23 ...
أما صديقه القديم «إسحاق سينكلير» فقد أسرع لنجدته، وبذل أقصى جهده ليرد إليه إيمانه بنفسه وينقذه من الجنون الذي يتهدده. فقد جاء به في صيف سنة 1804م إلى مدينة هومبورج وسعى لدى أميرها الحاكم لتعيينه أمينا لمكتبته وتعهد أن يدفع راتبه من جيبه؛ لكي يوفر له الحياة التي تعينه على الخروج من محنته.
وكانت طريقة الحياة في بلاط الأمير «الناسك فريدريش» - كما لقب نفسه ذات مرة - شيئا غير مألوف في ذلك الحين. فقد كان في أعماقه رجلا زاهدا يؤثر العيش مع أفكاره النقية التقية على الحياة بين مشاغل السياسة والحكم. وكان كل من يقترب منه - كما يروي واعظ بلاطه بريدنشتين - يضطر إلى طاعته والثناء عليه، وكل من يراه ينحني أمام عظمته وهيبته. كان يشع من هيئته وملامحه ذلك السحر الآسر الذي ينم عن الانتصار على كل المشاعر المنحطة والانفعالات الدنيئة. وليس غريبا على مثل هذا الأمير الناسك أن يترك الحكم لزوجته الباهرة الجمال. أما ابنته «أوجستا» فكانت أشد منه حياء وانطواء. ويظهر أن لقاءها بالشاعر البائس الرقيق قد فجر في صدرها عاطفة عميقة لم تكاشفه بها أبدا. وقد شهدت في وصيتها بأن ظهوره في حياتها كان بمثابة الصحوة التي أيقظتها من سباتها وجعلتها تتطلع إلى وجود أسمى. ولكن جو التدين العميق الذي كانت تعيش فيه، وحرصها على التقوى والصلاح إلى حد التشدد قد جعلها تكتم عاطفتها وتقسو على مشاعرها. ومن يدري؟ فلعلها لو أبدت له شيئا من الاهتمام أو باحت له ببعض ما تجده نحوه لأعانته على الخروج من محنته. ولكن أمثال هذه المعجزات نادر في حياة الموهوبين المساكين؛ إذ يبدو أن دائرة تعاستهم لا بد أن تكتمل!
ويظهر أن هلدرلين قد لقي من عطف الأمير فوق ما كان يتوقع أو يتصور، فعبر عن شكره له في قصيدة أهداها إليه تعد من أروع قصائده إن لم تكن أروعها - وأصعبها أيضا - على الإطلاق، وهي قصيدة «باطموس» التي قدمت لك بعض مقاطعها.
أما عن حياته في بلاط أمير مقاطعة «هسن» الزاهد فلا نعرف عنها شيئا كثيرا. غير أن ظواهر الأمور وروايات الشهود توحي بأنها كانت حياة بائسة يلفها ظلام المحنة من كل ناحية. ومع ذلك فيبدو أنها لم تخل في أحلك لحظاتها ظلاما من آثار تدل على رقة الشاعر وفطرته النقية وصمته ووحدته المؤثرة. ولدينا رواية مشهورة سجلتها الكاتبة الرومانتيكية الرقيقة «بتينافون أرنيم» زوجة الشاعر الكاتب الرومانتيكي المشهور «أخيم فون أرنيم» عندما رأته وهي لم تكد تبلغ العشرين. والسطور القليلة التي كتبتها «بتنيا» تعبر عن روح هلدرلين وفكره أكثر مما تعبر عن حياته في ذلك الحين. وهي تشهد بأثره على نفسها، وتكاد تشهد أيضا بأثر شعره على كل من يقرؤه: «كل شيء إيقاع. قدر الإنسان كله إيقاع سماوي واحد، وكذلك فإن كل عمل فني إنما هو إيقاع واحد فريد، وكل شيء يرف أمام شفتي الرب الشاعريتين، وحيثما امتثل الروح الإنساني لهذا؛ نشأت تلك الأقدار الملهمة التي يتجلى فيها روح الفن ...»
ساءت حال هلدرلين وظهرت عليه علامات الجنون الواضح. وأسرع إليه الصديق الوفي سينكلير فنقله في شهر سبتمبر 1806م من هومبورج إلى مدينة توبنجن وأدخله المصحة ليعالج تحت إشراف الطبيب أوتنريت وتلميذه يوستينوس كيرنر. وكان يتردد عليه نجار ماهر «إرنست تسيمر» عرف في مدينة توبنجن بحبه للثقافة والأدب والشعر. ويبدو أن هذا النجار المثقف الطيب القلب كان يحب هلدرلين حبا دفعه إلى أن يأخذه إلى بيته في صيف سنة 1807م ليرعاه بنفسه. قال له الطبيب وهو يسلمه له إن المريض ميئوس من شفائه ولن يعيش أكثر من ثلاث سنوات .. فهل قدر هذا النجار الطيب أن المريض «الميئوس من شفائه» سيعيش في بيته وتحت رعايته ستا وثلاثين سنة أخرى قبل موته؟ أي نصف حياته الأخيرة الذي قضاه في ليل الجنون المقدس؟!
لا بد أن المريض المسكين قد أحس بهذا الليل الذي سيحاصره من كل جانب ويمنع عنه النور الحبيب. فها هو ذا في قمة يأسه ومرضه يكتب مجموعة من القصائد يسميها «أغنيات الليل (1803م)». وها هو ذا يناجي النور - وقد كان دائما عزاءه الوحيد وصاحبه الذي يسير دائما إلى جانبه وهو مستغرق في التفكير - ويسأله أين أنت؟ وإذ يغيب النور ولا يطل بوجهه من الخارج ولا من الباطن يجلس وحده في صمت وسكون وينتظر وينتظر ... لعل «المنقذ الحبيب» أن يلوح له من بعيد:
أين أنت أيها النور؟
القلب صحا من جديد، لكن الليل الجبار
يشدني بلا قلب على الدوام ...
Bilinmeyen sayfa