وقد تفرق عني صديقاتي وشغلت عنهن وعن أحاديثهن بما يكون من حياة الأسرة؛ حتى إذا تقدم الليل وآويت إلى غرفتي وخلوت فيها إلى نفسي، لم أجد ميلا إلى النوم، وإنما أطلت الاضطراب في الغرفة والتشاغل بالترتيب والتنسيق كأني كنت أريد أن أمد الأسباب التي تصل بيني وبين النوم، وأن أطيل السهر وأحتفظ باليقظة، فلما لم يبق ترتيب ولا تنسيق، ولم تنازعني نفسي إلى النوم، أردت أن أتشاغل بالقراءة، وأستعين بها على ما أريد من سهر، فآخذ هذا الكتاب، ولكني لا أكاد أنظر فيه حتى أصرف عنه فآخذ كتابا آخر فلا يكون حظه خيرا من حظ الكتاب الأول، فألبث جامدة شاردة النفس حينا ثم تثوب إلي نفسي، وإذا أنا راغبة عن النوم زاهدة في القراءة، منصرفة عن الحركة في التنسيق والترتيب.
وماذا أنسق؟ وماذا أرتب؟ وقد بلغت من ذلك ما أريد وأكثر مما أريد، حين آويت إلى هذه الغرفة منذ ساعة. وهنا أشعر بالحاجة إلى أن أكتب، ولكن ماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟
هنا يعاودني ذلك الخاطر الذي عرض لي حين كنت أستمع إلى حديث الصديقات، فأذكر ائتمان الدفاتر على الأسرار والتحدث إليها بنجوى الضمير. ثم أذكر أني لا أملك دفترا أأتمنه على أسراري، وأفضي إليه بأحاديث نفسي، وليس من شك في أني قادرة على أن أمد يدي فآخذ ما أشاء من الورق وألقي إليه بما أحب من حديث.
ولكني أنفر من ذلك نفورا شديدا، فلا بد من أن أختار الدفتر الذي أتحدث إليه، كما أختار الصديق التي أوثرها بالمودة والإخاء، ولا بد من أن تكون هنالك ملاءمة بين نفسي وبين هذا الدفتر. وإذا أنا أفكر في شكل هذا الدفتر، وما ينبغي أن يكون عليه من الجودة والظرف ومن الشكل الأنيق المعجب، ثم يجب أن يكون خليقا بكتمان السر والضن به على الذين قد يتطفلون أو يتطلعون إلى القراءة واستباحة ما اؤتمن عليه.
وإذن فلن أكتب الليلة ولن أفضي بسري إلى دفتر من هذه الدفاتر العادية أو ورقة من هذه الأوراق المنثورة، ولا بد من أن أنتظر إلى غد حتى إذا اخترت الدفتر وأحسنت اختياره، خلوت إليه خلوة الصديق إلى الصديق الذي يلائمه ويشاكله، فتحدثت إليه أحاديث فيها الثقة والأمن، وفيها اللذة والمتاع، وفيها قبل كل شيء ارتفاع الكلفة وزوال الحرج.
ولو أني أخذت دفترا من تلك الدفاتر العادية أو ورقة من تلك الأوراق المنثورة، ثم حاولت أن ألقي إليها سرا أو أفضي إليها بحديث، لما وجدت في نفسي شيئا. فقد كنت أمس خالية النفس من كل سر وكل حديث، لا يشغلني إلا التفكير في أن يكون لي دفتر كغيري من صديقاتي، وفي أن ألقي إلى هذا الدفتر أسرارا كالتي يلقينها، وأفضي إليه بأحاديث كالتي يفضين بها.
وليس أدل على ذلك من أني قد أصبحت فغدوت على دار من تلك الدور التي تهيئ للناس أنفس ما يحتاجون إليه من أدوات الكتابة والتحرير، فلم أتخير دفترا فحسب، ولكني تخيرت معه قلما رشيقا جميلا غالي الثمن أيضا، ثم أخفيت ذلك في غرفتي، ثم جعلت أفكر في ذلك اليوم كله، ثم جعلت كلما ألممت بغرفتي نظرت إلى القلم ومسست الدفتر بيدي مسا رفيقا، كأنما أريد أن ألاطفه وأبارك عليه، ثم انقضى النهار وتقدم الليل، وجعلت آخذ نفسي بشيء من العنف حتى لا أتعجل الخلوة إلى نفسي والإيواء إلى غرفتي.
ثم هأنا هذه قد آويت إلى غرفتي، وخلوت إلى نفسي، وأخذت الدفتر الجميل فبسطته أمامي، وجعلت أنظر في صحفه النقية فأطيل النظر، كأنما أريد أن أستبئ نقاءها وصفاءها عما يمكن أن يكون لهما من سر أو حديث. وأي عجب في ذلك؟ فقد اتخذت هذا الدفتر صديقا أمينا، ولا بد بين الصديقين من تبادل الود والحديث والثقة والأسرار، ولكن هذه الصحف النقية الصافية لم تنبئني بشيء ولم تلق إلى نفسي شيئا.
وإذا أنا آخذ القلم عازمة حازمة كأنما أريد أن أحطم ما بيننا من الثلج كما نقول في أحاديثنا اليومية، وأن أبدأ بالحديث تشجيعا لهذه الصحف على أن تتحدث، ولكني لا أجد شيئا أقوله ولا حديثا أكتبه، وأكبر الظن أن نقاء هذه الصحف الخالية من كل سر لا يعدله إلا نقاء هذه النفس التي تريد أن تتحدث إليها والتي لا تجد ما تتحدث به، فهي تتكلف وتتصنع وتخلق الحديث خلقا.
وإني لأفكر في هذا فأذكر مواقف وقفتها في عهد الطفولة، وما زلت أقفها إلى الآن، وقد كدت أبلغ العشرين من العمر، وهي مواقفي من القسيس. فما أكثر ما أضعت وقته وأضعت وقتي بما كنت أحاول من الاعتراف، فقد كنت أرى ذلك فرضا علي وأرى أن نفسي لن تستريح، وأن ضميري لن يطمئن إلا إذا قمت من القسيس مقام المعترفة بالخطيئة، ثم مقام النادمة على الخطيئة. ثم انصرفت عنه وقد ظفرت منه بالمغفرة.
Bilinmeyen sayfa