لم تغير وضع جسمها الممدود فوق الحافة، صوته الغاضب كان يأتي من بعيد، كأنما من قاع البئر، لا تكاد تسمعه بأذنيها، لا يلامس منها إلا حافة الوعي، انقلبت على جنبها الآخر لتخفف من حدة الشمس، صوته رغم الغضب يشبه صوت طفل رضيع، ألم تفطمه أمه بعد؟ قبل أن تفطمها خالتها كانت تمسك بفكيها حلمة الثدي، كانت الدنيا ليلا، والحرارة انخفضت بعد غياب الشمس، وصوت الطوفان كأمواج البحر. - أنا جعان.
صوته أصبح مملوءا بالرقة، كان الجوع يهذب من طبيعة الرجال، يكشف عن الإنسان تحت القشرة الخشنة، وامتلأ قلبها بالشفقة كالأم، دخلت المطبخ وأشعلت الموقد، ضغطت على المسدس فانطلقت الشرارة، ضحكت كما كانت تفعل وهي طفلة، سخنت له الحساء في وعاء من الألومنيوم، قشرت البطاطس ورءوس البصل قطعتها بالسكين، تصاعد البخار من الوعاء، وتساقطت ذرات النفط من السقف، صنعت طبقة معتمة فوق سطح الحساء، راحت تنزعها بيد المغرفة، لكنها كانت تعود وتسقط فتنزعها فتعود، إلى أن نجحت في نزعها تماما، إلا ذرات قليلة سوداء ظلت طافية فوق السطح كالذباب الميت.
كان يرشف الحساء بصوت مسموع يشبه الأنابيب وهي تشفط النفط، بين كل رشفة يزمجر بصوت يشبه قرقعة الريح، ويدب الصمت بعد أن ينتهي من الأكل، يغمض عينيه دون أن يخلع بدلة الشركة، لونها أزرق تعلوها بقع النفط كالزيت، تفوح منها رائحة الجاز المخزون في بطن الأرض، يبدو وهو نائم كطفلتها التي ولدتها في حياتها السابقة ثم ماتت، حين يصحو من النوم تخلع عنه ملابسه، تدعك جسمه بقطعة من الحجر، ثم تنشفه بسروالها القديم، تلوي المنشفة بين يديها حتى تصبح مثل حزمة من سلك الألومنيوم، تنشفه بقوة كأنما هو قاع الصحن، من بعيد يترامى نباح الكلاب، ولهاث النسوة، في إيقاع منتظم يشبه اللحن، تهز رأسها بالإيقاع ذاته، مع حركة ذراعيها وأنفاسها المتصاعدة، والدقات تحت ضلوعها، ثم تصبح الحركة بطيئة، رتيبة متكررة تجلب لها النعاس وهي واقفة.
تثاءب بصوت عال، رأته يدخن وهو جالس وراء الصحيفة، ينفث الدخان من بين شفتيه ويغيب في اللذة. - نفس أرجوك! - ماذا تقولين؟! - نفس واحد من السيجارة! - النسوة لا تدخن بأمر صاحب الجلالة.
أطبقت شفتيها ولم ترد، كانت قد أطعمته وحممته، جعلت منه طفلتها الغائبة، مسحت عنه الألم، أليس من حقها أن تغيب في اللذة مثله؟
حين ناولها البرميل لتحمله أرادت أن تقلبه فوق رأسه، لكنها تراجعت، يمكنها الخضوع اليوم من أجل هدف أكبر في الغد، لا يمكن أن تخسر كل شيء من أجل نفس واحد.
كان الدخان يتسرب من فتحتي أنفه، تتسع الفتحتان وتهتز شعيراتهما من شدة اللذة، جذبت نفسا عميقا من الهواء، شهيق عميق مرة ومرتين، تسرب بعض الدخان إلى صدرها، نفثته من فمها وأنفها، أجل، إذا لم يكن في الحياة لذة فمن حقها أن تنفث الدخان في الهواء، قد يتسرب الغضب مع الدخان خارج جسمها، وتبدو الدنيا أقل كآبة، أو ربما يصعد الدخان إلى رأسها فتعثر على فكرة عبقرية تخلصها من حياتها.
كانت ترى صور العباقرة في الكتاب، تحوط رءوسهم سحب الدخان، يميل الواحد منهم برأسه إلى ناحية، يسند ذقنه بيده، عيناه نصف مفتوحتين شاخصتان إلى أعلى، ثابتتان فوق اللاشيء، والدخان يتصاعد من فتحتي أنفه المتسعتين، وفي الكتاب أيضا كانت ترى صورة الأنبياء، ولا يمكن للواحد منهم أن يرى الإله إلا من وراء سحابة دخان.
جذبت نفسا آخر أكثر عمقا، امتلأ رأسها بالدخان، بدا عقلها ينبض تحت العظام، والفكرة تولد بحركة محسوسة، حوطت رأسها بيديها تخشى عليها الإفلات، قد تتسرب الفكرة من الثقوب التي تفتح على الأذنين أو العينين أو الأنف، راحت تضغط بيديها على عظام رأسها، لم يكن في مقدورها أن تستمر على هذا الوضع فسقطت ذراعاها إلى جوار جسمها. - أتنامين وأنت واقفة؟
تمطت وتثاءبت بصوت يشبه مأمأة الماعز، سمعت بأذنيها الصوت كصفير الريح، كانت العاصفة تهدر والذرات السوداء تزحف من تحت ملابسها، تغزو فتحات الجسم، أغمضت عينيها تماما وذابت اليقظة في حلم غريب، رأت نفسها تمتطي صهوة الإزميل كأنه حصان، يجري بها عبر مدينة مجهولة، مبانيها عالية، أطراف المباني تشق السحب، شوارعها ضيقة لا تكاد تسمح بمرورها، يطير بها الإزميل في الجو بلا أجنحة، يحلق فوق الأسطح وهي تهز رجليها كأنما تركب المرجيحة، عيون النسوة ترمقها بإعجاب مملوء بالحسد، أيديهن ترتفع في الهواء تصفق، ثم تشدها الأيادي إلى أسفل بأمل إسقاطها، تهز رجليها بقوة ليرتفع بها الحصان، الذي لم يعد حصانا، وإنما عصا من الجريد، تركبه كما يفعل أطفال القرية.
Bilinmeyen sayfa