وعلمت ليوني بما جرى لحبيبها، فخرجت من بيتها لا تلوي على شيء، تهيم في الغابات، وكأنها قد فقدت رشدها، ثم وجدت ديرا فدخلت فيه، ولكن نفسها المضطربة بقيت ثائرة حانقة على هذا القدر الذي حرمها من حبيبها في الساعة الأخيرة التي كانت تنتظرها. وخرجت من الدير، وذهبت إلى باريس؛ حيث عاشت في بعض المنازل القذرة بين الفقراء والميئوسين.
وعلم بها أصدقاء جامبتا، فانتشلوها من هذه الوحدة التي ألقت نفسها فيها، وعنوا بها إلى يوم وفاتها في سنة 1906. وكان آخر ما كتبه جامبتا وهو يعاني سكرات الموت الأخيرة، هذه الكلمات التي أرسلها إلى حبيبته، وقرأتها بعد وفاته:
إلى نور نفسي، إلى نجم حياتي ليوني ليون، وداعا يا حبيبتي.
الإمبراطورة كاترين
من غرائب التاريخ أن أكبر رجل فرنسي امتلك قلوب الفرنسيين، ورفع شأنهم التاريخي، لم يكن فرنسيا بل كان إيطاليا. وكذا الحال في روسيا؛ فإن أكبر من ملك زمام الأمة ونال أكبر مكانة في قلبها، كان امرأة ألمانية.
ولكن هذين الأجنبيين، نابليون في فرنسا، وكاترين في روسيا، كانا يمتازان بالميزة الكبرى التي رفعتهما إلى مقامهما السامي، وهي أن كلا منهما اندغم في الأمة التي تولى حكومتها، فصار منها قلبا وقالبا، يخدمها بعقله وقلبه.
فقد كانت روسيا في منتصف القرن الثامن عشر تحكمها الإمبراطورة إليصابات، ابنة بطرس الأكبر، ولم يكن لها خلف شرعي لكي يرث العرش، فأخذت تبحث عمن يليها، وأخيرا عقدت ولاية العهد على ابن أختها الأمير بطرس في سنة 1742، وكان فتى في السابعة عشرة، خلوا من جميع خصال الملوك، يقضي نهاره في الشراب، ولا يجالس سوى أوشاب الناس وحثالتهم. وكان أبله، يتسلى بالسخائف، يجمع الكلاب فيصفها ويعاملها كأنها جنود، ويجمع الفئران، ثم يأخذ في تعليمها وتأديبها، فإذا أخطأت عقد لها مجلسا عسكريا، وحاكمها، وحكم عليها بالإعدام.
وبحثت الإمبراطورة إليصابات عن زوجة له، وطلبت له أخت الإمبراطور فريدريك الثاني الألماني، فأبى رأفة بأخته أن تقع فريسة لهذا الوغد الأبله، وشفقة عليها أن تعيش في ذلك الوسط الروسي. وكانت روسيا إذ ذاك معدودة بين البلاد الهمجية في العالم. والحق أنها كانت في ذلك الوقت أقرب إلى آسيا في العادات والأخلاق والأنظمة منها إلى أوروبا.
وأخيرا اهتدت إلى أميرة ألمانية فقيرة تدعى صوفيا، وكانت فتاة في السادسة عشرة من عمرها، بروتستانتية المذهب كسائر أهل بلادها، فلما كانت سنة 1744 عقد زواجها على الأمير بطرس، بعد أن غيرت مذهبها واسمها؛ صارت أرثوذكسية، وصارت تدعى كاترين.
وعاشت مع زوجها جملة سنين وهو يناكدها وينغص عليها عيشها، لا هم له سوى كلابه وفئرانه وشرابه، ولا يأنس إلا بإخوان الكأس، يصابحهم ويماسيهم، وهو في سكر متواصل، وقد تعلم منهم صنوفا من السفالات، وكثيرا ما أعنت زوجته، وهي فتاة ساذجة قد نشأت على الصرامة الألمانية، يساومها ممارسة هذه السفالات، فتأبى وتستغيث.
Bilinmeyen sayfa