الجزء الأول
في صناعة الشعر وأنواعه
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم قال أبو علي، محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي رحمه الله تعالى، ورضي عنه، بمنه وكرمه وفضله في صناعة الشعر وأنواعه
المقدمة
١- أما بعد حمد الله ﷿، والصلاة على رسوله وآله، فإن أشرف الكلام ما سهل سبيله، وقرب مأخذه، وبعد مرامه، واعتدلت أقسامه، ورقت حواشيه، وأرهفت هواديه وتواليه، وفتق المشكل، وطبق المفصل، واستعبد الأسماع، وأصاب الغرض، وانتظم المقصد، وانتهزت فيه الفرصة، وأخذ بأقطار البلاغة، واكتفى بالوحي والإشارة، واسترجعت به القلوب النافرة بعد النفار، وثنيت إليه أعنة الأسماع والأبصار، وكنت بأوائله مكتفيًا، وبأواخره مستغنيًا، فإذا كان اللفظ فصيحًا، والمعنى صريحًا، واللسان بالبيان مطردًا، والصواب مجيدًا، والآلة مسعدة، والبديهة مسعفة، والألفاظ متناسجة، غير مفتقرة إلى تأويل، والمعاني والحجج عند الحاجة ماثلة، والأسماع قابلة، والقلوب نحو الكلام منعطفة، والأفهام للمخاطب على قدر فهمه واقعًا، والذهن مجتمعًا، والبصيرة قادحة، والقائل موجزًا في موضع الإيجاز، مطيلًا إذا حسنت الإطالة، وافقا عند الكفاية، وكان اللبس مأمونًا، وشمائل القول حلوة، والقدرة على التصرف عاضدة والطبع الذي هو دعامة المنطق متدفقًا، والفصول ملتحمة، والفضول مجذوذة، والفصول مقسومة، وموارد الكلام عذبة، ومصادره رحبة، خارجة عن الشركة، سليمة من تكلف الصنعة، فتلك هي البلاغة، وهناك انتظام شمل الإبانة، وقد قال بعضهم: "إن زهيرًا وضع فضول الكلام" بقوله طويل:
وما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه أباء أبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلى وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل"
٢- قال أبو علي: وقد تصفحت صحف البلاغة، واستقريت أساليب البيان والفصاحة، فوجدت العرب أرباب الكلام، وملاك رق المعاني والألفاظ، إيجازًا في حال الحاجة إلى الإيجاز، وإطالة وتوسعًا عند الحاجة إلى الإطالة والإسهاب واتساعًا لما انفردت به لغتهم دون اللغات من أصناف البديع، كالتجنيس، والتطبيق، والاستعارة، والإشارة، وكالوحي، والتشبيه، والاستثناء، والمظافرة، والتبليغ، والترديد، والتصدير، والتسهيم، والتقسيم، والتتميم، والتسميط، والتبيين، والترصيع، والتلميح، والتلويح، والتوشيح، والموازنة، والمقابلة، والاستطراد والمماثلة، والتكافؤ، والمبالغة والالتفات، والمساواة، والإيهام، وأبدع حشو، والإغراق، وأحسن ابتداء، وألطف بيت، والقوافي المتمكنة، وأحكم بيت على ثلاثة أمثال، وأحكم بيت على مثلين، وأبدع أمثال الإعجاز، وشوارد الأمثال، وغير ذلك من أفانين البديع، التي كشفت مطلوبها، وأشرت إلى محاسن الصنعة فيها، في كتابي الموسوم "بالحالي والعاطل- في صنعة الشعر" وهو مما يستشف هناك جواهره، فتشف أساريرها، وترعى تلاعه، فترق أزاهيرها.
وأشير في كتابي هذا إلى بعض إشارة يقضيها هذا التصنيف بحول الله وقوته.
٣- ووجدت البلاغة منقسمة قسمين: منظومًا، ومنثورًا، وأولى هذين القسمين بالمزية -والقدم للمتقدم- المنظوم، فإنه أبدع مطالع، وأنصع مقاطع، وأطول عنانًا، وأفصح لسانًا، وأنور أنجمًا، وأنفذ أسهمًا، وأشرد مثلًا، وأسير لفظًا ومعنى، ألا ترى إلى قول المسيب بن علس كامل:
فلأهدين مع الرياح قصيدة ... مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فلا تزال غريبة ... في القوم بين تمثل وسماع
وقول الأعشى طويل:
وإن عتاق العيس سوف يزوركم ... ثناء على أعجازهن معلق
به تنقض الأحلاس في كل منزل ... وتعقد أطراف الحبال وتطلق
يقول: إذا رحلوا وحطوا تمثلوا بهذه القصيدة.
٤- قال أبو علي: والمنظوم أرشق في الأسماع، وأعلق بالطباع، وأبقى مياسم، وأذكى مناسم، وأخلد عمرًا، وأجمع لأفانين البديع التي قدمت ذكرها شملًا، ألا ترى إلى قول الخنساء متقارب:
وقافية مثل حد السنا ... ن تبقى، ويذهب من قالها
نطقت ابن عمرو فسهلتها ... ولم ينطق الناس أمثالها
وكما قال بشار طويل:
ومثلك قد سيرته بقصيدة ... فسار، ولم يبرح عراص المنازل
1 / 1