استعمل رجلًا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقات، فلما رجع حسابه فقال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ! فقال النبي ﷺ: "ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليّ؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلًا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته: إن كان بعيرًا له رغاء، وإن كانت بقرة لها خوار، وإن كانت شاة تعير ١، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بغلت؟ " قالها مرتين أو ثلاثًا٢.
والمقصود هنا: أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزًا عنها، فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبًا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون حقهم، كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم مَنْ صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند يلزمون بألا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند. والمزارعة جائزة في أصح قولي العلماء، وهي عمل المسلمين على عهد نبيهم وعهد خلفائه الراشدين، وعليها عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي وغيرهم من بيوت المهاجرين، وهي قول أكابر الصحابة كابن مسعود، وهي مذهب فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، والبخاري، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي بكر بن المنذر وغيرهم من فقهاء المسلمين٣.
وكان النبي ﷺ قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع حتى مات، ولم تزل تلك المعاملة حتى
أجلاهم عمر عن خيبر، وكان قد شارطهم أن
_________
١ اليعار: الشديد من أصوات الشاء يَعَرَتْ تَيْعَرُ وتَيْعِرُ "لسان العرب: مادة يعر".
٢ رواه البخاري في صحيحه "١٢/ ٣٤٨" ومسلم في صحيحه "١٢/ ٤٦٠".
٣ انظر مذهب الفقهاء في ذلك في المغني لابن قدامة "٥/ ٥٨١".
1 / 26