فإذا رأينا حياة انعكس فيها ترتيب المراحل، بحيث أملى رجل السياسة مستلهما ما قد اختاره لنفسه من مذاهب السياسة على مبدعي الثقافة بمختلف فروعها ما ينبغي لهم أن يتجهوا بإبداعهم إليه، علمنا أن في الأمر خللا جعل التابع متبوعا والمتبوع تابعا.
وكانت هذه هي الصورة كما تصورها صاحبنا لحياتنا خلال الستينيات، وحدث في منتصف ذلك العقد من السنين، أن عرضت عليه وزارة الثقافة أن تنشئ باسمها مجلة تعنى ب «الفكر»، فلم يتردد في القبول، وأطلق من فوره الاسم على الوليد قبل ولادته، وهو أن يكون اسم المجلة الجديدة «مجلة الفكر المعاصر»، وبينما هو في سبيل إعداده لظهورها نشر أول إعلان عنها في الصحف قائلا عنها إنها لا تفرق بين يمين ويسار في عالم الفكر، إذ هي تسعى إلى إيجاد فاعلية فكرية حرة لا تفرض عليها فروض مسبقة، وإلا زالت عن «الفكر» الصحيح أخص خصائصه، وذلك أنه يهدي، وإذا رأيناه اهتدى بغيره، فإنما يهتدي بالوسائل التي تمكنه من سداد الخطى نحو نتائج يضمن لها أكبر قدر من الصواب.
وصدرت مجلة الفكر المعاصر أول عام 1965م، والتزمت نهجها، وكان من أبرز ما عني صاحبنا فيما كتبه هو من مقالات، تحليلات مستفيضة لأفكار يكثر ترددها حوله، فيحس هو إزاءها بدرجة من غموض معانيها ما لا يتفق مع أهميتها في الجهاز الفكري العام، فيتولاها بتلك التحليلات ليفهم هو أولا ماذا يمكن أن تحمله في جوفها من مضمونات ليعرضها على «العقل» عرضا واضحا، فالوضوح الفكري هو حجر الزاوية في أي عصر يراد له أن يكون عصر تنوير ونور.
وضوح الأفكار المتداولة بين الناس شرط أساسي لتحقيق الوحدة التي تجعل منهم أمة واحدة أو شعبا واحدا، هذه حقيقة مكفول لها القبول من ذوي الشأن جميعا، لكن المشكلة في هذا الصدد هي أن تجد أكثرية عظمى من أبناء الشعوب التي لم تظفر بقدر كاف من التنوير بالتعليم والتوعية، تقيم حياتها على أفكار ترددها بالشفاه، وكأنها مفهومة لهم فهما واضحا، فإذا ما اختبرتهم وجدتهم لا يحيطون منها إلا بإيقاع أسمائها في مسامعهم وهم لا يشعرون، ومن هنا سهل على من أراد أن يتحكم في أمثال هذه الجماعات أن يفرض سلطانه بأيسر السبل فيكفيه شيء من الجرأة على الحق، يضاف إلى شيء من طلاقة اللسان، يرسل بها في الجماهير عقودا منضودة من كلمات يحسن وقعها على النفوس، فإذا بالرجل يقبض على الزمام، وإذا بالجماهير تهتف له هتافات تشق الحناجر، ثم ما هو إلا وقت يمضي حتى يتبين لمن يهمه أن يتبين أن تلك الكلمات بقيت على حالها كلمات لم يتحول شيء منها إلى فعل يحقق الأحلام، لماذا؟ ليس ذلك لأن الحاكم لا يريد لشعبه الحسنى، بل هو يريدها، لكن الأفكار التي كانت تلك الكلمات قد جاءت لتعنيها، لم تكن واضحة له كل الوضوح، إذ هو بدوره قد نقلها عن غيره قراءة أو استماعا، فأخذت بلبه وأراد بكل نية حسنة - ربما - أن يشيعها في قومه؛ تمهيدا لتحويلها إلى حركات قومية تغير من وجه الحياة التي يعيشها الناس، فلما جلس على كرسي الحكم، وهم بالعمل، لم يدر ماذا هو فاعل تحقيقا لأمله وآمال أمته، فالفكرة الواضحة في ذهن صاحبها هي وحدها التي تسهل ترجمتها إلى فعل محدد؛ لأنها بطبيعتها تماثل خطة رسمت بدقة، بحيث يستطيع المكلفون بتنفيذها أن يخرجوها إلى واقع ملموس يتسم بالدقة نفسها، التي كانت في الخطة المرسومة، وانظر إلى مهندس العمارة كيف يفرغ من مطبوعاته الزرقاء، التي يصور بها ما قد أراد تنفيذها في البناء المعتزم إقامته، ويسلم رسومه إلى مقاول التنفيذ، فلا يتعذر عليه أن يجسد الخطة في عمارة، ومثل هذه العلاقة التماثلية هو نفسه ما نطلب تحقيقه في العلاقة بين «فكرة» معينة وتطبيقها، فبمقدار وضوحها ودقتها يكون انضباط التطبيق ودقته.
إن المناخ الثقافي الذي يلف القوم ليتأسوه في حياتهم عقائد ومذاهب وطقوسا ونظما اجتماعية، ليس ترفا من الترف الذي لا يختلف الأمر فيه كثيرا أن يقوم أو يقعد أو يزول، بل هو - آخر الأمر - أداة للعيش، إذن فلا بد للأداة أن تفعل فعلها في وصول الناس إلى ما يبتغون الوصول إليه؛ وعلى ذلك فالمعول في قبول ثقافة بعينها أو في رفضها، هو قدرتها على تحقيق الغاية التي يتعلق الجمهور بتحقيقها، شأنها في ذلك شأن كل أداة؛ فمفتاح الباب لا يكون مفتاحا لمجرد كونه قد أخذ شكل المفتاح بل لا بد له أن يفتح الباب المغلق ليستحق اسمه هذا، وكذلك قل في مركب ثقافي يراد للشعب أن يمارس حياته العملية في ثناياه وحناياه يستمد أفراده منه معايير الحكم على الأشياء والأحياء والمواقف بالقبول أو بالرفض، فليس قدره مرهونا بحب الناس له أو عطفهم عليه لأسباب تاريخية أحيانا ولأسباب دعائية أحيانا أخرى، بل إن قدره هو نفسه مقدار صلاحيته للارتفاع بشأن من يحبونه حتى يصبحوا أخلص إيمانا، وأوسع علما وأمضى إرادة، وأوفر ثراء، وأصح نفوسا وأبدانا، وأوثق مؤاخاة بين إنسان وإنسان.
ولا يتحقق للمركب الثقافي أداء هذا كله، إلا إذا توافرت له شروط الفاعلية التي من أهم أركانها وضوح الأفكار وبصفة خاصة تلك الأفكار المحورية التي تدار عليها عجلات الحياة الاجتماعية، كالوطنية، والانتماء والتقدم، والحرية والعدالة والتعاون ... إلخ ولا عجب - إذن - أن نجد أعلاما من أعظم من عرف تاريخ الفكر البشري، توجهوا بعمايتهم نحو تدقيق النظر في «وضوح الفكر» ماذا عساه يعني على وجه اليقين (أو ما يقرب من ذلك إذا تعذر اليقين)؟ كان من هؤلاء الأعلام سقراط في اليونان القديمة، وكان منهم ديكارت في مشارف النهضة الأوروبية التي أخرجت الغرب من عصوره الوسطى لتدخله في تاريخه الحديث، وربما كانت تلك الدعوة الحريصة على استيفاء الوضوح للحياة الفكرية من أدل المؤشرات على الرغبة الشديدة في أن تقام للفكر العلمي دولته؛ إذ لا تقدم لحضارة بغيره مهما يكن من قدر العناصر الضرورية الأخرى في مقومات البناء الحضاري.
وقد يختلف فلاسفة المنهج العلمي في الطريقة المثلى لتوضيح الأفكار، فقد كانت الطريقة عند سقراط مقارنة الأقوال المختلفة عن الفكرة المراد توضيحها للبحث عما يمكن أن يكون منطويا في تضاعيفها من تناقض داخلي بين عناصرها، فإن وجد مثل هذا التناقض رفض القول لبطلانه، وذلك فضلا عن محاولته رد الفكرة إلى المبدأ العام الذي هي فرع تولد عنه، وبعبارة مختصرة كانت طريقته هي نفسها طريقة الرياضي إذا أراد البرهنة على صحة جملة رياضية معينة، لا كمعادلة في الحساب، أو نتيجة من نتائج الاستدلال في الهندسة، إذ يجب أن تكون خالية من التناقض بين أجزائها كما يجب ردها إلى الأصول التي استدلت منها، للتأكد من سلامة الاستدلال، وأما ديكارت فكانت طريقته هي أن تكون الفكرة الواضحة مما يمكن إدراك صحته إدراكا باطنيا مباشرا، كإدراك الإنسان لوجود ذاته، ومن هنا تبدأ عملية الاستدلال، فتكون كل نتيجة متنوعة من الفكرة الأولية صحيحة كصحة الأصل الذي تولدت عنه.
ولا نترك هذا السياق قبل أن نشير إشارة سريعة إلى أن طريقة المحدثين والمعاصرين في البحث عن وضوح الأفكار مختلفة عن طرائق القدماء في جوانب جوهرية، من أهمها أن القدماء كانوا ينظرون إلى المدرك العقلي المعين - كقولنا «تقوى» أو «وجود» - على أنه حقيقة قائمة بذاتها يمكن وصفها بالوضوح أو الغموض، في حين أن هاتين الصفتين لا تعنيان شيئا إلا إذا كان الموصوف بهما جملة كاملة التكوين، وإذا قلنا «جملة» فقد قلنا عدة أطراف وما يربطها من علاقات، خذ مفهوم «الحرية» - مثلا - فلا يؤدي بك إطالة النظر في هذا اللفظ إلى شيء ينفع، لكن ابدأ بوضع اللفظ في جملة تحتويه (فمثلا): كان زعماء الثورة يدعون إلى حرية اجتماعية.
فها هنا يصبح واجبا على من أراد ضبط المعنى، أن يسأل بالتفصيل عن الأنماط الحياتية التي كانوا يدعون إلى إقامتها للنظر في عناصرها وطريقة بنائها، وهل تشترك جميع هذه الأنماط في مبدأ واحد مشترك ما دامت قد انطوت كلها تحت عنوان الحرية الاجتماعية، وفي تحليل تلك الأنماط المقترحة، ومراجعتها على الواقع التطبيقي، تظهر صحتها أو عدم صحتها؛ لأن مثل ذلك التحليل والمراجعة هو ما يجعلها «واضحة».
أنكون قد أطلنا الحديث عن وضوح الأفكار وما يعنيه؟ كلا؛ لأن مجموعة الأفكار المتداولة بين من يعنيهم الأمر، في عصر معين، إنما هي بمثابة لغة مشتركة يتم بها التفاهم بين الأفراد أو لا يتم، فإذا كانت أفكار «الحرية الاجتماعية» و«الديمقراطية» و«العدل» و«الطبقية» و«البرجوازية» و«سيادة الجماهير» ... إلخ شائعة على الأقلام - كما كانت خلال الستينيات - فإذا لم تكن معانيها «واضحة» على صورة يشترك فيها الكاتب والقارئ أو المتكلم والسامع نتج لنا مجتمع من الصم يقول المتكلم ما لا يسمعه الطرف الآخر، ومع ذلك يجيب هذا الطرف الآخر بما يجيب به، وهكذا يدور الحوار بين اثنين اعتصم كل منهما ببرج مغلق، ولقد كان صاحبنا يومئذ على شك يساوره بأن يكون ثمة تفاهم بالمعنى الصحيح بين الأفراد فيما يقولون ويكتبون، وفيم العجب وقد كانت هذه الحالة من «اللاتفاهم» هي المناخ السائد في العالم كله، ففي هيئة الأمم المتحدة لم تكن الأمم المتحدة، برغم استخدام أعضائها جميعا لقيم وأهداف مشتركة بينهم في اللفظ، وإلا فمن ذا الذي يعلن بأنه عدو للديمقراطية، أو للحرية أو لحق تقرير المصير للشعوب؟! حتى إذا ما جاء دور التطبيق الفعلي على ما هو قائم على الأرض، وجدنا الطاغية الذي يطغى باسم الحرية، والعنصري الذي يدعو إلى التفرقة باسم الديمقراطية، وهكذا ومن هنا نشأ في عصرنا هذا ما يسمى بأدب العبث، أو أدب اللامعقول كما أسميناه في بلادنا، وهو أدب يدور حول محور اللاتفاهم بين أطراف الحديث.
Bilinmeyen sayfa