وارحمتاه لك أيتها الأم التعسة! ماذا كنت تظنين أنك سترين؟ ألم تسمعي أحاديث الموتى؟ ألم تسمعي أحاديث القبور؟ ألم تعلمي أن الأجسام بعد أن تفارقها النفوس توارى في التراب، فيهون منها ما كان عزيزا، ويهمل منها ما كان مصونا كريما؟ ألم تعلمي أن قبور المصريين تنبث في الصحراء مهملة شعثا في أكثر الأحيان؟ لأن أصحاب القبور من الموتى لا يحفلون بقبورهم ولا يعنيهم أن تقوم في الصحراء الغبراء أو في الحديقة الغناء، إنما هم عن هذا كله في شغل بما ادخر الله لهم وبما ادخروا هم لأنفسهم من وراء القبور.
ولأن نظرة الأحياء إلى القبور ليست أدنى إلى الابتسام والبهجة من نظرة الموتى، وإنما هي نظرة حزينة كئيبة تلائم حزن الصحراء وكآبتها. فهم لا يريدون أن يزينوا الموت ولا أن يسبغوا عليه ظلا من جمال الدنيا. وإنما هم يفهمون الموت فهما قاسيا كالموت نفسه.
ولو أني عرفت أنك ستسعين لزياراتي حيث تظنين أني أقيم من هذا القبر المهمل في الصحراء لخذلتك عن هذه الزيارة تخذيلا، فأنا أعلم أن قلبك لا يقوى عليها ولا يستطيع أن ينهض بأثقالها وأثقال ما تثير من الحزن والأسى. ولأني أعلم ما لا تعلمين، أعلم أن الموتى لا يزارون في القبور، فليس منهم في القبور إلا أقلهم استحقاقا للزيارة، إنما يزارون حيث عاشوا وحيث عملوا وحيث اضطربوا للحياة ومشاغل الحياة. إنما يزارون حيث يذكرون، إنما يزارون في نفوس الذين يحبونهم من الأحياء، فهم يؤثرون أن يتخذوا من نفوس المحبين الأحياء مقاما. إذا أحببت أن تزوريني أيتها الأم العزيزة الحزينة البائسة، فلا تسعي إلى الصحراء، ولا تقفي عند هذا القبر، ولا تظني أنك ستلقينني هناك.
ولكن اذكريني فسأحضرك كلما ذكرتني، وسترين مني في الذكرى أكثر ألف مرة ومرة مما ترين عند القبر؛ لأنك لا ترين عند القبر إلا أحجارا ورمالا. وأنا أعلم أن حياة الأحياء غرور، وأن للظواهر فيها تأثيرا عميقا بعيد المدى، وأنهم لا يستطيعون أن يفهموا الوفاء لنا إلا أن يزوروا قبورنا. فافعلي إن لم تستطيعي أن تخلصي من تأثير هذه الظواهر، ولكن اتخذي مكان قلبك الضعيف الرحيم قلبا جلدا قويا صبورا. فإنك لا تعلمين وما أحب لك أن تعلمي ما وراء هذه الأحجار وما تحت هذه الرمال.
صدقيني أيتها الأم العزيزة الحزينة لست أحب لك هذه الزيارة، وإنما أحب لك ولنفسي هذه الذكرى الحلوة الهادئة. وإذا لم يكن بد من ساعات تشتد فيها الصلة بينك وبيني، وإذا لم يكن بد من أن تحسي كأني قريبة منك وكأنك قريبة مني؛ فليدعني قلبك الضعيف الرحيم إذا تقدم الليل شيئا. فإنا نحن الموتى نستجيب مسرعين لدعوة القلوب الضعيفة الرحيمة ولا سيما قلوب الأمهات.
ليدعني قلبك إذا تقدم الليل كما دعاني حين تقدمت هذه الليلة. ألم تري كيف استجبت لدعائه؟ ألا تحسين قربي منك؟ ألا تجدين امتلاء قلبك ونفسك بي؟ أنعمت بقربي في الحياة كما تنعمين به الآن وقد فرق بيننا الموت؟ ولكن دعاء آخر يبلغني أيتها الأم العزيزة، وإنه دعاء لا تفهمينه ولا تستطيعين أن تعلمي من أين يأتيني ولا كيف يأتيني.
انظري. إن النجوم تسرع إلى الأفول، ويجب أن أسرع معها إلى حيث لا تعلمين. إن نفوسنا لا تحسن مناجاة الأحياء حين تشرق الأرض بنور الشمس، فهي تغيب عنها الذكرى في هذه المناجاة.
إلى اللقاء أيتها الأم العزيزة الحزينة، فسأستجيب لك كلما دعاني قلبك؛ ولكن أيدعوني قلبك كثيرا.
وتنظر الأم الحزينة فإذا الطيف ينأى حتى ينمحي، وتسمع فإذا الصوت ينأى حتى ينقطع، ثم تلتفت فإذا كل شيء من حولها قد عاد كهيئته حين أقبلت على غرفتها وقد تقدم الليل، إلا أن نور الصبح قد دخل الغرفة فأفاض على جدرانها وعلى ما فيها من الأثاث كآبة لا يعلم أجاءت منه أم جاءت من هذه النفس الحزينة التي ترى به ما حولها من الأشياء.
وكذلك أنفقت هذه الأم ليلتها حائرة، ذاهلة مضطربة بين ما كانت تسمع وما كانت تفكر. ولعلها لم تر شيئا ولم تسمع شيئا، ولم تفكر إلا في أنها زارت قبر ابنتها حين ارتفع الضحى من الأمس، فرأته كما ينبغي عندنا أن تكون القبور مهملة في الصحراء. ولم تتعود أن ترى القبور مهملة، ومن يدري لعل هذا الطيف الذي رأته لم يكن خيالا، ولعل هذا الصوت الذي سمعته لم يكن صدى، ولعل هذه المعاني التي ألقيت في نفسها لم تصدر عن نفسها، وإنما ألقيت إليها من عالم آخر، ألقاها إليها هذا الصوت الرقيق العذب الذي كان يأتيها من بعيد، من بعيد جدا، وكان يشبه صوت ابنتها.
Bilinmeyen sayfa