ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل، فلم يزل عليلا لا يفيق، ولا يجيب مكلما، ثلاثا، حتى مات، فدفن إلى جنبها.
وهكذا قضى قيس مضحيا بحبه لامرأته لبره لوالديه، مؤثرا قرابة الماضي على قرابة المستقبل. وكان هذا منه خطلا عظيما جديرا بأن يأسى له مدى حياته؛ فإن طبيعة العمران قد ركبت على إيثار الزوجة على الأم، وعلى أن يهجر الزوج بيت والديه، لكي ينشئ بيتا جديدا وينعم بهناء الزوجية، الذي لا يعد له ولا يقاربه هناء العيش مع الوالدين.
صبيحة وابن أبي عامر
في منتصف القرن الرابع الهجري كان الخليفة في قرطبة بالأندلس رجلا من الأمويين يدعى الحكم، وكان من رعاة العلوم والآداب، مغرما بالموسيقى والغناء. حدث أنه كان في أحد الأيام بمكتبه، فسمع غناء أشجاه وأثر في نفسه، فسأل عن صاحب هذا الصوت، فعرف أنه لفتاة تدعى صبيحة. فطلب حضورها وتحظاها، وكانت على شيء من الأدب والتفنن في الحديث، فعلقها وشغف بها، وصار لا يقضي وقته إلا معها. ورزق منها غلام في سنة 352ه ففرح به فرحا شديدا، حتى عقد زواجه عليها. وصارت هذه الجارية أميرة الأندلس وأم ولي العهد.
وكان الحكم مسنا، بينما كانت صبيحة فتاة لا تزال في مقتبل العمر. وكانت تدري من شئون الدولة مثل زوجها، وتمتاز عليه بنشاطها، فكانت تتدخل في إدارة البلاد، ويسمع لرأيها الخليفة. وحدث أنها احتاجت إلى كاتب لكي تستعين به في إدارة ضياع القصر الخاصة، وفي سائر مراسلاتها وحساباتها مع موظفي القصر.
فابتغى لها زوجها كاتبا من أولئك الكتبة الذين كانوا يحوطون القصر، يكتبون العرائض للخليفة من المتظلمين من الرعية. ووقع الاختيار على فتى يدعى محمد بن أبي عامر ، كان له حانوت بجانب القصر ينشئ فيه قصص الشكاوى وعرائض التظلم للخليفة.
وكان هذا الفتى شابا وسيما ذكيا نشيطا، وقد تردد الخليفة أولا في قبوله عندما رأى شبابه. وأخيرا وكل مهمة الاختيار إلى زوجته فاختارته.
وابتدأ كاتبا عند الأميرة، ثم لم تمض عليه مدة حتى صار وكيلا لضياعها، وارتقى من ذلك أيضا حتى ضمت إلى إدارته ضياع ولي العهد. وكان ابن أبي عامر يطمع في أكثر من ذلك، فأخذ يستميل الأميرة إليه، ويرضي جميع من في القصر، حتى أحبه الجميع، وعينه الخليفة ناظرا لخزانة الدولة. ثم عينه أيضا مديرا مطلقا لإدارة سك النقود. وهكذا صار ابن أبي عامر أكبر رجل يشار إليه في الأندلس بعد الخليفة.
وكانت الأميرة في خلال ذلك تلحظه برعايتها، ولا تذكره عند الخليفة إلا بما يسر، حتى تفتح له قلبه وسبغ عليه نعمه.
وحقيقة الأمر أن هذا الرقي السريع الذي ناله ابن أبي عامر كان يرجع إلى حب الأميرة صبيحة له أكثر مما يعزى إلى نشاطه وبراعته.
Bilinmeyen sayfa