وعودة بنا إلى ما قد أسلفنا ذكره عن الحرب العالمية الثانية، التي شغلت النصف الأول من سنوات الأربعينيات، من أنها لم تكن حربا تقتصر على الحديد والنار والتخريب والتقتيل والدمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تبشر بوجوب التغيير في الحياة الإنسانية من أسسها وجذورها، وكان أول التغيير أن تتحرر الشعوب المقيدة، وهكذا كان، حتى أصبحنا اليوم في عالم زال عنه الاستعمار زوالا تاما (تقريبا) من الوجهة الصورية على الأقل، على أن ما يهمنا في المقام الأول - في سياق هذه الأحاديث الثقافية - هو ما ترتب على الاستقلال السياسي للشعوب في آسيا وأفريقيا، من استقلال ثقافي لمن استطاع إليه سبيلا، فبعد أن كان الموقف قبل الحرب، هو أن تكون ثقافة الغرب معيارا تقاس به درجات المثقفين أينما كانوا ارتفاعا وانخفاضا، فمن قرب من النموذج الغربي كان بالضرورة - بحكم ذلك المعيار - أعلى ثقافة ممن بعد عنه، أما بعد الحرب واستقلال الشعوب، فقد رفعت أولوية الاستقلال الثقافي أيضا، فلكل ثقافة على وجه الأرض قيمتها، إذ الثقافة - على خلاف العلم - تستمد مضمونها من خصوصية أصحابها ومبدعيها، فإذا كان العلم لا خلاف عليه بين شعب وشعب، فلا بد للثقافة أن يتغير لونها ومزاجها ومذاقها من شعب إلى شعب.
كان «ديبوا» في أول هذا القرن، قد تنبأ بأن القرن العشرين سيشهد ثورة «اللون»، فبعد أن كان للرجل الأبيض (الأوروبي) سيادة مطلقة على سائر الألوان البشرية: الأصفر في الشرق الأقصى، والأسود في أفريقيا، والأسمر هنا وهناك من أقطار الأرض، توقع «ديبوا» أن هذا القرن سيشهد اليوم الذي تثور فيه الشعوب الملونة على التفرقة اللونية، وتحقق ما تنبأ به، وكان تحققه أولى النتائج التي تولدت عن الحرب العالمية الثانية؛ وذلك لأنها كانت نتيجة محتومة لاستقلال الشعوب الملونة في آسيا وأفريقيا عن سيطرة المستعمر الأوروبي الأبيض، واسترداد تلك الشعوب لحريتها التي أرادتها لهم فطرة الإنسان، وكما تساوت الثقافات المختلفة في إثبات ذاتها، تساوت كذلك ألوان البشرة مع حق المساواة للبشر.
لكن مقاومة تلفت النظر وتتطلب شيئا من التأمل والتفكير الهادئ، نشأت عن تلك المساواة نفسها، فلقد أقيمت هيئة الأمم المتحدة لتضم شعوب الأرض جميعا (إلا من كانوا يحاربون الحلفاء ويناصرون محور النازية والفاشية) وكان لكل شعب صوته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن تلك المساواة نفسها جعلت أصحاب القوى الكبرى يتحوطون لصون امتيازهم، فعملوا على أن يقام مع الجمعية العمومية، التي تضم شتى الأمم على قدم المساواة، مجلس أطلقوا عليه اسم «مجلس الأمن» ليكون «أمنا» لهم مما عسى أن يهددهم من أخطار تلك المساواة المطلقة، وهناك في «مجلس الأمن» يكون الحل والربط في مشكلات العالم، رهنا بمشيئة كل دولة من الدول الكبرى على حدة، هذه واحدة، وأما الأخرى فظاهرة «ثقافية» لها مغزاها، وهي أن الوفود التي تذهب من مختلف أنحاء الأرض لتمثل شعوبها في اجتماعات الأمم المتحدة إنما تذهب مسلحة بكل ما يؤكد للآخرين هويتها الوطنية المتميزة عما سواها، فيغلب على أعضاء تلك الوفود أن يرتدوا ثيابهم الوطنية، وأن تحتوي حقائبهم على كلمات يلقونها على سائر الشعوب، وهي كلمات أعدت مقدما لتؤكد للآخرين وجهة النظر القومية التي يتعصبون لها تعصبا يسد المنافذ دون محاولات التفاهم والتوفيق بين الأطراف المتعارضة، ولقد شهدت الدنيا ألف برهان وبرهان، عل أن اتحاد الأمم المتحدة لم ينفع إلا في أوجه النشاط الحضارية، كالثقافة والزراعة والصحة وما إلى ذلك (وهو كسب كبير على كل حال) وأما مشكلات السياسة، فهي - أولا - حكر على القوى العظمى في مجلس الأمن، وهي - ثانيا - مما يمكن لدول صغرى أن تتمرد على ما يوجه إليها من قرارات تلك الدول الكبرى نفسها، وكأن أمور الناس الحيوية قد تركت لتصبح أقرب إلى لعبة شيطانية مكشوفة تسخر بها جماعة من الأبالسة على شعوب لا حول لها ولا سلطان.
لم يكن صاحبنا ذا مزاج سياسي بالمعنى الذي نراه متحققا في الساسة المحترفين، فكانت المشكلات السياسية عنده تتحول إلى مشكلات فكرية نظرية، وكأنها تخص أهل كوكب آخر غير هذه الأرض من كواكب المجموعة الشمسية، ومن ثم فهو كثيرا جدا ما يأخذه العجب مما يسمونه «سياسة» لكثرة ما يراه فيها من مجافاة لمنطق العقل، وحتى إذا حدث له أن أبدى رأيا كهذا في موقف معين، قال له المحترفون: إن هذه هي «السياسة»، وقد شاءت مصادفات الأيام لصاحبنا أن يوضع عضوا في أحد الوفود، في أول اجتماع لهيئة الأمم المتحدة، كان ذلك في لندن، أوائل سنة 1949م، وقصة ذلك، أنه كان عندئذ دارسا في جامعة لندن، وكان قد تقرر لهيئة الأمم المتحدة أن تعقد أولى دوراتها السنوية في لندن؛ لأن مقرها الذي اتفق عليه أن يقام في نيويورك لم يتم إعداده، وحدث أن إحدى الدول العربية الشقيقة، لم يكن الحد الأدنى من عدد الأعضاء (وهو ستة مقابل اللجان الست) متوافرا لها، فطلبت من السفارة المصرية هناك، أن تختار لها ثلاثة أعضاء من المصريين المقيمين في لندن، الذين ترى فيهم الصلاحية للاضطلاع بتلك العضوية، وكان صاحبنا أحد الثلاثة المختارين لذلك، فأتاحت له تلك المشاركة خبرة بحقيقة «السياسة» كما رآها متمثلة في أضخم رجال السياسة الذين ملأت شهرتهم يومئذ أسماع الدنيا وأبصارها، وتابع صاحبنا في شغف ما تدور به المناقشات، وما يوصل إليه من الحلول، وخرج من ذلك كله بنتيجة غرست في رأسه غرسا، وهي نتيجة أيدت له ظنه السابق في «السياسة» وطبيعتها، فهي لا تقل ولا تزيد عن أن تكون للدولة القوية إرادة ما، جاءت بها إلى الاجتماع، وتكون المهارة السياسية بعد ذلك، هي في أن تصاغ لتلك الإرادة صيغة لغوية مقبولة شكلا عند الأطراف المتعارضة، أما إنها ستعمل على حل المشكلة المعروضة للحل، فمسألة لا هي واردة، ولا هي في حسبان الأقوياء من أصحاب الإرادات.
نعم، كانت سنوات الأربعينيات قد تركت عند صاحبنا انطباعا، بأن سمة من أوضح سمات العصر، فيما بعد الحرب العالمية الثانية، سوف تكون سمة التذبذب بين «أفكار» العقلاء من جهة، و«رغبات» الراغبين من جهة أخرى، و«الفكرة» و«الرغبة» طرفان قد يلتقيان عند الأسوياء، فالعواطف تميل بصاحبها نحو «رغبة» ما، وإذا هي في الوقت نفسه مما يتفق مع منطق العقل، لكنهما كذلك قد يتنافران، فتجيء رغبة العاطفة متنافية مع ما يوجبه منطق العقل، وقد أسلفنا لك القول، بأن عمالقة «الفكر» في القرن الماضي، قد أبدعوا أفكارا كبرى تتحول بها الدنيا من رؤية سكونية إلى أخرى حركية (دينامية)، لكنهم لم يستطيعوا، بل ربما هم لم يحاولوا أن يجروا أفكارهم تلك مجرى التاريخ، أعني أن يعملوا على تجسيدها في حياة الناس الفعلية، فظلت على مستواها النظري طوال القرن الماضي وبضع سنوات من هذا القرن، يمكن أن يجعل نهايتها قيام الحرب العالمية الأولى سنة 1914م، وبحذاء ذلك المستوى النظري، بقيت الحياة السلوكية العملية على جمودها، بل أسرفت إسرافا شديدا في التشبث بالتقاليد المرعية حفاظا على «أشكالها» الظاهرة، حتى ولو اضطر الناس بدوافع من عواطفهم وغرائزهم أن ينقضوها في الخفاء، فلما أن جاءت الحربان العالميتان في هذا القرن، الأولى والثانية، وما توسطهما من ثورات وصور للتمرد الجماعي في بعض الأقطار نجحتا في دك الأشكال الجامدة العتيقة، لتفسح الطريق أمام الأفكار الجديد لتلتمس حظها من التطبيق وتغيير وجه الحياة، إلا أن نجاح ترك الأفكار الجديدة مع حظها في المحاولة، معرضة للصواب حينا وللخطأ حينا، وهو أمر طبيعي عند أية محاولة كبرى يهم بها إنسان إزاء القديم المألوف، ليستبدل به جديدا غير مألوف، لكنه أكثر صلاحية، فها هنا يغلب التردد على سلوك الإنسان في عملية العبور من القديم إلى الجديد، وها نحن أولاء قد رأينا كم كان عسيرا، حتى على كبار الساسة في العالم، أن يقعوا على نقطة تتم عندها مصالحة بين الروح «الوطنية» بمفهومها الضيق، والروح «الدولية» بالمعنى الذي تخيلته الأمم عندما أرادت أن تقيم منظمة دولية تتحد الأمم المختلفة أوطانها، في ساحاتها وفوق منابرها، لعل الوفاق السلمي يحل محل الحروب، فرأينا كبار الساسة - فضلا عن صغارهم - يتعثرون بين الإبقاء على مشاعرهم «الوطنية» متسترين خلف أقنعة «دولية»، وكان أمهر الساسة هو أكثرهم توفيقا في تلك اللعبة التي استهدفت الجمع بين الضدين.
وإذا شاء العربي أن يرسم لنفسه صورة صحيحة تبين له كيف تدور تروس تلك الآلة الكبرى التي يطلق عليها اسم «الأمم المتحدة» وأعني التروس المخبوءة في الضمائر بغض النظر عن الميثاق ومواده، ولقد أسلفنا لك شرحا لمعنى «المهارة السياسية» إذ رأيناها أقرب إلى القدرة على صياغة الألفاظ على نحو تقبله كل الأطراف المتعارضة في وقت واحد، مما يقطع أن تكون تلك الصياغة أبعد ما تكون عما يقتضيه منطق العقل فيما يراد له أن يكون فكرا على منهج العلم أقول: إننا رأينا فيما أسلفناه كيف تكون المهارة السياسية أقرب إلى قدرة «الحاوي» الذي يخرج من كمه أرانب ومناديل وبيضا وقطع النقود، منها إلى دقة المنهج العلمي الذي يتطلب أول ما يتطلب أن تكون مفردات اللغة أو غير اللغة من الرموز واحدية المعاني، بمعنى أن يكون للاسم المعين مسمى واحد، وألا يكون لهذا المسمى إلا اسم واحد هو الاسم الذي تصطلح عليه جماعة العلماء ذات الاختصاص الواحد، نقول: إنه إذا أراد عربي بأن يرسم لنفسه صورة للطريقة التي تدور بها تروس الأمم المتحدة في خفاء الصدور، فأين يجد الصورة المنشودة إن لم يجدها في قصة الأمم المتحدة ومواقفها من الأمة العربية وشعب إسرائيل؟
وإن صاحبنا ليكرر القول مرة بعد مرة، بأنه لم يخلق للسياسة وألاعيبها، فهو إذا وقف عند مسألة من مسائلها، فإنما يقف وقفة عقل منطقي إزاء مشكلة فكرية، وهكذا ينظر إلى حكاية العرب وإسرائيل والأمم المتحدة، أو قل الدول الكبرى صاحبة حق النقض في مجلس الأمن، فيحكى أن لورد بلفور، وكان وزيرا في الوزارة البريطانية سنة 1917م، كان مسئولا عن المستعمرات وشئونها، وكان ونستن تشرشل وزيرا أيضا في الحكومة البريطانية عامئذ، ثم يحكى أن بلفور أراد أن يجد مخرجا يعد به أن يقام وطن لليهود في فلسطين، ودخل عليه زميل ذات يوم، فوجده قد نشر خريطة فلسطين على مكتبه، والقلم في يده يبحث عن موضع ملائم يرسم بها خطوطا تحدد ذلك الوطن اليهودي المنشود، وعلم زميله بما يحاوله فسأله: وماذا أنت صانع بسكان هذه المنطقة من غير اليهود؟ فأجابه بلفور دون أن ينظر إليه: وهل لهذه المنطقة سكان؟! قالها ساخرا، وكأن الذي بين يديه لوحة الشطرنج يحرك أحجارها كيفما شاءت مهارته السياسية، ثم جاء يوم عرض فيه المشروع على مجلس العموم البريطاني، وربما كان له بين الأعضاء معارضون، فوقف الوزير ونستن تشرشل شارحا للمجلس بعض الأهداف التي قد تخفى على أعضاء المجلس، فقال ما معناه: إن وراء هذه الخطة هدفين؛ أولهما: أن قيام وطن يهودي من شأنه أن يمتص الثورة العربية، فبدل أن يتجه العرب بانفعالاتهم نحو بريطانيا، سيتحولون بها نحو الوطن اليهودي، وأما الهدف الثاني: فهو أن قيام وطن يهودي في المنطقة المقترحة من أرض فلسطين، من شأنه أن يقسم الوطن العربي قسمين تنقطع بينهما الصلة الجغرافية الميسرة فيدب بين العرب نوع من الفرقة بسبب ذلك التفريق.
كان ذلك كله سنة 1917م أي قبل وجود منظمة الأمم المتحدة سنة 1946م، وبعد قيامها بعام واحد - وهو العام الثاني لوجودها، والأول بعد انتقالها إلى مقرها الدائم في نيويورك - صدر قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين: إحداهما للعرب من أهل فلسطين والأخرى لليهود، وبعد نحو ستة أشهر من هذا القرار، أعلن عن قيام الدولة اليهودية، وأن يطلق عليها اسم «إسرائيل».
إلى هنا وليس في منطق العقل ما يرفض شيئا من هذا، ما دام الأمر مشروطا بألا يضر التقسيم أحدا من أهل البلاد، وهو شرط يتولد عنه بالضرورة ألا يهاجر اليهود من أنحاء الأرض إلى فلسطين، إلا بما تسمح به مساحة الوطن اليهودي، فماذا تقول إذا علمت أن الدول الكبرى صاحبة النفوذ في الأمم المتحدة، هي نفسها التي عملت، وما زالت تعمل، على أن تفتح أبواب الهجرة اليهودية على مصاريعها؟ وليست تلك الدول - بالطبع - من البلاهة بحيث يفوتها ما لا بد أن ينتج عن ذلك من رغبة في توسع الدولة اليهودية على حساب دولة عربية، فإذا ارتفع صوت يعارض تلك الهجرة اليهودية المفتوحة، لما يتحتم أن تحدثه من أضرار بحقوق الجيران، ردت تلك الدول الكبرى بوجوب رعاية «حقوق الإنسان»، وكان تعريف «الإنسان» عندهم لا يشمل العرب، فمثل هذا التناقض فيما تصنعه هيئة الأمم المتحدة، هو ما ينفر منه منطق العقل.
وتساءل صاحبنا ذات عام فيما بعد قيام إسرائيل، وما تبعه من متناقضات ومفارقات يثور لها العدل والعقل معا: وماذا فعلت الجامعة العربية يا ترى تجاه حلقات العدوان الطاغي بغير حساب؟ وهنا دفعه حبه للمعرفة أن يقرأ شيئا عن نشأة الجامعة العربية وأسلوب عملها، فاهتدى إلى مجموعة من محاضر الجلسات التي عقدتها الحكومات العربية وهي في سبيلها إلى إنشاء الجامعة العربية، ووقف طويلا عند المناقشات التي دارت حول أن تكون قرارات الجامعة ملزمة للدول الأعضاء أو غير ملزمة، وأحس بحرارة المعارضين لفكرة الإلزام، حتى انتهى الأمر بأن تصبح القرارات بمثابة توصيات، من شاء أخذ بها ومن لم يشأ أهملها كأن شيئا لم يكن، فهمس صاحبنا لنفسه قائلا: كفى، كفى، فلا فرق بين أن تقوم للدول العربية جامعة، أو ألا تقوم، إذ لا يعدو شأنها في مجرى الأحداث، أن تتحول إلى دردشة لا تغير من أحداث العالم شيئا.
Bilinmeyen sayfa