ولكني لم أحدثك بشيء من هذا الكتاب، أيها الدفتر العزيز. وما أشد أسفي لأني لم أحفظه عن ظهر قلب، أو لم أتخذ منه نسخة أعاود النظر فيها بين حين وحين. فهو خليق أن يحفظ وأن يسجل؛ لأنه يصور الضعف والقوة معا، كأقصى ما يكون الضعف وكأقصى ما تكون القوة، ولأنه يصور الوفاء للصديق والاستسلام للحب، والصراع العنيف بين هذا الاستسلام وذلك الوفاء، والانتهاء إلى اليأس من المقاومة والفرار آخر الأمر إلى حيث يمكن الانفراد مع الحزن اللاذع والألم الممض، وإلى حيث يمكن الانتظار لروح الله الذي قد يريح من آلام الحياة بما يفيض من السلوى والعزاء، وقد يريح من الحياة نفسها إذا لم تكن سبيل إلى السلوى والعزاء.
كل هذا كان مصورا في ذلك الكتاب تصويرا يسيرا ساذجا، لا تصنع فيه ولا تكلف، حتى لقد كان يخيل إلي أن هذه الصديق المسكينة إنما أفاضت فيه نفسها البائسة، وأودعته قلبها الكئيب. وكانت لورنس قد ودعتنا منذ أيام، وزعمت لنا أنها مسافرة إلى باريس لتنفق فيها أسابيع، ثم عائدة إلينا بعد ذلك وقد جددت العهد بالعاصمة وما فيها ومن فيها، مما تحب من المعالم، ومن تألف من الأصدقاء. وكنت قد أنكرت هذا السفر وضقت به، ورأيت أنها تقدم عليه في غير إبانة، ولكني رأيت منها إلحاحا فيه وتصميما عليه، ولم أجد إلى صرفها عنه سبيلا فودعتها كارهة واستكتبتها وجعلت أنتظر كتبها دون أن أتلقى منها شيئا حتى قرأت هذا الكتاب، فعرفت منه أنها لم ترحل إلى باريس، وإنما خدعتنا عن نفسها، وعبرت البحر إلى حيث لا ندري من الشرق الأدنى، أو من الشرق البعيد، وأنها لن تعود إلا حين تستيقن بقدرتها على العودة، وعلى أن تعيش معنا كما كانت تعيش منذ حين، نقية القلب والنفس والضمير، قادرة على الوفاء لصديقها بما ينبغي من الود الخالص الذي لا إثم فيه ولا ريب.
وجدت في هذا الكتاب قصة نفسين قد لقيتا من قوة الإرادة وضعف الغريزة أشد العذاب. وكانت نفس لورنس أقواهما وأمضاهما وأشدهما احتمالا وأقدرهما على المقاومة. فهي قد أحست عطف مكسيم عليها ورعايته لها، ثم أحست تحول هذا العطف والرعاية إلى شيء من الحب والحنان، ثم أحست قوة هذا الحب وشدة هذا الحنان فتلقت هذا كله لقاء حسنا نقيا.
ولكن حب مكسيم ألح عليها وجعل يتتبعها ويقفو آثارها، ثم جعل يمسها مسا رفيقا، ثم جعل يحيط بها ويغمرها، وهي تقاومه وتدافعه وتحاول النجاة منه كما يحاول الغريق أن ينجو من الماء الذي يطغى عليه، وقد نجحت مقاومتها مرة ومرة، وأفلتت من شباك الحب تلك التي كان ينصبها لها مكسيم، وكانت تنصبها هي لنفسها، ولكن مكسيم غلا في الإلحاح، وأسرف في التتبع، وظهر من أمرها على ما كانت تخفي، واستيقن أنها تلقى حبه بحب مثله، وأن نقاء الضمير وحده هو الذي يحول بينها وبين الاستجابة له والانقياد لهواه، فاضطهدها مصبحا واضطهدها ممسيا، واضطهدها حين كانت تزورنا، وجعل يزورها حين كانت تقعد عن زيارتنا، وتنتحل لذلك ما كانت تنتحل من معاذير.
وكانت المسكينة ترى هذا الإلحاح العنيف، وتجد في نفسها إلحاحا مثله، وكانت ترى مكسيم يدفع إليها دفعا وترى نفسها تدفع إليه دفعا. ولكن صورتين اثنتين كانتا تنتظرانها دائما عند الهوة، فتردانها عنها وتعصمانها من السقوط.
فأما إحدى هاتين الصورتين فكانت مخيفة منذرة، تبعث الخوف وترسل النذير في صمت مزعج رهيب، وهي صورة زوجها الفقيد الشهيد الذي وفى لها في حياته، وشقي بالدفاع عنها أثناء الحرب ومات في سبيل هذا الدفاع. وأما الصورة الأخرى فكانت مشجعة في حزن، ومتوسلة في ابتسام وهي صورة صديقتها مدلين، تحمل بين يديها ابنها بيير، تبسم له وتبسم لها وتنظر إلى مكسيم نظرة فيها تساؤل واستغراب!
كانت المسكينة كلما بلغت الهوة وأوشكت أن تسقط بين ذراعي مكسيم، رأت هاتين الصورتين تكتنفانها فارتدت فزعة مذعورة، ثم كانت المسكينة تخلو إلى نفسها بعد ذلك فتلقى من الحب العنيف ومن الوفاء العنيف، تلقى من الغرائز الضعيفة والإرادة القوية عذابا ينغص عليها الحياة تنغيصا، حتى أنكرت نفسها وأشفقت أن يلم بها طارق من جنون.
هنالك لم تر المسكينة بدا من أن تفر منا جميعا إلى حيث لا ترى هذا الحب الآثم الذي لا تكاد تفلت منه، وإلى حيث لا ترى هذا الزوج الشهيد مخوفا منذرا، وإلى حيث لا ترى هذه الصديق الوفية باسمة منكرة متسائلة، وبين ذراعيها طفلها هذا الوادع البريء.
إن في الرحلة إلى الشرق، والنظر إلى ما فيه ومن فيه لعزاء عن مثل هذا الحزن الملح والألم المقيم والعذاب المتصل، إن كانت إلى العزاء عن ذلك سبيل. فإن لم أجد العزاء فسأجد من بعد الشقة بينك وبيني أيها الحبيب البغيض، ما يعصمك ويعصمني من هذا الخزي الذي إن كنت تطيقه الآن فستضيق به غدا، والذي لا أستطيع أن أرى نفسي متورطة فيه.
وداعا أيها الحبيب إلي وإن كنت أبغض حبك وأضيق به.
Bilinmeyen sayfa