كان في غلس الظلام أنارا
ويفوز من هي في الشتاء شعاره
أكرم بها دون اللحاف شعارا
نعم، وتود المرأة أن توصف بأنها ضعيفة المشي، قصيرة الخطو، لا لضعف في جسمها، بل لثقل في ردفها، يحول بينها وبين زيارة جاراتها، كما قال ابن أبي ربيعة:
وتنوء تصرعها عجيزتها
مشي الضعيف يؤوده البهر
3
حتى لتمنعها أردافها من أداء الفريضة، كما قال:
تكاد من ثقل الأرداف إن نهضت
إلى الصلاة على الأنماط تنبتر
وليت شعري ما هي صلاة تلك الفينانة المكسال!
وإني لأرحم التي يقول فيها:
وظلت تهادى ثم تمشي تأودا
وتشكو مرارا من قوائمها فترا
ثم أكاد ... إذا قرأت قوله:
إذا ما دعت بالمرط كيما تلفه
على الخصر أبدت من روادفها فخرا
عفا الله عنك يا ابن أبي ربيعة، فقد جعلتنا نفرط في القول، ونسرف في الحديث، حتى لنخشى على أنفسنا أن نتمثل بقولك:
ولولا أن تعنفني قريش
وقول الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذا التقينا: قبليني
ولو كنا على ظهر الطريق
وإنك لكما قال عبد الملك: أطول قريش صبوة، وأبطؤها توبة!
وأقول بعد ذلك أيها السادة: إن الرجل كان يختصر أحيانا في الوصف، إلا أنه كان مع ذلك يصيب الصميم من المعنى المراد، فأي حسن فاته في قوله:
أبت الروادف والثدي لقمصها
مس البطون وأن تمس ظهورا
وإذا الرياح مع العشي تناوحت
نبهن حاسدة وهجن غيورا
وأي غرض لم يصبه بقوله:
ذات حسن إن تغب شمس الضحى
فلنا من وجهها عنها خلف
أجمع الناس على تفضيلها
وهواهم في سوى هذا اختلف
أما تلمحون جماعة المسلمين إذ ذاك، وهم أحزاب وشيع، يفضل بعضهم عليا، ويرفع آخرون عمر، حتى إذا ذكرت هذه الغانية، اتفقوا على حسنها، وأجمعوا على تفضيلها؟
فأما إذا عمد إلى الإطناب فإنه الواصف القدير، الذي يضع الكلم في مواضعه، ويقر المعنى في نصابه، فيصف المرأة بما تود أن توصف به، وبما يعلم أنه الشرك ينصبه النساء ليصدن به الرجال، فيقول مثلا:
خود تضيء ظلام البيت صورتها
كما يضيء ظلام الحندس القمر
4
مجدولة الخلق لم توضع مناكبها
ملء العناق ألوف جيبها عطر
5
ممكورة الساق مقصوم خلاخلها
فمشبع نشب منها ومنكسر
6
هيفاء لفاء مصقول عوارضها
تكاد من ثقل الأرداف تنبتر
7
تفتر عن واضح الأنياب متسق
عذب المقبل مصقول له أشر
8
كالمسك شيب بذوب النحل يخلطه
ثلج بصهباء مما عتقت جدر
9
تلك التي سلبتني العقل وامتنعت
والغانيات وإن واصلننا غدر
قد كنت في معزل عنها فقيضني
للحين حين دعاني للشقا النظر
10
وله في الأوصاف الظاهرة شعر كثير، يمتاز عن شعر أسلافه برقة الحاشية، وقرب المأخذ، وأنه يأتي إلى النساء من الناحية التي يرضينها، ويدخل إليهن من الباب الذي يهوينه، وأي امرأة لا يطربها قوله:
يا طيب طعم ثناياها وريقتها
إذ استقل عمود الصبح فاعتدلا
مجاجة المسك لا تقلى شمائلها
تزداد عندي إذا ما ماحل محلا
11
لو كان يخبل طيب النشر ذا كلف
لكنت من طيب رياها الذي خبلا
12
تلكم هي الحيلة الأولى؛ حيلة الوصف السابل، والنعت الشامل.
فأما الحيلة الثانية: فهي تلطفه في مخاطبة الغواني، وتودده إليهن بحسن الحديث، والنساء ضعيفات القلوب، رقيقات الأكباد، يسكن إلى الحديث الممتع، ويصغين إلى الحوار اللطيف. وآكد ما يكون ذلك إذا شعشع الحديث بشيء من الصبابة، أو مزج بقسط من الاستعطاف. وكذلك كانت طريقته في مخاطبة الحسان، ومحاورة الغواني، من ذلك قوله:
يفرح القلب إن رآك وتستع
بر عيني إذا أردت ارتحالا
ولئن كان ينفع القرب ما أز
داد فيما أراك إلا خبالا
غير أني ما دمت جالسة عن
دي سألهو ما لم تريدي زيالا
فإذا ما انصرفت لم أر للعي
ش التذاذا ولا لشيء جمالا
أنت عيشي نعم ورؤيتك الخل
د وكنت الحديث والأشغالا
حلت دون الفؤاد واختارك القل
ب وخلى لك النساء الوصالا
وتخلقت لي خلائق أعطت
ك قيادي فما ملكت احتمالا
أيها العاذلي أقل عتابي
لم أطع في وصالها العذالا
إن ما قلت والذي عبت منها
لم يزدها في العين إلا جلالا
لا تعبها فلن أطيعك فيها
لم أجد للوشاة فيها مقالا
فيم بالله تقتلين محبا
لك بالوصل مخلصا بذالا؟!
ولعمري لئن هممت بقتلي
لبما قد قتلت قبلي الرجالا
حدثيني عن هجركم ووصالي
أحراما ترينه أم حلالا؟
كم تمنيت أنني لك بعل
آه، بل ليتني بخدك خالا
ومثل هذا الشعر جدير بأن يفتن النساء، ويخلب الحسان، وابن أبي ربيعة يجيد هذا النوع من السحر، ويحسن هذا الضرب من الحوار، وأي استدراك أبدع من قوله:
سقيت بوجهك كل أرض جئتها
وبمثل وجهك نستقي الأمطارا
وأرى جمالك فوق كل جميلة
وجمال وجهك يخطف الأبصارا
إني رأيتك غادة خمصانة
ريا الروادف عذبة مبشارا
13
محطوطة المتنين أكمل خلقها
مثل السبيكة بضة معطارا
14
كالشمس تعجب من رأى ويزينها
حسب أغر إذا تريد فخارا
ويفوز من هي في الشتاء شعاره
أكرم بها دون اللحاف شعارا
ويدخل في هذا الباب ما كان يرسله أحيانا إلى الثريا من مثل قوله:
كتبت إليك من بلدي
كتاب موله كمد
كئيب واكف العيني
ن بالحسرات منفرد
يؤرقه لهيب الشو
ق بين السحر والكبد
فيمسك قلبه بيد
ويمسح عينه بيد
وقد خدعت الثريا بهذه الأبيات فبكت عند قراءتها، وأنشدت:
بنفسي من لا يستقل بنفسه
ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
وإنه لعجيب أن يملأ الدنيا فخرا بإقبال النساء عليه، وتوددهن إليه، ثم يقول بعد ذلك:
ألست أرى ذا ودكم فأوده
وأكرم إن لاقيت يوما لكم كلبا؟
أرى أم عبد الله صدت كأنني
بما فعل الواشي جنيت لها ذنبا
فلا تسمعي من قول من ود أنني
وإياك يمسي ما نحل به جدبا
نعم، وعجيب أن تقرأ له:
سلام عليها ما أحبت سلامنا
فإن كرهته فالسلام على الأخرى
ثم تراه يتشبه بالعشاق المبعدين في قوله:
فلئن تغير ما عهدت وأصبحت
صدفت فلا بذل ولا ميسور
لبما تساعف باللقاء ولبها
فرح بقرب مزارنا مسرور
إذ لا يغيرها الوشاة فودنا
صاف نراسل مرة ونزور
لا تأمنن الدهر أنثى بعدها
إني لآمن غدرهن نذير
بعد التي أعطتك من أيمانها
ما لا يطيق من العهود ثبير
فإذا وذلك كان ظل سحابة
نفحت به في المعصرات دبور
15
ولكن لا عجب، فإنما يلعب بقلوب النساء، فإن أجدى التيه والصلف، وإلا فهو جدير بأن يتكلف الحزن، ويتصنع الخشوع. •••
أما الحيلة الثالثة - وهي أدهى الحيل، وأشدهن خطرا على عفة النساء - فهي وصفه لأوقات التلاقي، وساعات التداني، فقد كان يغرب في ذلك إغرابا لم يسبق به، ويتهتك تهتكا لم يعرفه الناس من قبل، اللهم إلا شذرات قلائل في شعر امرئ القيس وأمثاله من الخلعاء.
ولولا بعض الرأي فيما ذكرت من الحيلتين السالفتين، لقلت: إن هذه الحيلة هي كل ما لابن أبي ربيعة من إبداع، ولشعره من ميزة؛ فقد بلغ من ذلك مبلغا عظيما، وأثر أثرا غير قليل، ورآه الناس ضارا بالأخلاق والآداب، ومحرضا على الفسق والفجور، فحرم أهل الورع منهم روايته على فتيانهم وفتياتهم؛ لئلا ينكبوا على الفسق انكبابا، ولقد مرت ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب على عبد الله بن مصعب ومعها دفتر، فناداها: ما هذا معك يا ظبية؟ فقالت: شعر ابن أبي ربيعة يا سيدي، فقال: ويحك تدخلين على النساء بشعر ابن أبي ربيعة! إن لشعره لموقعا من القلوب، ومدخلا لطيفا إلى النفوس، ولو كان شعر يسحر لكان هو، فارجعي به! وكان ابن جريج يقول: ما دخل على العواتق في حجالهن
16
شيء أضر عليهن من شعر ابن أبي ربيعة. وقال هشام بن عروة: لا ترووا فتياتكم شعر عمر، لا يتورطن في الزنا تورطا! •••
أقول ذلك أيها السادة؛ لأني أرى الصفة الغالبة في شعره إنما هي ذلك القصص الجميل، والحديث العذب المعسول، الذي يصف به لياليه البيض الحسان، مع أحبابه البيض الحسان؛ ولأني رأيت الناس في عصره، قد ملئوا دهشة واستغرابا، من تلك الأحاديث النادرة الطريفة، وهاتيك القصص الممتعة الشائقة، فكان من ذلك أن لقيه رجل من الطواف فقبض على يده، وقال: أكل ما قلته في شعرك فعلته؟ فقال: إليك عني! فقال: أسألك بالله، فقال: نعم، وأستغفر الله! بل وكان من ذلك أن فتن الناس بمذهبه في القصص، وأسلوبه في الحديث، فقال الزبير بن بكار: لقد أدركت مشيخة من قريش لا يزنون بعمر بن أبي ربيعة شاعرا من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره، من مدح نفسه، والتحلي بمودته.
نعم فتن الناس بمذهبه حتى الشعراء منهم، فلقد حدثوا أن الفرزدق قدم المدينة وبها رجلان وصفا له، يقال لأحدهما: صريم، وللآخر: ابن أسماء، فقصدهما وكان عندهما قيان، ثم قال لهما بعد أن سلم عليهما: من أنتما؟ فقال أحدهما: أنا فرعون، وقال الآخر: أنا هامان، فقال: فأين منزلكما في النار حتى أقصدكما؟ فقالا: نحن جيران الفرزدق الشاعر! فضحك ونزل، فسلم عليهما وسلما عليه وتعاشروا مدة، ثم سألهما أن يجمعا بينه وبين عمر بن أبي ربيعة ففعلا، فلما التقى الشاعران تحادثا، وتناشدا إلى أن أنشد عمر قصيدته التي يقول فيها:
فلما التقينا واطمأنت بنا النوى
وغيب عنا من نخاف ونشفق
أخذت بكفي كفها فوضعتها
على كبد من خشية البين تخفق
فلما بلغ قوله:
فقمن لكي يخليننا فترقرقت
مدامع عينها وظلت تدفق
17
وقالت: أما ترحمنني! لا تدعنني
لدى غزل جم الصبابة يخرق
18
فقلن: اسكتي عنا فغير مطاعة
فخلك منا فاعلمي بك أرفق
فقالت: فلا تبرحن ذا الستر إنني
أخاف ورب الناس منه وأفرق
صاح الفرزدق قائلا: أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس! لا يحسن الشعراء والله أن يقولوا مثل هذا الشعر، ولا أن يرقوا مثل هذه الرقية.
وكذلك فتن جميل بشعر ابن أبي ربيعة، فقد تناشدا الشعر، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي
بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي
يقولون: مهلا يا جميل! وإنني
لأقسم ما لي عن بثينة من مهل
أصبرا وقبل اليوم كان أوانه؟
أم اخشى وقبل اليوم هددت بالقتل؟!
أبيت مع الهلاك ضيفا لأهلها
وأهلي قريب موسعون ذوو فضل
19
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها
ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي!
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟!
ثم أنشد ابن أبي ربيعة قوله من قصيدة:
جرى ناصح بالود بيني وبينها
فقربني يوم الحصاب إلى قتلي
20
فطارت بحد من فؤادي وقارنت
قرينتها حبل الصفاء إلى حبلي
فما أنس ملأشياء لا أنس موقفي
وموقفها يوما بقارعة النخل
فلما تواقفنا عرفت الذي بها
كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
ويقتصر أكثر الرواة على البيت الأخير شاهدا على إعجاب جميل به حين قال: هيهات يا أبا الخطاب! لا أقول مثل هذا سجيس الليالي، والله ما خاطب النساء مخاطبتك أحد! وأرى أن هذا ليس بيت القصيد، ولا هذا المعنى بالذي يستفز شاعرا كجميل، بل هو معنى عادي سبقه الشعراء به، فقد قال بعض الجاهلين:
ولما أن رأيت بني حيي
عرفت شناءتي فيهم ووتري
وأرى أن الذي لفت نظر جميل، وجعله يحسد ابن أبي ربيعة على شعره، إنما هو قصصه الشائق، وحديثه العذب، وذلك قوله:
فعاجت بأمثال الظباء نواعم
إلى موقف بين الحجون إلى النخل
فقالت لأتراب لها شبه الدمى
أطلن التمني والوقوف على شغلي
وقالت لهن: ارجعن شيئا لعلنا
نعاتب هذا أو يراجع في وصل
فقلن لها: هذا عشاء وأهلنا
قريب ألما تسأمي مركب البغل؟
فقالت: فما شئتن؟ قلن لها: انزلي
فللأرض خير من وقوف على رحل
نجوم دراري تكنفن صورة
من البدر وافت غير هوج ولا عجل
وقمن إليها كالدمى فاكتنفنها
وكل يفدي بالمودة والأهل
فسلمت واستأنست خيفة أن يرى
عدو مقامي أو يرى كاشح فعلي
فقالت وأرخت جانب الستر: إنما
معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها: ما بي لهم من ترقب
ولكن سري ليس يحمله مثلي
21
ثم يقول عن أترابها:
فلما اقتصرنا دونهن حديثنا
وهن طبيبات بحاجة ذي الشكل
22
عرفن الذي تهوى فقلن لها: ائذني
نطف ساعة في برد ليل وفي سهل
فقالت: فلا تلبثن، قلن: تحدثي
أتيناك وانسبن انسياب مها الرمل
وقمن وقد أفهمن ذا اللب إنما
أتين الذي يأتين من ذاك من أجلي
وباتت تمج المسك في في غادة
بعيدة مهوى القرط صامتة الحجل
23
تقلب عيني ظبية ترتعي الخلا
وتحنو على رخص الشوى أغيد طفل
24
وتفتر عن كالأقحوان بروضة
جلته الصبا والمستهل من الوبل
25
أهيم بها في كل ممسى ومصبح
وأكثر دعواها إذا خدرت رجلي
وهنا قال جميل: هيهات يا أبا الخطاب! لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي، والله ما خاطب النساء مخاطبتك أحد. •••
ذكرت ما تقدم أيها السادة؛ تمهيدا للحكم على شعر ابن أبي ربيعة، وبيانا لإبداعه الذي عرف به، فإني رأيت الأدباء السالفين إنما ينسبون إليه هذه البدعة، ويسندون إليه هذا الجرم؛ وهو: تزيين الفسق وتلطيفه، وتسهيله لدى النفوس الأبية، وتقريبه إلى القلوب العصية، ولقد ذكر شعره مع شعر الحارث بن خالد في مجلس ابن أبي عتيق، ففضل بعض الحاضرين شعر الحارث، فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يا أخي! فإنه ما عصي الله - عز وجل - بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، يريد أنه أبصر بمواقع الأهواء، ومواطن التأثير.
وإذا كان المؤلفون في الأدب لم يشرحوا طريقة ابن أبي ربيعة في القصص، وكان منهجه فيه جديرا بالبيان والإيضاح؛ فقد أردت أن أبين وجه الفتنة فيه، وموضع الحسن منه، حتى يتبين لكم ما ذهبت إليه من أنه في شعره محتال، وأنه بالنسيب صائد، وحسبكم هذا المثال، قال:
راح صحبي ولم أحي النوارا
وقليل لو عرجوا أن تزارا
ثم إما يسرون من آخر اللي
ل وإما يعجلون ابتكارا
هنا يتمثل لكم وهو خافت الصوت، خافق القلب، لا يدري - وهو بين اليأس والأمل، والرجاء والقنوط - أيلتمس الحيلة إلى لقائها، ويبتغي الوسيلة إلى وصالها، أم ينصرف وهو شجي، ويرتحل وهو حزين، ثم بين ما تم له بقوله:
ولقد قلت ليلة البين إذ جد
رحيل وخفت أن أستطارا
لخليل يهوى هوانا موات
كان لي عند مثلها نظارا
يا خليل أربعن علي وعينا
ي من الحزن تهملان ابتدارا
ههنا فاحبس البعيرين واحذر
رائدات العيون أن تستنارا
إنني زائر قريبة قد يع
لم ربي أن لا أطيق اصطبارا
فما كان جوابه؟
قال: فافعل لا يمنعنك مكاني
من حديث تقضي به الأوطارا
والتمس ناصحا قريبا من الور
د يحس الحديث والأخبارا
فكان ماذا؟
فبعثنا مجربا ساكن الري
ح خفيفا معاودا بيطارا
فما الذي صنع؟
فأتاها فقال: ميعادك السر
ح إذا الليل سدل الأستارا
وكيف وصلت؟
فكمنا حتى إذا فقد الصو
ت دجى المظلم البهيم فحارا
قلت لما بدت لصحبي: إني
أرتجي عندها لديني يسارا
ثم أقبلت رافع الذيل أخفي ال
وطء أخشى العيون والنظارا
فما الذي كان؟
فالتقينا فرحبت حين سلم
ت وكفت دمعا من العين مارا
26
ثم قالت عند العتاب: رأينا
فيك عنا تجلدا وازورارا
27
قلت: كلا لاه ابن عمك بل خف
نا أمورا كنا بها أغمارا
28
فجعلنا الصدود لما خشينا
قالة الناس للهوى أستارا
وركبنا حالا لتكذب عنا
قول من كان بالبنان أشارا
واقتصرت الحديث دون الذي قد
كان من قبل يعلم الأسرارا
ليس كالعهد إذ عهدت، ولكن
أوقد الناس بالنميمة نارا
29
فلذاك الإعراض عنك وما آ
ثر قلبي عليك أخرى اختيارا
ما أبالي إذا النوى قربتكم
فدنوتم من حل أو من سارا
والليالي إذا نأيت طوال
وأراها إذا دنوت قصارا
فعرفت القبول منها لعذري
إذ رأتني منها أريد اعتذارا
ثم ماذا؟
ثم لانت وسامحت بعد منع
وأرتني كفا تزين السوارا
فتناولتها فمالت كغصن
حركته ريح عليه فحارا
وأذاقت بعد العلاج لذيذا
كجني النحل شاب صرفا عقارا
30
ثم ماذا يا خبيث؟
ثم كانت دون اللحاف لمشغو
ف معنى بها مشوق شعارا
واشتكت شدة الإزار من البه
ر وألقت عنها لدي الخمارا
31
حبذا رجعها إليها يديها
في يدي درعها تحل الإزارا
قاتلك الله! ثم ماذا؟
ثم قالت وبان ضوء من الصب
ح منير للناظرين أنارا:
يا ابن عمي فدتك نفسي إني
أتقي كاشحا إذا قال جارا
فأي فتاة تسمع هذا القصص، ثم لا تبحث عن واضعه، وهو كما ترون يرد شرة الشباب جذعة؟ ومن عساها تسمع قوله:
واشتكت شدة الإزار من البه
ر وألقت عنها لدي الخمارا
حبذا رجعها إليها يديها
في يدي درعها تحل الإزارا
ثم لا تنبهر منها الأنفاس، وتنفك منها الأزرار؟!
هذه إحدى قصائده القصصية، وعلى نمطها طبع أغلب شعره، وهي كما ترون من موجبات الفتنة، وموقظات الشهوات!
وكذلك كان الناس يفهمون في شخص ابن أبي ربيعة محرضا على الفسق مزينا للفجور، عاقا للفضيلة، بارا بالرذيلة، وكذلك كان شعره عفا الله عنه. وأي امرأة لا تفتنها تلك الأحاديث الفاتنة، وهاتيك القصص الخالية؟ أليس هو الذي يقول:
وناهدة الثديين قلت لها: اتكي
على الرمل من جبانة لم توسد
32
فقالت: على اسم الله أمرك طاعة
وإن كنت قد كلفت ما لم أعود
فلما دنا الإصباح قالت: فضحتني
فقم غير مطرود وإن شئت فازدد
فما ازددت منها غير مص لثاتها
وتقبيل فيها والحديث المردد
تزودت منها واتشحت بمرطها
وقلت لعيني: اسفحا الدمع من غد
فقامت تعفي بالرداء مكانها
وتطلب شذرا من جمان مبدد
ومهما يكن من شيء، فإن الرجل لم يشأ أن تختم حياته بالمجون، فما كاد يتجاوز الأربعين من عمره حتى أقبل على نفسه يحاسبها ، وعلى ربه يستغفرهت؛ فهجر الشعر على حبه، وألف النسك على بغضه، لولا تلك الذكرى الموجعة التي كانت تعاوده من حين إلى حين، وذلك الشوق الدخيل الذي كان يهيجه في الفينة بعد الفينة، فقد كان يحن إلى شبابه حنينا موجعا، ويتطلع إلى ماضيه تطلع اليائس المتلهف، فيمد يديه عله يرجع الدهر، ويلفت الزمن، ولكن هيهات هيهات، فقد خانه الأمل، وخلاه الشباب، وأخذ الشيب في هد تلك القوى، وهدم ذلك الصرح، وأخذ النساء يتراجعن ضاحكات منه، ساخرات به، وبدأ الدهر يبني دولة جديدة للحب، ويشيد حصنا ثانيا للغرام، فأنشأ فتيانا غير الفتيان، وعذارى غير العذارى، وأصبح ابن أبي ربيعة غريبا والمشيب غربة، وقصيا والشيب شبه النوى، وعاد الناس يقولون: هذا هو ابن أبي ربيعة الذي كانت تعضه النساء وهو بالبيت يطوف، وهذه هي الثريا التي كانت تحسدها الأزهار في الرياض والنجوم في السماء، وهذه معالم ابن أبي ربيعة ومعاهد شبابه، قد عادت صما خوالد ما يبين كلامها.
أقول أيها السادة: إن ابن أبي ربيعة أخذ يحن إلى أيامه الخوالى، ولياليه السوالف، ويتشوق إلى الشباب الراحل، والنعيم الذاهب ويزيده كلفا وأسفا أن يرى الشباب في صعود نحو المستقبل المشرق، ويرى نفسه في هبوط إلى الماضي المظلم، فما لقي فتى جميلا أو شابا وسيما إلا أرسل بصره إليه يتأمل شكله، ويجتلي حسنه، ثم يمد يده إلى شعره فيعبث به، وإلى ذؤابته فيرسلها، ثم ينتحب ويقول: وا شباباه! وا شباباه!
حتى لقد مر به فتيان وهو بالحجر يصلي، فلم يكد يفرغ من صلاته حتى لحق بهما فعرفهما، ثم قال: يا ابني أخي! لقد كنت موكلا بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه!
نعم، أقلع ابن أبي ربيعة عن غيه، وأصبح يستقبح من الفتيان وهو شيخ ما لم يستقبحه من نفسه وهو فتى، فما طاف بالبيت إلا تأمل عله يجد فتى يحدث فتاة فينهاه، أو امرأة تتبع رجلا فيردعها! ولقد كان من أمره أن نظر إلى رجل يكلم امرأة في الطواف، فعاب ذلك عليه وأنكره، فقال له: إنها ابنة عمي، فقال: ذلك أشنع! فقال: إني خطبتها إلى عمي فأبى علي إلا بصداق لا أطيقه، ثم شكا إليه من حبه لها وكلفه بها ما جعله يسير معه إلى عمه يسترضيه، فقال له: إنه مملق وليس له ما يصلح به أمره.
فقال له عمر: وكم الذي تريده منه؟ فقال له: أربعمائة دينار، فقال له: هي علي فزوجه، ففعل.
قالوا: وكان عمر حلف لا يقول بيتا من الشعر إلا أعتق رقبة فانصرف يومئذ وهو حزين، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابا، فقالت له: إن لك لأمرا، وتريد أن تقول شعرا، فقال:
تقول وليدتي لما رأتني
طربت وكنت قد أقصرت حينا:
أراك اليوم قد أحدثت شوقا
وهاج لك الهوى داء دفينا
وكنت زعمت أنك ذو عزاء
إذا ما شئت فارقت القرينا
بربك هل أتاك لها رسول
فشاقك أم لقيت لها خدينا؟
فقلت: شكا إلي أخ محب
كبعض زماننا إذ تعلمينا
وقص علي ما يلقى بهند
فذكر بعض ما كنا نسينا
وذو الشوق القديم وإن تعزى
مشوق حين يلقى العاشقينا
وكم من خلة أعرضت عنها
لغير قلى وكنت بها ضنينا
أردت بعادها فصددت عنها
وإن جن الفؤاد بها جنونا
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم، لكل بيت واحد. •••
فسلام عليه يوم قال الشعر! وسلام عليه يوم ودعه! وعفا الله عمن فتن بشعره، فأجاب داعي الشباب!
هوامش
أخبار الملاح
(1) تمهيد
أيها القارئ! قد رأيت كيف كان عمر بن أبي ربيعة يحب، وكيف كان يسلك مذاهب النسيب، فانظر الآن كيف كان يتصيد النساء، وكيف كانت تعيش معشوقاته في ذلك الزمان.
وإني لأرى من الخير أن أبين لك قبل كل شيء، كيف فكرت في كتابة هذه الفصول؟ فقد أخشى أن ترميني بالإسراف في التغني بالحب، والتحدث عن الجمال، وإني بذلك لمتهم ظنين!
ألا فلتعلم أن الناس يكثرون في هذا العصر من التجني على الآداب العربية، ويتهمونها بالفقر، والعقم، والجفاف، والعجز عن مواتاة الغرائز والشهوات والعقول، وساعدهم على ترديد هذه النغمة المنكرة ما تقدمه الآداب الأجنبية كل يوم من الأدلة والبراهين على صلاحيتها لتغذية المشاعر والعواطف والأحاسيس.
وإن قليلا من الإنصاف لكاف للاقتناع بأن أدلة الاتهام قوية، وأن الآداب العربية تبدو ضعيفة ضئيلة بجانب ذلك الدوي الهائل الذي تدمغنا به الآداب الغربية في كل يوم، فهذه كتب المختارات والمحفوظات والدرس التي يتناولها طلبة المدارس الابتدائية والثانوية وبعض المدارس العالية تعد من الكتب الجافة المقفرة التي تخاطب على الأغلب ناحية واحدة من نواحي الطبع والإدراك.
والطائفة المستنيرة من مفتشي اللغة العربية وأساتذتها تعلم ذلك حق العلم، ولكنها تكتفي بالألم الصامت ترسله في خفية واستحياء، كلما رأت انصراف الطلبة عن آداب لغتهم وفنائهم في آداب الفرنسيين والإنجليز، وفي الحق إن المادة التي تقدم لطلبة المدارس في اللغة والأدب لا تمتع القلب، ولا توقظ الحس، ولا تثير الوجدان، فهي في الأكثر طائفة من العظات والأوصاف تتحدث عن معان موضعية طوتها الأيام، وأتت على رسومها الليالي، يدرسها جماعة يعيشون في ظلمات القرون الأولى غير شاعرين بما أبدع العقل في هذا الجيل، إن لم يكونوا أمساخا خلفها عصر ما قبل التاريخ.
ولقد ثارت في الصيف الماضي ضجة عن تقدم النثر وتخلف الشعر، وكان من رأي أستاذنا الدكتور طه حسين أن النثر تقدم؛ لأن الكتاب يحيون حياة عقلية، وأن الشعر تأخر؛ لأن الشعراء كسالى متبلدون، وعندي أن النثر والشعر في التأخر سواء، ولا عبرة بهذه الثروة التي يطالعنا بها الكتاب في كل صباح، فهي على وفرتها تكرير وترديد لأفكار الفرنسيين والإنجليز والألمان، وليس فيها شخصية ولا ذاتية تحدث القارئ عن حياة أولئك الكتاب، وإن شعراءنا لأدل من كتابنا على أنفسهم، فإنهم حين غفلوا عن أشعار الأمم الأجنبية فرغوا لعواطفهم، فصاغوها خالصة من المحاكاة والتقليد، بغض النظر عن متابعتهم لشعراء العرب في المرمى والأسلوب.
ولننتهز هذه الفرصة لنعلن أنه لا حياة للآداب العربية، ما دام كتابها وشعراؤها وخطباؤها لا يرون المرأة في حرية وصراحة، ولا يتأثرون بجبروتها في ميدان الحياة.
وما دام شبابنا يسمعون عن المرأة كما يسمعون عن الغول والعنقاء، ولا يرونها حين يرونها إلا قذرة دنسة في بيوت الرجس والبغاء، فهيهات أن تتفتح أذهانهم، أو تزهر قرائحهم، أو تظهر على آثارهم الأدبية مسحة التيقظ والتفكير، وتلك الرءوس التي تتولى هداية الشرق في هذا العصر لا تدري - مع الأسف الشديد - أن الصلة وثيقة بين الأدب وبين الحياة، إن لم يكن الأدب روح الحياة، وأنه لا أمل في أن نرى لكاتب قصة جيدة، ما دام الكتاب بعيدين كل البعد عن المرأة التي تلون الوجود بشتى الألوان، فتحيله تارة جحيما يرمي بالفزع والهول، ثم تعيده حين تشاء جنة وارفة الظلال، وكيف تكون لنا آداب قوية تمثل فضائلنا ورذائلنا، وحلمنا وجهلنا، وطيشنا ورزانتنا، وعقلنا وجنوننا، ونحن نحرص على الطيبة والاستقامة في غير فهم ولا تبصر، أسوة بغلف القلوب من سماسرة الأديان وأدعياء الأخلاق؟!
إنه لا حياة للآداب إلا إذا شغلتنا بأنفسنا، وحدثتنا عن مطامعنا، وأهوائنا، وعيوبنا، ومظان الخير فينا، وأرتنا كيف نحب وكيف نبغض، ومتى نقدم، ومتي نحجم، وعلمتنا كيف نجد، وكيف نلهو، ومتى نقسو، ومتى نلين، أما الأدب الذي يصدر عن رجل مشعوذ معتوه، كل إحساس في رأيه إثم، وكل إدراك عنده فسوق، فهو أدب ميت سخيف لا يقوى به عقل، ولا يسمو به خيال.
وإني لأخشى إن استمر أساتذة الأدب على الاكتفاء بلون واحد يقدمونه إلى الطلبة في كل يوم، أخشى إن استمروا على ذلك أن يصارحهم الطلبة بالقطيعة والفراق! •••
وبعد فهل يسمح القارئ بأن نتجنب تلك الخطة العوجاء، ونقبل على الأدب نتذوق أطايبه، ونعرف حلوه ومره، وحزونه وسهوله، كما كان يفعل القدماء من رجال اللغة العربية، وكما يفعل أهل الغرب في أدبهم الحديث؟
إذ سمح القارئ بذلك شرعنا في بيان تلك الناحية الطريفة من حياة عمر بن أبي ربيعة؛ وهي: تصيده للنساء، وأخبار من كان يعرف من الملاح، ومعاذ الله أن نريد بهذا البحث أن تشيع الفاحشة، أو تحلو في أعين الناس مذاهب الفجور.
إنما نريد أن نقبل عامدين على الجوانب المرحة التي تزخر بها الآداب العربية، حتى لا يسهل رميها بالفقر والجفاف، كلما حلت هذه الفرية لخصومها الجاهلين.
نريد أن يكون لنا في دراسة الشعراء العشاق نصيب ضئيل من الحرية التي ينعم بها الكتاب الفرنسيون وهم يدرسون ميسيه، والكتاب الإنجليز وهم يدرسون بيرون، والكتاب الألمان وهم يدرسون جوت.
وإنا لمكتفون في الحديث عن معشوقات عمر بن أبي ربيعة بما استباحه المؤلفون القدماء، أمثال: صاحب «الأغاني»، وصاحب «الأمالي»، وصاحب «زهر الآداب»، ومن إليهم ممن ترجموا هذا الشاعر الغزل، وتحدثوا عمن كان يهوى من ربات الحجال.
1
ولن يكون ذلك من اللهو الصرف، فهو على طرافته جد في جد، إذ يكشف لنا عن نفسية ذلك الشاعر، ويرينا الفتن التي أرهفت إحساسه، وألهبت روحه، حتى أغرم بالحسن، وحبس شعره على الحسان.
ولئن كان من موجبات الحزن أن انصرف كتاب العرب عن تدوين الحوادث اليومية كما يفعل أصحاب المذكرات في الغرب، ولم يعد في الإمكان تصوير معشوقات عمر بن أبي ربيعة كما صورت مثلا خليلات ألفريد دي ميسيه، فإنا نحمد الله على أن وفق أبا الفرج الأصبهاني إلى الإفاضة في أخبار تلك الحور العين، إفاضة شائقة ممتعة، لا ينقصها غير الترتيب والتبويب، إذ ذكرها في أغانيه مبددة مبعثرة في أثناء الحديث عن كبار المغنين وفحول الشعراء. •••
وقد يكون من الحزم أن نلفت نظر القارئ إلى أننا لا نضمن صحة كل ما نقل عن ابن أبي ربيعة ومعشوقاته من مختلف الأخبار، فتلك شخصيات جذابة محبوبة، لا يبعد أن يكون الرواة أضافوا إليها ما شاءت أهواء السامرين من طريف الأحاديث.
فلنقبل ما نقل إلينا في جملته، مكتفين بهذه الملاحظة التي لم يكن منها بد، ولنترك للقارئ الحرية في أن يناقش ما شاء من تلك الأقاصيص، ثم لنمض في الكلام عن أولئك الحسان، راضين بما حكاه الواقع، أو حاكه الخيال! (2) أيام الطواف
لا يدهشك أيها القارئ أن نضع لعبث ابن أبي ربيعة هذا العنوان الغريب، فقد كان يتخذ أيام الحج موسما للهو والمجون، وإنه ليقول:
أيها الرائح المجد ابتكارا
قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحا سليما
ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا
كل يومين حجة واعتمارا
2
وقد أنشد ابن أبي عتيق هذا الشعر، فقال له: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتم لك فسقك! وأنشده عبد الله بن عمر، فقال: يا ابن أخي! أما اتقيت الله حيث تقول:
ليت ذا الدهر كان حتما علينا
كل يومين حجة واعتمارا
فقال له عمر: بأبي أنت وأمي! إني وضعت ليتا حيث لا تغني.
بيد أنه لا يصح لنا أن ننسى أنه لم يكن يفوز في كل مرة بما يبغي شيطانه من زيارة تلك المناسك والتعرض لكرائم النساء، فقد روي أن امرأة جميلة قدمت مكة، فنظر إليها وهو يطوف فوقعت في قلبه، فدنا منها فكلمها فلم تلتفت إليه، فلما كان في الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها، فقالت له: إليك عني يا هذا، فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة! فألح عليها يكلمها حتى خافت أن يشهرها، فلما كانت الليلة الأخرى قالت لأخيها: اخرج معي فأرني المناسك فإني لست أعرفها، فأقبلت وهو معها، فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها، فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثلت المرأة بقول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي صولة المستأسد الحامي
وقد قال المنصور حين حدث بهذا الخبر: وددت أنه لم تبق فتاة من قريش في خدرها إلا سمعت بهذا الحديث. •••
وقد وقع له مثل هذا مع أبي الأسود الدؤلي إذ حج ومعه امرأته، وكانت جميلة، فبينما هي تطوف بالبيت إذ عرض لها، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فأتاه أبو الأسود فعاتبه، فقال له عمر: ما فعلت شيئا. فلما عادت إلى المسجد عاد فكلمها، فأخبرت أبا الأسود فأتاه في المسجد وهو مع قوم جالس، فقال له:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا
وعن شتم أقوام خلائق أربع
حياء وإسلام وبقيا وأنني
كريم ومثلي قد يضر وينفع
3
فشتان ما بيني وبينك إنني
على كل حال أستقيم وتظلع
4
فقال له عمر: لست أعود يا عم لكلامها بعد هذا اليوم، ثم عاود فكلمها، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فجاء إليه فقال له:
أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى
وسيدنا لولا خلائق أربع
نكول عن الجلى وقرب من الخنا
وبخل عن الجدوى وأنك تبع
5
ثم خرجت وخرج معها أبو الأسود مشتملا على سيف، فلما رآهما عمر أعرض عنها، فتمثل أبو الأسود:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي صولة المستأسد الحامي
وإن له لحوادث أشنع من هاتين في الضياع، فقد رأى امرأة من العراق وهو يطوف فأعجبه جمالها، فمشى معها حتى عرف موضعها، ثم أتاها فحادثها وناشدها وناشدته، وخطبها فقالت: إن هذا لا يصلح ها هنا، ولكن إن جئتني إلى بلدي وخطبتني إلى أهلي تزوجتك، فلما ارتحلوا جاء إلى صديق له من بني سهم، وقال له: إن لي إليك حاجة أريد أن تساعدني عليها، فقال له: نعم، فأخذ بيده ولم يذكر له ما هي، ثم أتى منزله فركب نجيبا له وأركبه نجيبا آخر، وأخذ معه ما يصلحه، وسارا لا يشك السهمي في أنه يريد سفر يوم أو يومين، فما زال يسرع حتى لحق بالرفقة، ثم سار بسيرهم يحادث المرأة طول طريقه ويسايرها، وينزل عندها إذا نزلت حتى ورد العراق، فأقام أياما ثم راسلها يتنجزها وعدها، فأعلمته أنها كانت متزوجة ابن عم لها وولدت منه أولادا، ثم مات وأوصى بهم وبماله إليها ما لم تتزوج، وأنها تخاف فرقة أولادها وزوال النعمة، وبعثت إليه بخمسة آلاف درهم واعتذرت، فردها عليها ورحل إلى مكة، وقال في ذلك:
نام صحبي ولم أنم
من خيال بنا ألم
طاف بالركب موهنا
بين خاخ إلى إضم
6
ثم نبهت صاحبا
طيب الخيم والشيم
7
أريحيا مساعدا
غير نكس ولا برم
8
قلت: يا عمرو شفني
لاعج الحب والألم
إيت هندا فقل لها:
ليلة الخيف ذي السلم
9
ويظهر أن الخيبة التي رمته بها تلك السيدة العراقية، جعلته يتردد في متابعة الملاح إلى العراق، فقد تشهت فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية أن يتبعها ليتزوجها هناك، ولم نعلم أنه هش لتلبية ذلك النداء، ومن قصته معها أنها حجت فراسلها ووعدها أن يتلقاها مساء الغد، وجعل الآية بينه وبينها أن تسمع ناشدا ينشد بغلته في زقاق الحاج، إن لم يمكنه أن يرسل رسولا يعلمها بمصيره إلى المكان الذي وعدها.
فلما تلاقيا وتحادثا خطبها، فقالت: أما ها هنا فلا سبيل إلى ذلك، ولكن إن قدمت إلى بلدي خاطبا تزوجتك، وقد قال في وصف ما كان بينهما من التراسل والتواعد والتلاق:
تشط غدا دار جيراننا
وللدار بعد غد أبعد
إذا سلكت غمر ذي كندة
مع الركب قصد لها الفرقد
10
عراقية وتهامي الهوى
يغور بمكة أو ينجد
11
وحث الحداة بها عيرها
سراعا إذا ما ونت تطرد
12
هنالك إما تعزي الفؤاد
وإما على إثرها تكمد
وليست ببدع إذا دارها
نأت والعزاء إذن أجلد
صرمت وواصلت حتى علم
ت أين المصادر والمورد
وجربت من ذاك حتى عرف
ت ما أتوقى وما أعمد
دعاني من بعد شيب القذا
ل رئم له عنق أغيد
13
وعين تصابي وتدعو الفتى
لما تركه للفتى أرشد
فتلك التي شيعتها الفتاة
إلى الخدر قلبي بها مقصد
تقول وقد جد من بينها
غداة غد عاجل موفد
ألست مشيعنا ليلة
نقضي اللبانة أو نعهد
فقلت: بلى قل عندي لكم
كلال المطي إذا تجهد
فعودي إليها فقولي لها:
مساء غد لكم موعد
وآية ذلك أن تسمعي
إذا جئتكم ناشدا ينشد
فرحنا سراعا وراح الهوى
إليها دليلا بنا يقصد
فلما دنونا لجرس النبا
ح والضوء والحي لم يرقدوا
14
نأينا عن الحي حتى إذا
تودع من نارها الموقد
15
وناموا بعثنا لها ناشدا
وفي الحي بغية من ينشد
أتتنا تهادى على رقبة
من الخوف أحشاؤها ترعد
16
تقول وتظهر وجدا بنا
ووجدي وإن أظهرت أوجد
لمما شقائي تعلقتكم
وقد كان لي عنكم مقعد
17
وكفت سوابق من عبرة
على الخد جال بها الإثمد
18
فإن التي شيعتنا الغداة
مع الفجر قلبي بها مقصد
19
وقد جاء في خبره مع فاطمة هذه أنه لما جاءها أرسلت بينها وبينه سترا رقيقا تراه من ورائه ولا يراها، فجعل يحدثها حتى استنشدته، فأنشدها هذه القصيدة، فاستخفها الشعر فرفعت السجف، فرأى وجها حسنا في جسم ناحل فخطبها، وأرسل إلى أمها وكانت معها بخمسمائة دينار، فأبت وحجبته، وقالت للرسول: لا تعد إلينا، فغم ذلك الفتاة، فقالت لها أمها: قد قتلك الوجد به، فتزوجيه!
قالت: لا والله، لا يتحدث أهل العراق عني أني جئت ابن أبي ربيعة أخطبه، ولكن إن أتاني إلى العراق تزوجته.
ويقال: إنها راسلته وأوعدته أن تزوره فأجمر بيته وأعطى المبشر مائة دينار، فأتته وواعدته إذا صدر الناس أن يشيعها، وجعلت علامة ما بينهما أن يأتيها رسوله ينشدها ناقة له ضلت، فلما صدر الناس فعل، وقد قال في وصف ذلك:
قال الخليط: غدا تصدعنا
أو بعده أفلا تشيعنا
20
أما الرحيل فدون بعد غد
فمتى تقول الدار تجمعنا؟
21
لتشوقنا هند وقد علمت
علما بأن البين يفزعنا
عجبا لموقفنا وموقفها
وبسمع تربيها تراجعنا
22
ومقالها: سر ليلة معنا
نعهد فإن البين فاجعنا
23
قلت: العيون كثيرة معكم
وأظن أن السير مانعنا
لا بل نزوركم بأرضكم
فيطاع قائلكم وشافعنا
قالت: أشيء أنت فاعله
هذا لعمرك أم تخادعنا
بالله حدث ما تؤمله
واصدق فإن الصدق واسعنا
اضرب لنا أجلا نعد له
إخلاف موعده تقاطعنا
24
وإنا لنعجب حين نرى الرجال يقدرون مصير الحسان من بناتهم، فيهجرون مكة فرارا من ذلك الشاعر الخليع، فقد ولد لرجل من بني جمح جارية لم يولد مثلها بالحجاز حسنا، فقال: كأني بها وقد كبرت فشبب بها عمر بن أبي ربيعة، وفضحها ونوه باسمها كما فعل بنساء قريش، والله لا أقمت بمكة! فباع ضيعة له بالطائف ومكة ورحل بابنته إلى البصرة، فأقام بها، وابتاع هناك ضيعة، ونشأت ابنته من أجمل نساء زمانها.
ومات أبوها فلم تر أحدا من جمح حضر جنازته، ولا وجدت مسعدا ولا مواسيا، فقالت لمرضع لها سوداء: من نحن؟ ومن أي البلاد نحن؟ فخبرتها، فقالت: لا جرم، والله لا أقمت في هذا البلد الذي أنا فيه غريبة . فباعت الضيعة والدار وخرجت في أيام الحج، وكان عمر يقدم في ذي الحجة فيعتمر ويحل، ويلبس ما شاء من الحلل والوشي، ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج ويرسل لمته، ويلقى العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدنيات إلى مر، ويتلقى الشاميات إلى الكديد، فخرج يوما للعراقيات فإذا قبة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر تركب معها جارية سوداء، فقال للسوداء: من أنت؟ ومن أين أتيت يا خالة؟ فقالت: لقد أطال الله تعبك إن كنت تسأل هذا العالم: من هم ومن أين هم؟ قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن، قالت: نحن من العراق، فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ورحلنا إلى بلدنا، فضحك، فلما نظرت إلى سواد ثنيتيه قالت: قد عرفناك، قال: ومن أنا؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة! قال: وبم عرفتني؟ قالت: بسواد ثنيتيك وبهيئتك التي ليست إلا لقريش،
25
فأنشأ يقول:
أصبح القلب في الحبال رهينا
مقصدا يوم فارق الظاعنينا
عجلت حمة الفراق علينا
برحيل ولم نخف أن تبينا
26
لم يرعني إلا الفتاة وإلا
دمعها في الرداء سحا سنينا
27
ولقد قلت يوم مكة سرا
قبل وشك من بينكم: نولينا
28
أنت أهوى العباد قربا ودلا
أو تنيلين عاشقا محزونا
قاده الطرف يوم مر إلى الحي
ن جهارا ولم يخف أن يحينا
29
فإذا نعجة تراعي نعاجا
ومها بهج المناظر عينا
30
قلت: من أنتم؟ فصدت وقالت:
أمبد سؤالك العالمينا؟
31
نحن من ساكني العراق وكنا
قبله قاطنين مكة حينا
قد صدقناك إذ سألت فمن أن
ت عسى أن يجر شأن شئونا؟
ونرى أننا عرفناك بالنع
ت بظن وما قتلنا يقينا
بسواد الثنيتين ونعت
قد نراه لناظر مستبينا
ولم يزل بها عمر حتى تزوجها، وولدت له. ويقال: إنه أنشأ هذه القصيدة في التشبيب برملة بنت عبد الله الخزاعية، وإن الثريا بنت علي لما سمعت بها هجرته، في حديث سنعود إليه بعد فصول. •••
ولقد نعلم أن ملاح النساء كن يتحدثن عنه في مناسك الحج في لهفة وشوق، وكان يقدر له أحيانا أن يسمع ما يلهجن به من ارتقاب غزله، وانتظار لقياه، فيضطرم قلبه، وتلتهب أحشاؤه؛ كلفا بمن يتساقين على ذكره كئوس النجوى والسرار، فقد روي أنه بصر في منصرفه من المزدلفة بامرأة جميلة في هودج، وسمع عجوزا معها تناديها: يا نوار استتري، لا يفضحك ابن أبي ربيعة، فاتبعها وقد شغلت قلبه حتى نزلت بمنى في مضرب قد ضرب لها، فنزل إلى جانب المضرب، ولم يزل يتلطف حتى جلس معها وحادثها، وإذا أحسن الناس وجها وأحلاهم منطقا، فزاد ذلك في إعجاب عمر بها، ثم أراد معاودتها فتعذر ذلك عليه، وكان آخر عهده، فقال فيها:
علق النوار فؤاده جهلا
وصبا فلم تترك له عقلا
وتعرضت لي في المسير فما
أمسى الفؤاد يرى لها مثلا
ما ظبية من وحش ذي بقر
تغذو بسقط صريمة طفلا
32
بألذ منها إذ تقول لنا
وأردت كشف قناعها: مهلا
دعنا فإنك لا مكارمة
تجزى ولست بواصل حبلا
وعليك من تبل الفؤاد وإن
أمسى لقلبك ذكره شغلا
وفي الحق إن ابن أبي ربيعة لم يكن في حاجة إلى تصيد النساء، فقد كن عليه أحرص، وإلى تصيده أحوج، وسنرى حين نعرض لأخباره مع هند بنت الحارث وسكينة بنت الحسين كيف كانت تشقى الرسل في البحث عنه كلما حنت معشوقاته إلى وجهه المشرق، وحديثه الطريف، فلنكتف الآن بالإشارة إلى تلك السيدة الأموية التي قدمت معتمرة قبل أوان الحج، فمرت عليه وهي تطوف، وكان في نفر من بني مخزوم، يتحدثون وهم جلوس، وقد فرعهم طولا، وجهرهم جمالا وبهرهم بيانا، فمالت إليهم، ونزلت فأطالت معهم الحديث، ولم تنصرف حتى ظفرت بقلب ذلك الشاعر الجميل، ولم يزل يتردد إليها إلى أن انقضت أيام الحج فرحلت إلى الشام، وفيها يقول:
تأوب ليلي بنصب وهم
وعاودت ذكري لأم الحكم
33
فبت أراقب ليل التما
م، من نام من عاشق لم أنم
فإما تريني على ما عرا
ضعيف القيام شديد السقم
كثير التقلب فوق الفرا
ش ما إن تقل قيامي قدم
بآنسة طيب نشرها
هضيم الحشا عذبة المبتسم
34
وفي هذه الحوادث التي سقناها غنى لمن أراد أن يقدر إلى أي حد كان ابن أبي ربيعة يتلمس أسباب الهوى، ويترقب مواسم الجمال، وفي هذه الحياة المرحة، الحافلة بفرص اللهو ومتع الشباب، قال ذلك الشعر الحي الذي يوقظ غافيات المنى وهاجعات الأهواء، فلننتقل إلى الحديث عن طائفة من معشوقاته بشيء من التفصيل ليتم لنا ما أردناه من عرض الظروف، التي قضت بأن يقف حياته على الحب، وشعره على النساء.
35 (3) عائشة بنت طلحة
أهم قصيدة رويت لعمر بن أبي ربيعة هي رائيته التي فضله بها القدماء على جميل، ومن الواضح أن أولى معشوقاته بالفضل عليه هي تلك الجميلة التي أوحت إليه بتلك القصيدة، وما كانت تلك الحسناء فيما نظن إلا عائشة بنت طلحة، التي أجمع أهل عصرها على تفردها بروعة الجمال، يدل على ذلك ما أشرنا إليه فيما سلف من أنها سهرت ليلة لهم ألم بها، فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
ولو لم يعنها بهذه الإشارة لما رجعتها حين قهرها الحزن في هدأة الليل، فلنقف قليلا عند ذكرى هذه الفاتنة التي أثارت قلبه، وأضرمت إحساسه، ففتحت له باب الخلود.
36 •••
وإنه ليكفي أن نتحدث عن جمالها، وأخلاقها، وعقلها، وجاهها، وأخبارها مع الحارث بن خالد المخزومي، وحوادثها مع شاعرنا المحظوظ.
جمالها
أما جمالها فقد كان فتنة لكل من سمع بها أو رآها من أهل ذلك الزمان، وإنهم ليذكرون أنها صارمت زوجها، وخرجت من دارها غضبى فمرت في المسجد وعليها ملحفة تريد عائشة أم المؤمنين، فرآها أبو هريرة فقال: سبحان الله، كأنها من الحور العين! وروي أنها نازعت زوجها إليه، فوقع خمارها عن وجهها فقال: سبحان الله! ما أحسن ما غذاك أهلك، لكأنما خرجت من الجنة! وقال لها يوما: ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله، فقالت: والله لأنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور! وقد حدثت إحدى الوصائف أنها زارتها، فرأت عجيزتها من خلفها وهي جالسة كأنها غيرها، قالت: فوضعت إصبعي عليها لأعلم ما هي، فلما وجدت مس إصبعي قالت: ما هذا؟ قلت: جعلت فداءك لم أدر ما هو فجئت لأنظر! فضحكت وقالت: ما أكثر من يعجب مما عجبت منه!
قال سالم بن قتيبة: رأيت عائشة بنت طلحة بمنى أو مسجد الخيف فسألتني من أنت؟ قلت: سالم بن قتيبة، قالت: رحم الله مصعبا، ثم ذهبت تقوم ومعها امرأتان تنهضانها فأعجزتها أليتاها من عظمهما فقالت: إني بكما لمعناة! فذكرت قول الحارث:
وتنوء تثقلها عجيزتها
نهض الضعيف ينوء بالوسق
37
وروى صاحب «الأغاني» أنه كان بالمدينة امرأة حسناء، تسمى عزة الميلاء، يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء، فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص، فقالوا: إنا خطبنا فانظري لنا، فقالت لمصعب: يا ابن أبي عبد الله، ومن خطبت؟ فقال عائشة بنت طلحة. فقالت: وأين أنت يا ابن أبي أحيحة؟ قال: عائشة بنت عثمان؟ قالت: فأنت يا ابن الصديق؟ قال: أم القاسم بنت زكريا بن طلحة. قالت: يا جارية! هاتي منقلي، تعني: خفيها، فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضا، فقالت: يا جارية انظري ما هذا، فنظرت ثم رجعت، فقالت: امرأة أخذت مع رجل، فقالت: داء قديم! امضي ويلك! فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك، كنا في مأدبة أو مأتم لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن، فذكروك فلم أدر كيف أصفك فديتك، فألقي ثيابك، ففعلت، فأقبلت وأدبرت، فارتج كل شيء منها، فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك! فقالت عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي، قالت عزة: وما هي بنفسي أنت؟ قالت: تغنيني صوتا، فاندفعت تغني لحنها في شعر جميل:
خليلي عوجا بالمحلة من جمل
وأترابها بين الأصيفر والخبل
نقف بمغان قد محا رسمها البلى
تعاقبها الأيام بالريح والوبل
38
فلو درج النمل الصغار بجلدها
لأندب أعلى جلدها مدرج النمل
39
وأحسن خلق الله جيدا ومقلة
تشبه في النسوان بالشادن الطفل
فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب، وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك، فدفعته إلى مولاتها فحملته، وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن حتى أتت القوم في السقيفة، فقالوا: ما صنعت؟ فقالت: يا ابن أبي عبد الله، أما عائشة فلا والله إن رأيت مثلها مقبلة ومدبرة، محطوطة المتنين،
40
عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، لفاء الفخذين ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عكن،
41
ضخمة السرة، مسرولة الساق،
42
يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها، وفيها عيبان: أما أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف: عظم القدم والأذن، وكانت عائشة كذلك. ثم قالت عزة: وأما أنت يا ابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لامرأة قط، ليس فيها عيب، والله لكأنما أفرغت إفراغا،
43
ولكن في الوجه ردة، وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به، وما أنت يا ابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم، كأنها خوط بانة، تتثنى وكأنها جدل عنان، أو كأنها خشف يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت، ولكنها شختة الصدر
44
وأنت عريض الصدر، فإذا كان ذلك قبيحا، لا والله حتى يملأ كل شيء مثله!
وقد آثرنا إثبات هذا الحديث لنري القارئ صورة من تلك الحياة اللينة التي كان يحياها شباب الحجاز، ولنريه كيف كانت عائشة بنت طلحة في أعين الخبيرات من النساء، فإن المرأة أعرف بالمرأة، وأبصر من الرجل بسرائر الحسن المكنون.
وعلى ذكر مصعب وعزة نقول: إن عائشة دعت يوما نسوة من قريش، فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب المجمر، وخلعت على كل منهن خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما، ودعت عزة الميلاء، ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت، ثم قالت لعزة: هاتي يا عزة فغنينا، فغنتهن في شعر امرئ القيس:
وثغر أغر شنيب النبات
لذيذ المقبل والمبتسم
45
وما ذقته غير ظن به
وبالظن يقضي عليك الحكم
وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة، فصاح: يا هذه، إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة! ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت، ثم تعود إليك، ففعلت وخرجت عزة إليه، فغنته هذا الصوت مرارا، وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا، ثم قال لها: يا عزة! إنك لتحسنين القول والوصف!
46
وكانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد، فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إن الله - تبارك وتعالى - وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضله عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد.
وكانت بجمالها باغية ظالمة، تكلف بالكيد لأترابها من شهيرات النساء، فقد ذكروا أن رملة بنت عبد الله قالت لمولاة لعائشة بنت طلحة: أريني عائشة متجردة ولك ألفا درهم، فأخبرت عائشة بذلك، قالت: فإني أتجرد فأعلميها ولا تعرفيها أني أعلم. فقامت عائشة كأنها تغتسل، وأعلمتها، فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة، فأعطت رملة لمولاتها ألفي درهم، وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها! قال صاحب الأغاني: وكانت رملة قد أسنت، وكانت حسنة الجسم، قبيحة الوجه، عظيمة الأنف، وفيها وفي عائشة يقول الشاعر:
أنعم بعائش عيشا غير ذي رنق
وانبذ برملة نبذ الجورب الخلق
وكانت عائشة بنت طلحة تنافس بالحسن سكينة بنت الحسين، قالت لها يوما سكينة: أنا أجمل منك، قالت عائشة: بل أنا! فاختصمتا إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال: لأقضين بينكما، أما أنت يا سكينة فأملح منها، وأما أنت يا عائشة فأجمل منها، فقالت سكينة: قضيت لي والله! ومن هنا نعرف أنهم كانوا يؤثرون الملاحة على الجمال.
أخلاقها
وأما أخلاقها فكان أظهرها العفة، والشراسة، واللؤم، وحدة الشهوة.
كانت عفيفة فلم يستطع أحد من طغاة الفتيان والأمراء أن يطمع منها في كثير من الإثم أو قليل، ولم يجد أترابها مغمزا ينلنها منه حين يجد الشغب ويطول اللجاج، وكانت في عفتها وصيانتها خنثة غنجة تواتي الزوج بأطيب ما تستطيع المرأة العروب من غرائب الدلال.
تموت وتحيا بالضجيع وتلتوي
بمضطرب المتنين منبتر الخصر
وهي التي تقول، وقد لامتها إحدى صواحباتها حين سمعتها تتقتل تحت عمر بن عبيد الله: إنا نتشهى لهذه الفحول بكل ما حركها وكل ما قدرنا عليه!
وكانت شرسة لا يقدر عليها الزوج إلا بالتلاحي والضرب، ولها في هذا الباب أخبار تروى للتفكه والمزاح، فمن ذلك أنها قالت لمصعب: أنت علي كظهر أمي، وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها، فجهد مصعب أن تكلمه فأبت، فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه، فقالت: كيف بيميني؟ فقال هاهنا الشعبي فقيه أهل العراق، فاستفتيه! فدخل عليها فأخبرته، فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أتحلني وتخرج خائبا، وأمرت له بأربعة آلاف درهم.
وغضبت يوما على مصعب، وكانت من أحب الناس إليه، فشكا ذلك إلى أشعب، فقال: ما لي إن رضيت؟ قال: حكمك! قال: عشرة ألاف درهم، قال: هي لك، فانطلق حتى أتى عائشة فقال: جعلت فداءك! قد علمت حبي لك، وميلي قديما وحديثا إليك، من غير منالة ولا فائدة، وهذه حاجة قد عرضت تقضين بها حقي، وترتهنين بها شكري.
قالت: وما عناك؟ قال: قد جعل لي الأمير عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه، قالت: ويحك! لا يمكنني ذلك.
قال: بأبي أنت فارضي عنه حتى يعطيني، ثم عودي إلى ما عودك الله من سوء الخلق! فضحكت منه ورضيت عن مصعب.
وروى صاحب «الأغاني» أن مصعبا شكاها إلى ابن أبي فروة كاتبه، فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لي، قال: نعم، افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا، فأتاها ليلا ومعه أسودان، فاستأذن عليها، فقالت له: أفي مثل هذه الساعة؟ قال: نعم، فأدخلته، فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئرا، فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر؟ قال: شؤم مولاتك! أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام، فقالت عائشة: فأنظرني أذهب إليه، قال : هيهات لا سبيل إلى ذلك! وقال للأسودين: احفرا، فلما رأت الجد منه بكت، ثم قالت: يا ابن أبي فروة، إنك لقاتلي ما منه بد؟ قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك، ولكنه قد غضب، وهو كافر الغضب، قالت: وفي أي شيء غضبه؟ قال: في امتناعك عنه، وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره، فقد جن، فقالت: أنشدك الله إلا عاودته! قال: إني أخاف أن يقتلني، فبكت وبكى جواريها، فقال: قد رققت لك، وحلف أن يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول؟ قالت: تضمن عني ألا أعود أبدا! قال: فما لي عندك؟ قالت: قيام بحقك ما عشت، قال: فأعطيني المواثيق، فأعطته، فقال للأسودين: مكانكما وأتى مصعبا فأخبره، فقال له: استوثق منها بالأيمان، ففعلت، وصلحت بعد ذلك لمصعب بفضل ذلك الدرس البديع!
وكان لها مع هذه الشراسة لحظات تصفو فيها وتطيب، فقد صارمت مصعبا مرة وطالت مصارمتها له حتى شق عليها وعليه، وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر، فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها، فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه، فخرجت تمسح التراب عن وجهه، فقال لها مصعب: إني أشفق عليك من رائحة الحديد، فقالت: لهو والله عندي أطيب من ريح المسك الأذفر!
ومن أظرف اللحظات التي طابت فيها نفس تلك الحسناء الظلوم ما حدث به ابن سلام إذ قال: حجت عائشة بنت طلحة، فجاءتها الثريا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض فيمن جاء، فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يجيئها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها، ومعها ما أمرت لها به عائشة، والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف، فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة، فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا، فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها، فإنها كريمة بنت كرام، واندفع يغني بشعر جميل:
تذكرت ليلى فالفؤاد عميد
وشطت نواها فالمزار بعيد
فقالت: ويلكم! هذا مولى العبلات بالباب يذكر بنفسه،
47
هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنيتي صوتا في نفسي فلك كذا وكذا، شيء سمته له ذهب عن ابن سلام، قال: فغناها في شعر كثير.
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
إلى اليوم أخفي حبها وأداجن
48
وأحمل في ليلى لقوم ضغينة
وتحمل في ليلى علي الضغائن
فقالت له: ما عدوت ما في نفسي، ووصلته فأجزلت. ولهذين البيتين حديث ذكره الشعبي إذ قال: دخلت المسجد، فإذا أنا بمصعب بن الزبير على سرير جالس والناس عنده، فسلمت ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم قال: إذا قمت فاتبعني، فجلس قليلا ثم نهض، فتوجه نحو دار موسى بن طلحة فتبعته، فلما طعن في الدار التفت إلي فقال: ادخل. فدخلت معه ومضى نحو حجرته وتبعته، فالتفت إلي فقال: ادخل، فدخلت معه فإذا حجلة، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير
49
فقام ودخل الحجلة، فسمعت حركة، فكرهت الجلوس، ولم يأمرني بالانصراف، فإذا جارية قد خرجت فقالت: يا شعبي إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة، ورفع سجف الحجلة فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورفع السجف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، قال: فلم أر زوجا قط كان أجمل منهما؛ مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي هل تعرف هذه؟ فقلت: نعم، أصلح الله الأمير، قال: ومن هي؟ قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة، قال: لا، ولكن هذه ليلى الذي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
وذكر البيتين، ثم قال: إذ شئت فقم، فلما كان العشي رحت وإذا هو جالس على سريره في المسجد، فسلمت فلما رآني قال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى إلي فقال: هل رأيت مثل ذلك الإنسان قط؟ قلت: لا والله! قال: أفتدري لم أدخلناك؟ قلت: لا! قال: لتحدث بما رأيت! ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة، فقال: أعطه عشرة آلاف درهم، وثلاثين ثوبا، قال : فما انصرف أحد بمثل ما انصرفت به: بعشرة آلاف درهم، وبمثل كارة القصاب ثيابا، وبنظرة من عائشة بنت طلحة!
وهذه النظرة من عائشة بنت طلحة لها موقعها الخاص، فسنرى كيف يقول الغريض مثل هذا أيضا حين يحمل إليها كتاب الحارث بن خالد المخزومي، وما كان أحرصهم على انتهاب ذلك الوجه المشرق الفصيح!
وكانت لئيمة تصر على العنف، وتبيت العدوان، يؤيد هذا ما كان بينها وبين زوجها الأول، إذ مات وهي عنده فلم تفتح فاها عليه بالرغم من أنه كان ابن خالها، وأنها تزوجته برأي خالتها عائشة أم المؤمنين، فقد كانت أم عائشة بنت طلحة أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وزوجها هذا هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان صاحب الفضل عليها إذ لم تلد من أحد من أزواجها سواه: ولدت له عمران وبه كانت تكنى،
50
وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة، وكان ابنها طلحة من أجواد قريش، وله يقول الحزين الدؤلي:
فإن تك يا طلح أعطيتني
عذافرة تستخف العفارا
51
فما كان نفعك لي مرة
ولا مرتين ولكن مرارا
أبوك الذي صدق المصطفى
وسار مع المصطفى حيث سارا
وأمك بيضاء تيمية
إذا نسب الناس كانوا نضارا
52
وكان ذلك الزوج المنجب يضارها وتضاره، لولا أنه كان أطيب منها قلبا وأكرم نحيزة،
53
قيل له: طلقها، فقال:
يقولون: طلقها لأصبح ثاويا
مقيما علي الهم أحلام نائم
وإن فراقي أهل بيت أحبهم
لهم زلفة عندي لإحدى العظائم
ومن حديث لؤمها أن مصعبا دخل عليها مرة، وهي نائمة متصبحة ومعه ثمان لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها، فقالت له: نومتي كانت أحب إلي من هذا اللؤلؤ.
وتزوجت بعد مصعب عمر بن عبيد الله، وكان من أشد الناس غيرة، فكانت تسرف في الحديث عن مصعب وعن جماله لتغيظه بذلك، دخل عليها يوما وقد ناله حر شديد وغبار، فقال لها: انفضي التراب عني، فأخذت منديلا تنفض به عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحد قط كان أحسن منه على وجه مصعب! فكاد عمر يموت غيظا.
وكانت تكون لمن يجيء يحدثها في رقيق الثياب، فإذا قالوا: قد جاء الأمير، ضمت عليها مطرفها وقطبت، عنادا ولؤما، وكذلك نساء بني تميم فيما قيل: هن أشرس خلق الله وأحظى عند أزواجهن، وكانت عند الحسين بن علي أم إسحق بنت طلحة، فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني.
وكانت حادة الشهوة يتقدم إليها خاطبوها تصريحا وتلميحا بما عندهم في ذلك من غناء، ولها في هذا الباب أخبار لا نرى من الخير أن نبدئ فيها ونعيد، إذ كانت لا تخرج عما هو معروف من شره الطبائع النسائية، وحرصها على ما في أصلاب الرجال.
وهنا لا نرى بدا من الإشارة إلى ما يبده المولع بتاريخ ذلك العصر من فحولة الرجال، وأنوثة النساء، وذلك عندي هو سر تلك القوة التي استطاع بها العرب أن يسودوا العالم، وأن يخضعوه لسلطانهم في زمن قليل، وفحولة الرجال ظاهرة غالبة في عهد بني أمية، والصدر الأول من عهد بني العباس، فلا تكاد ترى رجلا ظاهرا إلا مصحوبا بسيرة ملؤها الفتك وقوامها الإسراف.
ويكاد يكون عصر بني أمية هو العصر الذي قوي فيه سلطان المرأة، وذل الرجل على بطشه وبأسه لما في ضعفها من القوة والجبروت، ويندر أن تجد شاعرا يحس خطر المرأة ويلمسه كما فعل ابن قيس الرقيات، إذ يقول في خطاب عائشة بنت طلحة:
عجبا لمثلك لا يكون له
خرج العراق ومنبر الملك
عقلها
كانت عائشة بنت طلحة حاضرة البديهة رائعة النكتة، في مكر وخبث، أصاب منها عمر بن عبيد الله يوما طيب نفس، فقال: ما مر بي مثل يوم أبي فديك!
54
فقالت له: اعدد أيامك واذكر أفضلها، فعد يوم سجستان ويوم قطرى بفارس ونحو ذلك، فقالت عائشة: قد تركت يوما لم تكن في أيامك أشجع منك فيه! قال: وأي يوم؟ قالت: يوم أرخت عليها وعليك رملة الستر!
55
ترميها بقبح الوجه، وروي أنها حجت فوفدت على هشام فقال لها: ما أوفدك؟ قالت: حبست السماء المطر ، ومنع السلطان الحق، قال: فإني أصل رحمك وأعرف حقك. ثم بعث إلى مشايخ بني أمية، فقال: إن عائشة عندي، فاسمروا عندي الليلة فحضروا، فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا سمته، فقال لها هشام: أما الأول فلا أنكره، وأما النجوم فمن أين لك؟ قالت: أخذتها عن خالتي عائشة، فأمر لها بمائة ألف درهم، وردها إلى المدينة.
جاهها
وكانت عائشة بنت طلحة في بسطة من المال يحسب حسابها الأمراء، ونساء الطبقة العالية من قريش، حجت مرة مع سكينة بنت الحسين، وكانت عائشة أحسن آلة وثقلا، فقال حاديها:
عائش يا ذات البغال الستين
لا زلت ما عشت كذا تحجين
فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها، فقال:
عائش هذه ضرة تشكوك
لولا أبوها ما اهتدى أبوك
فأمرت عائشة حاديها أن يكف، فكف. واستأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج، فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج، ففعلت وجاءت بهيئة جهدت فيها، فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها، فقالت: أرى هذه عائشة بنت طلحة! فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها، ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك، فقالوا: عائشة! عائشة! فضغطهم فسألت عنه فقالوا: هذه ماشطتها! ثم جاءت مواكب على هذا السنن، ثم أقبلت كوكبة فيها ثلاثمائة راحلة عليها القباب والهوادج، فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى!
ومن دلائل جاهها وعقلها ما ذكروا أنها لما تأيمت كانت تقيم بمكة سنة، وبالمدينة سنة، وتخرج إلى مال لها عظيم بالطائف، وقصر كان لها هناك، فتتنزه فيه وتجلس بالعشيات، فيتناضل بين يديها الرماة، فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب لها، فقالت: ائتوني به، فأتوها به، فقالت له: أنشدني مما قلت في زينب، فامتنع عليها وقال: تلك ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية، قالت: أقسمت عليك بالله إلا فعلت. فأنشدها قوله:
تضوع طيبا بطن نعمان إذ مشت
به زينب في نسوة عطرات
56
فأصبح ما بين الهماء فصاعدا
إلى الجزع جزع الماء ذي العشرات
57
له أرج من مجمر الهند ساطع
تطلع رياه من الكفرات
58
أعان الذي فوق السموات عرشه
موائس بالبطحاء مؤتجرات
59
مررن بفخ ثم رحن عشية
يلبين للرحمن معتجرات
60
يخبئن أطراف البنان من التقى
ويقتلن بالألحاظ معتذرات
تقسمن لبي يوم نعمان إنني
رأيت فؤادي عادم النظرات
جلون وجوها لم تلحها سمائم
حرور ولم يسعفن بالسبرات
61
فقلت: يعافير الظباء تناولت
يناع غصون الورد مهتصرات
62
ولما رأت ركب النميري أعرضت
وكن من أن يلقينه حذرات
63
دعت نسوة شم العرانين بزلا
نواعم لا شعثا ولا غبرات
64
فأدنين حتى جاوز الركب دونها
حجابا من القسي والحبرات
65
فكدت اشتياقا نحوها وصبابة
تقطع نفسي إثرها حسرات
فراجعت نفسي والحفيظة بعدما
بللت رداء العصب بالعبرات
66
فقالت: والله ما قلت إلا جميلا، ولا ذكرت إلا كرما وطيبا، ولا وصفت إلا دينا وتقى، أعطوه ألف درهم، فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها، فقالت: علي به، فأحضر، فقالت له: أنشدني من شعرك في زينب، فقال لها: أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد فيك، فوثب مواليها إليه، فقالت: دعوه فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه:
67
هات مما قال الحارث في، فأنشدها قوله:
ظعن الأمير بأحسن الخلق
وغدوا بلبك مطلع الشرق
وتنوء تثقلها عجيزتها
نهض الضعيف ينوء بالوسق
68
ما صبحت زوجا بطلعتها
إلا غدا بكواكب الطلق
قرشية عبق العبير بها
عبق الدهان بجانب الحق
بيضاء من تيم كلفت بها
هذا الجنون وليس بالعشق
فقالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وإني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق، أعطوه ألف درهم، واكسوه حلتين، ولا تعد لإتياننا بعد هذا يا نميري!
69
أخبارها مع الحارث بن خالد المخزومي
كان الحارث المخزومي - كما قال أبو الفرج الأصبهاني: في الجزء الثالث من «أغانيه» - أحد شعراء قريش المعدودين الغزلين، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة «رضي الله عنه!» لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء، وكان يهوى عائشة بنت طلحة ويشبب بها،
70
ولاه عبد الملك بن مروان مكة، وكان ذا قدر وخطر ومنظر في قريش، وسبب توليه مكة أن قومه بني مخزوم كانوا كلهم زبيرية إلا هو فإنه كان مروانيا، فلما ولي عبد الملك الخلافة وفد عليه في دين كان عليه سنة 75، وقيل: بل حج عبد الملك في تلك السنة، فلما انصرف رحل معه إلى دمشق، فظهرت له منه جفوة، وأقام ببابه شهرا لا يصل إليه فانصرف عنه، وقال فيه:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة
فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
وما بي وإن أقصيتني من ضراعة
ولا افتقرت نفسي إلى من يضيمها
عطفت عليك النفس حتى كأنما
بكفيك بؤسي أو عليك نعيمها
وبلغ عبد الملك خبره وأنشد الشعر فأرسل إليه من رد طريقه، فلما دخل عليه قال له: حار! أخبرني عنك، هل رأيت عليك في المقام ببابي غضاضة، أو في قصدي دناءة؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين! قال: فما حملك على ما قلت وفعلت؟ قال: جفوة ظهرت لي، كنت حقيقا بغير هذا! قال: فاختر: فإن شئت أعطيتك ألف درهم، أو قضيت دينك، أو وليتك مكة سنة فولاه إياها، فحج بالناس وحجت عائشة بنت طلحة عامئذ، وكان يهواها فأرسلت إليه: أخر الصلاة حتى أفرغ من طوافي! فأمر المؤذنين فأخروا الصلاة حتى فرغت من طوافها، ثم أقيمت الصلاة فصلى بالناس، وأنكر أهل الموسم ذلك من فعله وأعظموه، فعزله وكتب إليه يؤنبه فيما فعل، فقال: ما أهون والله غضبه إذا رضيت! والله لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخرت الصلاة إلى الليل!
فلما قضت حجها أرسل إليها: يا ابنة عمي! ألمي بنا وعدينا مجلسا نتحدث فيه، فقالت: في غد أفعل ذلك، ثم رحلت من ليلتها ولم تلم به، فقال:
ما ضركم لو قلتم سددا
إن المطايا عاجل غدها
ولها علينا نعمة سلفت
لسنا على الأيام نجحدها
لو تممت أسباب نعمتها
تمت بذلك عندنا يدها
إني وإياها كمفتتن
بالنار تحرقه ويعبدها
71
وقد حمل الغريض إليها هذه الأبيات في كتاب، فلما قرأته قالت: ما يدع الحارث باطله! ثم قالت للغريض: هل أحدثت شيئا؟ قال: نعم، فاسمعي، ثم اندفع يغني الأبيات، فقالت عائشة: والله ما قلنا إلا سددا، ولا أردنا إلا أن نشتري لسانه، وأتى على الشعر كله، فاستحسنته عائشة وأمرت له بخمسة آلاف درهم وأثواب، وقالت: زدني! فغناها في قول الحارث بن خالد أيضا:
زعموا بأن البين بعد غد
فالقلب مما أحدثوا يجف
والعين منذ أجد بينهم
مثل الجمان دموعها تكف
ومقالها ودموعها سجم:
أقلل حنينك حين تنصرف
تشكو ونشكو ما أشت بنا
كل بوشك البين معترف
72
فقالت له عائشة: يا غريض! بحقي عليك: أهو أمرك أن تغنيني في هذا الشعر؟
فقال: لا، وحياتك يا سيدتي! فأمرت له بخمسة آلاف درهم. ثم قالت له: غنني في شعر غيره، فغناها بقول عمر بن أبي ربيعة:
أجمعت خلتي مع الفجر بينا
جلل الله ذلك الوجه زينا
أجمعت بينها ولم نك منها
لذة العيش والشباب قضينا
فتولت حمولها واستقلت
لم ننل طائلا ولم نقض دينا
73
ولقد قلت يوم مكة لما
أرسلت تقرأ السلام علينا:
أنعم الله بالرسول الذي أر
سل والمرسل الرسالة عينا
فضحكت ثم قالت: وأنت يا غريض، فأنعم الله بك عينا، وأنعم ابن أبي ربيعة عينا! لقد تلطفت حتى أديت رسالته، وإن وفاؤك له لمما يزيدنا رغبة فيك، وثقة بك.
وقد كان عمر سأل الغريض أن يغنيها هذا الصوت؛ لأنه قد كان ترك ذكرها لما غضبت بنو تميم من ذلك، فلم يحب التصريح بها، وكره إغفال ذكرها، وقال له عمر: إن أبلغتها هذه الأبيات في غناء فلك خمسة آلاف درهم، فوفى له بذلك وأمرت له عائشة بخمسة آلاف أخرى.
ثم انصرف الغريض من عندها، فلقي عاتكة بنت يزيد بن معاوية امرأة عبد الملك بن مروان، وكانت قد حجت في تلك السنة فقال لها جواريها: هذا الغريض! فقالت لهن: علي به! فجئن به إليها، قال الغريض: فلما دخلت سلمت، فردت علي وسألتني عن الخبر فقصصته عليها، فقالت: غنني بما غنيتها به، ففعلت، فلم أرها تهش لذلك ، فغنيتها معرضا لها ومذكرا بنفسي في شعر مرة بن محكان يخاطب امرأته، وقد نزل به أضياف:
أقول والضيف مخشي ذمامته
على الكريم وحق الضيف قد وجبا:
74
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
ضمي إليك رحال القوم والقربا
75
في ليلة من جمادى ذات أندية
لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
76
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة
حتى يلف على خيشومه الذنبا
فقالت وهي مبتسمة: قد وجب حقك يا غريض، فغنني، فغنيتها:
يا دهر قد أكثرت فجعتنا
بسراتنا ووقرت في العظم
وسلبتنا ما لست مخلفه
يا دهر ما أنصفت في الحكم
لو كان لي قرن أناضله
ما طاش عند حفيظة سهمي
لو كان يعطي النصف قلت له:
أحرزت سهمك فاله عن سهمي
فقالت: نعطيك النصف، ولا نضيع سهمك عندنا، ونجزل لك قسمك، وأمرت لي بخمسة آلاف درهم وثياب عدنية، وغير ذلك من الألطاف، وأتيت الحارث بن خالد فأخبرته الخبر، وقصصت عليه القصة، فأمر لي بمثل ما أمرتا لي به جميعا، فأتيت ابن أبي ربيعة فأعلمته بما جرى فأمر لي بمثل ذلك، فما انصرف أحد من ذلك الموسم بمثل ما انصرفت به؛ بنظرة من عائشة، ونظرة من عاتكة، وهما من أجمل نساء عالمهما، وبما أمرتا لي به، وبالمنزلة عند الحارث وابن أبي ربيعة وما أجازاني به جميعا من المال.
وقدم المدينة قادم من مكة، فدخل على عائشة بنت طلحة، فقالت له: من أين أقبل الرجل؟ قال: من مكة، قالت: فما فعل الأعرابي؟ فلم يفهم ما أرادت، فلما عاد إلى مكة دخل على الحارث، فقال له: من أين؟ قال: من المدينة، قال: فهل دخلت على عائشة بنت طلحة؟ قال: نعم، قال: فماذا سألتك؟ قال: قالت لي: ما فعل الأعرابي؟ قال الحارث: فعد إليها ولك هذه الراحلة والحلة ونفقتك لطريقك، وادفع إليها هذه الرقعة، وكتب إليها فيها:
من كان يسأل عنا أين منزلنا
فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ نلبس العيش صفوا ما يكدره
طعن الوشاة ولا ينبو بنا الزمن
ليت الهوى لم يقربني إليك ولم
أعرفك إذ كان حظي منكم الحزن
وكان لعائشة بنت طلحة أمة يقال لها: بشرة، كان يذكرها الحارث في شعره يكنى بها عن سيدتها، من ذلك قوله:
يا ربع بشرة بالجنان تكلم
وأبن لنا خبرا ولا تستعجم
ما لي رأيتك بعد أهلك موحشا
خلقا كحوض الدارة المتهدم
تسقى الضجيع إذا النجوم تغورت
طوع الضجيع أنيقة المتوسم
وقوله:
لبشرة أسرى الطيف والخبت دونها
وما بيننا من حزن أرض وبيدها
وقرت بها عيني وقد كنت قبلها
كثيرا بكائي مشفقا من صدودها
وبشرة خود مثل تمثال بيعة
تظل النصارى حولها يوم عيدها
وقوله:
يا ربع بشرة إن أضر بك البلى
فلقد عهدتك آهلا معمورا
إن يمس حبلك بعد طول تواصل
خلقا ويصبح بيتكم مهجورا
فلقد أراني، والجديد إلى بلى،
زمنا بوصلك قانعا مسرورا
جذلا بما لي عندكم لا أبتغي
للنفس غيرك خلة وعشيرا
كنت المنى وأعز من وطئ الحصى
عندي وكنت بذاك منك جديرا
ولما مات عمر بن عبيد الله عن عائشة بنت طلحة،
77
وكانت قبله عند مصعب بن الزبير قيل للحارث بن خالد: ما يمنعك الآن منها؟ قال: لا يتحدث والله رجال من قريش أن نسيبي بها كان لشيء من الباطل.
78
وما أدري كيف رأى ذلك الشاعر الفحل أن النسيب لا يكون للحق إلا إذا خلا من مطامح القلب، ومطامع النفس، إن هي إلا كلمة رمى بها ليبرر صدوفه عن تلك الجنة العالية، حين خبا وجده، وتقطعت بضلاله الأسباب!
ما كان بينها وبين عمر
رأى القارئ أن عائشة بنت طلحة كانت رفيقة بابن أبي ربيعة، وأنها أنست بالغريض لوفائه له، وحرصه على تبليغ رسالته، فلنذكر الآن أن عمر رآها لأول مرة في الطواف، وهي تريد الركن تستلمه، فبهت لما رآها، وكانت من أجمل من أظلت سماء الحجاز، فلما علمت أنها وقعت في نفسه بعثت إليه بجارية لها، وقالت له: اتق الله ولا تقل هجرا، فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت، فقال للجارية: أقرئيها السلام، وقولي لها: إن ابن عمك لا يقول إلا خيرا، وقال فيها:
لعائشة ابنة التيمي عندي
حمى في القلب لا يرعى حماها
يذكرني ابنة التيمي ظبي
يرود بروضة سهل رباها
فقلت له وكاد يراع قلبي:
فلم أر قط كاليوم اشتباها
سوى حمش بساقك مستبين
وأن شواك لم يشبه شواها
79
وأنك عاطل عار وليست
بعارية ولا عطل يداها
وأنك غير أفرع وهي تدلي
على المتنين أسحم قد كساها
80
ولو قعدت ولم تكلف بود
سوى ما قد كلفت به كفاها
أظل إذا أكلمها كأني
أكلم حية غلبت رقاها
تبيت إلي بعد النوم تسري
وقد أمسيت لا أخشى سراها
وقال فيها أشعارا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تميم، أبلغهم إياه فتى منهم، وقال لهم: يا بني تيم بن مرة! ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم، فمشى ولد أبي بكر، وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك، وأخبروه بما بلغهم، فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدا، ثم أخذ يكني عن اسمها في قصائده، ويتلطف في تبليغها ما يريد على أعواد المغنين وبأصوات الغناء، فمن ذلك قصيدته التي مطلعها:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
81
أمسى العراقي لا يدري إذا برزت
من ذا تطوف بالأركان أو سجدا
ولم يزل ينسب بها أيام الحج ويطوف حولها، ويتعرض لها وهي تكره أن يرى وجهها حتى وافقها وهي ترمي الجمار سافرة فنظر إليها، فقالت: أما والله لقد كنت لهذا منك كارهة يا فاسق! فقال:
إني وأول ما كلفت بحبها
عجب وهل في الحب من متعجب؟!
نعت النساء فقلت: لست بمبصر
شبها لها أبدا ولا بمقرب
فمكثن حينا ثم قلن: توجهت
للحج موعدها لقاء الأخشب
82
أقبلت أنظر ما زعمن وقلن لي
والقلب بين مصدق ومكذب
فلقيتها تمشي بها بغلاتها
ترمي الجمار عشية في موكب
غراء يعشي الناظرين بياضها
حوراء في غلواء عيش معجب
83
إن التي من أرضها وسمائها
جلبت لحينك ليتها لم تجلب
وروي أن ابن أبي ربيعة لقي عائشة بنت طلحة بمكة، وهي تسير على بغلة لها، فقال: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك، فقالت: أوقد فعلت يا فاسق! قال: نعم، فوقفت فأنشدها:
يا ربة البغلة الشهباء هل لكم
أن ترحمي عمرا لا ترهقي حرجا
قالت: بدائك مت أو عش تعالجه
فما نرى لك فيما عندنا فرجا
قد كنت حملتنا غيظا نعالجه
فإن تقدنا فقد عنيتنا حججا
84
حتى لو اسطيع مما قد فعلت بنا
أكلت لحمك من غيظ وما نضجا
فقلت: لا والذي حج الحجيج له
ما مح حبك في قلبي ولا نهجا
85
ولا رأى القلب من شيء يسر به
مذ بان منزلكم منا ولا ثلجا
ضنت بنائلها عنه فقد تركت
في غير ذنب أبا الخطاب مختلجا
فلم تزل تداريه وترفق به؛ خوفا من أن يتعرض لها حتى قضت حجها، وانصرفت إلى المدينة، فقال في ذلك:
إن من تهوى مع الفجر ظعن
للهوى والقلب متباع الوطن
بانت الشمس وكانت كلما
ذكرت للقلب عاودت الددن
86
نظرت عيني إليها نظرة
مهبط الحجاج من بطن يمن
موهنا تمشي بها بغلتها
في عثانين من الحج ثكن
87
قلت: قد صدت فماذا عندكم
أحسن الناس لقلب مرتهن
ولئن أمست نواها غربة
لا تواتيني وليست من وطن
88
فلقدما قربتني نظرتي
لعناء آخر الدهر معن
ثم قالت: بل لمن أبغضكم
شقوة العيش وتكليف الحزن
سوف آتي زائرا أرضكم
بيقين فاعلميه غير ظن
فأجابت: هذه أمنية
ليت أنا نشتريها بثمن
وقال فيها أيضا هذه القصيدة:
من لقلب أمسى رهينا معنى
مستكينا قد شفه ما أجنا
إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا
نازح الدار بالمدينة عنا
أن أراه والله يعلم يوما
منتهى رغبتي وما أتمنى
ليت حظي كطرفة العين منها
وكثير منها القليل المهنا
أو حديث على خلاء يسلي
ما أجن الضمير منها ومنا
أنرى نعمة نراها علينا
منك يوما قبل الممات ومنا
خبرينا بما كتبت إلينا
أهو الحق أم تهزأت منا؟
ما نرى راكبا يخبر عنكم
أو يريد الحجاز إلا حزنا
ثم ما نمت بعدكم من منام
منذ فارقت أرضكم مطمئنا
ثم ما تذكرين للقلب إلا
زيد شوقا إليكم واستجنا
ويرجح أنه قال فيها القطعة الآتية:
يا أبا الحارث قلبي هائم
فأتمر أمر رشيد مؤتمن
علق القلب غزالا شادنا
يا لقوم لغزال قد شدن
89
اطلبن لي صاح وصلا عندها
إن خير الوصل ما ليس يمن
إن حبي آل ليلى قاتلي
ظهر الحب بجسمي وبطن
ليس حب فوق ما أحببته
غير أن أقتل نفسي أو أجن
جعلت للقلب مني حبها
شجنا زاد على كل شجن
فإذا ما شحطت هام بها
وإذا راعت إلى الدار سكن
ولنلاحظ أن شعر ابن أبي ربيعة في عائشة بنت طلحة لا يستطاع تعيينه عند الرجوع إلى ديوانه، فقد رأينا أنه أرغم على السكوت عنها، وأنه اكتفى بالتلميح في أكثر ما أوحت إليه من الشعر البليغ.
وعندما نلاحظ ذلك يصح لدينا أن كثيرا من الأسماء التي وردت في شعره لم يكن إلا أداة لستر حبه، وصرف الناس عن الكيد لمن يهوى من كرائم الملاح.
90 (4) سكينة بنت الحسين
أشرنا في كتاب «الأخلاق عند الغزالي» عند الكلام عن الباطنية إلى أن أكثر ما يحتل رءوس المسلمين من الأفكار والعقائد، ليس إلا أثرا للدعوات المتعددة التي قام بها العباسيون في الشرق، والفاطميون في الغرب، وأن الدعاة نجحوا في حشو تلك الرءوس الجوفاء بالخرافات والوساوس والأضاليل، وضربنا المثل بالمعبودات الصغيرة التي تسكن سماء القاهرة من عترة سيدنا الحسين!
واليوم نجرد القلم لتصوير السيدة سكينة، لا لنقنع من لا يقتنع بأنه لا خير في الطواف حول القبور، ولا لنجرح سيدة هي منذ أزمان موضع التقديس، ولا لنكبت قوما لا هم لهم إلا أن يتصيدوا لنا الهفوات على حساب الدين، إنما نكتب اليوم، كما كتبنا من قبل، متأثرين بفكرة واحدة كانت ولا تزال محور ما نبدئ فيه وما نعيد، وهي أن الإنسان مظهر من مظاهر الحياة، لا مفر له من أن يكون مصدرا للخير والشر، والظلمات والنور، والهدى والضلال.
والحياة تريده كذلك، فلو قد أراد أن يحور ملكا مسكنه في السماء، أو يصير شيطانا دأبه البغي والإغواء، لما استطاع إلى ذلك سبيلا. إنما هو أداة لهذه الحياة الغوية، الرشيدة، التي تطيب حين تشاء، وتخبت حين تريد، بلا رقيب ولا حسيب!
والسيدة سكينة كانت بنت الطبيعة قبل أن تكون بنت الحسين، كما كان أبوها غذي الفطرة، قبل أن يكون سبط الرسول، فلا يغضب قوم إن ذكرنا أنها كانت في عفافها نزقة طائشة، تؤثر الخفة على الوقار، وتهوى أن يخلد حسنها في قصائد الشعراء، فقد قضت الطبيعة أن تكون المرأة كذلك، إلا إن قدر لها المسخ فعادت شرطيا
91
يلبس أثواب النساء.
وهذه محاولة نحتاج إليها في مصر لنسوغ ما نكتبه عن السيدة سكينة في مثل هذا العصر، الذي يفيض بأخبار التردد والإشفاق، أما صورة تلك السيدة كما رسمها الأولون فهي صورة طبيعية لا غرابة فيها ولا شذوذ، ولو كتب عنها فصل في مجلة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية لتلقاه أهل الغرب بالقبول، وعدوا حياتها المرحة دليلا على تأصل الحضارة في تلك الأسرة التي سادت الشرق زمنا غير قليل.
ويا ليتني أعرف متى يتفق الناس على أصول الأخلاق؟ ففي بعض ما ننكر اليوم صور من الحياة الاجتماعية كانت في العصور الماضية من السائغ المألوف، وفي بعض ما نألفه ونرضاه أنماط من العادات والتقاليد كانت مما يكره الأقدمون، حتى الألفاظ والتعابير يديلها العرف، وتحيلها الأوضاع، وأشدنا حرصا على الأدب المكشوف يندى وجهه أمام طائفة من الكلمات لم يكن يتحرج منها المتجملون المهذبون في الزمن القديم، فلا يظن ناس أن ما ينكرونه على السيدة سكينة كان يقاس في عصرها بنفس ما عندهم من المقاييس، وإن كانت عناصر التحرج والتزمت غير جديدة في البيئات الإسلامية، فما أظن هذه السيدة سلمت في صلتها بابن أبي ربيعة من متورع يرميها على طهرها بالخلاعة والمجون.
وأعود فأقول: إني أكتب هذا الفصل وأنا أضمر الحب والإجلال لتلك السيدة النبيلة، التي قدرت نعمة الله عليها، فدلت وتاهت بما وسمت به من الملاحة والجمال، وعاشت في رعاية الحسن والحب غير حافلة بأوضاع الاجتماع، وكان فيها بلا ريب ما ينهى مثلها عن التبذل في مخالطة المغنين وملابسة الشعراء.
حياتها الأدبية
كانت السيدة سكينة حريصة على أن تعيش عيشة نابهة ملؤها الزهو والإعجاب، ويظهر مما نقل عنها من شتى الأحاديث أنها كانت سليمة الذوق في اختيار الوصائف، وكان بيتها لذلك خفيف الظل على الأدباء والشعراء، وكانت ترعى الحياة الأدبية رعاية لا تخلو من قسوة وعنف، فتفاضل بين المعاني والأغراض، وتجبه من تشاء من الشعراء بلاذع النقد وموجع التجريح، وكانت تهتم بنوع خاص بالمعاني الوجدانية التي تقال في وصف المرأة، وفي الخضوع لما لها من السطوة والجبروت، ولها حديث ممتع في نقد جرير والفرزدق وجميل وكثير ونصيب، أثبتناه في البحث الأول من كتاب «الموازنة بين الشعراء» وناقشناه هناك، فلا نعود إليه الآن، ونكتفي بإيراد حديثها مع راوية جرير وراوية كثير وراوية الأحوص، حين اجتمعوا بالمدينة وافتخر كل رجل منهم بصاحبه، وذهبوا إليها يحكمونها لما كانوا يعرفون من بصرها بالمعاني الجيدة، فقد قالت لراوية جرير بعد أن استأذنوا عليها، فأذنت لهم وعرفت ما كان من أمرهم: أليس صاحبك الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
وأي ساعة أحلى من الطروق؟
92
قبح الله صاحبك وقبح شعره! ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول:
يقر بعيني ما يقر بعينها
وأحسن شيء ما به العين قرت؟
فليس شيء أقر لعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح؟ قبح الله صاحبك وقبح شعره! ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي؟
فما أرى بصاحبك من هوى، إنما يطلب عقله، قبح الله صاحبك وقبح شعره! ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فوا حزنا من ذا يهيم بها بعدي؟
فما أرى له همة إلا فيمن يتعشقها بعده، قبحه الله، وقبح شعره! ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول :
من عاشقين تراسلا وتواعدا
ليلا إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلة وألذها
حتى إذا وضح الصباح تفرقا؟
قال: نعم، قالت: قبحه الله وقبح شعره، ألا قال: تعانقا.
فهي كما يرى القارئ قاسية عنيفة تتلمس الهفوات، وتعد السيئات، وتخاطب الرواة بلهجة خشنة جافية لا رفق فيها ولا إيناس، وما كانوا ليحتملوها لولا جمالها وسيطرتها على ناحية من الحياة الأدبية في ذلك العصر؛ هي تقدير الشعر الذي قيل خاصة في التشبيب بالنساء. ومن ذا الذي لا يرضى بأن تظلمه سيدة يلوذ بجمالها النبل والجاه والجمال؟ فما كل ظالم بغيض، ولا كل مظلوم مغبون!
ومن مظاهر عنفها الذي كان يتلقاه الشعراء بالقبول حديثها مع الفرزدق، وقد خرج حاجا، فلما قضى حجه خرج إلى المدينة فدخل مسلما، فقالت له: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت! أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبه عزيز
علي ومن زيارته لمام
ومن أمسي وأصبح لا أراه
ويطرقني إذا هجع النيام
قال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه، قالت: لا أحب! فاخرج عني! ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ قال: أنا! قالت: كذبت! صاحبك أشعر منك حيث يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها
كتم الحديث وعفت الأسرار
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ليل يكر عليهم ونهار
فقال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه، فأمرت به فأخرج، ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها، فقالت: يا فرزدق! من أشعر الناس؟ فقال: أنا! فقالت: كذبت! صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله أركانا
أتبعتهم مقلة إنسانها غرق
هل ما ترى تارك للعين إنسانا؟!
فقال: يا بنت رسول الله! إن لي عليك حقا عظيما، ضربت إليك من مكة إرادة السلام عليك ، فكان جزائي منك تكذيبي ومنعي من أن أسمعك، وبي ما قد عيل معه صبري، وهذه المنايا تغدو وتروح، ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإن أنا مت فأمري أن أدرج في كفني وأدفن في حر تلك الجارية، يعني الجارية التي أعجبته، فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية، فخرج بها آخذا بريطتها، وأمرت الجواري أن يضربن الدفوف تهنئة لهما، ثم قالت: يا فرزدق أحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي.
فلو صحت هذه القصة لكانت دليلا على تسامح تلك السيدة وغفرها تهافت الشعراء على ما كانت تملك من المولدات الحسان، والشاعر لم يخلق إلا ليشقى بالحسن ويعذب بالجمال، وبقدر إحساس السيدة سكينة لمحنة الشعراء المسرفين، وعلمها بما كتب عليهم من سفه المنى وطيش الأحلام، كانت ترق وتلين كلما شهدت إخلاصهم لما خلقوا له من عبادة الطرف الساحر والقد الرشيق، ويمكن الحكم بأن في توفرها على نقد النواحي الغزلية دليلا على أنها كانت تحيا حياة وجدانية معقدة، وكانت تجد في تفقد الصلات بين أرواح الشعراء، وقلوب النساء مفرا من لوعة الوجد المكتوم، ووقدة الحزن الدفين.
عنايتها بالغناء
وكانت سكينة تعنى بنقد الغناء عنايتها بنقد الشعر، وكان المغنون يقصدونها لذلك، فقد ذكر صاحب «الأغاني» أنها حجت فدخل إليها ابن سريج والغريض، وقد استعار ابن سريج حلة لامرأة من قريش فلبسها، فقال لها ابن سريج: يا سيدتي! إني كنت صنعت صوتا وحسنته، وتنوقت فيه، وخبأته لك في حريرة في درج مملوء مسكا فنازعنيه هذا الفاسق، يعني الغريض، فأردنا أن نتحاكم إليك فيه، فأينا قدمته فيه تقدم، قالت: هاته! فغناها:
عوجي علينا ربة الهودج
إنك إلا تفعلي تحرجي
93
إني أتيحت لي يمانية
إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كاملا كله
لا نلتقي إلا على منهج
94
في الحج إن حجت وماذا منى
وغيره إن هي لم تحجج
فقالت سكينة: ما أشبهكما إلا باللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يدرى أيهما أحسن.
وكان بيتها مألفا للمغنين، وكانت تؤثر ترفيه الناس بما تستطيع تقديمه إليهم من متع الغناء، حدث عبيد بن حنين الحيري قال: كان المغنون في عصر جدي أربعة نفر؛ ثلاثة بالحجاز، وهو وحده بالعراق، والذين بالحجاز ابن سريج والغريض ومعبد، فكان يبلغهم أن جدي حنينا قد غنى في هذا الشعر:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
وكففت عن ذم المشيب الآيب
هذا ورب مسوفين سقيتهم
من خمر بابل لذة للشارب
بكروا علي بسحرة فصبحتهم
من ذات كرنيب كقعب الحالب
95
بزجاجة ملء اليدين كأنها
قنديل صبح في كنيسة راهب
فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدي، وقالو: ما في الدنيا أهل صناعة شر منا، لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره، فكتبوا إليه، ووجهوا له نفقة، وكتبوا يقولون: نحن ثلاثة وأنت وحدك فأنت أولى بزيارتنا، فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره، فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم كان أكثر حشرا ولا جمعا من يومئذ، ودخلوا فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إلي، فقال له ابن سريج: إن كان لك من الشرف والمروءة مثل ما لمولاتي سكينة بنت الحسين عطفنا إليك، فقال: ما لي من ذلك شيء، وعدلوا إلى منزل سكينة، فلما دخلوا إليها أذنت للناس إذنا عاما فغصت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها، ثم إنهم سألوا جدي حنينا أن يغنيهم صوته الذي أوله:
هلا بكيت على الشباب الذاهب
وكففت عن ذم المشيب الآيب
فغناهم إياه بعد أن قال لهم: ابدءوا أنتم، فقالوا: ما كنا لنتقدمك، ولا لنغني قبلك حتى نسمع هذا الصوت، فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته، فسلموا جميعا وأخرجوا أصحاء، ومات حنين تحت الهدم، فقالت سكينة: لقد كدر علينا حنين سرورنا، انتظرناه مدة طويلة، كأنا والله كنا نسوقه إلى منيته.
96
ولها مع ابن سريج أخبار رأينا أن نضرب عنها صفحا لما في مقدماتها من مآثم تقف عندها حدود الأدب المكشوف.
أزواجها
تزوجت السيدة سكينة عدة أزواج، أشهرهم مصعب بن الزبير، وقد رأينا أن نكتب عنه هنا كلمة وجيزة لأمرين؛ الأول: أنه جمع بينها وبين عائشة بنت طلحة، فهو وثيق الصلة بما عنينا به من ترجمة هاتين المليحتين، الثاني: أنه يمثل الفتوة العربية أصدق تمثيل، ولا أعرف شيئا أحب إلى النفس من الحديث عن أولئك الفتيان الغطاريف، الذين ملئوا الدنيا بأخبار البأس والجود.
ويكفي في الإشادة بذكر ذلك الفتى أن يعرف القارئ أنه أعيا عبد الملك بن مروان وعناه، وأن عبد الملك كان يوجه إليه جيشا بعد جيش فيهزمون، فلما طال ذلك عليه واشتد غمه أمر الناس فعسكروا، ودعا بسلاحه فلبسه، فلما أراد الركوب قامت إليه أم يزيد ابنه، وهي: عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فقالت: يا أمير المؤمنين لو أقمت وبعثت إليه لكان الرأي، فقال: ما إلى ذلك من سبيل! فلم تزل تمشي معه وتكلمه حتى قرب من الباب، فلما علا الصوت رجع إليها عبد الملك، فقال: وأنت ممن يبكي! قاتل الله كثيرا، كأنه كان يرى يومنا هذا حيث يقول:
إذا ما أراد الغزو لم تثن همه
حصان عليها نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت فبكى مما شجاها قطينها
ثم عزم عليها بالسكوت وخرج.
97
وقال عبد الملك يوما لجلسائه: من أشجع الناس؟ فأكثروا في هذا المعنى، فقال: أشجع الناس مصعب بن الزبير، جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وابنة الحميد بنت عبد الله بن عباس؛ وولي العراقين، ثم زحف إلى الحرب فبذلت له الأمان والحباء والولاية، والعفو عما خلص في يده فأبى قبول ذلك، واطرح كل ماكان مشغوفا به من ماله وأهله وراء ظهره، وأقبل بسيفه قرما يقاتل، ما بقي معه إلا سبعة نفر، حتى قتل كريما.
98
وكانت سكينة تخفي ما في قلبها من مصعب، وتكاتمه وجدها به، وعطفها عليه، دخل إليها في حربه مع عبد الملك وقد نزع عنه ثيابه، ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت من خلفه: وا حزناه عليك يا مصعب! فالتفت إليها وقال: أوكل هذا لي في قلبك؟ فقالت: إي والله! وما كنت أخفي أكثر! فقال: لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي ولك حال، ثم خرج ولم يرجع.
ولما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك، فقالت: والله لا يتزوجني بعده قاتله أبدا! وفي رثاء مصعب يقول رجل من بني أسد بن عبد العزى:
لعمرك إن الموت منا لمولع
بكل فتى رحب الذراع أريب
فإن يك أمسى مصعب نال حتفه
لقد كان صلب العود غير هيوب
جميل المحيا يوهن القرن غربه
وإن عضه دهر فغير رهوب
أتاه حمام الموت وسط جنوده
فطاروا سلالا واستقى بذنوب
99
ولو صبروا نالوا حبا وكرامة
ولكنهم ولوا بغير قلوب
وقالت سكينة ترثيه:
فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي
يرى الموت إلا بالسيوف حراما
وقبلك ما خاض الحسين منية
إلى القوم حتى أوردوه حماما
جمالها
كانت السيدة سكينة إحدى نوادر الجمال في العصر الذي ظهرت فيه، وكانت تنافس عائشة بنت طلحة معبودة العيون والقلوب في ذلك الحين، وكانت حريصة مسرفة في الحرص على جمالها، حتى ليذكر صاحب «الأغاني» أنه خرجت بها سلعة
100
في أسفل عينها حتى كبرت، ثم أخذت وجهها وعينها، وكان درافيس منقطعا إليها وفي خدمتها، فقالت له: ألا ترى ما قد وقعت فيه؟ فقال لها: أتصبرين على ما يمسك من الألم حتى أعالجك؟ قالت: نعم! فأضجعها وشق جلد وجهها أجمع، وسلخ اللحم من تحتها، حتى ظهرت عروقها، وكان منها شيء تحت الحدقة فرفع الحدقة عنها حتى جعلها ناحية، ثم سل عروق السلعة من تحتها فأخرجها أجمع، ورد العين إلى موضعها وسكينة مضطجعة لا تتحرك ولا تئن، حتى فرغ مما أراد، وزال ذلك عنها وبرئت منه، وبقي أثر تلك الحزازة في مؤخر عينها، فكان أحسن شيء في وجهها من كل حلي وزينة، ولم يؤثر ذلك في نظرها ولا في عينها.
وكانت تحدث عن نفسها فتقول: أدخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة، وكانت ابنتها من مصعب جد جميلة، فكانت تثقلها بالحلي واللؤلؤ وتقول : ما ألبستها إياه إلا لتفضحه.
وكانت سكينة أحسن الناس شعرا، وكانت تصفف جمتها تصفيفا لم ير أحسن منه، حتى عرف ذلك، وكانت تلك الجمة تسمى «السكينية»، وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا يصفف جمته السكينية جلده وحلقه، وفي هذا دليل على أنها صاحبة بدعة
Mode
في تصفيف الشعر وتنسيقه، وكان تقليدها في تلك البدعة مما يقدح في أخلاق الرجال، ولولا تحرج المسلمين الأولين من التصوير لرأينا كيف كانت الفتنة في ذلك التصفيف، ولعرفنا بعد ما بين تلك البدعة وبدعة الشعر المقصوص في هذا الجيل.
أخلاقها
كانت السيدة سكينة تميل إلى الفكاهة والمزاح، تخالط الأجلة من قريش، ويجتمع إليها الشعراء، فتمزج الجد بالهزل، وتخلط الوقار بالمجون، ولها في الدعابة أحاديث طريفة، لسعتها يوما دبرة،
101
فقالت لها أمها: ما لك يا سيدتي؟ فضحكت وقالت: لسعتني دبيرة، مثل الأبيرة، أوجعتني قطيرة! وبعثت مرة إلى صاحب الشرطة: إنه دخل علينا شامي، فابعث إلينا بالشرط، فلما أتى إلى الباب أمرت ففتح له، وأمرت جارية من جواريها فأخرجت إليه برغوثا، ثم قالت: هذا الشامي الذي شكوناه!
وقيل لها يوما: أمك فاطمة يا سكينة وأنت تمزحين كثيرا وأختك لا تمزح! فقالت: لأنكم سميتموها باسم جدتها المؤمنة، تعني: فاطمة، وسميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام، تعني: آمنة بنت وهب أم الرسول، وكانت سكينة تسمى: آمنة، وسكينة لقب.
وكانت مع ميلها المفرط إلى الدعابة عفيفة نقية العرض، لا يؤخذ عليها غير العبث البريء، واللهو المباح.
وكانت لا تخلو من الخيلاء: فقد رآها سفيان بن حرب ترمي الجمار، فسقطت من يدها الحصاة السابعة فرمت بخاتمها، وكانت فيما يظهر ضيقة الصدر في معاملة الأزواج، ويرجع ذلك إلى غيرتها الشديدة وعنفها في مراقبة العشير؛ فقد روى أبو الفرج الأصبهاني أن زيد بن عمرو بن عثمان خرج إلى مال له مغاضبا لسكينة، وعمر بن عبد العزيز يومئذ والي المدينة، فأقام سبعة أشهر، فاستعدته سكينة على زيد وذكرت غيبته مع ولائده سبعة أشهر، وأنها شرطت عليه أنه إن مس امرأة، أو حال بينها وبين شيء من ماله، أو منعها مخرجا تريده، فهي خلية، فبعث إليه عمر فأحضره، وأمر ابن حزم أن ينظر بينهما، فجاءت سكينة وزيد جالس عند ابن حزم وفاطمة امرأة ابن حزم جالسة في الحجلة، فقال ابن حزم: أدخلوا سكينة وحدها، فقالت: والله لا أدخل إلا ومعي ولائدي: فأدخلن معها، فلما دخلت قالت: يا جارية! اثني لي هذه الوسادة، ففعلت، وجلست عليها، ولصق زيد بالسرير حتى كاد يدخل في جوفه خوفا منها. فقال لها ابن حزم: يا ابنة الحسين! إن الله يحب القصد في كل شيء، فقالت له: وما أنكرت مني؟ إني والله وإياك كالذي يرى الشعرة في عين صاحبه، ولا يرى الخشبة في عينه! فقال لها: أما والله لو كنت رجلا لسطوت بك! فقالت له: يا ابن فرتنى! لا تزال تتوعدني! وشتمته وشتمها، فلما بلغا ذلك قال ابن أبي الجهم العدوي: ما بهذا أمرنا، فأمض الحكم ولا نشاتم، فقالت لمولاة لها: من هذا؟ قالت: أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، فقالت: لا أراك هاهنا وأنا أشتم بحضرتك، ثم هتفت برجال قريش فغضب ابن أبي الجهم، وقالت: أما والله لو كان أصحابي في الحيرة أحياء لكفوا والله العبد اليهودي عن شتمه إياي، عدو الله! تشتمني وأبوك الخارج مع يهود ضنانة بدينهم لما أخرجهم رسول الله إلى أريحاء! فلما كلمها زيد وخضع لها قالت: ما أعرفني بك يا زيد! والله لا تراني أبدا! أتراك تمكث مع جواريك سبعة أشهر ثم أعود إليك! والله لا تراني بعد الليلة أبدا!
وأظرف ما كان يجري بينها وبين زوجها هذا تكليفها أشعب بمراقبته وترسم خطاه لتعلم ما كان يجترح من وصل الولائد الملاح.
صلتها بابن أبي ربيعة
ذكر صاحب «الأغاني»
102
أنه اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه، وحسن حديثه فتشوقن إليه وتمنينه، فقالت سكينة بنت الحسين: أنا لكن به! فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين وسمت له الليلة والوقت، وواعدت صواحباتها، فوافاهن عمر على راحلته ، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن، فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله والصلاة في مسجده، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئا، ثم انصرف إلى مكة وقال:
قالت سكينة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه
فيما أطال تصيدي وطلابي
كانت ترد لنا المنى أيامنا
إذ لا نلام على هوى وتصابي
خبرت ما قالت فبت كأنما
يرمي الحشا بنوافذ النشاب
103
أسكين ما ماء الفرات وطيبه
مني على ظمأ وفقد شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما
ترعى النساء أمانة الغياب
إن تبذلي لي نائلا أشفي به
داء الفؤاد فقد أطلت عذابي
وعصيت فيك أقاربي وتقطعت
بيني وبينهم عرى الأسباب
فتركتني لا بالوصال ممتعا
منهم ولا أسعفتني بثواب
فقعدت كالمهريق فضلة مائه
في حر هاجرة للمع سراب
وقال فيها:
أحب لحبك من لم يكن
صفيا لنفسي ولا صاحبا
وأبذل نفسي لمرضاتكم
وأعتب من جاءكم عاتبا
وأرغب في ود من لم أكن
إلى وده قبلكم راغبا
ولو سلك الناس في جانب
من الأرض واعتزلت جانبا
ليممت طيتها إنني
أرى قربها العجب العاجبا
104
فما ظبية من ظباء الأرا
ك تقرو دميث الربى عاشبا
105
بأحسن منها غداة الغميم
وقد أبدت الخد والحاجبا
غداة تقول على رقبة
لخادمها: يا احبسي الراكبا
فقالت لهم: فيم هذا الكلام؟
وأبدت لها عابسا قاطبا
فقالت: كريم أتى زائرا
يمر بكم هكذا جانبا
شريف أتى ربعنا زائرا
فأكره رجعته خائبا
وذكر صاحب «الأغاني» قصة أولئك النسوة مع عمر بصورة أخرى في أخبار الغريض، فحدثنا أنه وافاهن على رواحله والغريض معه، وأنه قال عند انصرافه إلى مكة:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
فلما كان بمكة قال: يا غريض! إني أريد أن أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه، ويبقى لك ذكره، فهل لك فيه؟ قال: افعل من ذلك ما شئت وما أنت أهله، قال: إني قلت في هذه الليلة التي كنا فيها شعرا فامض به إلى النسوة، فأنشدهن ذلك وأخبرهن أني وجهت بك فيه قاصدا، قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد سكينة، وقال لها: جعلت فداك يا سيدتي ومولاتي! إن أبا الخطاب أبقاه الله وجهني إليك قاصدا، قالت: أوليس في خير وسرور تركته؟ قال: نعم، قالت: وفيم وجهك أبو الخطاب حفظه الله؟ قال: جعلت فداك! إن ابن أبي ربيعة حملني شعرا وأمرني أن أنشدك إياه، قالت: فهاته، فأنشدها:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا
قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
قد حلفت ليلة الصورين جاهدة
وما على الحر إلا الصبر مجتهدا
لتربها ولأخرى من مناصفها
لقد وجدت به فوق الذي وجدا
لو جمع الناس ثم اختير صفوتهم
شخصا من الناس لم أعدل به أحدا
فقالت سكينة: يا ويحه! فما كان عليه ألا يرحل في غده! ووجهت إلى النسوة فجمعتهن وأنشدتهن الشعر، وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئا؟ قال: قد غنيته ابن أبي ربيعة، قالت: فهاته! فغناه الغريض فقالت سكينة: أحسنت والله وأحسن ابن أبي ربيعة! لولا أنك سبقت فغنيته عمر قبلنا لأحسنا جائزتك، يا بنانة؟ أعطه بكل بيت ألف درهم، فأخرجت بنانة أربعة آلاف درهم فدفعتها إليه. وقالت سكينة: لو زادنا عمر لزدناك.
هذا، وأحب أن لا ينسى القارئ أننا اعتمدنا في هذه الأخبار على «الأغاني» و«الأمالي» و«زهر الآداب»، وقد لاحظنا من قبل أنه لا يبعد أن يكون بعض هذه الأخبار غير صحيح، فقد ذكر صاحب «الأغاني» في موطن آخر
106
أن البيت: «قالت سكينة» روي: «قالت سعيدة»، وأن المراد: سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف، وإنما غيره المغنون فجعلوا سكينة مكان سعيدة، وأن إسحق الموصلي غنى الرشيد يوما:
قالت سكينة والدموع ذوارف
فوضع القدح من يده وغضب غضبا شديدا، وقال: لعن الله الفاسق ولعنك معه! فسقط في يد إسحق، فعرف الرشيد ما به فسكن ثم قال: ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي وبنت رسول الله! ألا تتحفظ في غنائك وتدري ما يخرج من رأسك! عد إلى غنائك الآن وانظر بين يديك! قال إسحق: فتركت هذا الصوت حتى نسيته، فما سمعه مني أحد بعده.
107
وفيما ذكرناه عن السيدة سكينة غنية لمن يريد أن يعرف كيف تمثلها الأدباء الأقدمون، أما صورتها في رءوس الصوفية فهي صورة القديسة التي تسيطر على الأرض والسماء، وكل حزب بما لديهم فرحون! (5) الثريا بنت علي
شغل صاحب «الأغاني» بتحقيق نسب هذه الثريا، فليرجع إليه من شاء، ولنمض نحن في الحديث عن فتنتها لعمر بن أبي ربيعة، وذكر ما أوحت إليه من الشعر الجيد البليغ.
كانت الثريا أعجوبة من أعاجيب الجمال، وقد وصفها معاصروها بمثل ما وصفوا به عائشة بنت طلحة، فذكروا أنها كانت خصبة الجسم، وثيرة الردف، قال بعض المكيين: كانت الثريا تصب عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها منه شيء من عظم عجيزتها، وقال مسلمة بن إبراهيم: قلت لأيوب بن مسلمة: أكانت الثريا كما يصف عمر بن أبي ربيعة؟ فقال: وفوق الصفة! كانت والله كما قال عبد الله بن قيس:
حبذا الحج والثريا ومن بال
خيف من أجلها وملقى الرحال
108
يا سليمان إن تلاق الثريا
تلق عيش الخلود قبل الهلال
درة من عقائل البحر بكر
لم تنلها مثاقب اللال
109
وكانت تصيف بالطائف، وكان عمر يغدو عليها كل غداة إذا كانت بالطائف على فرسه، فيسائل الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن الأخبار قبلهم، فلقي يوما بعضهم فسأله عن أخبارهم، فقال: ما استطرفنا خبرا، إلا أنني سمعت عند رحيلنا صوتا وصياحا عاليا على امرأة من قريش اسمها اسم نجم السماء، وقد ذهب عني اسمه، فقال عمر: الثريا؟ قال: نعم، وقد بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة، فوجه فرسه على وجهه إلى الطائف يركضه ملء فروجه وسلك طريق كداء، وهي أخشن الطرق وأقربها، حتى انتهى إلى الثريا وقد توقعته وهي تتشوف له فوجدها سليمة ومعها أختاها رضيا وأم عثمان، فأخبرها الخبر فضحكت وقالت: أنا والله أمرتهم لأختبر ما لي عندك، فقال عمر في ذلك:
تشكى الكميت الجري لما جهدته
وبين لو يسطيع أن يتكلما
110
فقلت له: إن ألق للعين قرة
فهان علي أن تكل وتسأما
لذلك أدني دون خيلي رباطه
وأصي به أن لا يهان ويكرما
عدمت إذن وفري وفارقت مهجتي
لئن لم أقل قرنا إن الله سلما
111
فما راعها إلا الأغر كأنه
عقاب هوت منقضة قد رأت دما
فقلت لهم: كيف الثريا هبلتم؟
فقالوا: ستدري ما مكرنا وتعلما
هنالك فانزل فاسترح فإذا بدت
ثرياك في أترابها الحور كالدمى
يردن احتياز السر منك فلا تبح
بما لم تكن عنه لدينا مجمجما
112
وكانت الثريا تغار على عمر غيرة شديدة، وتكاد تجن حين تقف على بعض أخباره مع ظراف النساء، بلغتها أم نوفل أنه قال في رملة بنت عبد الله:
أصبح القلب في الحبال رهينا
مقصدا يوم فارق الظاعنينا
فقالت: إنه لوقاح صنع بلسانه
113
ولئن سلمت له لأردن من شأوه
114
ولأثنين من عنانه، ولأعرفنه نفسه: فلما بلغت إلى قوله:
قلت: من أنتم فصدت وقالت:
أمبد سؤالك العالمينا؟!
قالت: أنه لسأل ملح قبحا له! ولقد أجابته إن وفت، فلما بلغت إلى قوله:
نحن من ساكني العراق وكنا
قبله قاطنين مكة حينا
قالت: غمزته الجهمة
115
فلما بلغت إلى قوله:
قد صدقناك إذ سألت فمن أن
ت عسى أن يجر شأن شئونا؟
قالت: رمته الورهاء بآخر ما عندها في مقام واحد.
116
وروي أن الثريا لم سمعت قول ابن أبي ربيعة في رملة:
وجلا بردها وقد حسرته
نور بدر يضيء للناظرينا
قالت: أف له ما أكذبه! أوترتفع حسناء بصفته لها بعد رملة.
117
ظرف ابن أبي عتيق
لما هجرت الثريا عمر قال فيها:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي
أتحب القتول أخت الرباب؟
قلت: وجدي بها كوجدك بالعذ
ب إذا ما منعت برد الشراب
من رسولي إلى الثريا، فإني
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب؟
غصبتني مجاجة المسك عقلي
فسلوها: ماذا أحل اغتصابي؟
أبرزوها مثل المهاة تهادى
بين خمس كواعب أتراب
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهرا
عدد الرمل والحصى والتراب
قال بلال مولى ابن أبي عتيق: أنشد ابن أبي عتيق قول عمر:
من رسولي إلى الثريا، فإني
ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
فقال: إياي أراد، وبي نوه! لا جرم، والله لا أذوق أكلا حتى أشخص فأصلح بينهما، ونهض ونهضت معه، فجاء إلى قوم من بني الديل بن بكر لم تكن تفارقهم نجائب لهم فره يكرونها، فاكترى منهم راحلتين وأغلى لهم، فقلت له: استوضعهم، أو دعني أماكسهم فقد اشتطوا عليك، فقال: ويحك! أما علمت أن المكاس ليس من أخلاق الكرام! ثم ركب إحداها وركبت الأخرى فسار سيرا شديدا، فقلت: أبق على نفسك! فإن ما تريد ليس يفوتك، فقال: ويحك!
أبادر حبل الود أن يتقضبا
118
وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا! فقدمنا مكة ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه فخرج إليه وسلم عليه ولم ينزل عن راحلته، فقال له: اركب أصلح بينك وبين الثريا فأنا رسولك الذي سألت عنه، فركب معنا وقدمنا الطائف، وقد كان عمر أرضى أم نوفل فكانت تطلب له الحيل لإصلاحها فلا يمكنها، فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفا لك بذنب لم يجنه، معتذرا إليك من إساءته إليك، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، وكررنا إلى مكة فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل، وزاد عمر في أبياته:
أزهقت أم نوفل إذ دعتها
مهجتي، ما لقاتلي من متاب
119
حين قالت لها: أجيبي! فقالت:
من دعاني؟ قالت: أبو الخطاب
120
فاستجابت عند الدعاء كما لبى
رجال يرجون حسن الثواب
121
الثريا وسهيل
كان مسعدة بن عمرو أخرج عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت الثريا وهو غائب، تزوجها سهيل بن عبد العزيز، فبلغه تزويجها وخروجها إلى مصر، فقال:
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يلتقيان؟
هي شامية إذا ما استقلت
وسهيل إذا استقل يماني
122
ثم حمله الشوق على أن سار إلى المدينة، فكتب إليها:
كتبت إليك من بلدي
كتاب موله كمد
كئيب واكف العين
ين بالحسرات منفرد
يؤرقه لهيب الشو
ق بين السحر والكبد
فيمسك قلبه بيد
ويمسح عينه بيد
فلما وصلتها هذه الأبيات وقرأتها بكت بكاء شديدا، ثم تمثلت:
بنفسي من لا يستقل بنفسه
ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع
وروى صاحب «الأغاني» من طريق آخر
123
أن سهيل بن عبد العزيز لما تزوج الثريا نقلها إلى الشام، وأن عمر بن أبي ربيعة لما بلغه الخبر أتى المنزل الذي كانت الثريا تنزله، فوجدها قد رحلت منه يومئذ، فخرج في أثرها فلحقها على مرحلتين، وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه، فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه، ومشى متنكرا حتى مر بالخيمة، فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومشيته، فقالت لحاضنتها:
124
كلميه، فسلمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه، فاعتذر وبكى، فبكت الثريا، فقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل، فحادثها إلى طلوع الفجر، ثم ودعها وبكيا طويلا وقام فركب فرسه، ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون، ثم أتبعهم بصره حتى غابوا، وأنشأ يقول:
يا صاحبي قفا نستخبر الطللا
عن حال من حله بالأمس ما فعلا
فقال لي الربع لما أن وقفت به:
إن الخليط أجد البين فاحتملا
125
وخادعتك النوى حتى رأيتهم
في الفجر يحتث حادي عيسهم زجلا
126
لما وقفنا نحييهم وقد صرخت
هواتف البين واستولت بهم أصلا
127
صدت بعادا وقالت للتي معها
بالله لوميه في بعض الذي فعلا
وحدثيه بما حدثت واستمعي
ماذا يقول ولا تعيي به جدلا
حتى يرى أن ما قال الوشاة له
فينا لديه إلينا كله نقلا
وعرفيه به كالهزل واحتفظي
في غير معتبة أن تغضبي الرجلا
فإن عهدي به والله يحفظه
وإن أتى الذنب ممن يكره العذلا
لوعندنا اغتيب أو نيلت نقيصته
ما آب مغتابه من عندنا جذلا
قلت: اسمعي فلقد أبلغت في لطف
وليس يخفى على ذي اللب من هزلا
هذا أرادت به بخلا لأعذرها
وقد أرى أنها لن تعدم العللا
ما سمي القلب إلا من تقلبه
ولا الفؤاد فؤادا غير أن عقلا
أما الحديث الذي قالت: أتيت به
فما عبأت به إذ جاءني حولا
128
ما إن أطعت بها بالغيب قد علمت
مقالة الكاشح الواشي إذا محلا
129
إني لأرجعه فيها بسخطته
وقد يرى أنه قد غرني زللا
130
وهي قصيدة طويلة اقتطفنا بعضها في المحاضرة الأولى عند الكلام عن إمعانه في التيه وإغرابه في الصلف.
الثريا عند الوليد بن عبد الملك
لما مات سهيل عن الثريا، أو طلقها، خرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في دين عليها، فبينما هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إذ دخل عليها الوليد، فقال: من هذه؟ فقالت: الثريا، جاءتني تطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها، فأقبل عليها الوليد فقال: أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا؟ قالت: نعم، أما إنه يرحمه الله كان عفيفا عفيف الشعر، أروي قوله:
ما على الرسم بالبليين لو بي
ن رجع السلام أو لو أجابا
131
فإلى قصر ذي العشيرة فالصا
ئف أمسى من الأنيس يبابا
132
موحشا بعد ما أراه أنيسا
من أناس يبنون فيه القبابا
أصبح الربع قد تغير منهم
وأجالت به الرياح الترابا
فتعفى من الرباب فأمسى ال
قلب في إثرها عميدا مصابا
وبما قد أرى به حي صدق
ظاهري العيش نعمة وشبابا
وحسانا جواريا خفرات
حافظات عند الهوى الأحسابا
لا يكثرن في الحديث ولا يت
بعن ينعقن بالبهام الظرابا
133
طيبات الأردان والنشر عينا
كمها الرمل بدنا أترابا
إذ فؤادي يهوى الرباب ويأبى الد
هر حتى الممات ينسى الربابا
ضربت دوني الحجاب وقالت
في خفاء فما عييت جوابا:
قد تنكرت للصديق وأظهر
ت لنا اليوم هجرة واجتنابا
قلت: لا بل عداك واش فأصبح
ت نوارا ما تقبلين عتابا
134
فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت منه، فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها: لله در الثريا! أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟ قالت: لا، قال: إني لما عرضت لها به عرضت لي بأن أمي أعرابية.
135
شعر عمر في الثريا
قال عمر في الثريا طائفة من القصائد مر بعضها في هذا الحديث، ومرت مختارات منها في المحاضرة الأولى والثالثة، فلنضف إليها هذه البائية:
شاق قلبي تذكر الأحباب
واعترتني نوائب الأطراب
يا خليلي فاعلما أن قلبي
مستهام بربة المحراب
136
علق القلب من قريش ثقالا
ذات دل نقية الأثواب
ربة للنساء في بيت ملك
جدها حل ذروة الأحساب
شف عنها محقق جندي
فهي كالشمس من خلال السحاب
137
فتراءت حتى إذا جن قلبي
سترتها ولائد بالثياب
قلت لما ضربن بالستر دوني
ليس هذا لعاشق بثواب
فأجابت من القطين فتاة
ذات دل رقيقة بعتاب:
أرسلي نحوه الوليدة تسعى
قد فعلنا رضا أبي الخطاب
افعلي بالأسير إحدى ثلاث
فافهميهن ثم ردي جوابي
اقتليه قتلا سريحا مريحا
لا تكوني عليه سوط عذاب
138
أو أقيدي فإنما النفس بالنف
س قضاء مفصلا في الكتاب
139
أو صليه وصلا يقر عليه
إن شر الوصال وصل الكذاب
وهذه اللامية:
يا خليلي سائلا الأطلالا
بالبليين إن أجزن سؤالا
وسفاه لولا الصبابة حبسى
في رسوم الديار ركبا عجالا
بعدما أوحشت من آل الثريا
وأجدت فيها النعاج الظلالا
يفرح القلب إن رآك وتستع
بر عيني إذا أردت احتمالا
وقد مر باقي هذه القصيدة البديعة في المحاضرة الثالثة عند الكلام عن تلطفه في مخاطبة الغواني، وتودده إليهن بحسن الحديث.
جناية الثريا على ثنايا عمر
زار عمر الثريا يوما ومعه صديق له كان يصاحبه، ويتوصل بذكره في الشعر، فلما كشفت الثريا الستر وأرادت الخروج إليه رأت صاحبه فرجعت، فقال لها: إنه ليس ممن أحتشمه، ولا أخفي عنه شيئا واستلقى فضحك، فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها، وكان النساء إذ ذاك يتختمن في أصابعهن العشر، فأصابت الخواتيم ثنيتيه العليين فنغضتا وكادتا تسقطان، فقدم البصرة فعولجتا له، فثبتتا واسودتا، فقال الحزين الكناني
140
يعيره بذلك:
ما بال سنيك أم ما بال كسرهما
أهكذا كسرا في غير ما باس
أم نفحة من فتاة كنت تألفها
أم نالها وسط شرب صدمة الكاس
ولقيه الحزين يوما فأنشده هذين البيتين، فقال له عمر: اذهب، اذهب ، ويلك! فإنك لا تحسن أن تقول:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
بكاء الثريا
لما ماتت الثريا طلب الغريض من بعض الشعراء أن يقول أبياتا ينوح بها عليها، فقال:
ألا يا عين ما لك تدمعينا
أمن رمد بكيت فتكحلينا
أم انت حزينة تبكين شجوا
فشجوك مثله أبكى العيونا
وكانت والله أهلا لأن تبكى بغير هذا الشعر الضعيف، لو عرف معاصروها أنهم يوم دفنوها إنما غيبوا الثريا في التراب! (6) زينب بنت موسى
كان سبب شغف ابن أبي ربيعة بزينب بنت موسى كما قال صاحب «الأغاني»: أن ابن أبي عتيق ذكرها عنده يوما فأطراها، ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلبه وأماله إليها، فقال فيها الشعر وشبب بها، فمن ذلك هذه النونية:
يا خليلي من ملام دعاني
وألما الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إن ال
قلب رهن بآل زينب عاني
ما أرى ما بقيت أن أذكر المو
قف منها بالخيف إلا شجاني
141
لم تدع للنساء عندي نصيبا
غير ما قلت مازحا بلساني
142
هي أهل الصفاء والود مني
وإليها الهوى فلا تعذلاني
حين قالت لأختها ولأخرى
من قطين مولد: حدثاني
143
كيف لي اليوم أن أرى عمر المر
سل سرا في القول أن يلقاني؟
قالتا: نبتغي رسولا إليه
ونميت الحديث بالكتمان
إن قلبي بعد الذي نلت منها
كالمعنى عن سائر النسوان
144
فلما بلغ ذلك ابن أبي عتيق لامه وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي؟ فقال:
إنني اليوم عادني أحزاني
وتذكرت ميعتي في زماني
145
وتذكرت ظبية أم رئم
هاج لي الشوق ذكرها فشجاني
146
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي
إن بي يا عتيق ما قد كفاني
لا تلمني وأنت زينتها لي
أنت مثل الشيطان للإنسان
إن بي داخلا من الحب قد أب
لى عظامي مكنونه وبراني
لو بعينيك يا عتيق نظرنا
ليلة السفح قرت العينان
إذ بدا الكشح والوشاح من الدر
ر وفصل فيه من المرجان
147
قد قلى قلبي النساء سواها
بعدما كان مغرما بالغواني
إن دهرا يلف شملي بسعدى
لزمان يهم بالإحسان
ليتني أشتري لنفسي منها
مثل ودي بساعدي وبناني
خلجت عيني اليمين بخير
تلك عين مأمونة الخلجان
قال قدامة بن موسى: خرجت بأختي زينب إلى العمرة، فلما كانت بسرف
148
لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم علي، فقلت له: إلى أين أراك متوجها يا أبا الخطاب؟ فقال: ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال
149
فأردت الحديث معها، فقلت: هل علمت أنها أختي؟ فقال: لا، واستحيا وثنى عنق فرسه راجعا إلى مكة.
150
وخرج ابن أبي ربيعة يريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقيا فاتعدا لبعض الشعاب فلما توسطا الشعب
151
أخذتهما السماء، فكره أن يرى بثيابها بلل المطر، فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه؟ فأمر غلمانه فستروهما بكساء خز كان عليه، وفي ذلك يقول:
ومن لسقيم يكتم الناس ما به
لزينب نجوى صدره والوساوس
أقول لمن يبغي الشفاء: متى تجئ
بزينب تدرك بعض ما أنت لامس
فإنك إن لم تشف من سقمي بها
فإني من طب الأطباء لآيس
ولست بناس ليلة الدار مجلسا
لزينب حتى يعلو الرأس رامس
152
خلاء بدت قمراؤه وتكشفت
دجنته وغاب من هو حارس
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابس
نجيين نقضي اللهو في غير مأثم
وإن رغمت م الكاشحين المعاطس
153
ومن شعره في زينب قوله:
طال من آل زينب الإعراض
للتعدي وما بها الإبغاض
ووليدين كان علقها القل
ب إلى أن علا الرءوس بياض
حبلها عندنا متين وحبلى
عندها واهن القوى أنقاض
154
نظرت يوم فرع لفت إلينا
نظرة كان رجعها إيماض
155
حين قالت لموكب كمها الرم
ل أطاعت له النبات الرياض
عجن نحو الفتى البغال نحيي
ه بما تكتم القلوب المراض
وأحدثه ما تضمنت منه
إذ خلا اليوم للمسير المراض
156
وقوله:
تصابى القلب وادكرا
صباه ولم يكن ذكرا
لزينب إذ تجد لنا
صفاء لم يكن كدرا
أليست بالتي قالت
لمولاة لها ظهرا
أشيري بالسلام له
إذا هو نحونا خطرا
لقد أرسلت جاريتي
وقلت لها: خذي حذرا
وقولي في ملاطفة
لزينب نولي عمرا
فهزت رأسها عجبا
وقالت: من بذا أمرا؟
أهذا سحرك النسوا
ن قد خبرنني الخبرا
وقوله:
أيها الكاشح المعير بالصر
م تزحزح فما لها الهجران
لا مطاع في آل زينب فارجع
أو تكلم حتى يمل اللسان
تجعل الليل موعدا حين تمسي
ثم يخفي حديثنا الكتمان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص
بر عن بعض نفسه الإنسان
ولقد أشهد المحدث عند ال
قصر فيه تعفف وبيان
157
في زمان من المعيشة لدن
قد مضى عصره وهذا زمان
ومن شعره فيها هذه الرائية الغزلة التي عدوها من هفواته، ورأوه ينسب فيها بنفسه، وهي لو يعلمون من أظرف ما يقوله شاعر حلو الشمائل في حسان يتلمسن أسباب هواه:
ما زال طرفي يحار إذ برزت
حتى رأيت النقصان في بصري
أبصرتها ليلة ونسوتها
يمشين بين المقام والحجر
ما إن طمعنا بها ولا طمعت
حتى التقينا ليلا على قدر
158
بيضا حسانا خرائدا قطفا
يمشين هونا كمشية البقر
159
قد فزن بالحسن والجمال معا
وفزن رسلا بالدل والخفر
160
قالت لترب لها تحدثها:
لنفسدن الطواف في عمر
قومي تصدي له ليعرفنا
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى
ثم اسبطرت تسعى على أثري
161
من يسق بعد المنام ريقتها
يسق بمسك وبارد خصر
162
وقد لاحظت أنه يفيض فيما يسبغ على زينب هذه من الأوصاف الحسية، كقوله:
يا من لقلب متيم كلف
يهذي بخود مريضة النظر
163
تمشي الهوينا إذا مشت فضلا
وهي كمثل العسلوج في الشجر
164
وقوله من كلمة أخرى:
خدلجة إذا انصرفت
رأيت وشاحها قلقا
165
وساقا تملأ الخلخا
ل فيه تراه مختنقا (7) فاطمة بنت عبد الملك
ربما كان حديث ابن أبي ربيعة مع فاطمة بنت عبد الملك بن مروان أظرف ما مر بنا من الأحاديث، لما فيه من المفاجآت التي تمثل دهاء ربات القصور في ذلك الحين، فقد روى صاحب «الأغاني» أنها حجت فكتب الحجاج إلى عمر بن أبي ربيعة يتوعده إن ذكرها في شعره بكل مكروه، وكانت تحب أن يقول فيها شيئا وتتعرض لذلك، فلم يفعل خوفا من الحجاج، فلما قضت حجها خرجت فمر بها رجل فقالت له: من أنت؟ قال: من أهل مكة، قالت: عليك وعلى أهل بلدك لعنة الله! قال: ولم ذاك؟ قالت: حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن، فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتا نلهو بها في الطريق في سفرنا، قال: فإني لا أراه إلا قد فعل، قالت: فأتنا بشيء إن كان قاله ولك به عشرة دنانير، فمضى إليه فأخبره، فقال: لقد فعلت، ولكن أحب أن تكتم علي، قال: أفعل، فأنشده:
راع الفؤاد تفرق الأحباب
يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
فظللت مكتئبا أكفكف عبرة
سحا تفيض كوابل الأسراب
لما تنادوا للرحيل وقربوا
بزل الجمال لطية وذهاب
كاد الأسى يقضي عليك صبابة
والوجه منك لبين إلفك كاب
وأنشده:
هاج قلبي تذكر الأحباب
واعترتني نوائب الأطراب
وهي قصيدة طويلة ذكر صاحب «الأغاني» في أخبار حنين أن ابن أبي ربيعة قالها في فاطمة بنت عبد الملك، وذكر في أخبار الشاعر نفسه أنه قالها في الثريا بنت علي، فلنقيد ذلك فإنه يؤيد ما أشرنا إليه من أن ابن أبي ربيعة غير صادق الحب، وأنه ينقل شعره من جميلة إلى جميلة وفقا لمقتضيات الظروف، وأن الرواة وضعوا من أقاصيص عشقه ما شاء لهم الخيال؛ ترويحا لأنفس السامرين من الخلفاء والأمراء.
حسابها لعمر على هتك الحرائر
ولنذكر تلك القصة الطريفة التي رواها صاحب «الأغاني» في أخبار ابن أبي ربيعة، إذ نقل أنه كان جالسا بمنى في فناء مضربه وغلمانه حوله، فأقبلت امرأة برزة عليها أثر النعمة، فسلمت فرد عليها السلام، فقالت له: أنت عمر بن أبي ربيعة؟ فقال لها: أنا هو، فما حاجتك؟ قالت له: حياك الله وقربك هل لك في محادثة أحسن الناس وجها، وأتمهم خلقا، وأكملهم أدبا، وأشرفهم حسبا؟ قال: ما أحب إلي ذلك! قالت: على شرط، قال: قولي، قالت: تمكنني من عينيك فأشدهما وأقودك حتى إذا توسطت الموضع الذي أريد حللت الشد، ثم أفعل ذلك بك عند إخراجك حتى أنتهي بك إلى مضربك، قال: شأنك، ففعلت ذلك به، فلما انتهت به إلى المضرب الذي أرادت، كشفت عن وجهه، فرأى امرأة على كرسي لم ير مثلها قط جمالا وكمالا، فسلم وجلس، فقالت: أنت عمر بن أبي ربيعة؟ قال: أنا عمر، قالت: أنت الفاضح للحرائر؟ قال: وما ذاك، جعلني الله فداك! قالت: ألست القائل:
قالت: وعيش أبي وحرمة والدي
لأنبهن الحي إن لم تخرج
فخرجت خوف يمينها فتبسمت
فعلمت أن يمينها لم تحرج
166
فتناولت رأسي لتعرف مسه
بمخضب الأطراف غير مشنج
167
فلثمت فاها آخذا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
168
ثم قالت: قم فاخرج عني! ثم قامت من مجلسها، وجاءت المرأة فشدت عينيه وقد دخله الكآبة والحزن ما لا طاقة له به، وبات ليلته، فلما أصبح إذا هو بها، فقالت: هل لك في العود؟ فقال: شأنك، ففعلت به مثل فعلها بالأمس حتى انتهت به إلى الموضع، فلما دخل إذا بتلك الفتاة على كرسي، فقالت: إيه يا فضاح الحرائر! قال: بماذا؟ جعلني الله فداك! قالت: بقولك:
وناهدة الثديين قلت لها: اتكي
على الرمل من جبانة لم توسد
فقالت: على اسم الله أمرك طاعة
وإن كنت قد كلفت ما لم أعود
فلما دنا الإصباح قالت: فضحتني
فقم غير مطرود وإن شئت فازدد
ثم قالت: قم فاخرج عني! فقام فخرج ثم رد، فقالت له: لولا وشك الرحيل، وخوف الفوت، ومحبتي لمناجاتاك والاستكثار من محادثتك، لأقصيتك، هات الآن كلمني وحدثني وأنشدني، فكلم آدب الناس وأعلمهم بكل شيء، ثم نهضت وأبطأت العجوز وخلا له البيت، فأخذ ينظر فإذا هو بتور فيه خلوق،
169
فأدخل يده فيه ثم خبأها في ردنه،
170
وجاءت تلك العجوز فشدت عينيه، ونهضت به تقوده حتى إذا صار على باب المضرب أخرج يده، فضرب بها على المضرب، ثم صار إلى مضربه فدعا غلمانه فقال: أيكم يقفني على باب مضرب عليه خلوق كأنه أثر كف فهو حر ، وله خمسمائة درهم، فلم يلبث أن جاء بعضهم فقال: قم، فنهض معه فإذا هو بالكف طرية، وإذا المضرب مضرب فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، فأخذت في أهبة الرحيل، فلما نفرت نفر معها، فبصرت في طريقها بقباب ومضرب وهيئة جميلة، فسألت عن ذلك فقيل لها: هذا عمر بن أبي ربيعة، فساءها الأمر، وقالت للعجوز التي كانت ترسلها إليه: قولي له: نشدتك الله والرحم أن تصحبني، ويحك! ما شأنك وما الذي تريد؟ انصرف ولا تفضحني وتشيط بدمك،
171
فسارت العجوز إليه فأدت ما قالت لها فاطمة، فقال: لست بمنصرف أو توجه إلي بقميصها الذي يلي جلدها، فأخبرتها ففعلت ووجهت إليه بقميص من ثيابها فزاده ذلك شغفا، ولم يزل يتبعهم لا يخالطهم حتى إذا صاروا على أميال من دمشق انصرف، وقال في ذلك:
ضاق الغداة بحاجتي صدري
ويئست بعد تقارب الأمر
وذكرت فاطمة التي علقتها
عرضا فيا لحوادث الدهر
ممكورة ردع العبير بها
جم العظام لطيفة الخصر
172
وكأن فاها عند رقدتها
تجري عليه سلافة الخمر
شرقا بذوب الشهد يخلطه
بالزنجبيل وفأرة التجر
173
عرضت لنا بالخيف في بقر
تقرو الكباث وناضر السدر
174
وجلت أسيلا يوم ذي خشب
ريان مثل فجاءة البدر
175
فسبت فؤادي إذ عرضت لها
يوم الرحيل بساحة القصر
بمزين ردع العبير به
حسن الترائب واضح النحر
176
وبجيد آدم شادن خرق
يرعى الرياض ببلدة قفر
177
لما رأيت مطيها حزقا
خفق الفؤاد وكنت ذا صبر
178
وتبادرت عيناي بعدهم
وانهل دمعهما على الصدر
ومن شعره فيها وقد جد بها الرحيل:
كدت يوم الرحيل أقضي حياتي
ليتني مت قبل يوم الرحيل
لا أطيق الكلام من شدة الوج
د ودمعي يسيل كل مسيل
ذرفت عينها ففاضت دموعي
وكلانا يلقى بلب أصيل
لو خلت خلتي أصبت نوالا
وحديثا يشفي مع التنويل
ولظل الخلخال فوق الحشايا
مثل أثناء حية مقتول
179
ولقد قالت الحبيبة: لولا
كثرة الناس جدت بالتقبيل
ليس طعم الكافور والمسك شيبا
ثم علا بالراح والزنجبيل
180
حين تنتابها بأطيب من في
ها طروقا إن شئت أو بالمقيل
181
ذاك ظني ولم أذق طعم فيها
لا وما في الكتاب من تنزيل
ربعة أو فويق ذاك قليلا
ونئوم الضحى وحق كسول
182
وقال فيها أيضا هذه الرائية:
يا خليلي شفني الذكر
وحمول الحي إذ صدروا
ضربوا حمر القباب لها
وأديرت حولها الحجر
لو سقي الأموات ريقتها
بعد كأس الموت لانتشروا
ويكاد الحجل من غصص
حين تستأنيه ينكسر
183
ويكاد العجز إن نهضت
بعد طول البهر ينبتر
184
أخيام البئر منزلهم
أم هم بالعمرة ائتمروا
185
أم بأعلى ذي الأراك لهم
مربع قد جاده المطر
186
سلكوا شعب النقاب بها
زمرا تحتثها زمر
187
وطرقت الحي مكتتما
ومعي عضب به أثر
188
وأخ لم أخش نبوته
بنواحي أمرهم خبر
189
فإذا ريم على فرش
في حجال الخز مختدر
190
حوله الأحراس ترقبه
نوم من طول ما سهروا
شبه القتلى وما قتلوا
ذاك إلا أنهم سمروا
191
فدعت بالويل آونة
حين أدناني لها النظر
ودعت حوراء آنسة
حرة من شأنها الخفر
192
ثم قالت للتي معها:
ويح نفسي قد أتي عمر
ما له قد جاء يطرقنا
ويرى الأعداء قد حضروا
لشقائي كان علقنا
ولحيني ساقه القدر
193
قلت: عرضي دون عرضكم
ولمن ناواكم الحجر
194
أزواجها
كانت فاطمة بنت عبد الملك تحت عمر بن عبد العزيز، فلما مات عنها تزوجها داود بن سليمان بن مروان، وكان قبيح الوجه، فقال في ذلك موسى شهوات:
أبعد الأغر ابن عبد العزيز
قريع قريش إذا يذكر
تزوجت داود مختارة
ألا ذلك الخلف الأعور
فكانت إذا سخطت عليه تقول: صدق والله موسى، إنك لأنت الخلف الأعور! فيشتمه داود.
ولفاطمة بنت عبد الملك أحاديث في فتنة من عاصرها من الشعراء، كنا نود ذكرها لولا إيثار الإيجاز. (8) هند بنت الحارث
هي إحدى جميلات ذلك العصر، وهي التي أوحت إلى عمر عينيته التي قرنها القدماء إلى رائيته وفضلوه بهما على جميل، ولنترك ابن أبي ربيعة يتكلم هذه المرة إذ كان حديثه عن هند يشبه ما يعرف بالاعتراف.
حدث مصعب بن عبد الله عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي، قال:
195
أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين وهو في مجلس قومه من بني مخزوم، فانتظرت حتى تفرق القوم، ثم دنوت منه ومعي صاحب لي ظريف، فقال: تعال حتى نهيجه على الغزل، فننظر هل بقي في نفسه منه شيء؟ فقلت: دونك! فقال: يا أبا الخطاب! لقد أحسن العذري وأجاد فيما قال، فنظر عمر إليه ثم قال له: وماذا قال؟ قال: حيث يقول:
لو جذ بالسيف رأسي في مودتها
لمر يهوي سريعا نحوها راسي
196
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم ناس
أو يقبض الله روحي صار ذكركم
روحا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيم لذكراكم يروحني
لكنت محترقا من حر أنفاسي
فارتاح عمر إلى هذه الأبيات، ثم قال: يا ويحه! أبعدما يجذ رأسه يميل إليها! فقلت: ولله در جنادة العذري! فقال عمر: حيث يقول ماذا ويحك! فقلت: حيث يقول:
سرت لعينك سلمى بعد مغفاها
فبت مستنبها من بعد مسراها
197
فقلت: أهلا وسهلا من هداك لنا
إن كنت تمثالها أو كنت إياها
تأتي الرياح التي من نحو بلدتكم
حتى أقول: دنت منا برياها
وقد تراخت بنا عنها نوى قذف
هيهات مصبحها من بعد ممساها
198
من حبها أتمنى أن يلاقيني
من نحو بلدتها ناع فينعاها
كيما أقول: فراق لا لقاء له
وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها
ولو تموت لراعتني وقلت لها:
يا بؤس للدهر ليت الموت أبقاها
فضحك عمر ثم قال: وأبيك لقد أحسن وأجاد وما أبقى
199
ولقد هيجتما علي ساكنا، وذكرتماني ما كان عني غائبا، ولأحدثنكما حديثا حلوا:
بينما أنا منذ أعوام جالس إذ أتاني خالد الخريت
200
فقال لي: يا أبا الخطاب، مرت بي أربع نسوة قبيل العشاء يردن موضع كذا وكذا لم أر مثلهن في بدو ولا في حضر، فيهن هند بنت الحارث المرية، فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من حديثهن، وتتمتع بالنظر إليهن، ولا يعلمن من أنت؟ فقلت له: ويحك! وكيف لي أن أخفي نفسي؟ قال: تلبس لبسة أعرابي ثم تجلس على قعود، فلا يشعرن إلا بك قد هجمت عليهن، ففعلت ما قال، وجلست على قعود فسلمت عليهن ثم وقفت بقربهن، فسألنني أن أنشدهن وأحدثهن، فأنشدتهن لكثير وجميل، والأحوص ونصيب وغيرهم، فقلن لي: ويحك يا أعرابي! ما أملحك وأظرفك! لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا فإذا أمسيت انصرفت في حفظ الله! فأنخت بعيري ثم تحدثت معهن، وأنشدتهن، فسررن بي وجذلن بقربي وأعجبهن حديثي، ثم تغامزن وجعل بعضهن يقول لبعض: كأنا نعرف هذا الأعرابي! ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة! فقالت إحداهن: هو والله عمر! فمدت هند يدها فانتزعت عمامتي فألقتها عن رأسي، ثم قالت: هيه يا عمر: أتراك خدعتنا منذ اليوم! بل نحن والله خدعناك، واحتلنا عليك بخالد فأرسلناه إليك لتأتينا في أسوأ هيئة ونحن كما ترى، ثم أخذنا في الحديث. فقالت هند: ويحك يا عمر! اسمع مني، لو رأيتني منذ أيام وأصبحت عند أهلي، فأدخلت رأسي في جيبي، فلما نظرت إلى كعثبي فرأيته ملء العين وأمنية المتمني ناديت: يا عمراه! يا عمراه! فصحت: يا لبيكاه! يا لبيكاه! ثلاثا، ومددت في الثالثة صوتي، فضحكت، وحادثتهن ساعة ثم ودعتهن وانصرفت، فذلك حيث أقول:
ألم تسأل الأطلال والمتربعا
ببطن حليات دوارس بلقعا
201
إلى السرح من وادي المغمس بدلت
معالمه وبلا ونكباء زعزعا
202
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعدما
نكأن فؤادا كان قدما مفجعا
203
لهند وأتراب لهند إذ الهوى
جميع وإذ لم نخش أن يتصدعا
204
وإذ نحن مثل الماء كان مزاجه
كما صفق الساقي الرحيق المشعشعا
205
وإذ لا نطيع الكاشحين ولا نرى
لواش لدينا يطلب الصرم موضعا
206
تنوعتن حتى عاود القلب سقمه
وحتى تذكرت الحديث المودعا
207
فقلت لمطريهن بالحسن: إنما
ضررت فهل تسطيع نفعا فتنفعا
208
وأشريت فاستشرى وقد كان قد صحا
فؤاد بأمثال المها كان موزعا
209
وهيجت قلبا كان قد ودع الصبا
وأشياعه فاشفع عسى أن تشفعا
210
لئن كان ما حدثت حقا فما أرى
كمثل الألى أطريت في الناس أربعا
فقال: تعال انظر فقلت: وكيف لي؟
أخاف مقاما أن يشيع فيشنعا
211
فقال: اكتفل ثم التثم وأت باغيا
فسلم ولا تكثر بأن تتورعا
212
فإني سأخفي العين عنك فلا ترى
مخافة أن يفشو الحديث فيسمعا
فأقبلت أهوى مثل ما قال صاحبي
لموعده أزجي قعودا موقعا
213
فلما تواقفنا وسلمت أشرقت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
214
تبالهن بالعرفان لما عرفنني
وقلن: امرؤ باغ أضل فأوضعا
215
وقربن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
فلما تنازعنا الأحاديث قلن لي:
أخفت علينا أن نغر ونخدعا؟
لبالأمس أرسلنا بذلك خالدا
إليك وبينا له الشأن أجمعا
فما جئتنا إلا على وفق موعد
على ملأ منا خرجنا له معا
رأينا خلاء من عيون ومجلسا
دميث الربى سهل المحلة ممرعا
216
وقلنا: كريم نال وصل كرائم
فحق له في اليوم أن يتمتعا
217
ولعمر في هند شعر كثير، منه هذه الرائية:
يا صاحبي قفا نستخبر الدارا
أقوت وهاجت لنا بالنعف تذكارا
218
تبدل الربع ممن كان يسكنه
أدم الظباء به يمشين أسطارا
219
وقد أرى مرة سربا به حسنا
مثل الجآذر لم يمسسن أبكارا
220
فيهن هند وهند لا شبيه لها
فيمن أقام من الأحياء أو سارا
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة
تخالها في ثياب العصب دينارا
221
تفتر عن ذي غروب طعمه ضرب
تخاله بردا من مزنة مارا
222
كأن عقد وشاحيها على رشأ
يقرو من الروض؛ روض الحزن أثمارا
223
قامت تهادى وأتراب لها معها
هونا تدافع سيل الزل إذ مارا
224
يممن مورقة الأفنان دانية
وفي الخلاء فما يؤنسن ديارا
225
تقول: ليت أبا الخطاب وافقنا
كي نلهو اليوم أو ننشد أشعارا
226
فلم يرعهن إلا العيس طالعة
يحملن بالنعف ركابا وأكوارا
227
وفارس يحمل البازي فقلن لها:
هاهم أولاء وما أكثرن إكثارا
228
لما وقفنا وعننا ركائبنا
بدلن بالعرف بعد الرجع إنكارا
229
قلن: انزلوا نعمت دار بقربكم
أهلا وسهلا بكم من زائر زارا
لما ألمت بأصحابي وقد هجعوا
حسبت وسط رحال القوم عطارا
من طيب نشر التي تامتك إذ طرقت
ونفحة المسك والكافور إذ ثارا
فقلت: من ذا المحيي وانتبهت له
ومن محدثنا هذا الذي زارا
230
قالت: محب رماه الحب آونة
وهيجته دواعي الحب إذ ثارا
حلي إزارك سكنى غير صاغرة
إن شئت واجزي محبا بالذي سارا
فقد تجشمت من طول السرى تعبا
وفي الزيارة قد أبلغت أعذارا
إن الكواكب لا يشبهن صورتها
وهن أسوأ منها بعد أخبارا
231
وفيها أيضا يقول:
هاج القريض الذكر
لما غدوا فابتكروا
على بغال شحج
قد ضمهن السفر
232
فيهن هند ليتني
ما عمرت أعمر
233
حتى إذا ما جاءها
حتف أتاني القدر
234
ومن شعره في هند تلك الدالية التي استطال بها على الحزين الكناني، وقد أشرنا إلى ذلك في أخبار الثريا، والتي كانت فيما بعد سببا لثورة الرشيد بالبرامكة، وتمزيقهم كل ممزق، حين دس إليه خصومهم من غناه:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
فلنذكرها هنا كاملة لأهميتها في الأدب والتاريخ، قال:
زعموها سألت جاراتها
وتعرت ذات يوم تبترد
235
أكما ينعتني تبصرنني
عمركن الله أم لا يتئد
فتضاحكن وقد قلن لها:
حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من أجلها
وقديما كان في الناس الحسد
غادة تفتر عن أشنبها
حين تجلوه أقاح أو برد
236
ولها عينان في طرفيهما
حور منها وفي الجيد غيد
237
طفلة باردة القيظ إذا
معمعان الصيف أضحى يتقد
238
سخنة المشتى لحاف للفتى
تحت ليل حين يغشاه الصرد
239
ولقد أذكر إذ قلت لها:
ودموعي فوق خدي تطرد
قلت: من أنت؟ فقالت: أنا من
شفه الوجد وأبلاه الكمد
نحن أهل الخيف من أهل منى
ما لمقتول قتلناه قود
240
قلت: أهلا أنتم بغيتنا
فتسمين فقالت: أنا هند
إنما ضلل قلبي فاحتوى
صعدة في سابري تطرد
241
إنما أهلك جيران لنا
إنما نحن وهم شيء أحد
حدثوني أنها لي نفثت
عقدا حبذا تلك العقد
242
كلما: قلت متى ميعادنا؟
ضحكت هند وقالت: بعد غد
وبمناسبة ما كان من سعي عمر إلى أتراب هند، نذكر ما نقله صاحب «الأغاني» عن الحارث بن خالد إذ قال:
243
بلغني أن الغريض خرج مع نسوة من أهل الشرف ليلا إلى بعض المتحدثات من نواحي مكة وكانت ليلة مقمرة، فاشتقت إليهن وإلى مجالستهن ، وإلى حديثهن ، وخفت على نفسي لجناية كنت أطالب بها، وكان عمر مهيبا معظما لا يقدم عليه سلطان ولا غيره، وكان مني قريبا، فأتيته فقلت له: إن فلانة وفلانة وفلانة، حتى سميتهن كلهن، قد بعثنني، وهن يقرأن عليك السلام، وقد تشوقنا إليك في ليلتنا هذه لصوت أنشدناه فويسقك الغريض، وكان الغريض يغني هذا الصوت فيجيده، وكان ابن أبي ربيعة به معجبا، وكان كثيرا ما يسأل الغريض أن يغنيه، وهو:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا
إذا أقول: صحا، يعتاده عيدا
244
كأن أحور من غزلان ذي بقر
أهدى لها شبه العينين والجيدا
245
قامت تراءى وقد جد الرحيل بنا
لتنكأ القرح من قلب قد اصطيدا
كأنني يوم أمسي لا تكلمني
ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا
246
أجري على موعد منها فتخلفني
فما أمل وما توفي المواعيدا
قد طال مطلي لو ان اليأس ينفعني
أو أن أصادف من تلقائها جودا
فلما أخبرته الخبر قال: لقد أزعجتني في وقت كانت الدعة أحب فيه إلي ولكن صوت الغريض، وحديث النسوة ليس له مترك، ولا عنه محيص، فدعا بثيابه فلبسها وقال: امض! فمضينا نمشي العجل حتى قربنا منهن، فقال لي عمر: خفض عليك مشيك، ففعلت، حتى وقفنا عليهن، وهن في أطيب حديث وأحسن مجلس، فسلمنا، فتهيبننا وتخفرن منا، فقال الغريض: لا عليكن! هذا ابن أبي ربيعة والحارث بن خالد جاءا متشوقين إلى حديثكن وغنائي، فقالت فلانة: وعليك السلام يا ابن أبي ربيعة! والله ما تم مجلسنا إلا بك، اجلسا، فجلسنا غير بعيد، وأخذن عليهن جلابيبهن وتقنعن بأخمرتهن وأقبلن علينا بوجوههن وقلن لعمر: كيف أحسست بنا وقد أخفينا أمرنا؟ فقال: هذا الفاسق جاءني برسالتكن، وكنت وقيذا من علة وجدتها،
247
فأسرعت الإجابة، ورجوت منكن على ذلك حسن الإثابة، فرددن عليه: قد وجب أجرك، ولم يخب سعيك، ووافق منا الحارث إرادة، فحدثهن بما قلت له من قصة غناء الغريض، فقال النسوة: والله ما كان ذلك كذلك، ولقد نبهتنا على صوت حسن، يا غريض! هاته! فاندفع الغريض يغني ويقول:
أمسى بأسماء هذا القلب معمودا
إذا أقول: صحا، يعتاده عيدا
حتى أتى الشعر كله إلى آخره، فكل استحسنه، وأقبل علي ابن أبي ربيعة فجزاني الخير، وكذلك النسوة، فلم نزل بأنعم ليلة وأطيبها حتى بدا القمر يغيب، فقمنا جميعا، وأخذ النسوة طريقا، ونحن طريقا، وأخذ الغريض معنا، وقال عمر في ذلك:
هل عند رسم برامة خبر
أم لا؟ فأي الأشياء تنتظر؟
وقفت في رسمها أسائله
والدمع مثل الجمان منحدر
قد ذكرتني الديار إذ درست
والشوق مما يهيجه الذكر
لا أنس طول الحياة ما بقيت
بطيبة روضة لها شجر
ممشى فتاة إلي تخبرني
عنهم عشاء ببعض ما ائتمروا
ومجلس النسوة الثلاث لدى ال
خيمات حتى تبلج السحر
فيهن هند والهم ذكرتها
تلك التي لا يرى لها خطر
248
ثم انطلقنا وعندنا ولنا
فيهن لو طال ليلنا وطر
وقولها للفتاة إذ أزف ال
بين أغاد أم رائح عمر
عجلان لم يقض بعض حاجته
ألا تأنى يوما فينتظر
الله جار له وإن نزحت
دار به أو بدا له سفر
وإلى هنا نكتفي بما قدمنا للقارئ من أخبار الملاح، وإن يكن للحديث بقايا أطيب من عبث الشباب على ضفاف النيل! (9) رائية ابن أبي ربيعة
لقد بحثنا لنعرف فيمن قيلت هذه القصيدة، ولكننا لم نصل بعد إلا إلى فروض بعضها يشبه اليقين، فمن الممكن أن تكون قيلت في عائشة بنت طلحة كما أشرنا إلى ذلك من قبل، فقد سهرت ليلة لهم ألم بها فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر
وقد قلنا: إنه لو لم يعنها بهذه الإشارة لما رجعتها حين قهرها الحزن في هدأة الليل.
ولكن أستاذنا الدكتور طه يرى أنها إنما تمثلت بهذا الشعر لا أكثر ولا أقل، وفي الحق أن ما في القصيدة من الحوادث يبعد أن تكون قيلت في عائشة بنت طلحة، وإن لم يبعد أن يكون الشاعر عناها ببعض أطراف الحديث، فقد نهاه قومها عن ذكرها في شعره وحمله وعيدهم على الاكتفاء بالتلميح.
وقد ذكر صاحب «الأغاني» أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس شعره في الثريا، فلما عدنا إلى حديث عمر مع ابن عباس وجدناه لم ينشده إلا قصيدتين؛ أولاهما داليته:
تشط غدا دار جيراننا
وللدار بعد غد أبعد
وأخراهما رائيته:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
أما الدالية فقد ذكر أنه قالها في فاطمة بنت محمد بن الأشعث الكندية، ولم يقل فيمن قال الرائية: أفنحسبه قالها في الثريا؟ المقدمات ترجح ذلك ولكنها لا تفيد اليقين.
وقد نص صاحب «الأغاني» في الجزء الرابع
249
أنه قالها في امرأة من قريش يقال لها: نعم كان كثيرا لذكرها في شعره، وكانت تكنى: أم بكر، وهي من بني جمح، ويؤيد هذا أن الشاعر ذكر نعما هذه في القصيدة، وإن لم يبعد أن يكون عنى غيرها في أثناء القصيد. •••
وقد حاولنا التثبت من نعم التي قيلت فيها هذه الرائية فلم نجد غير أخبار مقتضبة: منها أن ابن أبي ربيعة وابن أبي عتيق كانا جالسين بفناء الكعبة، فمرت بهما امرأة من آل أبي سفيان فدعا عمر بكتاب، فكتب إليها وكنى عن اسمها:
ألما بذات الخال فاستطلعا لنا
على العهد باق ودها أم تصرما
وقولا لها: إن النوى أجنبية
بنا وبكم قد خفت أن تتيمما
250
فقال له ابن أبي عتيق: سبحان الله! ما تريد إلى امرأة مسلمة محرمة أن تكتب إليها مثل هذا! قال: فكيف بما قد سيرته في الناس من قولي:
لقد حببت نعم إلينا بوجهها
مساكن ما بين الوتائر والنقع
251
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقتي
أكلفها سير الكلال مع الظلع
252
ومن أجل ذات الخال يوم لقيتها
بمندفع الأخباب أخضلني دمعي
253
ومن أجل ذات الخال آلف منزلا
أحل به لا ذا صديق ولا زرع
ومن أجل ذات الخال عدت كأنني
مخامر داء داخل أو أخو ربع
254
ألما بذات الخال إن مقامها
لدى الباب زاد القلب صدعا على صدع
وأخرى لدى البيت العتيق نظرتها
إليها تمشت في عظامي وفي سمعي
وحدث مصعب بن عبد الله أن عمر وافقها وهي تستلم الركن، فقرب منها، فلما رأته تأخرت وبعثت إليه جاريتها، فقالت له: تقول لك ابنة عمك: إن هذا مقام لا بد منه كما ترى، وأنا أعلم أنك ستقول في موقفنا هذا، فلا تقولن هجرا،
255
فأرسل إليها: لست أقول إلا خيرا، ثم تعرض لها وهي ترمي الجمار فأعرضت عنه واستترت، فقال:
دين هذا القلب من نعم
بسقام ليس كالسقم
إن نعما أقصدت رجلا
آمنا بالخيف إذ ترمي
وحدث مصعب أيضا أنه قيل لعمر بن أبي ربيعة: ما أحب شيء أصبته إليك؟ قال: بينا أنا في منزلي ذات ليلة إذ طرقني رسول مصعب بن الزبير بكتابه يقول: إنه قد وقعت عندنا أثواب مما يشبهك، وقد بعثت بها إليك وبدنانير ومسك وطيب وبغلة، قال: فإذا بثياب من وشي وخز العراق لم أر مثلها قط، وأربعمائة دينار ومسك وطيب كثير وبغلة، فلما أصبحت لبست بعض تلك الثياب، وتطيبت، وأحرزت الدنانير وركبت البغلة وأنا نشيط لا هم لي قد أحرزت نفقة سنتي، فما أفدت فائدة كانت أحب إلي منها، وقلت في ذلك:
ألا أرسلت نعم إلينا أن ائتنا
فأحبب بها من مرسل متعصب
256
فأرسلت أن لا أستطيع فأرسلت
توكد أيمان الحبيب المؤنب
فقلت لجناد: خذ السيف واشتمل
عليه بحزم وانظر الشمس تغرب
وأسرج لي الدهماء واعجل بممطري
ولا يعلمن خلق من الناس مذهبي
257
وموعدنا البطحاء أو بطن يأجج
أو الشعب ذو المسروح من بطن مغرب
258
فلما التقينا سلمت وتبسمت
وقالت مقال المعرض المتجنب:
أمن أجل واش كاشح بنميمة
مشى بيننا صدقته لم تكذب
قطعت حبال الوصل منا ومن يطع
بذي وده قول المحرش يعتب
259
فبات وسادي ثني كف مخضب
معاود عذب لم يكدر بمشرب
إذا ملت مالت كالكثيب رخيمة
منعمة حسانة المتجلبب
260
وحدث أيضا أن عمر بن أبي ربيعة بلغه أن نعما اغتسلت في غدير، فنزل عليه ولم يزل يشرب منه حتى نضب، ولعل هذا الحديث من أظرف ما صاغ الخيال!
وقد روي أنها استقبلت عمر في المسجد الحرام، وفي يدها خلوق من خلوق المسجد،
261
فمسحت به ثوبه ومضت وهي تضحك، فقال:
أدخل الله رب موسى وعيسى
جنة الخلد من ملاني خلوقا
مسحته من كفها في قميصي
حين طافت بالبيت مسحا رفيقا
غضبت إن نظرت نحو نساء
ليس يعرفنني سلكن طريقا
وأرى بينها وبين نساء
كنت أهذي بهن بونا سحيقا
262
ومن جيد شعره في نعم هذه الأبيات:
أيها القلب لا أراك تفيق
طالما قد تعلقتك العلوق
هل لك اليوم إن نأت أم بكر
وتولت إلى عزاء طريق
من يكن من هوى حبيب قريبا
فأنا النازح البعيد السحيق
263
قدر الحب بيننا فالتقينا
وكلانا إلى اللقاء مشوق
فالتقينا ولم نخف ما لقينا
ليلة الخيف والمنى قد تسوق
وجرى بيننا فجدد وصلا
حول قلب اللسان رفيق
لا تظني أن التراسل والبذ
ل لكل النساء عندي يليق
إن منهن للكرامة أهلا
والذي بينهن بون سحيق
أسلفنا أن عمر أنشد ابن عباس رائيته، فلنذكر ما رواه صاحب «الأغاني» في ذلك، قال:
بينا ابن عباس في المسجد الحرام، وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس، فقال: أنشدنا فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر؟
حتى أتى على آخرها، فأقبل عليع نافع بن الأزرق، فقال: الله يا ابن عباس، إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال؟ فقال: قال:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
فقال: ما أراك إلا وقد حفظت البيت! قال: أجل! وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها، قال: فإني أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. ولامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة، فقال : إنا نستجيدها.
وكان بعد ذلك كثيرا ما يقول: هل أحدث هذا المغيري شيئا بعدنا؟
264
ولم يقف أثر هذه القصيدة عند إعجاب ابن عباس، فقد أنشدها عمر طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري وهو راكب فوقف وما زال شانقا بغلته حتى كتبت له، وكان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: هذا شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد، حتى أنشد أبياتا من هذه القصيدة فقال: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.
وقال الرشيد للأصمعي: أنشدني أحسن ما قيل في رجل قد لوحه السفر، فأنشده:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
قليلا على ظهر المطية رحله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
فقال الرشيد: أنا والله ذلك الرجل، وكان هذا بعقب قدومه من بلاد الروم. فهذا دليل على أن أولئك الرجال كانوا يرون أنفسهم وحوادثهم مصورة في هذه القصيدة.
وكان ابن أبي ربيعة نفسه يراها في خير شعره، فقد حج في سنة من السنين، فلما انصرف من الحج لقي الوليد بن عبد الملك، وقد فرش له في ظهر الكعبة وجلس، فجاءه فسلم عليه، وجلس إليه، فقال له: أنشدني شيئا من شعرك، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير وقد تركت الشعر، ولي غلامان هما عندي بمنزلة الولد، وهما يرويان كل ما قلت وهما لك، قال: ائتني بهما ففعل، فأنشداه هذه الرائية، فطرب الوليد واهتز لذلك، ولم يزالا ينشدانه حتى قام، فأجزل صلته ورد الغلامين إليه.
ونحسب أن ما أسلفناه يكفي للتمهيد لهذه القصة، فلنقدمها للقارئ مصحوبة بالشرح والتفسير، قال:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجر
265
بحاجة نفس لم تقل في جوابها
فتبلغ عذرا والمقالة تعذر
266
تهيم إلى نعم فلا الشمل جامع
ولا الحبل موصول ولا القلب مقصر
ولا قرب نعم إن دنت لك نافع
ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر
وأخرى أتت من دون نعم ومثلها
نهى ذا النهى لو ترعوي أو تفكر
267
إذا زرت نعما لم يزل ذو قرابة
لها كلما لاقيتها يتنمر
268
عزيز عليه أن ألم ببيتها
يسر لي الشحناء والبغض مظهر
269
ألكني إليها بالسلام فإنه
يشهر إلمامي بها وينكر
270
بآية ما قالت غداة لقيتها
بمدفع أكنان أهذا المشهر
271
أشارت بمدراها وقالت لأختها:
أهذا المغيري الذي كان يذكر
272
أهذا الذي أطريت نعتا؟ فلم أكن
وعيشك أنساه إلى يوم أقبر
273
فقالت: نعم لا شك غير لونه
سرى الليل يحيي نصه والتهجر
274
لئن كان إياه لقد حال بعدنا
عن العهد والإنسان قد يتغير
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
275
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
276
قليل على ظهر المطية ظله
سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
277
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
فليست لشيء آخر الليل تسهر •••
وليلة ذي دوران جشمتني السرى
وقد يجشم الهول المحب المغرر
278
فبت رقيبا للرفاق على شفا
أحاذر منهم من يطوف وأنظر
279
إليهم متى يستمكن النوم منهم
ولي مجلس لولا اللبانة أوعر
280
وباتت قلوصى بالعراء ورحلها
لطارق ليل أو لمن جاء معور
281
وبت أناجي النفس أين خباؤها
وكيف لما آتي من الأمر مصدر
282
فدل عليها القلب ريا عرفتها
لها وهوى النفس الذي كاد يظهر
283
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت
مصابيح شبت بالعشاء وأنؤر
284
وغاب قمير كنت أهوى غيوبه
وروح رعيان ونوم سمر
285
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال
حباب وشخصي خشية الحي أزور
286
فحييت إذ فاجأتها فتولهت
وكادت بمخفوض التحية تجهر
287
وقالت وعضت بالبنان: فضحتني
وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
288
أريتك إذ هنا عليك ألم تخف
وقيت وحولي من عدوك حضر؟
فوالله ما أدري أتعجيل حاجة
سرت بك أم قد نام من كنت تحذر؟
فقلت لها: بل قادني الشوق والهوى
إليك وما نفس من الناس تشعر
فقالت وقد لانت وأفرخ روعها
كلاك بحفظ ربك المتكبر
289
فأنت أبا الخطاب غير مدافع
علي أمير ما مكثت مؤمر
فيا لك من ليل تقاصر طوله
وما كان ليلي قبل ذلك يقصر
ويا لك من ملهى هناك ومجلس
لنا لم يكدره علينا مكدر
يمج ذكي المسك منها مفلج
نقي الثنايا ذو غروب مؤشر
290
تراه إذا ما افتر عنه كأنه
حصى برد أو أقحوان منور
291
وترنو بعينيها إلي كما رنا
إلى ظبية وسط الخميلة جؤذر
292 •••
فلما تقضى الليل إلا أقله
وكادت توالي نجمه تتغور
293
أشارت بأن الحي قد حان منهم
هبوب ولكن موعد لك عزور
294
فما راعني إلا مناد: ترحلوا
وقد لاح معروف من الصبح أشقر
295
فلما رأت من قد تنبه منهم
وأيقاظهم قالت: أشر كيف تأمر؟
فقلت: أباديهم فإما أفوتهم
وإما ينال السيف ثأرا فيثأر
296
فقالت: أتحقيقا لما قال كاشح
علينا وتصديقا لما كان يؤثر
297
فإن كان ما لا بد منه فغيره
من الأمر أدنى للخفاء وأستر
أقص على أختي بدء حديثنا
وما لي من أن تعلما متأخر
298
لعلهما أن تطلبا لك مخرجا
وأن ترحبا سربا بما كنت أحصر
299
فقامت كئيبا ليس في وجهها دم
من الحزن تذري عبرة تتحدر
300
فقامت إليها حرتان عليهما
كساءان من خز دمقس وأخضر
301
فقالت لأختيها: أعينا علي فتى
أتى زائرا والأمر للأمر يقدر
فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا:
أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر
يقوم فيمشي بيننا متنكرا
فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر
302
فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
303 •••
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي:
ألم تتق الأعداء والليل مقمر؟
304
وقلن: أهذا دأبك الدهر سادرا
أما تستحي أو ترعوي أو تفكر؟
305
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
306
فآخر عهد لي بها حين أعرضت
ولاح لها خد نقي ومحجر
سوى أنني قد قلت يا نعم قولة
لها والعتاق الأرحبيات تزجر
307
هنيئا لأهل العامرية نشرها الل
ذيذ ورياها التي أتذكر
308
فقمت إلى عنس تخون نيها
سرى الليل حتى لحمها متحسر
309
وحبسي على الحاجات حتى كأنها
بقية لوح أو شجار مؤشر
310 •••
وماء بموماة قليل أنيسه
بسابس لم يحدث به الصيف محضر
311
به مبتنى للعنكبوت كأنه
على طرف الأرجاء خام منشر
312
وردت وما أدري أما بعد موردي
من الليل أم ما قد مضى منه أكثر
فقمت إلى مغلاة أرض كأنها
إذا التفتت مجنونة حين تنظر
313
تنازعني حرصا على الماء رأسها
ومن دون ما تهوى قليب معور
314
محاولة للماء لولا زمامها
وجذبي لها كادت مرارا تكسر
فلما رأيت الضر منها وأنني
ببلدة أرض ليس فيها معصر
315
قصرت لها من جانب الحوض منشأ
جديدا كقاب الشبر أو هو أصغر
316
إذا شرعت فيه فليس لملتقى
مشافرها منه قدى الكف مسأر
317
ولا دلو إلا القعب كان رشاءه
إلى الماء نسع والأديم المضفر
318
فسافت وما عافت وما رد شربها
عن الري مطروق من الماء أكدر
319 (10) لامية جميل
مرت الإشارة إلى هذه القصيدة في المحاضرة الثالثة، ولكنا رأينا أن نثبتها هنا بجانب رائية عمر؛ ليرى القارئ إلى أي حد صدق من قال: إن عمر أشعر من جميل في الرائية، وأن جميلا أشعر منه في اللامية، وقد بحثنا عن نسخة كاملة لهذه القصيدة، فلم نجد غير ما أثبته صاحب «الأغاني» في ترجمة جميل، ثم حاولنا الموازنة بين القصيدتين فلم نجد ما يبرر وضعهما في الميزان، إذ كانت رائية عمر أجمل بلا مراء، وجاء في «الأغاني» في أخبار الغريض: قال الزبير فيما أخبرني به الحرمي بن أبي العلاء عنه: من الناس من يفضل قصيدة جميل مختلفة غير مؤتلفة، فيها طوالع النجد، وخوالد المهد، وقصيدة عمر بين أبي ربيعة ملساء المتون مستوية الأبيات، آخذ بعضها بأذناب بعض، ولو أن جميلا خاطب في قصيدته مخاطبة عمر لأرتج عليه، وعثر كلامه به. قال جميل:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي
بثينة أو أبدت لنا جانب البخل
يقولون: مهلا يا جميل وإنني
لأقسم ما لي عن بثينة من مهل
أحلما؟! فقبل اليوم كان أوانه
أم اخشى؟! فقبل اليوم أوعدت بالقتل
لقد أنكحوا جهلا «نبيها» ظعينة
لطيفة طي الكشح ذات شوى خدل
320
وكم قد رأينا ساعيا بنميمة
لآخر لم يعمد بكف ولا رجل •••
ألا أيها البيت الذي حيل دونه
بنا أنت من بيت وأهلك من أهل
ثلاثة أبيات؛ فبيت أحبه
وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي
إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا
جرى الدمع من عيني بثينة بالكحل
كلانا بكى أو كاد يبكي صبابة
إلى إلفه واستعجلت عبرة قبلي
أبيت مع الهلاك ضيفا لأهلها
وأهلي قريب موسعون ذوو فضل
321
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي
فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها
ويا ويح أهلي ما أصيب به أهلي
وقالت لأتراب لها لا زعانف
قصار ولا كس الثنايا ولا ثعل
322
إذا حميت شمس النهار اتقينها
بأكسية الديباج والخز ذي الخمل
323
تداعين فاستجمعن مشيا بذي الغضا
دبيب القطا الكدري في الدمث السهل
324
إذا ارتعن أو فزعن أو قمن حولها
قيام بنات الماء في جانب الضحل
325
أجدى لا ألقى بثينة مرة
من الدهر إلا خائفا أو على رحل
خليلي فيما عشتما هل رأيتما
قتيلا بكى من حب قاتله قبلي؟
على أن من الحق أن نكرر ما أشرنا إليه فيما سلف من أن عمر أقل صدقا في الصبابة من جميل، فإن لم تشهد هذه اللامية على سبقه، فله قصائد ومقطوعات تجعله في الطراز الأول بين أصحاب العواطف والقلوب، أليس هو الذي يقول:
لما دنا البين؛ بين الحي واقتسموا
حبل النوى فهو في أيديهم قطع
جادت بأدمعها ليلى وأعجلني
وشك الفراق فما أبقي وما أدع
يا قلب ويحك ما عيشي بذي سلم
ولا الزمان الذي قد مر مرتجع
أكلما بان حي لا تلائمهم
ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علقتني بهوى مرد فقد جعلت
من الفراق حصاة القلب تنصدع؟
بلى! وهو الذي يقول:
وما زلتم يا بثن حتى لو انني
من الشوق أستبكي الحمام بكى ليا
إذا خدرت رجلي وقيل: شفاؤها
دعاء حبيب كنت أنت دعائيا
وما زادني النأي المفرق بعدكم
سلوا ولا طول التلاقي تقاليا
ولا زادني الواشون إلا صبابة
ولا كثرة الناهين إلا تماديا
لقد خفت أن يغتالني الموت عنوة
وفي النفس حاجات إليك كما هيا
وإني لتثنيني الحفيظة كلما
لقيتك يوما أن أبثك ما بيا
ألم تعلمي يا عذبة الريق أنني
أظل إذا لم أسق ريقك صاديا
هوامش
تأثير ابن أبي ربيعة في شعراء اللغة العربية
عرف القارئ كيف أثر عمر بن أبي ربيعة في شعراء عصره، وكيف حملهم على الاعتراف بتفوقه عليهم في مذاهب النسيب، فمن الخير أن نعرف كيف أثر فيمن خلفه من الشعراء.
وإنما عينا من خلف من بعده؛ لأنه غلب على شعراء عصره، فأضاف إليه الرواة أكثر القصائد التي وسمت بميسمه، وطبعت بطابعه، في حوار الملاح.
وكان طبيعيا أن نحاول معرفة من تأثر به ابن أبي ربيعة من القدماء، وإن كنا قد ألمعنا إلى ذلك في المحاضرة الثالثة، فلنذكر الآن أنه تأثر بامرئ القيس؛ فجاراه في الحديث عن حوادث الليل، ومدافعة الأحراس، ومطاوعة الصبا والحب في هصر أعواد الحسان.
وفي الحق أن أكثر ما مر من شعر ابن أبي ربيعة يذكرنا في الغرض والأسلوب بقول امرئ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
1
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا
علي حراصا لو يسرون مقتلي
2
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرض أثناء الوشاح المفصل
3
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
لدي الستر إلا لبسة المتفضل
4
فقالت: يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
5
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
على أثرينا ذيل مرط مرحل
6
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحت
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
7
هصرت بفودى رأسها فتمايلت
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
8
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
9
كبكر المقاناة البياض بصفرة
غذاها نمير الماء غير المحلل
10
تصد وتبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وجرة مطفل
11
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
12
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
13
غدائره مستشزرات إلى العلى
تضل المدارى في مثنى ومرسل
14
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
15
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
16
وتعطو برخص غير شثن كأنه
أساريع ظبي أو مساويك إسحل
17
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
منارة ممسى راهب متبتل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
إذا ما اسبكرت بين درع ومجول
18
تسلت عمايات الرجال عن الصبا
وليس فؤادي عن هواها بمنسل
19
ألا رب خصم فيك ألوى رددته
نصيح على تعذاله غير مؤتل
20
فعلى هذا المنهج جرى ابن أبي ربيعة في محاكاة امرئ القيس، ولكن أستاذنا الدكتور طه حسين يعكس القضية؛ فيقرر أن امرأ القيس هو الذي حاكى ابن أبي ربيعة، إذ يفترض أن شعر امرئ القيس منحول، وضعه شاعر إسلامي تأثر بعمر بن أبي ربيعة فحاكاه، وأجاد المحاكاة والتقليد، وعنده أن هذا النحو من القصص الغرامي في الشعر هو فن عمر بن أبي ربيعة قد احتكره احتكارا، ولم ينازعه فيه أحد، وأن من الغريب أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن، ويتخذ فيه هذا الأسلوب، ويعرف عنه هذا النحو، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بامرئ القيس، مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء الوصف، وأنه يبعد أن يكون امرؤ القيس هو منشئ هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة، والذي كون شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك.
21
وقد يلاحظ أن ابن أبي ربيعة أذاع في شعراء عصره فكرة تقارض المودة بين المحبين، وأظهر ما يكون ذلك في شعر العرجي،
22
إذ يقول:
وما أنس ملأشياء لا أنس موقفا
لنا ولها بالسفح دون ثبير
23
ولا قولها وهنا وقد بل جيبها
سوابق دمع لا يجف غزير
24
أأنت الذي خبرت أنك باكر
غداة غد أو رائح بهجير؟
25
فقلت: يسير بعض شهر أغيبه
وما بعض يوم غبته بيسير
أحين عصيت العاذلين إليكم
ونازعت حبلي في هواك أميري
وباعدني فيك الأقارب كلهم
وباح بما يخفي اللسان ضميري
وقلت لها قول امرئ شفه الهوى
إليها ولو طال الزمان فقير:
فما أنا إن شطت بك الدار أو نأت
بي الدار عنكم فاعلمي بصبور
ولنرجع فنذكر أننا بحثنا طويلا عن شاعر سلك مسلك عمر بن أبي ربيعة في مخاطبة النساء، فلم نجد من يقاربه غير بشار بن برد، الذي شهد آخر أيام بني أمية وصدر دولة بني العباس، ففي شعر بشار قرب من منهج ابن أبي ربيعة في محاورة الغواني والتودد إلى الملاح، وفيه كذلك تأنق في وصف الجوانب الحسية من المرأة المجدولة الخلق، المشرقة الجبين، وهو الذي يقول:
وبيضاء يضحك ماء الشبا
ب في وجهها لك إذ تبتسم
رواء العذارى إذا زرنها
أطفن بحوراء مثل الصنم
يرحن فيمسحن أركانها
كما يمسح الحجر المستلم
وفي هذا الشعر على يسره وسهولته نفحة من عبادة الجمال، وهو يذكرنا بقوله من كلمة ثانية:
تلقى بتسبيحة من حسن ما خلقت
وتستفز حشا الرائي بإرعاد
كأنما صورت من ماء لؤلؤة
فكل جارحة وجه بمرصاد
وقوله من كلمة أخرى يتحدث فيها عن ليلة وصل:
ومرتجة الأرداف مهضومة الحشا
تمور بسحر عينها وتدور
إذا نظرت صبت عليك صبابة
وكادت قلوب العالمين تطير
خلوت بها لا يخلص الماء بيننا
إلى الصبح دوني حاجب وستور
وذكر صاحب «زهر الآداب» أن بشارا لما قال:
لا يؤيسنك من مخبأة
قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة
والصعب يمكن بعدما جمحا
بلغ ذلك المهدي فغاظه، وقال: يحرض النساء على الفجور، ويسهل السبيل إليه! فقال له خاله يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، قد فتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:
عجبت فطمة من نعتي لها
هل يجيد النعت مكفوف البصر؟!
بنت عشر وثلاث قسمت
بين غصن وكثيب وقمر
درة بحرية مكنونة
مازها التاجر من بين الدرر
أذرت الدمع وقالت: ويلتي
من ولوع الكف ركاب الخطر
أمتا بدد هذا لعبي
ووشاحي حله حتى انتثر
فدعيني معه يا أمتا
علنا في خلوة نقضي الوطر
أقبلت في خلوة تضربها
واعتراها كجنون مستعر
بأبي والله ما أحسنه
دمع عين غسل الكحل قطر
أيها النوام هبوا ويحكم
وسلوني اليوم: ما طعم السهر؟
فأمره المهدي ألا يتغزل، فقال أشعارا في ذلك، منها هذه التائية:
يا منظرا حسنا رأيته
من وجه جارية فديته
لمعت إلي تسومني
ثوب الشباب وقد طويته
26
والله رب محمد
ما إن غدرت ولا نويته
أمسكت عنك وربما
عرض البلاء وما ابتغيته
إن الخليفة قد أبى
وإذا أبى شيئا أبيته
ويشوقني بيت الحبي
ب إذا غدوت وأين بيته؟!
قام الخليفة دونه
فصبرت عنه وما قليته
ونهاني الملك الهما
م عن النساء فما عصيته
لا بل وفيت ولم أضع
عهدا ولا رأيا رأيته
وفي الحق أننا نجد في القصيدة الأولى شبها قويا بشعر عمر بن أبي ربيعة، وإنه ليحاكيه حتى في التغزل بنفسه والتحدث عن أسره لقلوب النساء، ولو بقي شعر بشار لاستطعنا التثبت مما نراه من التشابه بين شعر هذين الشاعرين، ولكن شعر بشار ضاع فلم يبق إلا الاعتماد على تلك الشواهد الضئيلة في تأييد ما ذهبنا إليه، وإن كنا على يقين من أن لهذا الرأي حظا من الصحة غير قليل.
والخلاصة أننا لا نجد شاعرا بعد عمر بن أبي ربيعة وقف حياته وشعره على التشبيب بالنساء، وإن كنا لا ننكر أن كثيرا من الشعراء نحوا منحاه في القصص الغرامي، وإن لم يعرفوا بذلك، فإنا لا نشك في أن الأبيوردي حاكاه حين قال:
تنور سناها من بعيد ولا ترع
فليس على من آنس النار من باس
ومن موقديها غادة دونها الظبى
تلوح بأيدي غلمة غير أنكاس
27
وكل رديني كأن سنانه
يعط رداء الليل عنهم بنبراس
28
مهفهفة غرثي الوشاحين دونها
تحرش عذال ورقبة حراس
يضيء لها وجه يرق أديمه
فما ضرها لو رق لي قلبها القاسي
سموت لها والليل حارت نجومه
على أفق عار بظل الدجى كاسي
فهبت كما ارتاع الغزال وأوجست
من ابن أبيها خيفة أي إيجاس
تشير إلى مهري حذار صهيله
وتستكتم الأرض الخطى خشية الناس
فقلت لها: لا تفرقي وتشبثي
بنهاس أقران ومناع أخياس
29
ترد يديه عن وشاحك عفة
وعرض صقيل لا يزن بأدناس
30
وطوقتها يمنى يدي وصارمي
بيسراي فارتاحت قليلا لإيناسى
وذقت عفا عنا الإله وعنكم
جنى ريقة تلهي أخاكم عن الكاس
31
فلما استطال الفجر مال بعطفها
وداعى كما هز الصبا قضب الآس
ويمكن الحكم بأن أبا نواس جارى ابن أبي ربيعة في النسيب، لولا أنه غير مجرى الحديث، فنقله من النساء إلى الغلمان، وجارى أبا نواس فريق من شعراء الأندلس، أشهرهم ابن خفاجة الذي يقول في وصف ليلة قضاها بين ضلال الهوى وجنون الصهباء:
وليل تعاطينا المدام وبيننا
حديث كما هب النسيم على الورد
نعاوده والكأس يعبق نفحه
وأطيب منه ما نعيد وما نبدي
ونقلي أقاح الثغر أو سوسن الطلى
ونرجسة الأجفان أو وردة الخد
32
إلى أن سرت في جسمه الكأس والكرى
ومالا بعطفيه فمال على عضدي
فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي
من الحر ما بين الضلوع من البرد
وعاينته قد سل من وشي برده
فعاينت منه السيف سل من الغمد
ليان مجس واستقامة قامة
وهزة أعطاف ورونق إفرند
أغازل منه الغصن في مغرس النقا
وألثم وجه الشمس في مطلع السعد
فإن لم يكنها أو تكنه، فإنه
أخوها كما قد الشراك من الجلد
تسافر كلتا راحتي بجسمه
فطورا إلى خصر وطورا إلى نهد
فتهبط من كشحيه كفي تهامة
وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد (1) مصعب بن عبد الله الزبيري
وعدنا في مقدمة هذه الطبعة بكتابة فصل عن مصعب بن عبد الله الزبيري، الذي قدم شعر ابن أبي ربيعة إلى القدماء، وقد رأى القارئ أننا نقدناه في المحاضرة الثانية نقدا رآه أستاذنا الدكتور طه حسين إلى الظلم أقرب منه إلى الإنصاف، فلنف بما وعدنا به، ولنحدد بعد ذلك رأينا في ذلك البحث الطويل الذي كتبه مصعب عن عمر، ورآه أستاذنا الدكتور طه من ذخائر الأدب القديم.
33
مصعب الزبيري هو ابن عبد الله بن مصعب أحد الشعراء المجيدين والخطباء المفوهين، الذين نادموا أوائل الخلفاء من بني العباس، وتولوا لهم أعمالا، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير، فلما قتل محمد استتر إلى أن حج أبو جعفر المنصور، وأمن الناس جميعا فظهر، وكان يلقب «عائد الكلب» لقوله:
ما لي مرضت فلم يعدني عائد
منكم ويمرض كلبكم فأعود
وأشد من مرضي علي صدودكم
وصدود عبدكم علي شديد
وذكر الربيع بن يونس أنه دخل على المهدي، وإذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد الله بن مصعب:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها
مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يحجبوا عيني من دائم البكا
ولن يخرجوا ما قد أجن ضميري
وما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبة لظهور
إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى
ومن نفس يعتادني وزفير
ويقول: أحسن والله عبد الله بن مصعب ما شاء.
34
ونعود إلى مصعب بن عبد الله، فنذكر أننا لم نصل إلى الوقوف على تفاصيل حياته الأدبية، وإنما عرفنا مما ينقل عنه صاحب «الأغاني» أنه كان من كبار الكتاب في القرن الثالث، وإليه يرجع الفضل في تدوين أكثر أخبار المغنين والشعراء، وعبارته نقية واضحة سليمة لا يشوبها تكلف ولا غموض، وله شعر جيد لم يبق منه إلا القليل، وفيه على نزارته دليل على أنه كان من المبدعين.
ويظهر مما قرأناه من أخباره المتفرقة أنه كان يعيش في جماعة لها حظ من المال والجاه والجمال، فكانت حياته لذلك فيها نفحة وجدانية لا يظفر بها إلا من استظل بأعطاف الحسن الجامح والدل الغضوب، كان متصلا بأحمد بن هشام أخي علي بن هشام الذي كتب إليه إسحق الموصلي: جعلت فداك، بعث إلي أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه، لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله تدعنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة من شرها، أفسدت قلوبنا، وعلقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا، فبأي شيء تستحل هذا؟ أما ما ذكرته من شوقك إلي، فلولا أنك حلفت عليه لقلت:
يا من شكا عبثا إلينا شوقه
شكوى المحب وليس بالمشتاق
لو كنت مشتاقا إلي تريدني
ما طبت نفسا ساعة بفراقي
وحفظتني حفظ الخليل خليله
ووفيت لي بالعهد والميثاق
هيهات قد حدثت أمور بعدنا
وشغلت باللذات عن إسحق
قد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب في الشعر وغيره، وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد،
35
وأستقبل الشمال، وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله.
ألا قد أرى أن الثواء قليل
وأن ليس يبقى للخليل خليل
وإني وإن مليت في العيش حقبة
كذي سفر قد حان منه رحيل
فهل لي إلى أن تنظر العين مرة
إلى ابن هشام في الحياة سبيل
فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة
وفي النفس منه حاجة وغليل
وقد تورط مصعب في صحبة هذه الجماعة ولحقه من تقلبها بعض الشر والسوء، حين وقعت الجفوة بين أحمد بن هشام وإسحق بن إبراهيم، فقد لقي أحمد مصعبا فقال له: أما تستحي أنت وصباح بن خاقان المنقري، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب أن يشيد بذكركما إسحق في شعره فيقول:
قد نهانا مصعب وصباح
فعصينا مصعبا وصباحا
عذلا ما عذلا ثم ملا
فاسترحنا منهما واستراحا
فقال له مصعب: إن كان قد فعل فما قال إلا خيرا، إنما ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها، أو امرأة عشقها، وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا، قال: بماذا؟ قال بقوله:
وصافية تعشي العيون رقيقة
رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الروية موهنا
من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا
من العي نحكي أحمد بن هشام
وكان صباح بن خاقان نديما لمصعب بن عبد الله، فقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن، وكان خليعا من أهل البصرة:
من يكن إبطه كآباط ذا الخل
ق فإبطاي في عداد الفقاح
36
لي إبطان يرميان جليسي
بشبيه السلاح بل بالسلاح
فكأني من نتن هذا وهذا
جالس بين مصعب وصباح
وقد ظل مصعب وفيا لإسحق الموصلي إلى أن مات، فرثاه بقصيدة بليغة نقتطف منها الكلمة الآتية:
أتدري لمن تبكي العيون الذوارف
وينهل منها واكف ثم واكف
نعم لامرئ لم يبق في الناس مثله
مفيد لعلم أو صديق ملاطف
تجهز إسحق إلى الله غاديا
فلله ما ضمت عليه اللفائف
وما حمل النعش المزجى عشية
إلى القبر إلا دامع العين لاهف
صدورهم مرضى عليه عميدة
لها أزمة من ذكره وزفازف
37 •••
ذهبت وخليت الصديق بعولة
به أسف من حزنه مترادف
إذا خطرات الذكر عاودن قلبه
تتابع منهن الشئون النوازف
حبيب إلى الإخوان يرزون ماله
وآت لما يأتي امرؤ الصدق عارف
هو المن والسلوى لمن يستفيده
وسم على من يشرب السم زاعف
بكت داره من بعده وتنكرت
معالم من آفاقها ومعارف
هي الدار إلا أنها قد تخشعت
وأظلم منها جانب فهو كاسف
وقد كان فيها للصديق معرس
وملتمس إن طاف بالدار طائف •••
سريع إلى إخوانه برضائه
وعن كل ما ساء الأخلاء صارف
أرى الناس كالنسناس لم يبق منهم
خلافك إلا حشوة وزعانف
آراء مصعب في النقد
كان مصعب من الكتاب والنقاد الممتازين، ولكن نقده لم يصل إلينا بطريقة تفصل ما كان له من قواعد وأصول، فلم يبق إلا الاستئناس بما تفرق من آرائه؛ لنرى كيف كان يفهم الشعر، وكيف كان يحكم على الشعراء.
رأيناه يقضي في شعر العباس بن الأحنف وعمرو العراف، فيقرر أنهما «ما ابتذلا شعرهما رغبة أو رهبة، ولكن فيما أحباه، فلزما فنا واحدا لو لزمه غيرهما ممكن يكثر إكثارهما لضعف فيه.»
وهذا نظر بعيد من مصعب، فإن الشاعر الذي يكثر في فن واحد، ويجيد مع الإكثار أولى بالتقدمة ممن يجيد في طائفة من الفنون، وفي كلامه تقدير لصدق العاطفة التي تعد أساسا لجودة الشعر البليغ.
وقيل له: إن الناس يستبردون شعر العباس بن الأحنف، فقال: لقد ظلموه! أليس هو الذي يقول:
قالت ظلوم سمية الظلم:
ما لي رأيتك ناحل الجسم؟
يا من رمى قلبي فأقصده
أنت العليم بموقع السهم
وهو في هذا يذكرنا بكثير من القدماء الذين كانوا يحكمون للشعراء، أو عليهم بشواهد من شعرهم من غير أن يبينوا مواطن الضعف ومواقع القوة، وكذلك كان يرى أبا العتاهية أشعر الناس إذ قال:
تعلقت بآمال
طوال أي آمال
وأقبلت على الدنيا
ملحا أي إقبال
أيا هذا تجهز ل
فراق الأهل والمال
فلا بد من الموت
على حال من الحال
ولعل أظهر آثار مصعب في النقد هو كلمته المطولة في خصائص شعر عمر بن أبي ربيعة، وقد تكلمنا عنها في المحاضرة الثانية، وأشار أستاذنا الدكتور طه في «حديث الأربعاء» إلى أننا أسرفنا في نقده، وأن مصدر هذا الإسراف أننا لم نقدر كما ينبغي اختلاف المثل الأدبية باختلاف العصور والأجيال.
وهذا حق، إذ كان النقد يتأثر باختلاف الأذواق، وأنه لا يجب أن يرضينا ما كان يرضي أسلافنا من قبل، ولكن أليس في كلام مصعب بعد نقدنا له شيء يستحق التقدير؟
لقد بحثت في ذلك طويلا، فرأيت في كلمة مصعب ناحية لها حظ عظيم من الأهمية، وذلك أنه أراد التنويه بما أبدع ابن أبي ربيعة من التعابير، وأحدث من الصور؛ من ذلك تحيير ماء الشباب في قوله:
وهي مكنونة تحير منها
في أديم الخدين ماء الشباب
وغم الطير في قوله:
سراعا نغم الطير إن سنحت لنا
وإن تلقنا الركبان لا نتخبر
ومحالفته بسمعه وطرفه في قوله:
سمعي وطرفي حليفاها على جسدي
فكيف أصبر عن سمعي وعن بصري؟!
وإغلاقه رهن منى وإهداره قتلاه في قوله:
فكم من قتيل ما يباء به دم
ومن غلق رهنا إذا لفه منى
38
وجنيه الحديث في قوله:
فاجتنينا من الحديث ثمارا
ما جنى مثلها لعمرك جاني
وقياسه الهوى في قوله:
وقربن أسباب الهوى لمتيم
يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا
وتشكيه الذي أشجى فيه إذ يقول:
لعمرك ما جاورت غمدان طائعا
وقصر شعوب أن أكون به صبا
39
ولكن حمى أضرعتني ثلاثة
مجرمة ثم استمرت بنا غبا
40
وحتى لو أن الخلد يعرض إن مشت
إلى الباب رجلي ما نقلت لها إربا
41
فإنك لو أبصرت يوم سويقة
مناخي وحبسي العيس دامية حدبا
42
ومصرع إخوان كأن أنينهم
أنين مكاكي فارقت بلدا خصبا
43
إذن لاقشعر الجلد منك صبابة
ولاستفرغت عيناك من عبرة سكبا
وكلمة مصعب مثبتة في الجزء الأول من «الأغاني»، فليرجع إليها القارئ فقد يرى غير ما نراه. (2) الجوانب الجدية في حياة عمر بن أبي ربيعة
لقد أسلفنا القول في حب ابن أبي ربيعة وشعره، وقدمناه للقارئ في صورته التي ألفها الناس في حياته، وتمثلوها بعد مماته، فلم يبق إلا أن نقف قليلا عند الجوانب الجدية من حياة ذلك الشاعر الغزل الذي لم يره الناس إلا تبع نساء.
ولنعد مرة ثانية ما أشرنا إليه من قبل؛ فقد قلنا: إن كثيرا من حوادثه الغرامية من صنع الخيال، وقد قبلناه على علاته، واكتفينا بتلك الإشارة عند التمهيد لأخبار الملاح، إذ كانت حوادث ابن أبي ربيعة التي أضيفت إليه تدلنا على شيئين: فهي أولا علامة على أن المتقدمين أنسوا بروحه، وأسلموا قلوبهم لوحيه، فأبدعوا في ظلال ذكراه ما شاء الخيال من أحاديث الحب الظافر، والهوى الغلاب. وهي ثانيا دليل على أنه كان للمتقدمين ميل إلى القصص الغرامي وحظ من الإجادة فيه، فكان من الخير أن نستغل تلك الباكورة القصصية، ونحن نتحدث عمن هوى هذا الشاعر من حسان النساء.
ومن العجيب أنه لم يلتفت أحد من القدماء ولا المحدثين إلى حياة هذا الشاعر الجدية، ولم يخطر ببال باحث منهم أن الدنيا في أحداثها وتصاريفها وأعاجيبها قد تكون ألأم من أن تسمح لشاعر بأن يظل عمره يمرح ويلعب في ميادين الحب، وملاعب الجمال.
لقد عاش ابن أبي ربيعة سبعين سنة، وقد حدثونا أنه ودع لهوه وهواه بعد الأربعين، فيا ليت شعري كيف قضى الثلاثين الباقية، على فرض أنه أمضى أربعينه الأولى ناعم القلب، وادع الروح؟ ثلاثون سنة بلا لهو ولا عبث، ولا تذكر ولا التياع!
هذا والله كثير على شاعر روى شبابه بصهباء الرضاب، وقضى فوق ترائب الملاح ليالي وأياما كانت كل لحظة فيها خيرا من ألف سنة مما تعدون!
أصحيح أن ابن أبي ربيعة لم يقل كلمة واحدة في بكاء شبابه، والتوجع من مشيبه، وأنه ودع الشعر وداعا أبديا بعد الأربعين؟ أم كانت له مواقف شعرية لها لون غير اللون المشرق، وأن الرواة نسوها أو تناسوها؛ لأن هواهم كان يقضي ببقاء تلك الشخصية الجذابة في مرحها ولهوها؛ لتظل متعة بين نكت السمر، وأطايب الحديث؟
نحن إذن لا نعرف شيئا عن الفصل الأخير من تلك الرواية؛ لأنهم أسدلوا الستار بعد انقضاء الفصل الثاني حين حلف الشاعر لا يقول بيتا إلا أعتق رقبة، فلنبحث أكان الفصل الأول الذي مثل لنا الشاعر وهو يعبث في مناسك الحج صحيحا في جملته، أم كان فصلا غير محكم الوضع، ولا متقن التصوير، أراد واضعه أن يبرز ما فيه من الجوانب الغرامية، وأن يغفل الجوانب الجدية، لحاجة في نفس يعقوب؟! •••
أكتب هذا وأنا أذكر كلمة الثريا، وقد توسل إليها رسول عمر أن تعطف عليه، فقد قالت: ابن أبي ربيعة فارغ ونحن في شغل.
وهي كلمة نقرؤها باسمين؛ لأنها كلمة نسائية مألوفة من ربات الحجال، فإنه إذا فرغ عمر وشغلت الثريا فقد حق لنا أن نرتاب فيما نسب إليه من الفراغ!
ومن العجيب أن هذا الشاعر الذي اتفق القدماء والمحدثون على فراغه وبطالته هو صاحب هذا البيت:
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جز الذيول
وهو بيت عميق الأثر في النفوس العربية، وطالما كان لهبا تقبس منه عزائم الثائرين. وهو كذلك صاحب هذين البيتين:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
والقارئ يعلم أن خصوم البرامكة دسوا إلى الرشيد من غناه بهذا الشعر فثار بالبرامكة، ومزقهم كل ممزق، بفضل روح عمر بن أبي ربيعة الذي ظنوا شعره بردا وسلاما، وفيه لو يعلمون أنفاس السعير!
ولقد حدثونا أن أخاه الحارث كان ينهاه عن قول الشعر فيأبى أن يقبل منه، وأنه أعطاه ألف دينار على ألا يقول شعرا، فأخذ المال وخرج إلى أخواله بلحج وأبين
44
مخافة أن يهيجه مقامه بمكة على قول الشعر، فطرب يوما فقال:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
45
واحتل أهلك أجيادا فليس لنا
إلا التذكر أو حظ من الحزن
46
لو أنها أبصرت بالجزع عبرته
من أن يغرد قمري على فنن
47
إذن رأت غير ما ظنت بصاحبها
وأيقنت أن لحجا ليس من وطني
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها
وموقفي وكلانا ثم ذو شجن
وقولها للثريا وهي باكية
والدمع منها على الخدين ذو سنن
48
بالله قولي له في غير معتبة
ماذا أردت بطول المكث في يمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن
وأن القصيدة سارت حتى سمعها أخوه الحارث، فقال: هذا والله شعر عمر، قد فتك وغدر!
وأنا لا أصدق أن ابن أبي ربيعة ذهب إلى أخواله باليمن ليفر من نساء الحجاز، ولا أقبل أن يكون ابن أبي ربيعة قبل الرشوة من أخيه؛ ليتوب يوما أو يومين قبل أن يموت!
فلا بد إذن أن يكون قد ذهب إلى اليمن في شأن من الشئون الجدية، ولكن ما هو هذا الشأن؟ نحن لا نعرفه لأن الرواة لم يحدثونا عنه، إذ كان من هواهم أن يخترعوا لهذه القصيدة سببا طريفا يضاف إلى ما له من شهي الأقاصيص.
وقد حدثنا صاحب «الأغاني» أن مسعدة بن عمرو أخرج عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت الثريا وهو غائب، فليتنا نعلم أي غرض هذا الذي أخرج من أجله عمر بن أبي ربيعة إلى اليمن؟
فقد يكون أنشأ هذه النونية في هذه السفرة، إن لم يكن ذهب إلى اليمن مرتين لغرضين مختلفين.
على أن صاحب «الأغاني» ذكر في أخبار جميلة أنها لما قضت حجها سألها المكيون أن تجعل لهم مجلسا، فقالت: للغناء أم للحديث؟ قالوا: لهما جميعا، فقالت: ما كنت لأخلط جدا بهزل، وأبت أن تجلس للغناء، فقال عمر بن أبي ربيعة: أقسمت على من كان في قلبه حب لاستماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة، فإني خارج، فعزم جماعة من الأشراف والشعراء على الخروج، فلما قدمت المدينة تلقاها أهلها وأشرافها من الرجال والنساء، فلما دخلت منزلها وتفرق الجمع إلى منازلهم، ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم أتاها الناس مسلمين، فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء، وقالت لعمر بن أبي ربيعة: إني جالسة لك ولأصحابك، وإذا شئت قعد الناس لذلك اليوم، فغصت الدار بالأشراف من الرجال والنساء، فابتدأت جميلة فغنت:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
فضج القوم من حسن ما سمعوا، ودمعت عينا عمر حتى جرى الدمع على ثيابه ولحيته، وما رأوه كذلك من قبل.
وهذه القصة تدلنا على أن ابن أبي ربيعة كان لا يزال يلهو، ويتبع النساء بعد قصيدته التي قالها في اليمن شوقا إلى الحجاز، فلم يكن إذن بالرجل الذي يقبل الرشوة من أخيه ليودع قرة عينه في الحياة! •••
وهناك فرض آخر لتوبة ابن أبي ربيعة، فقد ذكروا أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم تكن له همة إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص، فكتب إلى عامله على المدينة:
قد عرفت عمر والأحوص بالخبث والشر، فإذا أتاك كتابي هذا فاشددهما واحملهما إلي.
فلما أتاه الكتاب حملهما إليه فأقبل على عمر فقال له: هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظر
ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون؟ أما والله لو اهتممت بأمر حجك لم تنظر إلى شيء غيرك، ثم أمر بنفيه، فقال: يا أمير المؤمنين، أو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: أعاهد الله أن لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدا، وأجدد توبة على يديك، قال: أوتفعل؟ قال: نعم، فعاهد الله على التوبة وخلاه.
ولم تقف قصة هذا الشعر عند عمر بن عبد العزيز، فقد ذكروا أيضا أن سليمان بن عبد الملك حج وهو خليفة، فأرسل إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: ألست القائل:
وكم من قتيل ما يباء به دم
ومن غلق رهنا إذا لفه منى
قال: نعم، فقال: لا جرم، والله لا تحضر الحج مع الناس هذا العام، وأخرجه إلى الطائف.
أفكان هذا الشعر بعينه شؤما على صاحبه إلى هذا الحد؛ فيمنع من الحج مرة، وينفى مرة؟!
أما أنا فأستبعد ذلك، وأرجح أن أنصار بني أمية أرادوا أن يبالغوا في وصف خلفائهم بالحزم والغيرة على الحرمات، فصوروا ابن أبي ربيعة طريدا لعبد الملك بن مروان
49
وسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز.
وهذا ليس بغريب في بابه؛ فقد اخترع أشياع عمر بن الخطاب حكاية جازت على الناس إلى اليوم، حتى أدخلها شاعرنا حافظ بك إبراهيم في قصيدته العمرية، وهي حكاية نصر بن حجاج، إذ زعموا أن عمر سمع امرأة تتغنى في هدأة الليل:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فغضب وطلب نصر بن حجاج، فإذا هو فتى وسيم الوجه، أجمل ما فيه شعره، فأمر أن يحلق لتتقى فتنته، ولكنه نظر فإذا هو أفتن الناس وهو حليق، فأمر بنفيه من المدينة!
وأنا لا أشك في أن هذا من حديث خرافة، فما كنت لأصدق أن عمر بن الخطاب يفرغ لهذه السفاسف، أو ينفي فتى لا ذنب له إلا أنه جميل، وهو يعلم أنه ينقل فتنته إلى غير المدينة من أمصار المسلمين. •••
وقد استقصيت أخبار عمر بن أبي ربيعة لأحدد ما كان في حياته من الجوانب الجدية، فرأيت مثلا أنه كان يشتغل بالدفاع عن قومه بني مخزوم، وأنه كان يقارع خصومهم، وله في ذلك حديثه المشهور يوم نازع اللهبي في المسجد الجامع،
50
ورأيت أيضا أنه كان حريصا مسرفا في الحرص على الاستبداد بالحياة الأدبية؛ فكان يعارض جميلا وجريرا والفرزدق والأحوص ومالك بن أسماء، وهذا نوع من الجد لو دونت أخباره لكان أمتع وأنفع من أخباره في أيام الطواف، ورأيت كذلك أنه تزوج غير مرة، وكان له بنون وبنات، وهذه شئون جدها جد، وهزلها جد، لو عني بها الرواة لأرونا كيف كان يقابل هذا الشاعر مصاعب الحياة.
وقد مرت بالقارئ إشارات إلى مواقفه مع جميل والفرزدق ونصيب وكثير، وله معهم حديث آخر سيجيء في باب الملح والفكاهات، فلنذكر هنا حديثه مع مالك بن أسماء، فقد كان مفتونا بشعره، وكان يتشوق إليه منذ سمع قوله:
إن لي عند كل نفحة بستا
ن من الورد أو من الياسمينا
نظرة والتفاتة أتمنى
أن تكوني حللت فيما يلينا
فلما تلاقيا وتعارفا وتناشدا قال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التي تذكرها فيه، قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قولك:
إن في الرفقة التي شيعتنا
بجوير يسما لزين الرفاق
ومثل قولك:
حبذا ليلتي بتل بونا
حيث نسقى شرابنا ونغنى
فقال له مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهو مثل ما تذكره في شعرك من أرض بلادك: قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قولك:
حي المنازل قد دثرن خرابا
بين الجوين وبين ركن كسابا
ومثل قولك:
ما على الرسم بالبليين لو بي
ين رجع السلام أو لو أجابا
وفي هذا الحديث نحو من الجد في نقد الشعر، ونظن أنه كانت له اتجاهات أدبية في النقد لم يدونها الرواة، إذ صرفوا همهم إلى حياته الغرامية.
قلت: إنه تزوج غير مرة، وكان له بنون وبنات، فلأذكر أني لم أستطع التثبت من عدد زوجاته ولا أبنائه؛ لأن الرواة أغفلوا الإفاضة في هذا الجانب من حياته الجدية، فلم يبينوا كيف كان يعامل زوجاته، ولا كيف كان يربي أولاده، ولا كيف كان يتصرف في تثمير أمواله، وتقويم عبيده وإمائه، ولم يعينوا «الحوائج» التي ذكروا في غير موطن أنه كان يعتمد في قضائها على الخلفاء.
ومع أن الرواة حدثونا أنه هجر الشعر بعد الأربعين، فقد حدثونا أيضا أنه نظر في الطواف إلى امرأة شريفة، فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها وكلمها فلم تجبه، فقال فيها شعرا جزعت منه فقيل لها: اذكريه لزوجك فإنه سينكر عليه قوله، فقالت: كلا والله، لا أشكوه إلا إلى الله، ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح، فاستجيبت دعوتها إذ غدا يوما على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة، فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمي وورم به ومات من ذلك، والاختلاق ظاهر في هذا الحديث.
ومن الرواة من حدث أنه مات في غزوة، والعجيب أن تدون حوادثه الغرامية بما رأى القارئ من التفصيل، ولا يتفق الرواة في حديثهم عن وفاته. أفنراهم أنصفوا يوم رأوا الموت غير خليق بعناية الأحياء؟!
هوامش
الملح والفكاهات
رأينا أن نختم هذا الكتاب بطائفة من الملح والفكاهات التي تتصل بعمر بن أبي ربيعة؛ ليرى القارئ كيف كانت تجري النادرة على ألسنة الحجازيين في ذلك الزمان.
1
أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن عتيق قوله:
لم تر العين للثريا شبيها
بمسيل التلاع يوم التقينا
1
فلما بلغ إلى قوله:
ثم قالت لأختها: قد ظلمنا
أن رددناه خائبا واعتدينا
قال: أحسنت والهدايا
2
وأجادت، ثم أنشد ابن أبي عتيق متمثلا:
أريني جوادا مات هزلا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
فلما بلغ عمر إلى قوله: في خلاء من الأنيس وأمن، قال ابن عتيق: أمكنت للشارب الغدر،
3
من عال بعدها فلا انجبر.
4
فلما بلغ إلى قوله:
فمكثنا كذاك عشرا تباعا
فقضينا ديوننا واقتضينا
قال: أما والله ما قضيتها ذهبا ولا فضة ولا اقتضيتها إياه، فلا عرفكما الله قبيحا.
فلما بلغ إلى قوله:
كان ذا في مسيرنا إذ حججنا
علم الله فيه ما قد نوينا
قال: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه، فأورد التفسير، ولئن مت لأموتن معك، أف للدنيا بعدك يا أبا الخطاب! فقال له عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد!
2
حدث محمد بن سلام قال: كانت سوداء بالمدينة مشغوفة بشعر عمر بن أبي ربيعة، وكانت من مولدات مكة، فلما ورد على أهل المدينة نعي عمر بن أبي ربيعة أكبروا ذلك، واشتد عليهم، وكانت السوداء أشدهم حزنا وتسلبا
5
وجعلت لا تمر بسكة من سكك المدينة إلا ندبته، فلقيها بعض فتيان مكة فقال لها: خفضي عليك فقد نشأ ابن عم له يشبه شعره شعره، فقالت: أنشدني بعضه، فأنشدها قوله:
إني وما نحروا غداة منى
عند الجمار تئودها العقل
6
لو بدلت أعلى منازلها
سفلا وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها
فيرده الإقواء والمحل
7
لعرفت مغناها بما احتملت
مني الضلوع لأهلها قبل
فجعلت تمسح عينها من الدموع وتقول: الحمد لله الذي لم يضيع حرمه!
كذلك روى صاحب «الأغاني»
8
أما صاحب «زهر الآداب» فقد قال:
9
لما مات عمر بن أبي ربيعة نعي لامرأة من مولدات مكة وكانت بالشام، فبكت وقالت: من لأباطح مكة
10
ومن يمدح نساءها، ويصف محاسنهن، ويبكي طاعتهن، فقيل لها: قد نشأ فتى من ولد عثمان بن عفان على طريقته، فقالت: أنشدوني له، فأنشدوها:
لقد أرسلت ليلى رسولا بأن أقم
ولا تقربنا فالتجنب أمثل
لعل العيون الرامقات لودنا
تكذب عنا أو تنام فتغفل
أناس أمناهم فنثوا حديثنا
فلما كتمنا السر عنهم تقولوا
11
فما حفظوا العهد الذي كان بيننا
ولا حين هموا بالقطيعة أجملوا
فقلت وقد ضاقت بلادي برحبها
علي بما قد قيل فالعين تهمل
سأجتنب الدار التي أنتم بها
ولكن طرفي نحوها سوف يعمل
ألم تعلمي أني - وهل ذاك نافعي
لديك، وما أخفى من الود أفضل؟
أرى مستقيم الطرف ما الطرف أمكم
وإن أم طرفي غيركم فهو أحول
فتسلت وقالت: هذا أجل عوض، وأفضل خلف، فالحمد لله الذي خلف على حرمه وأمته مثل هذا.
وفي هذا الاختلاف بين رواية القصة كما ذكرها صاحب «الأغاني» وصاحب «زهر الآداب»، دليل على أن فيها أثرا للوضع، أو التحريف، وهي تدلنا على أنه كان معروفا في ذلك العصر أن في شعر الحارث بن خالد، وفي شعر العرجي، مشابهة بينة لشعر عمر بن أبي ربيعة، وقربا لمنحاه في التشبيب بالنساء.
وقد ذكر موريس دونيه في حياة ألفريد دي ميسيه الغرامية أنه رؤيت سيدة تنتحب في القطار، فسألها الناس عن سبب بكائها فقالت: يا ويحكم! ألم تعلموا أن ألفريد دي ميسيه قد مات!
وكذلك تتشابه الحياة الوجدانية على اختلاف البقاع والأجيال.
3
قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة: أنت القائل:
أأترك ليلى ليس بيني وبينها
سوى ليلة؟ إني إذن لصبور
12
فقال: نعم! فقال: بئس المحب أنت، تركتها وبينها وبينك غدوة! فقال: يا أمير المؤمنين، إنها من غدوات سليمان، غدوها شهر، ورواحها شهر!
4
قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة من أجل امرأة من أهلها فأقام بها شهرا، فذلك قوله:
يا خليلي قد مللت ثوائي
بالمصلى وقد شنئت البقيعا
13
بلغاني ديار هند وسلمى
وارجعا بي فقد هويت الرجوعا
ثم خرج إلى مكة وخرج معه الأحوص واعتمرا، ثم مرا بودان
14
في رواحهما فحبسهما نصيب وذبح لهما وأكرمهما، وكان لحقهما سائب راوية كثير، ثم خرجوا وخرج معهم نصيب، فلما جاءوا كلية
15
عدلوا جميعا إلى منزل كثير فقيل لهم: هبط قديدا
16
وذكر لهم أنه في خيمة من خيامها، فقال ابن أبي ربيعة لسائب: اذهب فادعه لي، فقال النصيب: هو أحمق وأشد كبرا من أن يأتيك، فقال عمر: اذهب كما أقول فادعه لي، فجاءه فهش له، وقال: اذكر غائبا تره، لقد جئت وأنا أذكرك، فأبلغه رسالة عمر، فحدد إليه نظره وقال: أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذه الرسالة؟ فقال: بلى والله! ولكني سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سترك، فقال له: إنك والله يا ابن ذكوان ما أنت من شكلي، فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيا فأنا قرشي، فقال له: لا تترك هذا التلصق وأنت تفرق عنهم كما تفرق الصمغة؟! فقال كثير: والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس، ثم قال: وقل له: إن كنت شاعرا فأنا أشعر منك! فقال له: هذا إذا كان الحكم إليك، فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى بالحكم مني اليوم؟ فرجع سائب إلى عمر فقال: ما وراءك؟ فقال: ما قال لك نصيب، وأخبره الخبر فضحك وضحك صاحباه، ثم نهضوا معه إليه، فدخلوا عليه في خيمة فوجدوه جالسا على جلد كبش، فلم يوسع لابن أبي ربيعة، فلما تحدثوا مليا وأفاضوا في ذكر الشعراء أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة فتشبب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك، أخبرني يا هذا عن قولك:
قومي تصدي له ليعرفنا
ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها: قد غمزته فأبى
ثم استطيرت تشتد في أثري
17
أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك، ألم تكن قد قبحت وأسأت، وقلت الهجر؟ إنما توصف الحرة بالحياء والإباء، والبخل والامتناع، كما قال هذا، وأشار إلى الأحوص:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر
بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى
إذا لم يزر لا بد أن سيزور
لقد منعت معروفها أم جعفر
وإني إلى معروفها لفقير
فدخلت الأحوص أبهة، وعرفت الخيلاء فيه، فلما استبان ذلك كثير قال: أبطل آخرك أولك، أخبرني عن قولك:
فإن تصلي أصلك وإن تبيني
بصرمك بعد وصلك لا أبالي
ولا ألفى كمن إن سيم صرما
تعرض كي يرد إلى الوصال
أما والله لو كنت فحلا لما باليت ولو كسرت أنفك! ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب
وقل: إن تملينا فما ملك القلب
فانكسر الأحوص، ودخلت النصيب أبهة، فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته قال له: وأنت يا ابن السوداء فأخبرني عن قولك:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت
فوا كبدى من ذا يهيم بها بعدي
أهمك من ينيكها بعدك؟
فلما أمسك كثير أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبوب
18
أخبرني عن تخيرك لنفسك، وتخيرك لمن تحب، حيث تقول:
ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنى
بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب
19
كلانا به عر فمن يرنا يقل
على حسنها جرباء تعدي وأجرب
20
إذا ما وردنا منهلا صاح أهله
علينا فما ننفك نرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنك بكرة
هجان وأني مصعب ثم نهرب
21
نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا
فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على نفسك، فخفق كثير كما يخفق الطائر، فأقبل عليه نصيب فقال: أقبل علي يا زب الذباب
22
فقد تمنيت معرفة غائب عندي علمه فيك حيث تقول:
وددت وما تغني الودادة أنني
بما في ضمير الحاجبية عالم
فإن كان خيرا سرني وعلمته
وإن كان شرا لم تلمني اللوائم
انظر في مرآتك، واطلع في جيبك، واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها، فاضطرب كثير اضطراب العصفور وقام القوم يضحكون.
23
5
واعدت الثريا عمر بن أبي ربيعة أن تزوره، فلما جاءت في الوقت الذي ذكرته صادفت أخاه الحارث قد زاره فأقام عنده ووجه به في حاجة له، ونام مكانه وغطى وجهه بثوبه، فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله، فانتبه وجعل يقول: اعزبي عني فلست بالفاسق أخزاكما الله!
فلما علمت بالقصة انصرفت وجاء عمر فأخبره الحارث بخبرها، فاغتم لما فاته منها، وقال: أما والله لا تمسك النار أبدا وقد ألقت نفسها عليك! فقال الحارث: عليك وعليها لعنة الله!
6
كان لابن أبي ربيعة ابن صالح يقال له: «جوان» وفيه يقول العرجي:
شهيدي جوان على حبها
أليس بعدل عليها جوان
وقد جاء جوان هذا إلى زياد بن عبد الله الحارثي، وهو إذ ذاك أمير على الحجاز فشهد عنده بشهادة، فتمثل:
شهيدي جوان على حبها
أليس بعدل عليها جوان!
ثم قال: قد أجزنا شهادتك. وقد غضب جوان من هذا الشعر وجاء إلى العرجي، فقال له: يا هذا، ما لي ولك تشهرني في شعرك! متى أشهدتني على صاحبتك هذه! ومتى كنت أنا أشهد في مثل هذا!
7
عرض يزيد بن معاوية جيش أهل الحرة، فمر به رجل من أهل الشام معه ترس خلق سمج، فنظر إليه يزيد وضحك، وقال له: ويحك! ترس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك! يريد قول عمر:
فكان مجني دون من كنت أتقي
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
8
حدث بديح قال: حجت بنت محمد بن الأشعث الكندية، فراسلها عمر بن أبي ربيعة ووعدها أن يتلقاها مساء الغد، وجعل الآية بينه وبينها أن تسمع ناشدا ينشد يعلمها بمصيره إلى المكان الذي وعدها، قال بديح: فلم أشعر به إلا متلثما فقال لي: يا بديح، ائت بنت محمد بن الأشعث فأخبرها أني قد جئت لموعدها، فأبيت أن أذهب وقلت: مثلي لا يعين على مثل هذا، فغيب بغلته عني ثم جاءني فقال لي: قد أضللت بغلتي فانشدها لي في زقاق الحاج، فذهبت فنشدتها، فخرجت علي بنت محمد بن الأشعث وقد فهمت الآية، فأتته لموعده، وذلك قوله:
وآية ذلك أن تسمعي
إذا جئتكم ناشدا ينشد
قال بديح: فلما رأيتها مقبلة عرفت أنه قد خدعني بنشدي البغلة، فقلت له: يا عمر! لقد صدقت التي قالت لك:
فهذا سحرك النسوا
ن قد خبرنني الخبرا
قد سحرتني وأنا رجل! فكيف برقة قلوب النساء وضعف رأيهن! وما آمنك بعدها، ولو دخلت الطواف ظننت أنك دخلته لبلية، قال: وحدثها بحديثي فما زالا ليلتهما يفصلان حديثهما بالضحك مني.
9
أنشد ابن أبي ربيعة قوله:
يا خليلي من ملام دعاني
وألما الغداة بالأظعان
لا تلوما في آل زينب إن ال
قلب رهن بآل زينب عاني
فبلغ ذلك أبا وداعة السهمي فأنكره وغضب، وبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقيل له: إن أبا وداعة قد اعترض لابن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى، وقال: لا أقر لابن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هصيص في شعره، فقال ابن أبي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمرقند على أهل عدن!
10
قال ابن أبي عتيق لابن أبي ربيعة: يا عمر! ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط؟ قال: بلى، قال: فأخبرني عن قولك:
وما نلت منها محرما غير أننا
كلانا من الثوب المورد لابس
ما معناه؟ فقال: والله لأخبرنك: خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد إن كنت فيه! فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان علي، فذلك حين أقول:
كلانا من الثوب المورد لابس
فقال له ابن عتيق: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة!
11
خرج عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد وأبو ربيعة المصطلقي ورجل من بني مخزوم يشيعون بعض خلفاء بني أمية، فلما انصرفوا نزلوا بسرف فلاح لهم برق، فقال الحارث: كلنا شاعر، فهلموا نصف البرق، فقال أبو ربيعة:
أرقت لبرق آخر الليل لامع
جرى من سناه ذو الربى فينابع
24
فقال الحارث:
أرقت له ليل التمام ودونه
مهامه موماة وأرض بلاقع
25
فقال المخزومي:
يضيء عضاه الشوك حتى كأنه
مصابيح أو فجر من الصبح ساطع
26
فقال عمر:
أيا رب لا آلو المودة جاهدا
لأسماء فاصنع بي الذي أنت صانع
ثم قال: ما لي وللبرق والشوك!
12
لقي عمر ليلى بنت الحارث وهي تسير على بغلة لها، وكان قد شبب بها فقال: جعلني الله فداك! عرجي ها هنا أسمعك بعض ما قلته فيك. فقالت: أوقد فعلت؟ قال: نعم، فوقفت وقالت: هات، فأنشدها:
ألا يا ليل إن شفاء نفسي
نوالك إن بخلت فنولينا
وقد حضر الرحيل وحان منا
فراقك فانظري ما تأمرينا
فقالت: آمرك بتقوى الله وإيثار طاعته، وترك ما أنت عليه! ثم صاحت ببغلتها ومضت.
13
حدث سفيان بن عيينة قال: بينا أنا ومسعر بن كدام مع إسماعيل بن أمية بفناء الكعبة، وإذا بعجوز قد طلعت علينا عوراء متكئة على عصا يصفق أحد لحييها على الآخر، فوقفت على إسماعيل فسلمت عليه، فرد عليها السلام، وسألها فأحفى المسألة، ثم انصرفت، فقال إسماعيل: لا إله إلا الله! ماذا تفعل الدنيا بأهلها! ثم أقبل علينا فقال: أتعرفان هذه؟ قلنا: لا والله، ومن هي؟ قال: هذه «بغوم» ابن أبي ربيعة التي يقول فيها:
حبذا أنت يا بغوم وأسما
ء وعيص يكننا وخلاء
27
انظرا كيف صارت، وما كان بمكة امرأة أجمل منها! فقال له مسعر: لا ورب هذه البنية، ما أرى أنه كان عند هذه خير قط!
14
حدثت ذهيبة مولاة محمد بن مصعب بن الزبير قالت: كنت عند أمة الحميد بنت عمر بن أبي ربيعة في الجنيد الذي في بيت سكينة بنت خالد بن مصعب، أنا وأبوها عمر وجاريتان له تغنيان، يقال لإحداهما: البغوم، والأخرى: أسماء، وكانت أمة الحميد بنت عمر تحت محمد بن مصعب بن الزبير، فقال عمر بن أبي ربيعة وهو معهم في الجنيد:
صرمت حبلك البغوم وصدت
عنك في غير ريبة أسماء
والغواني إذا رأينك كهلا
كان فيهن عن هواك التواء
حبذا أنت يا بغوم وأسما
ء وعيص يكننا وخلاء
فلما انتهى إلى قوله:
ولقد قلت ليلة الجزل لما
أخضلت ريطتي علي السماء
خرجت البغوم ثم رجعت إليه فقالت: ما رأيت أكذب منك يا عمر تزعم أنك بالجزل وأنت في جنيد محمد بن مصعب، وتزعم أن السماء أخضلت ريطتك وليس في السماء قزعة.
28
فقال عمر: هكذا يستقيم هذا الشأن. •••
أما بعد؛ فهذا كتاب أشعر بأن خيره نفاية شره، وأن ما فيه من هدى أسير ما فيه من ضلال، وإني لأقول:
ضاق الفضاء علي من عبث الصبا
ورحمت فضلي من هواه العائث
فأغث فديتك يا مشيب كرامتي
إني سئمت من الشباب العابث
وسبحان من لو شاء لعجل التوب، وعفا عما تسلف من ذنوب.
هوامش
Bilinmeyen sayfa