الحق إنه لو كانت جهود صاحبنا المتصلة إبان عقد الخمسينيات بصفة خاصة لتختصر تحت عنوان واحد، لكان ذلك العنوان هو «في سبيل الوضوح» والوضوح المبتغى إنما ينصب أساسا على دائرة «العقل» وما ينضوي تحته من علوم وأفكار تتصل بالعالم الموضوعي على نحو ما تتصل العلوم وفروعها، وأما الدائرة الإدراكية الأخرى في الكيان البشري، وأعني جانب «العاطفة» وما تشتمل عليه من المواقف الإيمانية، والنظرات الفنية، وما دار في هذا الفلك، فهو على عظيم قدره في حياة الإنسان، وهو قدر ربما زاد على قدر التفكير العلمي والموضوعي بكل فروعه، إلا أنه لصلته الوثيقة ب «الذات» ربما استعصى على «الوضوح» المطلوب في الجانب العلمي أو الفكر الموضوعي، الذي يشترط له، فيما يشترط، أن يتخلص من «الذات» في خصوصية نزعاتها وميولها، ولم تكن عناية صاحبنا ببث الإحساس العام بضرورة «الوضوح» الفكري في المسائل العامة، لتمس في كثير أو قليل ذلك الجانب الثاني من الحياة الإنسانية الذي يختص بالذات وخصوصية مشاعرها؛ لأن لهذا الجانب الشعوري ميادينه التي تختلف أبعد اختلاف عن ميدان التفكير العلمي أو ما يدور مداره، اللهم إلا أن يكون ذلك على سبيل المقارنات التي من شأنها أن تزيد الوضوح وضوحا.
ومع هذا الحرص الشديد على التفرقة في عالم الإدراك، بين قسمين أحدهما فقط هو الذي تنصب عليه شروط الوضوح العلمي، فقد تعرض صاحبنا لكثير من النقد الصادر عن حماة الجانب العاطفي من الإنسان، وكان ذلك الجانب العاطفي حكرا احتكرته طائفة من الناس دون طائفة، وكان معظم النقد - إن لم يكن جميعه - ناشئا عن خلط الناقدين بين دائرة التفكير العلمي من جهة، ودائرة التعبير عن حياة الشعور من جهة أخرى، بحيث ظن أولئك الناقدون أن ما أريد تطبيقه على الجانب العلمي وحده من ضوابط وقيود، قد أريد به كذلك أن ينطبق على المعتقد الديني، وعلى الشعر، وعلى الفن، وعلى كل ما تمتلئ به حياة الإنسانية من عاطفة التمست سبلها إلى التعبير بما يتفق مع طبيعتها.
وكان لهذا الخلط الذي حجب الحق عن أبصار الناقدين، موضعان أساسيان تركزت عليهما أسنة الأقلام الجارحة: أولهما، وأقلهما خطرا، هو مجال القول إذا وردت في القول المعين كلمة أو كلمات دالة على قيمة من القيم الأخلاقية بصفة خاصة، كالحب والوفاء والكرم إلخ، فمن ناحية الوضوح العلمي، لا يجوز أن تدرج أمثال هذه الأقوال في دائرة العلوم وما تخضع له من شروط وضوابط؛ لأن جملة تقول - مثلا - إن قيسا أحب ليلى، لا برهان عليها إلا ما قاله قيس عن ذلك الحب، وهو قول إذا تعرض لشك مرتاب، لم يكن في حدود الممكن أن نجد ما يزيل ذلك الشك وصولا إلى يقين؛ وذلك كله بسبب أن حالة «الحب» حالة باطنية خاصة، لا يعرفها على سبيل اليقين إلا صاحبها، وصدق الشاعر القديم الذي قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وهكذا قل في كل عبارة يقولها قائل زاعما بها قيام حقيقة باطنية شعورية عنده، وبناء على ذلك فلا مفر من إخراج ذلك النوع من أقوال الناس، من مجال الفكر الموضوعي الذي هو ما أريد له أن يخضع لشروط الوضوح العلمي، فما هو إلا أن نهض نفر ممن يغارون على الجانب الشعوري من الإنسان - وهو يتضمن المعاني القيمية كلها - ليوجه إلى صاحبنا تهمة التنكر «للأخلاق» والدعوة إلى هدمها.
لكن مثل هذا الاتهام لم يكن عند صاحبنا بذي خطر، ومع ذلك لم يفتر عن البيان والشرح ليزيل غمامة الغموض، لعل الغشاوة تزول عن الأبصار، وأما الجانب الذي كان له في نفسه أثر عميق وحزين، فهو الاتهام الثاني الذي زعم به أصحابه أن كل ما نشره عما رآه ضوابط للفكر الواضح هو في الحقيقة موجه نحو «الدين» كما هو متمثل في نصوصه؛ لأن تلك النصوص قلما تجيء على نحو ما تجيء القوانين العلمية، إذ أقل ما يقال فيها هو أنها تخاطب في الإنسان قلبه وشعوره، جنبا إلى جنب مع مخاطبتها لعقله العلمي، واستشهد أصحاب هذا الاتهام بكتاب أصدره صاحبنا سنة 1953م وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا».
وقد عدل العنوان في الطبعات التالية ليصبح «الموقف من الميتافيزيقا»، وكانت خلاصة الاتهام الموجه، هي أن مؤلف ذلك الكتاب إنما أراد أن يقول إن الدين وما يدعو إليه من إيمان بالله إنما هو خرافة، نعم لقد اجترأ ناقد أن يوجه إلى صدر صاحبنا ذلك السهم المسموم لعله يصيبه في مقتل فيستريح الناقد ومن يشبهونه، وسرى هذا الظن الآثم الظالم من زيد إلى عمرو إلى خالد، دون أن يقرأ أحد منهم حرفا من ذلك الكتاب ليرى إن كان قد عدل في ظنه أو ظلم، ولا يتسع المقام هنا إلا لشرح موجز شديد الإيجاز لقارئ اليوم الذي جاء بعد صدور الكتاب بنحو أربعين عاما، والخلاصة هي أولا: أن الكتاب مؤلف في موضوع فلسفي صرف، وليس الدين فلسفة ولا الفلسفة دينا، وثانيا: البحث الذي يسمى في مجال الدراسة الفلسفية «ميتافيزيقا » هو بحث فيما يجاوز علوم الطبيعة من فروض، وذلك لأن ما يقال عن «الطبيعة» المرئية الملموسة ، إنما يقال عن «ظواهرها»، وأما إذا جاوزنا بالبحث تلك الظواهر إلى «ما وراءها» فإن البحث عندئذ يكون خاصا ب «ما وراء الطبيعة»، وثالثا: كان الرأي الذي عرضه صاحبنا في كتابه ذاك، هو أن فيلسوف الميتافيزيقا، الذي يبدأ تفكيره من «مبدأ» يضعه هو لنفسه، ثم يستدل منه النتائج التي تتولد عنه، لا حق له في أن يزعم بأن نتائجه تلك هي التي تصور حقيقة الكون كما هي قائمة، ورابعا: قدم صاحبنا رأيه في أن الميتافيزيقا المشروعة حقا والمفيدة حقا يجب أن تنصب على أقوال العلوم في العصر المعين الذي يكتب عنه الفيلسوف، ليستخرج من مجموعة تلك الأقوال العلمية ما قد أضمرته من فروض، حتى يصل به التحليل إلى آخر مداه، بأن يصل إلى أعمق قاع تؤسس عليه العلوم ما تقيمه من قوانين علمية، وعندئذ يكون ذلك القاع الخفي عن الأبصار، هو ما يمثل المحور الأساسي الذي تدور حوله مناشط العصر ووجهة نظره، وهو - بالتالي - الذي يصبغ العصر المعين كله بالطابع الذي يميزه من سائر العصور، وبمثل هذا التحديد لمجال البحث في ما هو «وراء» بأن يجعله «ما وراء البناء العلمي» في العصر المعين الذي يهمنا الإلمام بحقيقته وحقيقة ما يرمي إليه، نكون قد بذلنا الجهد فيما هو ممكن أولا، وفيما هو نافع ثانيا.
وسواء أكان هذا الرأي سديدا أم لم يكن، فهو على أي الحالتين لا يتصل بمجال الدين من قريب أو من بعيد، لكن هكذا ضل من ضل من الناقدين، فأضلوا من أضلوهم ممن يهاجمون بغير سلاح إلا سلاح الخلط والتخليط، والتخبط في غياهب أوهام لا يتسلل إليها شعاع من نور، وأعني نور الفكر الواضح.
في سبيل الوضوح «2»
Bilinmeyen sayfa