إنه لا ينبغي علينا أن ننسى أن الإنسان يستطيع أن يضع نفسه في موضع الآخر كما يستطيع أن يجعل الدائرة التي يحيا فيها «الغير» دائرة خاصة به، أي أنه لن يعجزه بالطبيعة أن يقر بطريقة الإحساس بالألوهية وتصورها على نحو ما تتأتى من العلاقات الخاصة التي تربطه بالعالم الذي يعيش فيه، بشرط ألا يكون هذا التصور وذلك الإحساس صادرين عن حياة متطرفة في العاطفة أو الغرور أو العبودية.
هكذا تبدأ تجربة الروح أو الإله على حدود الفرد. فحيث تنفتح هذه الحدود على القدر والكل والأنت تتم تجربة المطلق.
والواقع أن هذه الفكرة لا تختلف عن فكرة فشته إلا في الظلال الطفيفة التي تكسوها. فكلاهما يرى أن الإنسان لا يجرب واقعه إلا من خلال لقائه مع شريكه، أو مع الآخر كما تقول الفلسفة المعاصرة. غير أن نقطة البداية التي ينطلقان منها تختلف عند الفيلسوف عنها عند الشاعر.
فالفيلسوف يعنيه أن يصنع الإنسان نفسه عن طريق تحقيق «مجال طاقته» أو «دائرته» الخاصة به، أي إنه لا يشعر بتحقيق طاقاته وإمكانياته إلا من خلال الاصطدام بمجال آخر أو دائرة أخرى. إنه «يضع نفسه» - بالتعبير الشائع في المثالية الألمانية - عندما يقيم «الوضع المضاد» أو الضد المقابل له. أما الشاعر فينصب اهتمامه على اللقاء الذي يتم بين الأنا والأنت التي يضعها القدر في طريقه، بحيث يبرز «الثالث» أو المطلق الذي «يقوم بيني وبينك». وليس لنا أن نتوقع من الشاعر أن يتولى هذه الفكرة بالتحليل والتفصيل - فما خلق الشعراء لشيء من هذا - فذلك لا يتفق مع طبيعته وموهبته. ولذلك نجده يقف فجأة عند هذا الحد، في حين يمضي فشته مع فكرته على ترتيب دقيق حتى يصل بها إلى الغاية المرسومة لها في فلسفته وهي «الفعل».
على أن الشاعر لن يعدم فرصة أخرى تتيح له أن يعبر عن فكرته تعبيرا ملموسا. فهو يكتب إلى شقيقه في شهر نوفمبر سنة 1798م رسالة يقول فيها: «هكذا يجب علينا أن نقدم التضحية للألوهية التي تجمع بيني وبينك، فنحتفل باللطف والنقاء اللذين يتمثلان في حديثنا عنها بعضنا إلى بعض، كما نحتفل بالروح الأبدي الذي يربط بيننا ...»
وتعود هذه الصورة في رسالة متأخرة إلى صديقه بولندورف، بعد أن تغيرت قليلا واكتسبت شيئا من العمق: «أنا في حاجة إلى أنغامك النقية. إن الروح
11
التي تؤلف بين الأصدقاء، ونمو الفكرة في مجرى الحديث وعلى صفحات الرسائل المتبادلة بينهم؛ أمور لا يستغني عنها الفنانون. ولو لم يكن الأمر كذلك ما بقيت لنا فكرة، ولظلت ملكا للصورة المقدسة التي نكونها.»
والفكرة الأصلية هنا واضحة متميزة، على الرغم من غموض العبارة وبخلها، فالشاعر يكرر رأيه الذي عرفناه ويزيده قربا منا.
إنه يؤكد لنا أن تجربة المطلق (أو الروح التي تجمع بين الأصدقاء) ليست تجربة مجردة أو معلقة في الفراغ أو فوق السحاب، بل هي تجربة «بيني وبينك»، يمكن استخلاصها من الأحاديث العادية التي تدور بين الناس كل يوم. أما الصورة المقدسة التي نكونها بأنفسنا، كما تقول الكلمات الأخيرة في العبارة، فهي تشير إلى بعد أسطوري عميق وجديد. فلعلها تريد أننا نحن البشر نشارك في عمل المبدع الأعظم، ونسهم في جهود القوى الخلاقة وفي نسج «صورة الزمان التي يرسمها الروح الأكبر» على نحو ما تقول قصيدة «الاحتفال بالربيع» التي تحدثنا عنها في الصفحات السابقة. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نقف من الخالق المدبر موقف الطاعة والخشوع، ونتأمل حكمته التي تتجلى في الطبيعة والروح على السواء.
Bilinmeyen sayfa