كذلك خرج صاحبي عن طوره خروجا تاما، كان هادئ الجسم كل الهدوء مضطرب النفس كل الاضطراب، أو قل: كان عاقل الجسم كل العقل، لا يظهر عليه شيء ينكره الناس، وكان مجنون العقل كل الجنون لو اطلع الناس على ضميره لأنكروه أشد الإنكار.
أأقام صاحبي طويلا على هذه الحال؟ أأقام صاحبي قصيرا على هذه الحال؟ أنبأني أنه لم يدر، ولكنه أحس يدا توضع على كتفه، وصوتا يصيح به في عذوبة لا توصف: أنائم أنت؟ فالتفت، فإذا زوجه قد أقبلت منحدرة مع أصحابه وإذا هي تدعوه إلى النهوض.
قال وقد سمع صوتها وفهم عنها: «لا لست نائما، ولكني كنت مغرقا في الاستماع لهذه النفس.» قالت زوجه في شيء من العجب: «أي نفس؟» قال: «ألا تسمعين هذا الصوت؟ لقد سألتك عنه آنفا فلم تحفلي بسؤالي، ولقد بقيت لأعلم علمه، وما أشك في أنه صوت إنساني يصدر عن نفس إنسانية معذبة شاكية ...» قالت زوجه: «ويلي عليك يا صاحبي! ما أرى إلا أن قراءتك المتصلة ستمضي بما بقي من عقلك. هلم فقد أقبل الليل ولا ينبغي أن يفوتنا القطار.»
ونهض صاحبي فمضى مع القوم كارها، وهم يسخرون منه ويتندرون عليه، ويصفون له جمال ما رأوا، وروعة ما شهدوا، وهو يسمع لهم حينا ويذهل عنهم حينا. ثم كانت العودة وكان الاضطراب فيما يضطرب فيه المصطافون في مدينة فرنسية من مدن الجبل إذا أقبل الليل.
ثم أصبح صاحبي حائرا لا يدري، أيتحدث بحديثه إلى زوجه أم يكتمها إياه؟ ذلك أنه كان يشفق أن يروعها إن تحدث إليها بهذا الحديث، وكان يشفق أن يسوء ظنها به أو أن يسوء رأيها فيه، أو أن تنتهي من أمره إلى أنه مجنون قد فقد الرشد وأضاع الصواب. على أنه آثر أن يخفي هذا الحديث، وأن يفارق هذه المدينة التي كان كل شيء فيها يدفعه إلى الجبل وطريقه الملتوية وأغصانه المتناصية، وهذا الصوت الذي يتردد متصلا معلنا للحزن معربا عن الشكاة.
وما هي إلا أن يظهر الضجر بالمقام في هذه المدينة، ويزين الانتقال إلى مدينة أخرى، ويبذل الوعود والأماني، ويتلطف في السيرة والحديث، وينثر المغريات من حوله نثرا، حتى انتهى إلى ما أحب وفارق هذه المدينة التي كره المقام فيها كرها شديدا ...
قصد مع أسرته إلى قرية هادئة من قرى المحيط، ولقيني في تلك القرية وحدثني فيها بهذا الحديث. ولما انتهى منه إلى حيث انتهيت، لاحظ في وجهي إنكارا وسخرية، فرابه ذلك بعض الشيء، وقال: إنك لتذهب مذهب القوم وتتهمني في عقلي، وما تشك في أني مجنون أو مقبل على الجنون. وهممت أن أرد عليه وأن أزيل ارتيابه، فلم يحفل بي، ولكنه مضى في حديثه قائلا: «يجب أن تستمع لآخر الحديث، وأن تجعل بيننا عهدا لنحققه، فإن انتهينا إلى صدقه اعترفت معي بأني سمعت نفسا إنسانية تتكلم، وإن انتهينا إلى كذبه اعترفت معك بأني كنت مريضا مجنونا أو مشرفا على الجنون.»
قلت: وكيف ذاك؟ قال: «إن هذه النفس التي سمعت صوتها في الغابة عرضت لي بعد ذلك في النوم وحملتني رسالة إلى صديق تعرفه وأعرفه.» قلت، وقد ازداد إنكاري لصاحبي، ولكني مع ذلك أظهرت العناية والدهش: «ماذا تقول؟» قال: «أقول إن هذه النفس تراءت لي في النوم، وأنبأتني بأني لم أخطئ فيما قدرت حين استمعت لها وبأنها نفس إنسانية وبأنها نفس فلانة، أتعرفها؟» قلت: «نعم أعرفها، لقد شيعناها إلى القبر منذ أشهر.» قال: «فهل تعرف أن بينها وبين فلان صلة؟» قلت: لا، وما كان ينبغي أن توجد بينهما صلة. قال: «فإنها أنبأتني بأنها قد كانت له خليلة، وبأن أول أمرهما كان منذ أعوام في هذا المكان الذي سمعتها فيه، وبأنها بعد أن فارقت الحياة ومضت في طريقها المجهولة، إلى غايتها المجهولة، انقطعت بها الطريق في هذا المكان، وألقي إليها أنها ستبقى هنا وحيدة تنتظر صاحبها حتى إذا أدركتها نفسه بعد وقت طويل أو قصير مضتا معا في طريقهما المجهولة إلى غايتهما المجهولة، ولكنهما يجب على كل حال أن يستأنفا سفرهما من هذا المكان الذي استكشفا فيه قلبيهما.»
وقلت وقد أدركني من حديث صاحبي شيء يشبه الذعر، إن لم يكن هو الذعر: «ما رأيت كاليوم حديثا عجبا.» قال: «بل قل: ما رأيت كاليوم جنونا عجبا، فهذا أصدق في الإعراب عما تريد. ولكنا سنلقى صاحبنا إذا عدنا إلى أرض الوطن، وسنتلطف له لنعلم أكان بينه وبين هذه السيدة شيء، وسنتبين أكان حديثي هذا عرضا من أعراض الجنون أو أثرا من آثار الأعصاب المريضة المكدودة.» قلت: ولكنك لم تحدثني بهذه الرسالة التي تحملها إلى صاحبنا عن هذه النفس. قال: «وبماذا تريد أن أحدثك؟ إنها تتعجل مقدمه عليها، وماذا يملك المسكين من أمره؟ ومتى استجاب الأحياء لدعاء الموتى؟ ومتى هانت الحياة على أصحابها، وإن استحلفهم الموتى بأصدق الحب وأبلغه في القلوب أثرا؟»
ثم عدنا بعد أسابيع إلى أرض الوطن، ولست أشك في أن صاحبي قد كان حدثني ببعض الهذيان، ولم أفكر قط في أن أحقق حديثه، ولكنه هو فكر في ذلك وسعى إلي وألح علي وسار معي إلى صاحبنا. ولكن ماذا؟ إن صاحبنا مريض، وإن مرضه ثقيل، وإن الأطباء يشفقون عليه أشد الإشفاق. قال صاحبي وقد خرجنا من عنده دون أن نتحدث إليه في شيء: ما أرى إلا أن الرسالة قد انتهت إليه من طريق غير طريقي، ومع ذلك فسنعوده إذا كان الغد. ثم عدناه مرة ومرة ومرة، وعرض له صاحبي ببعض الحديث، فما شككنا في أنه قد كان من تلك السيدة على أمر. ثم استحال التعريض إلى تصريح، فما شككنا في أن صاحبي قد قال حقا، ولكن صاحبي لم يبلغه الرسالة؛ لأن الرسالة كانت قد سبقت إليه، ولأنه لم يكن في حاجة إلى من يستعجله، ولأننا لم نلبث إلا أياما حتى شيعناه إلى مستقره الأخير.
Bilinmeyen sayfa