وقد فعلت، فمضت أمورنا على خير ما كنت أحب وعلى أحسن ما كنت أتمنى وقتا ما أدري أطال أم قصر، لولا أني أرجع إلى الذاكرة فأحصيه فإذا هو أشهر، وأرجع إليك أنت أيها الدفتر العزيز، فأرى آخر عهدي بالتحدث إليك، فيصدق الإحصاء، وأتبين أني قد أعرضت عنك ستة أشهر كاملة؛ لأني لم أكن فيها محتاجة إليك، وما حاجتي إليك وقد استأثر مكسيم بكل وقتي، وكل نفسي، وشغلني عن كل شيء وعن كل إنسان ومنعني حتى من أن أخلو إلى نفسي خلوة متصلة فأفكر فيما أستقبل من الحياة. يا لله! أيمكن أن ينحط الناس من هذه السعادة التي لا توصف إلى هذا الشقاء الذي لا يطاق؟
ألم تحدث نفسك، أيها الدفتر العزيز، حين أحسست يدي وهي تأخذك وتقلب صفحاتك بأني شقية بائسة، وأن الشقاء والبؤس هما اللذان ألجآني إليك وذكراني بمكانك من غرفتي؟ كلا لم تحدث نفسك بشيء؛ لأنك لم تحس شيئا، وأين أنت من النفس والحس؟ وإنما أنا التي تحدث نفسها بهذا كله، ولا تستطيع أن تخلو بهذا كله إلى نفسها، ولا أن تبثه أحدا غيرها، فهي تلقيه إليك، بعد أن تفيض عليك من الحياة ما يخيل إليها أنك شخص مثلها، تسمع وتعقل، وتستطيع أن تمنحها السلو والعزاء.
وأي سلو وأي عزاء؟ وعم أريد أن أسلو وعم أريد أن أتعزى؟ أولا يزال لي في شيء من ذلك أمل؟ ما أدري! لقد وقفت عن الكتابة حين بلغت هذه الجملة من الحديث؛ لأني وقفت عن التفكير، بل وقفت عن الشعور، وأحسست كأن عارضا من الذهول قد عرض لي، وكأن كل شيء من حولي يضطرب أشد الاضطراب، وكأن أصواتا من حولي ترتفع، فتملأ الجو وتفعم الفضاء. وما أدري أبقيت على هذه الحال ساعة أو دقائق؟ ولكني رجعت إلى نفسي متعبة مكدودة، لا أكاد أتمالك.
ثم أخذ الهدوء يثوب إلي شيئا فشيئا والقوة تعود إلي قليلا قليلا، وإذا أنا جالسة حيث كنت أنظر إليك ولا أكاد أراك. ثم أسأل نفسي عما أنا فيه، أسألها عما كنت أفعل، وعما عرض لي، وعما أريد أن أفعل، فلا أجد من نفسي إلا جوابا واحدا: وهو أني مقبلة على أشياء خطيرة وأمور ذات بال.
18
أتصدقني، أيها الدفتر العزيز؟ أما أنا فلا أكاد أصدق نفسي، بل أنا لا أصدقها، وإنما أنا في ريب من أمري واختلاط، لا أدري أعاقلة أنا أم مجنونة؟ أمحتفظة أنا بملكاتي كلها كما عهدتها ثابتة هادئة منظمة لا تقدم إلا على بصيرة ولا تدبر إلا على روية وتفكير، بعيدة كل البعد عن هذه الأوهام التي تعبث بعقول الدهماء، وتؤثر في نفوس الشذاذ من الناس؟ ما أدري! ولكني أنكر نفسي أشد الإنكار.
منذ أيام تخطر لي الخواطر الغريبة فأذودها هازئة بها، فتعاودني فأعاود ذيادها، ثم يتصل الليل بالنهار فإذا الخواطر التي كانت تعرض لي أثناء اليقظة تلح علي أثناء النوم. وإذا أنا أفيق مذعورة مرة ومرتابة مرة أخرى. كل ذلك وأنا أتهم نفسي وأنكرها، وألوم نفسي وأعنفها، وأزعم أن الحب قد أخرجني عن طوري، وأن الغيرة قد أفقدتني رشدي، وأذهلتني عن صوابي، وربما تساءلت: أليس من الخير أن أعود إلى أبوي فأقيم معهما أسابيع لأستريح من الحب كما عدت إليهما فأقمت معهما أسابيع لأستريح من الهجر؟ وأكاد أرجح هذا الميل، وأكاد أعزم على الرحلة، وأكاد أفر من نفسي، ولكن النذر تبلغني فأقيم.
قلت لك: إنك لن تصدقني، وإني لا أصدق نفسي، ولكني لم أنبئك بهذه الأنباء التي أعتقد أنك سترفضها وتأبى أن تؤمن لها. لم أنبئك بهذه الأنباء؛ لأني أكبرها وأنكرها، وأستحي أن أقصها عليك، ولأني أجد كثيرا من المشقة والجهد في جمع نفسي هذه المشردة، وتأليف خواطري هذه المتفرقة، وصوغ هذه الأنباء الغريبة في جمل قريبة أستطيع أن ألقيها إليك. ومع ذلك فلأجتهد ولأجاهد فما ينبغي أن أخفي عليك سرا، وما ينبغي أن نفترق ولما أظهرك على هذه الأحداث الجسام.
ما كنت أظن أن حرصي على حب مكسيم سينتهي بي إلى هذا الطور الذي انتهيت إليه منذ شهرين من الإشفاق والخوف ومن التطير والخضوع للأوهام.
ولكني قد انتهيت إلى هذا الطور سواء أردت ذلك أم لم أرده، وقد جعلت ألتمس التأويل والتعليل لكل كلمة من كلمات زوجي، ولكل نبرة من نبرات صوته، ولكل حركة من حركاته، ولكل هذه المظاهر التي تختلف على وجوه الناس حين يبتسمون ويعبسون، وحين يهدءون ويضطربون، وأسرفت في ذلك حتى ضقت به، وحتى جعلت أروض نفسي على أن أنفق الأوقات القصيرة غير مفكرة في مكسيم ولا حافلة به، فلا أبلغ من ذلك شيئا. وقد ألقى الشيطان في روعي أني مدينة لغيبة لورنس بنشاط حبنا بعد فتوره، فأحاول أن أدفع وسوسة الشيطان هذه عن نفسي، فأوفق حينا ثم يعود إلي هذا الوسواس ملحا مسرفا في الإلحاح، وإذا أنا أفكر في لورنس كلما فكرت في زوجي.
Bilinmeyen sayfa