History of Algeria in Ancient and Modern Times
تاريخ الجزائر في القديم والحديث
Yayıncı
المؤسسة الوطنيّة للكتاب بالجزائر
Türler
ـ[مبارك بن محمد الميلي]ـ
تاريخ الجزائر في القديم والحديث
تقديم وتصحيح محمد الميلي
الجزء الأول
المؤسسة الوطنية للكتاب
1 / 1
ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ
1 / 3
مبارك بن محمد الميلي
ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ
تقديم وتصحيح محمد الميلي
الجزء الأول
المؤسسة الوطنية للكتاب
1 / 5
الرقم التسلسلي
تاريخ الجزائر
T١ et T٢
٣ è ٢١٤.٨٩.٠١.٠٩
1 / 6
إهداء الكتاب
إذا كان المتقدمون يهدون لملوك أعصارهم نتائج قرائحهم فذلك لأنهم في أزمنة لا ظل فيها لإرادة الأمة.
أما اليوم ونحن في عصر عمت فيه الديموقراطية كل الشعوب أو كادت وعرفت الشعوب أن إرادة الحاكم إنما تتقوى من جبنهم وجمودهم، وأن الإرادة الحقيقية التي بيدها رفع مستوى الأمم هي إرادة الشعب فقد صار الكتاب يهدون كتبهم لشعبهم أو لعظيم من عظمائه هو رمز عظمة ذلك الشعب.
ونحن نهدي كتابنا هذا إلى الشعب الجزائري إلى شبابه المفكر ورجاله العاملين المخلصين.
مبارك بن محمد الميلي
1 / 5
إسداء شكر
لا أكون غير معترف بجميل يحتمه علي إخلاصي في هذا التأليف إذا ما نوهت بشأن من لم أعرف منهم غير النشاط النادر والعزم الفولاذي في مؤازرتي في هذا العمل الذي فيه بلاغ للشبيبة عن وطنيتهم.
وما جئت بدعا إذا ما ذكرت بإعجاب ما شاهدت منهم أثناء قيامهم بما نيط بعهدتهم بغبطة وسرور. على أن الشقة شاقة والمرتقى صعب.
أولئك هم الذين أذكر منهم- وملء فمي الفخر بهم- الشبان العاملين الأصدقاء: عيسى الزهار الترجمان بالأغواط، محمد التهامي الترجمان بميلة، عمر دهينة أحد المعلمين بالمكاتب الفرنسية وأفذاذ نبغاء الرسامين.
هؤلاء هم الذين لهم من اليد في معاضدتي ما يشكرهم عليها الفن والعلم والتاريخ والوطن.
مبارك بن محمد الميلي
1 / 7
رسالة من الأستاذ عبد الحميد بن باديس
إلى المؤلف
اذا كان الكثير من الكتاب مولعين بطلب تقريظ كتبهم من إخوانهم لحمل عوام القراء على استحسانها فإني في صف القليل منهم الذين يكلون إلى القارئ الحكم فيما قدموه له من غير شرط عالمية ولا إنصاف.
فلكل أن يقول فيما كتبناه ما شاء. والأيام هي التي ستنخل ما يقولون، وتميز جيد القول من رديئه.
وإذا كان عظماء كل أمة هم المكونين لتاريخها فالواجب أن لا نهمل نظراتهم فيما هو من نتائج حياة أمثالهم. وكتابنا هذا من نتائج حياة عظماء الأمتين العربية والبربرية فلا غرو إذ أثبتنا نظرة عظيم من عظماء جيلنا فيه مع تمسكنا بمبدأنا في التقاريظ.
كتب إلينا الأستاذ الجليل عبد الجميد بن باديس أحد شيوخنا وزعيم نهضتنا بنظرة في كتابنا. وهذا نص رسالته:
ــ
«حصن الماء» مساء الثلاناء ١٥/ ١/ ١٣٤٧
الحمد لله
أخي مبارك!
سلام ورحمة، حياك الله تحية من علم وعمل وعلم، وقفت على الجزء الأول من كتابك ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ فقلت لو سميته ـ[«حياة الجزائر»]ـ لكان بذلك خليقا. فهو أول كتاب صور
1 / 9
الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية، بعد ما كانت تلك الصورة أشلاء متفرقة هنا وهنالك. وقد نفخت في تلك الصورة من روح ايمانك الديني والوطني ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفط أسمك تاجا لها في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين.
أخي مبارك!
أذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف من أحيا أمة كاملة؟ أحيا ماضيها وحاضرها لح وحياتهما عند أبنائها حياة مستقبلها. فليس- والله- كفاء عملك ان تشكرك الافراد، ولكن كفاءه أن تشكرك الاجيال. وإذا كان هذا في الجيل المعاصر قليلا، فسيكون في إلاجيال الغابرة كثيرا. وتلك سنة الله في عظماء الامم ونوابغها، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وأنا- واحدا من هذا الجيل- بلسان من يشعرون شعوري، اشكرك لأقوم بما علينا من واجب، لا لأقابل ما لك من حق.
جازاك الله خير ما جازى به العاملين المخلصين للدين والوطن بعلم وتحقيق وانصاف. والسلام عليك من أخيك.
عبد الحميد بن باديس
1 / 10
الجزء الأول بين يدي الأمير
شكيب أرسلان
اتصل امير البيان ورأس الشرق المفكر الامير شكيب ارسلان بالجزء، الاول فكتب الى صديقنا الشيخ الطيب العقبي رسالة جاء فيها قوله عن ذلك الجزء:
ــ
"واما تاريخ الجزائر فوالله ما كنت أظن في الجزائر من يفري هذا الفري. ولقد اعجبت به كثيرا كما اني معجب بكتابة ابن باديس.
فالميلي وابن باديس والعقبي والزاهري حملة عرش الادب الجزائري الأربعة ".
1 / 11
شكر واعتذار
لا شيء أشق على الكاتب العربي من كتابة التاريخ على النهج العصري. ولا تاريخ اغمض واقل مادة لدى القارئ العربي من تاريخ الجزائر. ولا كتب اكثر تحريفا من الكتب العربية المؤلفة فيه. وعلى نسبة أهمية تاريخ ابن خلدون كان حظه من التحريف حتى ذهبت ثقة لقارئ بما فيه من اعلام الناس والامكنة.
وقد قاسيت افي تصحيح الاعلام وجمع المواد وايضاح الاغراض اتاريخية وتقريب الاسلوب من النهج العصري ما لا يعلمه الا من عمل عملي وكان مثلي جاهلا بغير العربية بعيدا عن العواصم العلمية منهوك الوقت بالاشغال. ولست- علم الله- أمن بهاتيك المقاساة، وانما أريد الاعتذار للقراء والادباء عن تأخر نشر هذا الجزء الثاني وعما عسى ان يكون به من نقص علمي او فني.
وكلما اجملت لهم اعتذاري اجمل شكري لمن امدني منهم باعارة كتاب او دلني عليه. وأخص منهم بالذكر الشابين الاديبين المخلصين صديقي أحمد توفيق المدني وعمرو دهينة حامل شهادتي التعليم بالمكاتب الفرنسية والترجمة بالمحاكم الشرعية. فقد عربا لي فصولا من الفرنسية وبذلا في اعانتي كل ما في استطاعتهما الادبية. جازاهما الله احسن الجزاء وذكرهما الجيل المستقبل بوافر الثناء.
الاغواط في ٢/ ١/ ٣١٥٩
مبارك بن محمد الميلي
1 / 13
مقدمة الطبعة
طُلِب الي أن أكتب مقدمة الطبعة الجديدة لكتاب (ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ) الذي ألفه والدي الشيخ مبارك الميلي منذ أكثر من نصف قرن.
وقد صادف أن تلقيت منذ أيام، في هذا الشهر أفريل ١٩٨٦، رسالة من وزارة الشؤون الدينية طلبت فيها الي أن اكتب ترجمة لوالدي.
ونفس الاقتراح سمعته منذ شهرين، من أحد تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس.
تساءلت: كيف لم أفكر في مثل هذا الموضوع قبل اليوم؛ أليس ذلك واجبا كان يتحتم علي أن اضطلع به قبل هذا الوقت؟
الواقع أن الفكرة راودتني قبل سنوات. لكني أحجمت عن تنفيذها لسبيين رئيسيين: الأول اني متيقن ان هناك غيري، من يستطيع ان يكتب مقدمة لكتاب "ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ) أكثر موضوعية وأدق تحليلا. والثاني أن كتابات الشيخ مبارك نفسها تقدم مادة خصبة لمن يريد الكتابة عنه، قد تغنى عن اللجوء الى الذكريات الشخصية والمعلومات الخاصة.
لكني أعدت النظر في هذا الموقف على ضوء الطلبات التي صدرت الي من جهات متعددة ومتباعدة وفي أوقات متقاربة. خصوصا وان هناك جوانب من شخصيته قد لايستطيع غيرى أن يعرف بها.
1 / 15
صحيح انه توفى، ﵀، ولم أكن قد تجاوزت مرحلة التعليم المتوسط. لكني استطعت ان اختزن ذكريات تلقى بعض الضوء على شخصيته، سواء بحكم معاشرتي له، أو بحكم الأوراق والرسائل الخاصة التي اطلعت عليها بعد وفاته، والتي كان يحتفظ بها في مكتب له كانت تتصدره صور جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد نصيف.
وقد أتيح لي، خلال السنوات القليلة التي عشتها جنبه بعد أن أصبحت واعيا بأهمية بعض الاحداث، ان أختزن في الذاكرة بعض تصرفاته ومواقفه وتعليقاته.
وعلى الرغم من الصورة المهيبة التي كانت تفرض نفسها على من يقترب منه، وعلى الصرامة التي اشتهر بها، فقد كان يتوفر على جانب يطفح بالمحبة والمرح والفكاهة.
وقد كان مشهد تحلقنا حوله، أمي، اخوتي وأنا، في ليالي الشتاء قرب مدفأة يشتعل فيها الحطب، بغرفة نومه، من بين المشاهد التي رسخت في الذاكرة، مثلها في ذلك مثل حلقات تدريسه لنا في "مدرسة حياة الشباب" أو املاآته الأدبية علي، عندما كان يتولى تدريسي في البيت بعد وقوع حادث معين، لا باس من ان اسوقه في هذا المجال لأنه يكشف عن جانب من شخصيته.
كان بعد ان اشتد عليه مرض السكر، قد توقف عن القاء الدروس على تلاميذ المدرسة، وان كان قد استمر في اعطاء الدروس المسجدية ليلا، وفي إلقاء محاضرات عصرا في النادي حتى يشمل بدعوته الشباب الذي لم يكن يتردد على المسجد.
وقد خطر لي ذات يوم، وقد شعرت ان مستوى التعليم في المدرسة لم يعد يلبي حاجتي، ان اطلب منه ان يعطيني دروسا في اللغة والأدب والنحو. فكان جوابه:
- لا استطيع ان اخصك بدروس دون رفاقك.
قلت له: فليكن. لماذا لا تعطي دروسا لكل الذين بلغوا المستوى الذي بلغته.
1 / 16
وكذلك كان. خصص لنا ساعة كل يوم، من السابعة صباحا الى الثامنة. كنا حوالي عشرة. وكان على مرضه يحرص على عدم التخلف عن القاء ذلك الدرس. وكان الجميع يحضرون طالما كان الوقت صيفا أو خريفا. حتى إذا دهم الشتاء راح عدد الحاضرين. على قلتهم ينقص. حتى انه لم يجد ذات يوم، في القاعة سواي.
غضب. كان مرض السكر قد جعله شديد الانفعال. لم يلق ذلك اليوم درسه وقال لي: أخبر زملاءك انهم إذا لم يحضروا من الغد، فلن يسمعوا مني درسا بعدها.
وأبلغتهم. ومن الغد لم يحضر أي أحد منهم. آنذاك قرر أن يخصني بالتدريس لكن في المنزل.
كان تحلقنا حوله في السهرة حول المدفأة هي الفترة الوحيدة التي نجتمع فيها اليه فنحن لم نكن نأكل معه. لأن اصابته بداء السكر منذ سنوات شبابه كانت تفرض عليه نظاما خاصا للأكل، ومن هنا كان يتجنب الجلوس الى مائدتنا خشية ان تمتد يده للمحرمات عليه بسبب المرض. وهذا في الوقت الذي كنت أتصور فيه انه محظوظ بفعل نظام أكله الخاص: فقد كان منظر الخبز الخاص الذي يشتريه من قسنطينة في علب كارتون كبيرة، والمصنوع من مادة الغلوتان فقط، يسيل لعابي.
أما في السهرات الشتوية فقد كان يقاسمنا أحيانا أكل البرتقال والجوز. وكانت اجراءات تكسير الجوز وتقشير البرتقال التي تتولاها أمي غالبا من بين الطقوس التي نحرص على حضورها. وكنت اتعجب كيف يفضل أبي أكل البرتقال الحامض، في الوقت الذي كنا فيه نحن الصغار نتنازع صنفا من البرتقال الحلو، لم أعد أجد له أثرا في الاسواق اليوم.
وكان استهلاك الأسرة للجوز عاليا: فهو زيادة عن سهرات الشتاء يستعمل في صنع الحلويات، لأن وجود بعض أصناف الحلوى كان ضروريا على مدار السنة وليس في الاعياد فقط، فلم
1 / 17
يكن يصح أن يأتي زائر على حين بغتة دون ان يكون في وسع أمي ان تقدم له بعض الحلويات.
لهذا كان والدي يشتري الجوز بكميات كبيرة من مصدرين أساسيين: من أحد الاسواق القريبة، التي تغذيها بعض مناطق فرجيوة، ومن الاوراس الذي كان يزود أسواق باتنة وخنشلة.
أذكر أن منظر جوزة بيضاء، قشرتها ناصعة، استهواه ذات ليلة، فأصر على ان يكسرها بنفسه، وكم كانت دهشته ودهشتنا أيضا- عندما وجد بداخلها كتلة سوداء لا تشبه لب الجوز من بعيد ولا من قريب.
- أعوذ بالله .. هذه الجوزة مثل المنافق.
كان تعليقه. وضحكت أمي لتعليقه. وضحكت معجبا ببداهة التعليق ودقة التشبيه.
وقد أتيح لي ان اكتشف جانبا من جوانب شخصيته وأنا بعد طفل، وهو جانب المربي، فهو لم يكن يستعمل الشدة معي الا حيث تكون لازمة، أي عندما يتعلق الأمر بشيء، لا يمكن التساهل فيه، مثل ترك الصلاة. آنذاك لا يتردد في انزال شديد العقاب بي، لا يشفع في ذلك حبه الشديد لابنه- كما سنرى- ولا تدخل والدتي أو جدتي.
أذكر أنه كان ذات صيف يستعد للسفر الى مسقط رأسه في الجبل، وكنت شديد الشوق الى مرافقته في تلك السفرة، فطلبت منه ان يأذن لي بأن أذهب معه. قال لي ما معناه: أنت مخطئ ان كنت تتصور ان "أولاد مبارك " مثل قسنطينة أو مدينة الجزائر. قلت أريد أن أسافر مهما تكن "أولاد مبارك " كان ذلك في صيف ١٩٣٩.
ونزل عند رغتبي.
كانت فرحتي كبيرة. فلم يكن في حياتنا بالقرية، نحن أطفال ذلك العهد ما يثير. كانت منازل القرية التي يوجد بها "راديو" لا تتجاوز ثلاثة، منها منزلنا. وكان هناك مقهى واحد له راديو بالاظافة الى النادي. وكان السفر بالنسبة للاطفال آنذاك حدثا
1 / 18
سعيدا يشغل حيزا كبيرا من وقتنا عندما يتقرر مشروعا، ونظل نحكي عنه بعد تحقيقه عدة أسابيع من خلال روايات يتدخل فيها الخيال غالبا.
لكن حدث عشية السفر حادث غريب.
كان والدي، أثناء سفره للإستشفاء من داء السكر في فرنسا حيث عالج في فيشي وباريس عام ١٩٣٨، قد استصحب معه دليلا مفصلا لمدينة باريس.
كانت مكتبته منظمة تنظيما دقيقا، بحيث كان يعرف موقع كل كتاب وصفه وترتيبه. وكنت مغرما بتصفح الكتب حتى ولو لم أكن أفهم ما فيها. وكنت أحرص على اعادتها الى مكانها حتى لا يعرف أني استعملتها.
قبل يومين من السفر، عثرت على دليل باريس. أعجبت بما فيه من صور ومعالم، فحملته الى المدرسة حتى أريه لزملائي وأزهو عليهم.
طلب مني أحد الزملاء أن أعيره اياه مقابل أن يعيرني هو مركبة خشبية تسير بـ "الرولما" كما كنا نقول، ونقصد بذلك عجلات معدنية صغيرة.
وحدث ان والد زميلي عثر على الدليل عنده فسأله من أين جاءه، فأخبره بالحقيقة. فما كان من أبيه الا ان أخذه منه وأتى به الى خالي حتى يعيده الى والدي. وأعاده بالفعل عشية السفر.
وصادف أني رأيت الدليل وقد احتل مكانه، صعقت. كان والدي قد أرجعه حيث كان دون ان يفاتحني في الموضوع. قلت في نفسي: لقد افتضح الأمر. ورحت أتصور صدور العقوبة الصارمة ممثلة في ضرب مبرح، كذلك الذي ينالني عند التخلف عن الصلاة، مع الغاء سفري.
لكن شيئا من ذلك لم يحدث. لم يظهر على أبي أي تصرف يدل على أنه عرف بما حدث. لم تصدر عنه أية ملاحظة. كان تصرفه معي عاديا. تعجبت ولم أستفهمه.
1 / 19
وسافرت معه من الغد، وكانت سفرة من أحلى السفرات التي رسخت في ذاكرتي. دامت حوالي عشرة أيام. تمتعت فيها بركوب البغال، فقد كانت هي وسيلتنا الوحيدة لنقلنا في بعض أشواط الرحلة. وأتيح لي أن أشهد بعض عادات البادية مثل ذبح خروف أو كبش للضيف ولو وصل في ساعة متأخرة من الليل.
بعد ان عدنا الى ميلة، ناداني من الغد. وبعد أن آذن لي بالجلوس راح يحكي لي ظروف اكتشافه لاختفاء الدليل، ثم قال لي ما معناه:
- لم أرد أن ألاحظ لك شيئا حتى لا أنغص عليك السفر، ولا الغي وعدا قعطته لك. وها أنا ذا الأن أعتبرك كبيرا تتعظ بالكلام، ولم تعد بحاجة الى الضرب. فلا تعد لمثلها.
وقد أتيح لي بعد ذلك أن أعيش مشهدا يدل على مدى تقديره للوعد المقطوع. كان يسافر الى قسنطينة في الصباح ويرجع في المساء، أحيانا وقد رأى ان يستصحبني في احدى هذه السفرات اليومية مع اعلامي بأننا سنرجع في نفس اليوم. قبلت رغم ان بعض يوم لم يكن ليشبع نهمي الى المدينة. الا أنه عند الوصول وجد الشيخ العربي التبسي بقسنطينة، فغير برنامجه وقرر أن يقضي بها ثلاثة أيام. ناداني أمام صديقه وقال لي ما معناه:
لقد قلت لك اننا سنرجع في نفس اليوم. لكني اضطررت الى ان امكث مدة أطول. فان كنت تريد البقاء فليكن، وان كنت رتبت امرك على العودة اليوم، فاعلمني حتى أرسلك مع أحد المسافرين الى ميلة.
وعلى ذكر جانب المربي فيه أذكر أني قرأت فيما قرأت من رسائله التي كان يحتفظ منها بنسخة لديه (والتي ضاع معضمها مع الأسف) رسالة كان وجهها الى الشيخ العربي الذي كان قد طلب منه ان يطلعه على أسلوبه في معاملة التلاميذ (فقد كان والدي قد شرع في التدريس بالاغواط، قبل ان يلتحق الشيخ العربي ببلدة سيق التي كانت أول بلدة تولى التدريس فيها للتلاميذ) فكتمب له والدي رسالة
1 / 20
حفظت منها هذا المقطع.
" إذا وعدت فانجز. وإذا أوعدت فتغافل. وان ذكرك أحد التلاميذ بالوعيد فنفذه مع اظهار كراهيتك لمن ذكرك ".
لقد أشرت منذ قليل الى شديد حبه لي. كنت أحس بذلك مثل كل طفل، لكن لم أكن أعرف مدى ذلك الحب الا عندما عثرت، بعد وفاته، على كراسة صغيرة كان قد سجل فيها خواطره عندما سافر للعلاج بفرنسا، كتب في احدى ورقاتها، تحت عنوان "لوعة الشوق" ما يلي حرفيا (فالكراسة ما تزال في حوزتي).
"لا أعلم للشوق سلطانا على عواطفي عجزت عن تخفيف وطأته قوتي الفكرية الا مرتين. أحداهما وأنا شاب علق قلبي فتاة علقتني هي الأخرى. وكانت حرب بين عقلي وهواي، فاز فيها الهوى بالحب العذري وفاز فيها العقل بالعفة، مع وجود دواعي الفاحشة وفقد موانعها.
ثانيتهما في سفرتي هاته الى فرنسا لعلاج داء السكر التي دامت من (٢٨/ ٠٣/ ١٣٥٧هـ) الى ٢٨/ ٠٥/ ١٩٣٨م إلى ٢٩/ ٠٥/ ١٣٥٧هـ (الموافق ٢٧/ ٠٧/ ١٩٣٨م) فقد كنت أريد ان انسى كل علاقاتي الشخصية والفكرية أيام علاجي. ففزت الا من ناحية ولدي البكر محمد، فقد كنت أهاج لذكراه حتى تكاد تنفلت دموعي أمام الناس. ولولاه لكان غيابي أطول.
لكن الاسترسال في استعراض كل الجوانب التي أعرفها عن والدي، قد يبعد بنا عن موضوع الكتاب الذي وضعه منذ أكثر من نصف قرن.
ان تحديد مكانة ـ[تاريخ الجزائر في القديم والحديث]ـ تتطلب التذكير، ولو باختصار، بالظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية التي ظهر فيها ذلك الكتاب.
ولد الشيخ مبارك الميلي في النصف الأخير من العشرية الأخيرة من القرن الماضي. نشأ في منطقة فقيرة خاضعة لنظام البلديات المختلطة. وكان هذا النظام، الى جانب "الاحواز العسكرية" هو
1 / 21
الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها الاستعمار في ادارة البلاد والتحكم في المناطق التي يخشى ثورة سكانها.
والبلدية المختلطة تشمل عادة منطقة شاسعة تضم عدة دواوير وقرى يسيطر عليها حاكم فرنسي يساعده عدد من الاعوان الفرنسيين أيضا، الى جانب بعض الاعوان من "الاهالي".
وإذا كان الاروبيون ممثلين في هذا النظام البلدي بواسطة من ينتخبهم فان الاغلبية الساحقة من سكان الاحواز أو البلديات المختلطة، أي الجزائريون، ممثلون " نظريا " بواسطة رجال تعينهم الادارة الفرنسية. ولا يخفى ان الحاكم الفرنسي لا يعين ضمن ادارته الا من يجد لديه الاستعداد لخضوع مطلق وانقياد أعمى في تنفيذ التعليمات. وكان معروفا ان المعيار الذي تقاس به صلاحية المساعد الجزائري هو مدى تصديه ضد مطالب من يفترض فيه ان يمثلهم وتفانيه في محاربة بني جلدته، فتلك هي الطريقة التي يزكي بها "القائد" أو "الخوجة" نفسه في أعين سادته، وهي التي تمكنه في الوقت نفسه من جمع بعض الاموال الحرام على حساب اخوانه وبني عمومته.
ولا حاجة الى التذكير بالصلاحيات الواسعة التي يملكها الحاكم الفرنسي في تعيين اعوانه من بين الجزائريين، وإذا صادف ان "لقائد" أو غيره من اولئك الاعوان لم يرق للمعمرين الاروبيين، فليس اسهل لديهم من أن يلفقوا ضده تهمة لا يملك ضدها أي طعن، فعزله يتم بنفس السهولة التي تم بها تعيينه. ومن ثم تجده يضطر الى مجاراة الادارة. ونادرا هم اولئك الذين ينجحون في البقاء بمنصبهم دون الاصطدام مع الشرائح الاجتماعية الاكثر تمثيلا لشعبهم.
ولهذا، بقدر ما يكون " القائد" في البلدية المختلطة مجردا من أي حق في مواجهة المعمرين والفرنسيين، بقدر ما يتمتع بصلاحيات واسعة في مواجهة أبناء شعبه. أليس هو الذي يملك حق تحديد حصة الضرائب المفروضة على الجزائريين، دون ان يتحكم في ذلك
1 / 22
الى أية قاعدة؛ أليس هو الذي يعين عادة، وخاصة بعد ١٩٠٢ قاضيا في المحاكم القمعية التي تنصبها الادارة الفرنسية ضد "الاهالي"؛ أليس هو الذي يفترض فيه ان يمثل منطقته في البلدية دون أن يحتاج الى تزكية الناخبين؛ فهو يملك كل السلطة على شعبه، دون ان يملك هؤلاء اية صلاحيات للاقتراع عليه ومحاسبته.
ولاحاجة الى التذكير بأن الشروط التي تطلبها الادارة توفرها في القائد، لا تتصل من قريب ولا من بعيد بالكفاءة الفنية والمستوى الثقافي والتأهيل المعني.
وإذا كان معروفا ان "ماهية" القائد محدودة، مثل سلطاته الرسمية نظريا، فقد كان معروفا ايضا انه يستطيع بوسائل عديدة ان يبني ثروة في آجال قصيرة، لانه كان يعرف كيف ينتزع المال من الناس ويسطو على ما يملكون دون ان يملك هؤلاء حق الشكوى والتظلم.
على ان هذه "الخصائص" السلبية التي تختص بها البلدية المختلطة هي نفسها التي ادت عمليا، ودون ان تقصد لذلك الادارة الفرنسية، الى استمرار الهوة سحيقة بين الشعب وممثلي الاحتلال.
فممثلو الادارة الفرنسية لم يكن يهمهم ان ينفذوا الى الشعب ويكسبوا وده، طالما كانوا مدينين بوجودهم وثرواتهم وجاههم لغيره. وكان من جراء ذلك ان تطور الشعب، وخاصة بالارياف، في ظل العداء للادارة الاستعمارية. أليست هي التي انتزعت منه الاراضي الخصبة واضطرته الى ان يلجأ الي المناطق القاحلة والاراضي الجدباء؟
كان عمره، عندما توفي ابوه، اربع سنوات. فنزله جده منزله حتى لا يحرم من الميراث. ويا له من ميراث. شجيرات زيتون محدودة العدد، منبته في نحو من اربع هكتارات، ينبت فيها شيء من العناب والتين، ويمكن زراعتها بالشعير.
في مثل هذا المحيط، لا يحتاج المرء الى اعمال الخيال كثيرا كي يستنتج ان الافاق امامه مسدودة، وان كل الابواب في وجهه
1 / 23
موصودة، ان هو رضي بالبقاء في المنطقة مكتفيا بما حفظه في طفولته من قرآن.
لكن الى أين يذهب وكيف؟
كانت عين عمه الاكبر، أحمد، لا تغفو، كانوا يسمونه الذئب. ومع ذلك فقد عزم الفتى مبارك على ان يغادر ارضه. وكان قد خبر يقظة عمه اكثر من مرة. هل تحدثه نفسه بأن يقطف تينة بعد ان يكون قد تأكد من خلو المكان؟
انه لا يشعر الا وقد هوت على يديه عصا عمه وكأنه طلع من غار او نزل من سماء.
لذلك اعد خطة محكمة للفرار لن يتفطن لها عمه. قرر ان يكون ذلك يوم شتاء ليس مثل كل الايام. وصادف ان تساقط الثلج بكثرة. ولم نلبث ان تراكمت الثلوج بصورة تردع الحيوان والانسان ان يغامر بأنفه خارج وكره أو كوخه. لم يخطر على بال العم الاكبر مهما تخيل من حيل ان يتوقع فرار ابن اخيه في مثل ذلك اليوم.
"ان الثلج يصل الى الركبة " تلك كانت عبارة الشيخ مبارك في وصف يوم الفرار من دواره ووصاية عمه. روى لي القصة في الاسبوع الاول من نوفمبر ١٩٤٢. أذكر ذلك جيدا. كنت معه بمدرسة التربية والتعليم في قسنطينة حيث قضينا ليلة في طريقنا من ميلة الى خنشلة. فقد كان على أبي ان يذهب الى هناك ليعود بوالدتي التي كانت في زيارة الى شقيقتها. وكان قد استصحبها هناك قبل نحو اسبوعين مع اخوتي وتركني في ميلة وحدي حتى لا انقطع عن دراستي، ثم عاد هو بعد ثلاثة ايام. وعندما قرر ان يذهب ليعود بأمي واخوتي اليه ان يصحبني، فتغيب بيومين أو ثلاثة عن الدراسة لا يضر. قضينا الليلة الاولى في قسنطينة، لانه كان علينا ان نأخذ الحافلة الى خنشلة باكرا من صباح الغد.
خلال تلك السهرة راح يحكي لي قصة فراره، وقد رسخت القصة في ذهني لانها اقترنت لدى بشعور الاعتزاز ان اصبح والدي يأتمنني على اسرار حياته.
1 / 24