زكي نجيب محمود
يناير 1991م
تغريدة البجع
يقال عن البجعة: إنها إذا ما دنت من ختام حياتها سمعت لها أنات منغومة تطرب آذان البشر، ولا يمنع طربها أن تكون تلك الأنات صادرة - على الأرجح - من ألم يكويها، ومن هذه التغريدة الجميلة قبيل موتها جاء التشبيه عند أدباء الغرب الذي يصفون به عملا جيدا أنجزه صاحبه ليختم به حياته، إذ يقولون عنه: إنه تغريدة البجعة، وقد أراد هذا الكاتب أن يقولها عن نفسه؛ لأنه لا يتوقع أن يقولها عنه سواه.
ففي هذه المجموعة من الأحاديث، اجترار منسق ومدبر، لحياة أعطت فكرا وأدبا، وظلت تعطي ستين عاما، ولا يذكر صاحبها يوما أخذها فيه يأس أو ملل، ولم يكن ليلومها لو قعد بها القنوط، فهي حياة بشرية يعتورها ضعف الغرور، الذي يوهم الإنسان آنا بعد آن، أنه يستطيع لو جد وأجاد أن ينتزع المجد انتزاعا ولو كره المخالفون، أو قل: ولو كره الذين أغمضوا أعينهم، وصموا آذانهم، وألهتهم شواغل الدنيا حتى لم يعد لديهم فراغ من وقت يقدحون فيه أو يمدحون، اللهم إلا إذا رأوا في قدح هذا ومدح ذاك أسبابا للصعود، لا، إن صاحب هذه الحياة لا يذكر لها يوما ألم بها فيه ملل أو يأس؛ لأنها أعطت عطاءها صدوعا لفكرة غالبة، إنه ليعجز إذا أراد أن يتعقب تلك الفكرة الغالبة إلى مصادرها، فمن أين جاءته، وكيف جاءته؟ لكنها هناك تملأ صدره وتهز قلبه وتحرك عقله، ما تحركت قدماه أو وقفت، وما اضطرب فؤاده أو سكن.
والفكرة الغالبة الدافعة التي أعنيها، فكرة بسيطة غاية البساطة، كبيرة غاية الكبر، فهي فكرة تسأل حاملها وتلح في السؤال: كيف جاز أن يلتئم ذلك التاريخ الطويل المجيد، مع هذا الحاضر الذليل العقيم؟ بل هو ذليل لأنه عقيم، فالسادة هناك في أعالي البحار ينتجون علما وفنا وثراء وسلطانا، والأتباع هنا قد جعلوا غاية المنى أن ينقلوا عن السادة نفحات متقطعة من علم وأدب وفن، تاركين لهم الثراء والسلطان، نعم كيف جاز لتاريخنا ذاك، في عزه ومجده، أن يلد لنا هذا الحاضر في عقمه وذله؟ وإنه لسؤال لا يأتيه الجواب في سطر من كتاب، بل لا بد له من نظر يمعن، ومن شجاعة تواجه الصعب، أما أن تثمر ثمارها هذه الشجاعة الجسور، أو ذلك النظر الممعن، فذلك مرهون بتوفيق من الله، على الإنسان أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح، وفي وسع الفارس الذي تخونه قواه، أن يعتذر بما اعتذر به شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال:
لا تلم كفي إذا السيف نبا
صح مني العزم والدهر أبى
كان صاحبنا منذ أوائل شبابه طلعة (بضم الطاء وفتح اللام) يرى، ويسمع، ويقرأ، فضلا عن دراسته النظامية، وقد لحظ في نفسه، منذ تلك السنين الباكرة، إقبالا شديدا على الأفكار التي من شأنها أن تغير من حياة الناس، لتنقلها من قديم إلى جديد، ونفورا من الأفكار التي تعمل على ركود الحياة وجمودها، وقد تنبه منذ ذلك العهد البعيد، إلى أن الفكر - بل والثقافة كلها بجميع أطرافها - ليس ترفا يلهو به صاحبه ليزجي به ساعات الفراغ، وليلهي معه الناس بأن يقدم لهم وسائل لتسرية النفوس عن همومها، بل الفكر السوي القوي السليم هو أداة للعمل، إذ هو - حتى وهو في أعلى درجات تجريده - يرسم ما يشبه الخرائط الجغرافية، فيهتدي العاملون بها في طرق الحياة العملية، الفرق الحقيقي بين مجتمع جمدت دماؤه في شرايينه فتخلف عن موكب الحضارة، ومجتمع آخر توقدت فيه الصحوة وتوثبت الهمم، هو فرق بين مجموعة الأفكار التي حصلها واختزنها أفراد الناس في كل من الحالتين.
وصاحبنا منذ أوائل شبابه - كما أسلفت عنه - كان على يقظة كافية تحثه على أن يرى ويسمع ويقرأ، فكان له بهذا كله أن تجمعت لديه أفكار من هنا وهنا وهناك، تتفق أحيانا، وتتعارض أحيانا، وقد كان يمكن أن يقف عند هذا الحد من التحصيل الذي يجمع ولا يعرف كيف ينتقي ويختار، وما أكثر ما تصادف بين الدارسين والقارئين من وقف عند عملية الجمع والتحصيل والحفظ ، لكن صاحبنا بتوفيق الله قد وجد في تكوينه دوافع داخلية تدفعه إلى مجاوزة تلك المرحلة إلى ما بعدها، وأعني مراجعة المحصل مراجعة نقدية تقبل هذا وترفض ذاك وتعدل من ذلك، حتى يحس بنفسه وقد اطمأنت لوجهة من النظر تستريح لها، فتشعر وكأنما جات تلك الرؤية ثمرة طبيعية من إبداعها، وليست شيئا غريبا أقحم عليها.
Bilinmeyen sayfa