في سبيل الحب هذا كله، فإن هذه المحنة القاسية لم تتكشف لي إلا عن شيء واحد، هو أني أحب مكسيم إلى أبعد ما يمكن أن ينتهي إليه الحب، وأحتمل في سبيله أقسى ما يمكن أن تحتمل المرأة من مشقة وجهد وتضحية. ظهرت على خيانته فلم أحس ثورة جامحة وإنما أحسست ألما لاذعا، وتبينت إثمه فلم تتحدث إلي نفسي بالقطيعة، وإنما تحدثت إلي بالفرار إلى حيث أستريح وأستجم، ثم أستأنف الجهاد لاكتساب هذا القلب الذي أخذ يفلت مني ويهيم بغيري.
وكنت أثناء هذه الأسابيع التي خلوت فيها إلى أبوي، وإليك أيها الدفتر العزيز، أغالب الشوق إلى مكسيم، فأغلبه حينا ويغلبني حينا، وأغالب الغضب على مكسيم فيقهرني حينا وأقهره حينا. ولولا أني وجدت منهما ومنك، ومن القراءة، ومن هذه الطبيعة المشرقة الباسمة المتألقة، ما كان يشغلني عن نفسي ويصرفني عما كان يتنازعني من العواطف والأهواء، لانتهى بي الأمر إلى ما لا أحب.
ولكني تمالكت حتى كان هذا اليوم الذي أقبل فيه الصبي ينبئني بمقدم السيارة، فأحسست هذا التردد بين الابتهاج والابتئاس، وبين الرضا والسخط، ثم نهضت مع الصبي فماشيته إلى حيث أراد، وإلى حيث ألقى نفسه بين ذراعي أبيه، وقد أخرجه الفرح عن طوره، وإلى حيث استقبلت أنا مكسيم بابتسام فاتر، ونشاط متكلف، وشهد الله لقد تصنعت هذا الفتور وتعملت هذا التكلف، ولو أرسلت نفسي على سجيتها وأطعت غريزتي لألقيت نفسي بين ذراعي زوجي ضاحكة باكية، ومغرقة في الحزن والفرح معا. ولكني تكلفت الأناة والوقار ونجحت فيما تكلفت، فأرسلت إلى نفس مكسيم شيئا من الفتور وخيبة الأمل.
قبلته متثاقلة فقبلني متثاقلا، واتصلت بيننا لحظات صامتة لم نعرف فيها كيف نقول، ثم قطع الصمت بصوت متهدج مضطرب وهو يقول في ألفاظ متقطعة شيئا: لقد كنت أظن أن مقدمي سيشيع في نفسك من السرور أكثر مما رأيت!
فلم أعرف كيف أجيبه، ولكنني انحنيت إليه فقبلته في رفق، وقلت له في حنان: هلم نسلم على أبوي فإنهما من غير شك قد أحسا مقدمك.
16
ولم يطل مقام مكسيم في بيت أبوي، ولم أستطع أن أتخلف عنه؛ لأني خشيت إن فعلت أن يظهر أبواي على أن بيننا شيئا. وكنت أكره ما أكون لإظهارهما على هذه الكارثة، ولعلي لا أصدق إن زعمت أن هذا وحده هو الذي منعني من التخلف عن مكسيم، وما تعودت أن أكذبك أيها الدفتر العزيز، ولا أن أستحي منك؛ فلأقل الحق، ولأسجل مستخذية منك، ومن نفسي، أني رجعت مع مكسيم، مستسلمة لحبه مذعنة لسلطانه، عائدة إلى طاعته متجافية عن خيانته، وإن كنت لم أنسها ولم أعف عنها في قرارة نفسي.
ولكني اتخذت لها من قلبي زاوية أقررتها فيها، وألقيت بيني وبينها ستارا، واستجبت لدعاء الحب، فألقيت نفسي في ناره المضطرمة، ووجدت في الاحتراق بهذا الجحيم نعيما أي نعيم! وقد أنسى أشياء كثيرة قبل أن أنسى عودتنا إلى المدينة، في ضحى ذلك اليوم الذي أشرقت فيه الشمس، وصفت فيه السماء، ورق فيه الجو وخف فيه الهواء، وظهرت فيه الطبيعة هادئة باسمة، تستقبل حياة هادئة باسمة، وتغري الناس بأن يأخذوا بحظوظهم من الهدوء والابتسام. وقد استجبنا لهذا الدعاء، وخضعنا لهذا الإغراء، وظهر على وجهينا هدوء مطمئن، وابتسام يصور الرضا، وميل إلى الدعة واستسلام إلى الأمن، وانصراف عن الجهد. وقد أسلم مكسيم قياد السيارة إلى السائق، وآثر السكون والهدوء، وجلس إلى جانبي ينظر إلي في وداعة وحنان، وأنظر إليه في رفق وعطف، والصبي أمامنا منطلق في أحاديث لا نفهم إلا أقلها، قد انصرفنا عنه إلى أنفسنا، وقد ألقيت رأسي على كتف مكسيم وجعلت أنعم بهذه الساعة الحلوة، وإذا دموع تنحدر من عيني، لا أدري لماذا انحدرت، فلم أكن في حاجة إلى البكاء، ولم أشعر بدافع إليه، ولكن هذه الدموع انحدرت في صمت، ولم يسألني عنها مكسيم. وإنما مسحها في رفق، وضمني إليه ضما خفيفا.
ثم مال إلي فقبلني في هدوء ودعة، لم يقل شيئا ولم أقل شيئا، وإنما لبثت كما كنت، وظل كما كان، حتى أشرفت بنا السيارة على المدينة، ونبهنا الصبي إلى مكاننا منها بما كان يدلنا عليه من المعالم والعمارات، فاعتدلت في مجلسي واستقبلت المدينة والحياة فيها استقبال الجد والطمأنينة والإذعان.
ولقد استأنفت حياة جديدة فيها حب شديد النشاط، وكلف بعيد الأثر في النفس يوشك أن يكون هياما. وفيها ترقب لكل ما يصدر عن مكسيم من لفظ وحركة، وما يضطرب على وجهه من المظاهر، وفيها تفهم لنبرات الصوت وخلجات العين. وما أكثر ما كنت ألوم نفسي على ذلك، وأحذرها الإسراف في تتبع مكسيم، ومضايقته بهذا الحب الملح، وإغراقه بهذا السيل الجارف من العواطف. فقد يؤذيه ذلك وقد يحرجه وقد يغيظه وقد يخرجه عن طوره.
Bilinmeyen sayfa