كيفية دعوة الملحدين إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
كيفية دعوة الملحدين إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة
Yayıncı
مطبعة سفير
Yayın Yeri
الرياض
Türler
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
كيفية دعوة الملحدين إلى اللَّه تعالى
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى اللَّه تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Bilinmeyen sayfa
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في» كيفية دعوة الملحدين إلى اللَّه تعالى «بينت فيها بإيجاز الأساليب والطرق في كيفية دعوتهم إلى اللَّه تعالى. واللَّه تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل اليسير مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى اللَّه وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد بن عبد اللَّه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر ضحى يوم الخميس ٢٥/ ٢/١٤٢٥هـ
1 / 3
تمهيد: إنزال الناس منازلهم:
الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، وينزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم وأفهامهم وطبائعهم وأخلاقهم ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها، ولهذا قال علي بن أبي طالب ﵁: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب اللَّه ورسوله» (١).
وذُكر عن عائشة ﵂ أنها قالت: «أمرنا رسول اللَّه ﷺ أن نُنزل الناس منازلهم» (٢).
وقال عبد اللَّه بن مسعود ﵁: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (٣).
وقد بيَّن النبي ﷺ ذلك للدعاة إلى اللَّه ﷿ فقال لمعاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن - داعيًا ومعلمًا وقاضيًا -: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب ...» الحديث (٤).
_________
(١) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، ١/ ٢٢٥، (رقم ١٢٧).
(٢) مسلم، في المقدمة، مع شرح النووي، ١/ ٥٥، وسنن أبي داود مع العون، ١٣/ ١٩١.
(٣) مسلم، المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ١/ ١١.
(٤) البخاري مع الفتح، باب الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، ٣/ ٣٢٢، (رقم ١٤٥٨)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله وشرائع الإسلام، ١/ ٥٠، (رقم ١٩).
1 / 4
فبيَّن ﷺ لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعد لهم، ويقدم لهم ما يناسبهم، وما يصلح أحوالهم.
وقال ﷺ لعائشة ’: «يا عائشة، لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون» (١).
فترك ﷺ هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد (٢).
فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جدًا، فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم (٣).
_________
(١) البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، ١/ ٢٢٤، (١٢٦)، ومسلم، كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، (رقم ١٣٣٣)، (٤٠١، ٤٠٢).
(٢) قال ابن حجر ‘: >يستفاد منه ترك المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفسدة، وترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه<. انظر: فتح الباري ١/ ٢٢٥.
(٣) انظر: شرح الإمام النووي على مسلم،١/ ٧٦، ١٩٧،وفتح الباري،١/ ٢٢٥،وكيف يدعو الداعية لعبد الله ناصح العلوان، ص ٧، ٣٧، ٤٧، ١٥٥،وزاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص٧.
1 / 5
والداعية الحكيم يكون مدركًا لما حوله، مقدرًا للظروف التي يدعو فيها، مراعيًا لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم.
والداعية إلى اللَّه – تعالى – لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقًا في تبليغه ولا مسددًا في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والماديين والدهريين؟ أم من الوثنيين المشركين؟
فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدم معهم؟ وماذا يؤخر؟ وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟
وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يشخص المرض، ويعرف الداء ويحدده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعيًا في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئًا من أعضائه، من أجل استئصال المرض
1 / 6
طلبًا لصحة المريض، وهكذا الداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويحدد الداء، ويعرف الدواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءًا بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة.
المبحث الأول: مفهوم الإلحاد
الإلحاد في الأصل هو: الميل والعدول عن الشيء، والظلم والجور، والجدال والمراء، يقال: لحد في الدين لحدًا، وألحد إلحادًا، لمن مال وعدل ومارى وجادل وظلم (١).
واللحد: الشق الذي يعمل في جانب القبر لموضع الميت؛ لأنه قد أُميل عن وسط القبر إلى جانبه (٢).
والإلحاد: هو الميل عن الحق، والانحراف عنه بشتى الاعتقادات، والتأويل الفاسد، والمنحرف عن صراط اللَّه والمعاكس لحكمه يسمى ملحدًا (٣).
_________
(١) انظر: القاموس المحيط، فصل اللام، باب الدال ص١٠٤، والمعجم الوسيط، مادة (لحد)، ٢/ ٨١٧، ومختار الصحاح، مادة (لحد)، ص٢٤٧، وفتح القدير للشوكاني، ٤/ ٥١٨، ٢/ ٢٦٨.
(٢) النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، ٤/ ٢٣٦.
(٣) انظر: الأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة، للشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري، ص٤٠.
1 / 7
والمراد بالملحدين في هذا المبحث: هو المعنى المصطلح عليه في هذا العصر، وهم: من أنكروا وجود رب خالق لهذا الكون، متصرف فيه، يدبر أمره بعلمه وحكمته، ويجري أحداثه بإرادته وقدرته، واعتبار الكون أو مادته الأولى أزلية، واعتبار تغيراته قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار الحياة - وما تستتبع من شعور وفكر حتى قمتها الإنسان - من أثر التطور الذاتي للمادة (١).
المبحث الثاني: الأدلة الفطرية
الفطر: الشق، والجمع منه فُطورٌ (٢)، قال تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ (٣)، وفطر اللَّه العالم: أوجده ابتداء (٤)، وفطر الخلق: خلقهم وبدأهم (٥)، ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ (٦)، والفطرة: الخلقة التي خُلِقَ عليها كل موجود أول
_________
(١) انظر: كواشف زيوف المذاهب المعاصرة، لعبد الرحمن الميداني، ص٤٠٩.
(٢) انظر: المعجم الوسيط، مادة (فطر)، ٢/ ٦٩٤، ومختار الصحاح، مادة (فطر)، ص٢١٢.
(٣) سورة الملك، الآية: ٣.
(٤) انظر: المعجم الوسيط، مادة (فطر)، ٢/ ٦٩٤.
(٥) انظر: القاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء، ص٥٨٧.
(٦) سورة الأنعام، الآية: ٧٩.
1 / 8
خلقة (١)، والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه، والدين (٢)، والطبيعة السليمة التي لم تُشَبْ بعيبٍ (٣)، قال الرسول ﷺ: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون بها من جَدْعَاء» (٤)، ثم يقول أبو هريرة ﵁: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ (٥).
فمن حكمة القول مع الملحدين أن يستخدم الداعية إلى اللَّه - تعالى - في دعوته لهم الأدلة الفطرية، فيوضح ويبين لهم أن المولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو تُرِكَ عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غَيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل؛ لآفة من آفات البشر والتقليد ... وكل مولود يولد
_________
(١) انظر: المعجم الوسيط، مادة (فطر)، ٢/ ٦٩٤.
(٢) القاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء، ص٥٨٧.
(٣) انظر: المعجم الوسيط، مادة (فطر)، ٢/ ٦٩٤.
(٤) يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجه واضح. انظر: فتح الباري، ٣/ ٢٤٩.
(٥) البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ ٣/ ٢١٩، (رقم ١٣٥٨)، وأخرجه في عدة مواضع انظرها: ٣/ ٢١٩، ٢٤٩، ٨/ ٥١٢، ١١/ ٤٩٣، وأخرجه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، ٤/ ٢٠٤٧، (رقم ٢٦٥٨).
1 / 9
على معرفة اللَّه والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقرّ بأن له صانعًا وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره (١).
والمقصود بفطرة اللَّه التي فطر الناس عليها: فطرة الإسلام (٢)، والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة؛ فإن حقيقة الإسلام هو الاستسلام للَّه وحده.
وقد ضرب رسول اللَّه ﷺ مثل ذلك فقال: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟».
فأوضح أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ (٣)، قال ﷺ: «إني خلقتُ عبادي كلهم حُنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ...» (٤).
وقد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية الفطرة مع الحق بمثل يوضح ذلك، فقال: «ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذل عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة
_________
(١) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، ٣/ ٤٥٧، وفتح الباري، ٣/ ٢٤٨ - ٢٥٠.
(٢) وقد جزم بذلك البخاري فقال: والفطرة الإسلام. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب لا تبديل لخلق الله، ٨/ ٥١٢.
(٣) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ٤/ ٢٤٥، وفتح الباري، ٤/ ٢٤٥.
(٤) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، ٤/ ٢١٩٧، (رقم ٢٨٦٥).
1 / 10
العارضة من: تهودٍ، وتنصرٍ، وتمجسٍ، مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في طبيعته فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًّا» (١).
وليس المراد بقوله ﷺ: «يولد على الفطرة» أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين ويعتقد الإسلام بالفعل؛ لأن اللَّه يقول: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (٢).
ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، وقبوله وإرادته للحق، وإقراره بالربوبية، فلو خُلّي من غير معارض ومن غير مغيِّر لما كان إلا مسلمًا ولم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه صارف، ومن ثم شُبِّهت الفطرة باللبن، فهي تستلزم معرفة اللَّه ومحبته وتوحيده (٣).
ويدل على ذلك رواية مسلم: «ما من مولو يُولَدُ إلا وهو على هذه الملة حتى يُبيِّن عنه لسانه» (٤).
_________
(١) درء تعارض العقل والنقل، ٩/ ٣٧٥، والفتاوى لابن تيمية، ٤/ ٢٤٧.
(٢) سورة النحل، الآية: ٧٨.
(٣) انظر: شرح النووي على مسلم، ١٦/ ٢٠٨، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ٤/ ٢٤٧، ١٦/ ٣٤٤، ٤/ ٢٤٩، وفتح الباري، ٣/ ٢٤٨ - ٢٥٠.
(٤) مسلم، كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة، ٤/ ٢٠٤٨، (رقم ٢٦٥٨) (٢٣).
1 / 11
وقد أخبر اللَّه ﷿ أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن اللَّه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا﴾ الآية (١).
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن كل إنسان قد فُطِرَ على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم (٢).
ومما يبين ذلك ويوضحه أن العاقل إذا رجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق - تعالى - في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله (٣)، وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء: فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار.
فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد، ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، كيف تجد قلوبهم معلقة باللَّه، وأصواتهم مرتفعة بسؤاله، وأفئدتهم تنظر إلى إغاثته، لا تلتفت يمنة ولا يسرة إلا إليه (٤).
_________
(١) سورة الأعراف، الآية: ١٧٢.
(٢) انظر: تفسير ابن كثير، ٢/ ٢٦٢، ٣/ ٤٣٣، ودرء تعارض العقل والنقل، ٨/ ٤٨٧، وجامع الرسائل لابن تيمية، ١/ ١١، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي، ٢/ ٣٣٧.
(٣) انظر: كتاب الداعي إلى الإسلام لعبد الرحمن الأنباري، ص٢١١، ودرء تعارض العقل والنقل، ٣/ ١١٣.
(٤) انظر: الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، ص٢٥١، ٢٥٢.
1 / 12
ومما يزيد ذلك وضوحًا أن الخلق متى شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة كالرعد والصواعق، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، وفيضانات الأنهار، واضطراب الأمواج في البحار والمحيطات، متى شاهدوا ذلك دعوا اللَّه وسألوه وافتقروا إليه؛ لأنهم يعلمون أن هذه الحوادث المتجددة لم تتجدد بنفسها، بل لها مُحدث أحدثها، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات؛ لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفًا لهم، بخلاف المتجدد، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان، فإنه من أعظم الآيات، فكلٌّ يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لابد له من خالق خلقه، وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ (١)، ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ (٢)، وقال - سبحانه - تذكيرًا لهذا الإنسان الجاحد: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (٣)، ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ (٤).
_________
(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل، ٣/ ١٢٢، ١٢٩، ١٣١، ١٣٧.
(٢) سورة الذاريات، الآية: ٢١.
(٣) سورة الإسراء، الآية: ٦٧.
(٤) سورة النحل، الآية: ٥٣.
1 / 13
فبين هذا أن الناس إذا غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء، لعلمهم الفطري أن اللَّه الذي يكشف الشدائد، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيسألونه بلسان المقال ولسان الحال، فهل هذه الأمور تحصل إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بربوبية اللَّه ووحدانيته، وأنه النافع والضار، وملكوت كل شيء بيده، إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة (١).
المبحث الثالث: البراهين والأدلة العقلية
إذا كان الماديون والطبيعيون والدهريون يتظاهرون بإنكار وجود اللَّه - تعالى - فإن من الحكمة في دعوة هؤلاء إلى اللَّه - تعالى - أن تُقدّم لهم البراهين والأدلة العقلية القطعية في المسالك الآتية:
المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم:
يستدل على كل من أنكر وجود اللَّه - تعالى - وربوبيته بأمر لا يمكنهم إلا التسليم للحق والانقياد له، أو الخروج عن موجب العقل إلى الجنون والفطر المنحرفة، فيقال لكل من أنكر ذلك:
الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة لا رابع لها:
١ - إما أن تُوجد هذه المخلوقات بنفسها صُدقة من غير مُحدث ولا
_________
(١) انظر: الرياض الناضرة، ص٢٥٢، وعقيدة المسلمين للبليهي، ١/ ٧٠، وشرح أصول الإيمان للشيخ محمد بن عثيمين، ص١٥.
1 / 14
خالق خلقَهَها، فهذا مُحالٌ ممتنع تجزم العقول ببطلانه ضرورة، ويُعلم يقينًا أن من ظن ذلك لهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل؛ لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير مُوجدٍ ولا مُحدثٍ، فلابد لكل حادث من مُحدث، ولا سبيل إلى إنكار ذلك، فإن وجود الشيء من غير مُوجد مُحالٌ وباطلٌ بالمشاهدة والحسّ والفطرة السليمة.
٢ - وإما أن تكون هذه المخلوقات الباهرة هي المحدثة الخالقة لنفسها، فهذا أيضًا مُحالٌ ممتنع بضرورة العقل، وكل عاقل يجزم أن الشيء لا يُحدثُ نفسه ولا يخلقه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا؟!
فإذا بطلَ هذان القسمان عقلًا وفطرةً، وبان استحالتهما، تعين القسم الثالث:
٣ - وهو أن هذه المخلوقات بأجمعها: علويها وسفليّها، وهذه الحوادث لابد لها من مُحدث ينتهي إليه الخلق والملك والتدبير، وهو اللَّه العظيم الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها (١)، ولهذا ذكر اللَّه – تعالى – هذا الدليل العقلي
_________
(١) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم، ١/ ٦٦، ودرء تعارض العقل والنقل، ٣/ ١١٣، والرياض الناضرة للسعدي، ص٢٤٧، وتفسير السعدي، ٧/ ١٩٥، وأضواء البيان للشنقيطي، ٤/ ٣٦٨، وشرح أصول الإيمان لمحمد بن صالح العثيمين، ص١٥.
1 / 15
والبرهان القطعي، فقال: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ (١)، ولذلك تأثر جبير بن مطعم بسماعها من النبي ﷺ تأثرًا عظيمًا، قال ﵁: «سمعت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾ (٢) كاد قلبي أن يطير» (٣)، «وذلك أول ما وقرَ الإيمانُ في قلبي» (٤).
فالمخلوق لابد له من خالق، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل، وهذه قضايا بدهية جلية واضحة، يشترك في العلم بها جميع العُقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية، فمن ارتاب فيها أو شكّ في دلالتها فقد برهن على ضلاله، واختلال عقله (٥).
_________
(١) سورة الطور، الآية: ٣٥.
(٢) سورة الطور، الآيات: ٣٥ – ٣٧.
(٣) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الطور، باب حدثنا عبد الله بن يوسف، ٨/ ٦٠٣، (رقم ٤٨٥٤).
(٤) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب حدثني خليفة، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ٧/ ٣٢٣، (رقم ٤٠٢٣).
(٥) انظر: الرياض الناضرة لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص٢٤٧، ومنهاج الجدل في القرآن الكريم، للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص١٣٨.
1 / 16
المسلك الثاني: العدم لا يخلق شيئًا:
من القواعد العقلية التي ينبغي للداعية إلى اللَّه أن لا يغفلها في دعوته مع الملحدين قاعدة: العدم لا يخلق شيئًا، فالعدم الذي لا وجود له لا يستطيع أن يصنع شيئًا؛ لأنه غير موجود.
وإذا تأمل العاقل في المخلوقات التي تولد في كل يوم، من إنسان وحيوان، وتفكر في كل ما يحدث في الوجود من رياح وأمطار، وليل ونهار، وما يجري في كل حين من حركات منتظمة للشمس والقمر والنجوم والكواكب، إذا تأمل العاقلُ في هذا وغيره من التغيرات المحكمة التي تجري في الوجود في كل لحظة، فإن العقل يجزم بأن هذا كله ليس من صنع العدم، وإنما هو من صنع الخالق الموجود ﷾ (١).
المسلك الثالث: الطبيعة الصماء لا تملك قدرة، وفاقد الشيء لا يعطيه
من المعلوم عند جميع العُقلاء أن الذي لا يملك مالًا لا يسأل الناسُ منه المال، والجاهلُ لا يأتي منه العلم؛ لأن فاقد الشيء لا يُعطيه.
فمن زعم أن الطبيعة (٢) خلقته أو خلقت شيئًا فقد خالف العقل
_________
(١) انظر: حاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، بقلم عبد الرحمن بن قاسم، ص٢٩، والإيمان للزنداني مع مجموعة من العلماء، ص٢١، وكتاب التوحيد للزنداني، ١/ ٢١.
(٢) الطبيعة عند الماديين بمعنى المادة، والمادة بمعنى الطبيعة، وهي هذه المخلوقات بما هي عليه من صفات. انظر: موقف الإسلام من نظرية ماركس، لأحمد العوايشة، ص١٢٨، والإيمان للزنداني، ص٣٦.
1 / 17
وحارب الحق، لأن الكون يشهد أن خالقه حكيم عليم خبير، هاد رزّاق، حافظ رحيم، واحد أحد، والطبيعة الجامدة لا تملك مثقال ذرة من ذلك.
ومن العجيب أن كل من زعم أن الطبيعة تخلق شيئًا فقد خالف مقتضى العقول؛ لأن الطبيعة لا تملك خبرة، ولهم خبرة، ولا تملك إرادة، ولهم إرادة، ولا تملك علمًا، ولهم علم! أما علموا أن فاقد الشيء لا يُعطيه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ...﴾ (١)، فلابد أن يكون الخالق كاملًا كمالًا مطلقًا، بحيث يكون:
١ - مستغنيًا عن غيره.
٢ - ويكون أولًا ليس له بداية.
٣ - وآخرًا ليس له نهاية.
٤ - لا يحدّه زمان.
٥ - لا يحدّه مكان.
٦ - قادرًا على كل شيء.
٧ - عالمًا بكل شيء، ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
_________
(١) سورة الحج، الآية: ٧٣.
1 / 18
وهذه الخصائص لا يمكن أن تكون إلا للَّه الكامل من كل الوجوه، وبذلك يسقط – بحمد اللَّه تعالى – قول الماديين؛ لأن المادة لا تتصف بشيء من ذلك (١).
المسلك الرابع: الصدفة العمياء لا تملك حياة:
يعتقد الملحدون بالصدفة (٢)، وهي أن جميع الأشياء والمخلوقات تم تكوينها على ما هي عليه بطريق الصدفة، والمقابلة، وليس ذلك بطريق القصد والإرادة والتدبير.
ومن حكمة القول مع هؤلاء أن يُقال لهم: من أين حصل لهذا العالم هذا النظام العجيب، والترتيب الحكيم الذي حارت فيه العقول؟ كيف ينسب ذلك إلى الاتفاق والمصادفة ومجرد البخت؟ وكيف اجتمعت تلك الأجزاء على اختلاف أشكالها، وتبايُن مواردها وقواعدها، وكيف حُفظت وبَقيت على تآلفها، وكيف تجددت المرة بعد المرة؟!
إن مثل من يقول أو يعتقد أن هذا النظام والإبداع والإتقان وُجِدَ بطريق الصدفة لا غير، كمثل من وضع حروف الهجاء: أ، ب،
_________
(١) انظر: موقف الإسلام من نظرية ماركس، لأحمد العوايشة، ص١٢٥، ١٨٢، ١٨٧، ومذكرة في العقيدة الإسلامية للدكتور ناصر بن عقيل الطريفي، ص٩.
(٢) الصدفة في اللغة: يقال: مصادفة: لقيه ووجده من غير موعد ولا توقع. انظر: المعجم الوسيط، مادة: صدف، ٢/ ٥١٠.
1 / 19
ت ...، في صندوق ثم جعل يحركه طمعًا منه أن تتألف هذه الحروف من تلقاء نفسها، فيتركب منها قصيدة بليغة، أو كتاب دقيق في الهندسة، أليس ذلك من السّفه المبين ونقص العقل؟! فإنه لو داوم على تحريك هذا الصندوق السنين والدهور لم يحصل إلا على حروف.
ومثله كمن يقول: إن رجلًا أعمى غرزت له إبرة في لوحة، وأُعطي ألف إبرة، وقيل له: ارم هذه الإبر واحدة بعد الثانية، لتدخل الإبرة الأولى في ثُقب الإبرة المغروسة في اللوحة، وتدخل الإبرة الثانية في ثقب الأولى، والثالثة في ثقب الثانية، وهكذا بطريق الصدفة، حتى دخلت كل الإبر في بعضها بطريق الصدفة، فهل عاقل يصدق بهذه العملية والتي قبلها؟ لا يمكن أن يُصدّق عاقل بهذا، لأنه من قبيل المستحيل الذي لا تقبله العقول ولا تُقرّه، فكيف يُصدّق عاقل أن الكون كله بما فيه من إبداع وتنظيم في كل ذرة من ذراته وُجِدَ بطريق الصدفة؟
إن مخلوقًا يُصدّق بهذه التخيلات لمجنون قطعًا، لا تصلح نسبته إلى العُقلاء، ولا يُذكر في عدادهم أبدًا ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (١).
وهذا فيه دلالة عقلية قاطعة على أن اللَّه هو الخالق لكل شيء، وأن
_________
(١) سورة إبراهيم، الآية: ١٠.
1 / 20
الصدفة لا وجود لها ولا تصرف في مخلوقات اللَّه – تعالى – وبهذا تبطل شبه أهل الإلحاد والعناد الذين قالوا بالصدفة، وللَّه الحمد (١).
المسلك الخامس: المناظرات العقلية الحكيمة:
من الحكمة في دعوة الملحدين والطبيعيين الماديين أن يُناظروا بالمناظرات العقلية الحكيمة التي تُوضح لهم الحق، وتجعلهم يُسلِّمون ويقرُّون بأن اللَّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل.
ومن المناظرات التي أفحم بها المسلمون الملحدين ما ذُكِرَ عن أبي حنيفة – رحمه اللَّه تعالى – أنه اجتمع بطائفة من الملحدين وناظرهم فغلبهم، ورجعوا على أنفسهم بالملام، وقيل: إنهم رجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه (٢).
المسلك السادس: مبدأ السببية:
إنّ الواقع والعقول السليمة تشهد أن الإنسان منذ فتح عينيه لم
_________
(١) انظر: درء تعارض العقل والنقل، ٣/ ١٢٩، والإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان، ص٦٥، وعقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري، ص٣٤، ومنهاج الجدل في القرآن الكريم للدكتور زاهر بن عواض الألمعي، ص١٤٢.
(٢) سبقت هذه المناظرة بتمامها في مواقف أبي حنيفة، ص٤٤٢، وانظر: درء تعارض العقل والنقل، ٣/ ١٢٧، والرياض الناضرة للسعدي، ص٢٥٨، وعقيدة المسلمين للبليهي، ١/ ١٢٣، ومنهاج الجدل، ص١٣٩.
1 / 21