وإني لقادرة على ذلك، وإني لراغبة فيه حريصة عليه، لولا هذا الخاطر الثقيل الملح الغامض الذي أثاره في نفسي أمر الخطبة وحديث الزواج .
أعني - أيها الدفتر العزيز - على أن أكون جلدة حازمة ضابطة لأمري، مالكة لنفسي مسيطرة على عواطفي وخواطري، محتملة لهذا الهيام الغريب الذي أحبه وأبغضه، والذي أقدم عليه وأحجم عنه.
أعني - أيها الدفتر العزيز - فإني في حاجة إلى معونتك لأقف من نفسي ومن أبوي هذا الموقف الغريب، الذي لا أكاد أتصوره حتى أرتاع له، وأضحك منه؛ فهو مروع حقا ومضحك حقا. أتريد أن أفضي إليك بخبيئة نفسي ودخيلة ضميري؟ إذن فأصغ إلي، واستمع لي، ولا تضحك مني، إني عاشقة قد تيمها العشق، ولكني عاشقة لشخص مجهول لا أعرف من أمره شيئا. هو هذا الذي يفكر أبواي في أن يكون لي زوجا.
8
إنك تسرفين في السهر يا ابنتي، وأخشى أن يؤثر ذلك في صحتك، بل أكاد ألمح آثاره، فإني أرى لونك حائلا ووجهك شاحبا، وأحس منك فتورا لم أتعوده ولا أحب أن أحسه.
قالت لي أمي ذلك بعد أن منحتني قبلة الصباح، ثم وضعت يديها على كتفي، وحدقت في وجهي فأطالت التحديق، ثم ضمتني إليها ووضعت على خدي قبلتين، لم تكد تفرغ منهما حتى انحدرت من عينيها دموع غزار، وحتى خنقت العبرة صوتها فولت منصرفة ومضت إلى غرفتها لا تلوي على شيء.
وكان هذا كله مفاجئا لم أكن أتوقعه، وكان هذا كله سريعا لم يتح لي أن أفكر فيه. دفعتها إليه الغريزة، ودفعها إليه ما يملأ حياتها من حزن وإشفاق. ولم أكن أقل منها تأثرا بالغريزة، فمضيت في أثرها مسرعة حتى انتهيت إلى غرفتها، فإذا هي جاثية أمام الصليب صامتة مغرقة في الصمت، لا ينطلق لسانها بالصلاة ولا يندفع صوتها بالبكاء، والدموع تنحدر من عينيها صامتة أيضا، وقد أظلها الحزن الهادئ الوديع بجناحيه، فظهرت عليها سكينة مؤثرة تملأ القلب حزنا وأسى، وتشيع فيه رهبة وجلالا.
وقد قمت منها غير بعيد، ولبثت أرمقها بنظرات ما أرى إلا أنها كانت تحمل بعض ما كان يفيض به قلبي من حب وحنان، وكأنها أحست وقع هذه النظرات على شخصها، فتحولت عن الصليب في أناة وهدوء، ثم نهضت متثاقلة وهي تهدي إلي ابتسامة حلوة يبلها الدمع، ثم سعت إلي حتى بلغت مكاني، فضمتني إليها مرة أخرى وقبلتني متمالكة متماسكة، ثم أخذت بيدي ومضت تسعى حتى انتهت إلى كرسي طويل فجلست وأجلستني إلى جانبها، وطوقت عنقي بذراعها، وجعلت تنظر إلي فتطيل النظر ولا تقول شيئا.
وما أشك في أن نظرها هذا الصامت الطويل إنما كان صراعا بين حبها لي وحزنها هذا المتصل. وكانت تريد أن ترد الحزن إلى مقره من أعماق نفسها، وأن تقيم في المكان الظاهر من قلبها حبها لي وبرها بي وعطفها علي. وقد أتيح لها ذلك بعد لحظة، فجعلت تلاطفني بيدها تمسح بها خدي مرة وتجري أصابعها في شعري مرة أخرى، وجعل نظرها إلي يتصل كما كان ولكنه يهدأ ويرق ويلين حتى صار حنانا وعطفا، ولم يتح للسانها مع ذلك أن ينطلق بشيء، ولم يتح لشفتيها مع ذلك أن تنفرجا عن شيء.
والغريب أن لساني أنا أيضا قد ظل معقودا، وأن شفتي أنا أيضا قد ظلتا مقفلتين، وقد كنت مع ذلك أدرت في نفسي كلاما أريد أن أقوله لها، وقدرت في خاطري ألفاظا حلوة أريد أن أرسلها إلى نفسها الثائرة وقلبها المكتئب، ولكني أنسيت كل شيء ولم أجد في نفسي شيئا، ولم أستطع أن أدير لساني بحرف. وإذا أنا ألاطفها كما تلاطفني وأداعب خدها وشعرها كما تداعب خدي وشعري وأقبلها بين حين وحين.
Bilinmeyen sayfa